- ما السر الدفين في الذبابة، والذي لم يُكتشف إلا في القرن الثامن عشر؟
 - لماذا عُدَّ أسلوب غذاء الذبابة استثنائيا؟
 - ماذا يثبت هذا التوافق العجيب بين النبوءة القرآنية والحقيقة المكتشفة معمليا مؤخرا؟
 
___
الذبابة المنزلية من أكثر الكائنات الحية انتشارًا في العالم، وهي رفيق دائم للإنسان حيثما حلَّ، وإن كانت رفيقا غير مرغوب فيه في أغلب الأحيان. ورغم صِغَر حجمها وبساطة مظهرها، تُخبِّئ هذه الحشرة في بنيتها التشريحية أسرارًا علمية مذهلة، لا تقتصر على تركيبها البيولوجي الفريد، بل تمتدّ لتشمل تفاعلاتها مع البيئة ودورها في النظام البيئي.
هي حشرة طالما ينظر إليها الإنسان باشمئزاز وازدراء، لكنّ التقدّم العلمي الحديث كشف عن جوانب فريدة في سلوكها وتكوينها، حتى إنها أصبحت موضوع دراسات علمية معمّقة، ليس فقط في مجال علم الحشرات، بل في مجالات أخرى مثل علم الأحياء الجزيئي، والباثولوجي، أي علم الأمراض، وحتى علم المواد.
تندرج الذبابة المنزلية تحت فصيلة الحشرات من ذوات الجناحين، وهي حشرة بالغة التعقيد من الناحيتين الوظيفية والتشريحية على الرغم من ضآلة حجمها ووزنها، حيث يتراوح طولها في المتوسط بين ستة إلى سبعة ملليمترات، ولها بدن رمادي يميل إلى السواد، وأعين مركّبة كبيرة، وجناحان شفّافان، وستة أرجل، كشأن سائر الحشرات الأخرى. لكنّ الشيء الأكثر إثارة للاهتمام في هذه الحشرة الصغيرة هو نظامها الغذائي، وأسلوبها الغريزي الفريد في عملية الهضم، فهو أسلوب يتّسم بخصائص جدِّ عجيبة، ولا تكاد تشاركها في ذلك الأسلوب إلا أنواع معدودة من الأحياء الأخرى. هذا النظام الهضمي، الذي يعمل جزئيًا خارج جسدها، هو ما يجعلها مثالًا بارزًا على دقة الوصف العلمي لها في القرآن الكريم، والذي أشار إلى هذه الحقيقة قبل قرون طويلة من اكتشافها.
السر الدفين إلى القرن الثامن عشر
مثَّلت الذبابة والمعلومات المتاحة حولها سرًّا مغلقا طيلة القرون السابقة على القرن الثامن عشر الميلادي، حين أقدَم السويدي” كارل لينيوس” على وصف الذبابة المنزلية تصنيفيًا عام 1758 ضمن كتابه «نظام الطبيعة». وفي عام 1776، عرض الدنماركي “جوهان كريستيان” فابريسيوس وصفًا أكثر تفصيلاً لها. هذه التوصيفات الأولية كانت مقدِّمة ممهِّدة للكشف عن تشريح الذبابة، بما في ذلك أجزاء فمها المتكيفة مع امتصاص السوائل.
أكثر من مجرد حشرة مزعجة
سمي الذباب ذبابا لكثرة حركته، واضطرابه، وقيل: «لأنه كلما ذُبَّ آبَ» (1)، أي كُلَّما دُفِع وطُرِد عاد مرة أخرى! ولا تقتصر أهمية دراسة الذبابة المنزلية على غرابة تركيبها البيولوجي، بل تمتد لتشمل تأثيرها على صحة الإنسان. تُعدّ الذبابة المنزلية من أخطر نواقل الأمراض، حيث يمكنها أن تنقل أكثر من 100 نوع من مسبّبات الأمراض المختلفة، بما في ذلك البكتيريا، والفيروسات، والفطريات، والطفيليات. وتنقل الذبابة الجراثيم الدقيقة بطريقتين اثنتين، أولاهما النقل الميكانيكي: حيث تعلق الميكروبات بأرجلها وسائر بدنها، فتنقلها إلى الأطعمة والمياه التي تحط عليها. والطريقة الثانية هي النقل البيولوجي، حيث تبتلع الذبابة الجراثيم فيما تبتلع مما تحط عليه، ومن ثم تُطلقها مع ما تُفرزه من أنزيمات هاضمة.
