- ما الفرق اللغوي والبلاغي بين الاصطبار على العبادة والاصطبار للعبادة؟
- كيف يُستدل من بدء الخلق على إمكانية البعث؟
___
التفسير:
يقال: اصطبرَ على الشيء، أي تمسَّكَ به بشجاعة وجلد. غير أن الله تعالى لا يقول هنا «اصطبِرْ على عبادته»، بل يقول ]واصطبِرْ لعبادته[، ومعناه عليك أن تبدي الشجاعة والجلد من أجل عبادته . وهكذا قد بين الله تعالى لرسوله بقوله ]فاعبُدْه واصطبِرْ لعبادته[ أن القوم لن يسمحوا لك بأن تعبد الله عبادة خالصة، فلا تكترث لهم، بل عليك التحلي بالشجاعة والجلد بهذا الصدد. ثم قال تعالى لعبادته .. أي يجب أن تتحلى بهذه المزايا من أجل العبادة فقط. ذلك لأن الإنسان يمكن أن يقوم بالعبادة لأسباب أخرى أيضًا، لذلك يأمرنا الله تعالى أن نبدي الشجاعة من أجل العبادة، ونتحلى بالجلد من أجل العبادة، ونتصف بالثبات من أجل العبادة. فكأنه تعالى يريد منا أن لا نحب العبادة لمآرب أخرى، وإنما نحب الأشياء الأخرى حبًّا للعبادة، فلا تكون العبادة سببًا بل تصبح هدفًا وغاية.
فقولـه تعالى ]واصطبرْ لعبادته[ يعني أن عليك أن تتحلى بالبسالة والشجاعة حبًّا للعبادة، وليس لكي تبقى قائمًا على العبادة. عليك أن تتصف بالبسالة حبًّا لعبادته ، وتتشجع حبًّا لها، وتبدي الثبات حبًّا لها، حتى تكون عبادتك أفضل وأعلى درجة، وحتى لا تكون عبادتك سببًا، بل تصبح غاية وهدفًا.
أما قوله تعالى ]رب السماوات والأرض وما بينهما[ فقد أشار به إلى أن الله تعالى سيكشف الآن عمليًّا أنه رب العالمين وليس برب بني إسرائيل فقط.
التفسير:
لقد ظلت الحياة بعد الموت على مر العصور موضع شك وشبهة لدى الناس، أيًا كان شعبهم أو ديانتهم. ذلك لأن تلك الحياة لا تُرى، كما لا تبقى بالناس أي صلة بالموتى إلا الذين يكونون من الطراز الأول من الروحانيين. ولكن الغريب أن تلك الحياة التي يشك فيها أكثرَ من أي شيء آخر، فإنها هي أكثر ما يوقن به الناس، حيث يوزعون الطعام والثياب على الفقراء باسم موتاهم، كما يتمنون زيارتهم أيضًا. إذا نظرتَ إلى سلوك الناس وجدتهم لا يوقنون بالحياة بعد الموت، حيث لا تجد في تصرفاتهم أي أثر للإيمان بالحياة بعد الموت، مع أن المرء إذا كان مؤمنًا حقًّا بالمثول أمام الله تعالى بعد الموت ليحاسبه على أعماله للزم أن يؤثّر هذا الإيمانُ في حياته ويُصلِح أعماله، ويطهّر أفكاره. فبالرغم أنك لا تجد لإيمانه أي تأثير على حياته، إلا أنك تجده يقوم بكثير من الأعمال الخيرية إيصالاً لثوابها إلى أقاربه الموتى، فيُطعم الفقراءَ الطعام، ويوزع عليهم الثياب باسم هؤلاء الأموات. إنه تناقض غريب نراه في عمل الإنسان. وبسبب هذه الحالة المريبة في عمله لا نستطيع أن نجزم فيما إذا كان غير موقن بالحياة بعد الموت، أم أنه موقن بها. فإننا حين ننظر إلى حياته هو لا نجد في أعماله وتصرفاته تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت كما ينبغي، ولكننا حين ننظر إلى مشاعره تجاه أقاربه الموتى نجد في قلبه لوعة ولهفة لأن يكونوا أحياء حتى يلقاهم.
فهناك فئة من الناس تقول أن لا حياة لنا بعد الموت، وثمة فئة أخرى تؤمن بالحياة بعد الموت. ولكن الذين يؤمنون بالحياة بعد الموت ترى في تصرفاتهم أيضًا ما يوهم أنهم غير مؤمنين بالحياة بعد الموت. أما الذين يقولون أنهم لا حياة لهم بعد الموت ترى في تصرفاتهم أحيانًا ما يدل على أنهم مؤمنون بتلك الحياة. وكأن الذين يقولون «نَعَمْ» يأتي عليهم زمنُ «لا»، وأما الذين يقولون «لا» فيأتي عليهم زمنُ «نعم». وعلى العموم فإن الإنسان ليس بجاهز، فيما يخص حياته هو، أن يصوغ أعماله وتصرفاته وفق إيمانه بالحياة بعد الموت، ولكن فيما يتعلق بإعرابه عن مشاعره تجاه أقاربه الموتى فإنه جاهز لأن يضحي من أجلهم. وذلك لأن التضحية التي يقدمها من أجلهم ليست كبيرة ولا ثقيلة، إذ لا تكلّفه إلا إخراج بعض المال وتوزيع بعض الطعام والثياب على ذوي الحاجة صدقةً عن أقاربه الموتى. وأما أن يُحدث تغييرًا طيبًا في حياته هو فهذا عبء ثقيل يصعب عليه حمله. إذ يعني ذلك أن يقول الصدق، ويتنكب عن الكذب والغش، ويقضي على أهواء النفس، ويطيع أوامر الله تعالى. وهذه الأمور كلها تتطلب منه تضحية جسيمة جدًّا، فلا يستعد لها. ولكنه جاهز لأن يوزع بعض الطعام والثياب لأنه سهل نسبيًّا.