ومن الأمراض المنتقلة بواسطة الذباب الدوسنتاريا والكوليرا والتيفوئيد، ناهيك عن بعض أنواع التهابات العين، لذا تُعَدّ مكافحة انتشار الذباب من أهم أركان جهود الوقاية الصحية العامة للحد من انتشار هذه الأمراض، والتي يُصنف أغلبها على أنها أمراض وبائية.
الذبابة في الدراسات العلمية
لقد أصبحت الذبابة المنزلية، شأنها شأن بعض الحشرات الأخرى مثل ذبابة الفاكهة نموذجًا بحثيًا مهمًا في المختبرات العلمية، ليس في المجال الباثولوجي (علم الأمراض) وحسب، فقد اتخذت الذبابة سبيلها إلى مجال دراسات علم الوراثة، وعلم الأعصاب، وعلم السموم، ويُعزى ذلك إلى عدة أسباب، أولها دورة حياتها القصيرة، بما يسمح للباحثين بمراقبة عدة أجيال متلاحقة في وقت قصير، ومن ثم رصد الصفات الوراثية المنتقلة عبر الأجيال. والسبب الثاني هو إمكانية تربيتها وتكثيرها في المختبرات، مما يجعلها نموذجًا اقتصاديًا ومتاحًا للدراسة. أما السبب الثالث في الاعتماد على الذبابة في المعامل والمختبرات البيولوجية فهو التعقيد النسبي لتركيبها الجيني، والذي يشبه إلى حدّ ما بعض الجينات الموجودة في البشر، مما يسمح بفهم بعض العمليات البيولوجية الأساسية.
ومن النماذج التي تثبت نجاح فكرة الاعتماد على الذبابة المنزلية في مجالات ذات فائدة علمية وحياتية استخدام الذبابة في بحوث معملية حول مقاومة المبيدات الحشرية، وفهم آليات هذه المقاومة على المستوى الجزيئي، مما يُسهم في تطوير استراتيجيات أفضل للتحكّم في مدى انتشارها.
تُعدّ الذبابة المنزلية من أخطر نواقل الأمراض، حيث يمكنها أن تنقل أكثر من 100 نوع من مسبّبات الأمراض المختلفة، بما في ذلك البكتيريا، والفيروسات، والفطريات، والطفيليات. وتنقل الذبابة الجراثيم الدقيقة بطريقتين اثنتين، أولاهما النقل الميكانيكي: حيث تعلق الميكروبات بأرجلها وسائر بدنها، فتنقلها إلى الأطعمة والمياه التي تحط عليها. والطريقة الثانية هي النقل البيولوجي، حيث تبتلع الذبابة الجراثيم فيما تبتلع مما تحط عليه، ومن ثم تُطلقها مع ما تُفرزه من أنزيمات هاضمة.
أسلوب الهضم الاستثنائي، ودقة الوصف القرآني
بخلاف غالبية الكائنات الحية، التي تقوم بهضم طعامها بشكل كامل داخل جهازها الهضمي، تتبع الذبابة المنزلية طريقة فريدة من نوعها. فقبل أن تبتلع الطعام، تقوم أولًا بإفراز إنزيمات هاضمة من فمها على المادة الغذائية، هذه الإنزيمات الهاضمة تلعب نفس الدور الذي تلعبه الأنزيمات التي يفرزها الجهاز الهضمي لدى سائر أعضاء المملكة الحيوانية، حيث تُحلِّل الطعام وتحوله إلى سائل مستحلب، ثم تقوم الذبابة بامتصاص هذا السائل. وأسلوب الهضم هذا هو ما يُعرَف بـ الهضم الخارجي، وهو بالضبط ما يجعل من استعادة أي شيء تسلبه الذبابة عملية شبه مستحيلة، فبمجرد أن تُلقي تلك الحشرة إنزيماتها الهاضمة على الطعام، فإنه يبدأ في التغيّر كيميائيًا، ويتحلل إلى مواد أبسط، مما يجعله غير قابل للاستعادة بصورته الأصلية.
هذه المعلومة الدقيقة قد تبدو بسيطة، غير أنها في الواقع نتيجة تراكم معرفي كبير في مجال علم الحشرات. لم يكن العلماء يعرفون هذه الخاصية بالتفصيل قبل قرنين من أيامنا هذه، وقد تطوّرت معرفتهم بها مع تقدّم الأبحاث في علم وظائف الأعضاء للحشرات. فقد أصبح من الممكن الآن دراسة هذه الإنزيمات على المستوى الجزيئي وفهم طريقة عملها.
وإن ما أمكن التوصُّل إليه من معلومات عن الذبابة حتى الآن له ما له من قيمة وأهمية، لا سيما حين نربط تلك المعلومات المُكتشَفة حديثًا بالبيان القرآني الدقيق لهذه الحشرة، خاصة فيما يتعلق بأسلوب تغذيتها وطريقة هضمها. ففي سورة الحج، يُحدِّثنا القرآن الكريم عن عجز الإنسان مهما بلغ من درجات علمية عن خلق أحقر مظاهر الحياة وأبسطها تركيبًا، وهو هنا الذبابة، ثم يشير إلى خاصية فريدة لها في سياق الآية القرآنية:
إن هذه الآية الكريمة، التي نزلت قبل أكثر من 1400 عام، تصف بدقة متناهية ظاهرة لم يكتشفها العلم إلا حديثًا، وهي عملية الهضم الخارجي للذبابة. فبمجرد أن يسلب الذباب شيئًا، أي يأخذ منه جزءًا، فإنه يبدأ في هضمه على الفور من خلال إفراز الإنزيمات. وهذا التحليل الكيميائي يجعل من المستحيل استنقاذ الشيء المسلوب، أي استعادته بهيئته الأصلية.. وهذا الوصف القرآني لا يقتصر على مجرد ذكر حقيقة علمية، بل يُبرز أيضًا الإعجاز في دقة اللغة. فعبارة «يسلبهم» لا تعني فقط «يأخذ منهم»، بل تحمل معنى «الأخذ بقوة ومهارة»، وهو ما يتناسب مع الحركة السريعة التي تؤديها الذبابة في الوصول إلى طعامها، ومن ثم هضمه. وعبارة «لا يستنقذوه» تعني «لا يستطيعون تخليصه أو استعادته»، وهو ما يتوافق تمامًا مع التحليل الكيميائي الذي يغير طبيعة المادة.
هذا التوافق بين العلم والوصف القرآني ليس مجرد مصادفة، بل هو من قبيل الشهادات الخارجية التي بينها سيدنا المسيح الموعود في كتابه ذائع الصيت «البراهين الأحمدية». علمًا أن من الشهادات الخارجية على صدق الكتاب المُوحَى، في اصطلاح حضرته تلك الشهادات المستمدة من أمور غيبية تتكشف في المستقبل، والمراد منها ما يُدلي به المأمور من أمور بحيث يكون من المؤكد تماما أن بيانها يفوق قدرته من كل الوجوه، أيْ أن النظر في تلك الأمور والتأمل في ظروف مَن يبيِّنها يؤكدان بالبداهة أن تلك الأمور ليست في حكم المقدور البديهي والمشهود بالنسبة إليه، ولا يمكن له حيازتها بالتأمل والتدبر، ولا يجيز العقلُ الزعم أن يحوزها ذلك الشخص بواسطة معارفه.(3)
إنّ مَن أنزل القرآن وضرب فيه مثل الذبابة هو ذاته خالق الذبابة بخصائصها الفريدة تلك، لذا فإنّ دراسة الذبابة المنزلية، بكل ما فيها من تعقيد ودقة، تُظهر لنا أن كل كائن من الأحياء أو الجمادات، مهما جلَّ أو حقُر في نظرنا، يحمل وجوده في طياته آيات إلهية مشيرة إلى الله الخلاق العليم ودالة على عظمته وإحسانه خلقه، فـ
الهوامش
- عبد اللطيف عاشور، موسوعة الطير والحيوان في الحديث النبوي، ص195، القاهرة، د. ت.
 - (الحج: 74)
 - يُنظَر: مرزا غلام أحمد القادياني، البراهين الأحمدية، ج3
 - (السجدة: 7-8)