وترى أن الإنسان المشار إليه في قوله تعالى ويقول الإنسان أإذا ما مِتُّ لسوف أُخرَجُ حيًّا لم يقل الله عنه أيضًا أنه ينكر الحياة بعد الموت، وإنما أخبر أنه يقول أإذا ما مِتُّ لسوف أُخرَج حيًّا .. أي أنه يسأل على طريق التعجب والاستفهام، بمعنى أنه ليس بموقن بأن لا حياة بعد الموت، ولكنه متردد وغير متيقن بها. وهذا يعني أنه في حالة من الشك والشبهة في أمر الآخرة، ولا يعني ذلك أنه غير موقن بالآخرة حتمًا.
لقد بدأتُ بهذه الكلمة التمهيدية لسبب معين، وهو أن النظر إلى عقائد أهل الدنيا يكشف لنا أن الذين ينكرون الحياة بعد الآخرة كليةً قليلون جدًّا، ولكن الذين يؤمنون بالآخرة بيقين كامل هم أيضًا قلة جدًّا. إن الأكثرية الساحقة من الناس، سواء أكانوا من المؤمنين بالحياة بعد الموت أم من غيرهم، يعيشون دائمًا مترددين في أمر الآخرة.
فقولـه تعالى واصطبرْ لعبادته يعني أن عليك أن تتحلى بالبسالة والشجاعة حبًّا للعبادة، وليس لكي تبقى قائمًا على العبادة. عليك أن تتصف بالبسالة حبًّا لعبادته ، وتتشجع حبًّا لها، وتبدي الثبات حبًّا لها، حتى تكون عبادتك أفضل وأعلى درجة، وحتى لا تكون عبادتك سببًا، بل تصبح غاية وهدفًا.
إن من عقائد المسيحيين أن الإنسان سينال حياة جديدة بعد الموت. وفي إحدى المرات قد جرى النقاش بين المسيح واليهود حول هذا الأمر. علمًا أن اليهود كانوا فئتين: فئة تؤمن بالحياة بعد الموت، وفئة تنكر ذلك. فجاء بعض اليهود المنكرين للآخرة المسيحَ وسألوه عنها، فأجابهم وقال: ألم تقرءوا في التوراة أن الرب إلهُ إبراهيم وإلهُ إسحاق وإلهُ يعقوب،
أي كان عليكم أن تدركوا مما ورد في التوراة أن أرواح إبراهيم وإسحاق ويعقوب تتمتع بالحياة، وكذلك أرواح آبائهم أيضًا، وإلا لوجب القول أن ربنا رب الأموات لا رب الأحياء.
كذلك يقول المسيح :
ويقول بولس:
ويذكّر المسيح الناس بالحياة بعد الموت في قصة فقير وغني ويقول: «كان إنسان غني، وكان يلبس الأرجوانَ والبزَّ، وهو يتنعم كل يوم مترفهًا. وكان مسكينٌ اسمه لعازر الذي طُرح عند بابه مضروبًا بالقروح، ويشتهي أن يشبَع من الفتات الساقط من مائدة الغني. بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحَه. فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغني أيضًا ودُفِن. فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، ورأى إبراهيمَ من بعيد ولعازر في حضنه. فنادى وقال يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبلّ طرفَ أصبعه بماء، ويبرّد لساني، لأني معذَّب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم يا ابني اذكُرْ أنك استوفيتَ خيراتِك في حياتك، وكذلك لعازرُ البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب. وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتتْ حتى إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا. فقال أسألك إذًا يا أبتِ أن ترسله إلى بيت أبي، لأن لي خمسةَ إخوة، حتى يشهد لهم لكي لا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء، ليسمعوا منهم. فقال لا يا أبي إبراهيم، بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إنْ قام واحد من الأموات يُصَدِّقون» (لوقا 16: 19-31).
وورد في موضع آخر: «وسمعتُ صوتًا من السماء قائلا لي اكْتُبْ: طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن. نعمْ يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم، وأعمالهم تَتْبَعهم» (رؤيا يوحنا اللاهوتي 14: 13).
إذًا فإن المسيح قد أكد البعث بعد الموت، وأن الكتب المسيحية كلها مليئة بالاعتقاد بأن الإنسان سيوهب حياة جديدة بعد الموت. والفرق الوحيد هو أن المسيحيين يعتقدون أن الأرواح ستعود إلى هذه الدنيا نفسها عند عودة المسيح، وهنا ستنال الثواب أو العقاب. فقد ورد في الإنجيل قول المسيح :
كما ورد في موضع آخر: «ورأيتُ نفوسَ الذين قُتلوا مِن أجل شهادة يسوعَ ومِن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبَلوا السِّمَةَ على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملَكوا مع المسيح ألفَ سنة. وأما بقية الأموات فلم تَعِشْ حتى تتمّ الألفُ السنةِ. هذه هي القيامة الأولى» (رؤيا يوحنا اللاهوتي 20: 4-5).
فبالرغم من أن كل ديانة قد أكدت الحياة الأخروية، إلا أن أكثر ما ينكره الناس في هذا العصر هو البعث بعد الموت، وتسود قلوبهم حالة من الشك والتردد حول الحياة الآخرة. إذًا فلا يراد بلفظ الإنسان هنا الناس كلهم، إذ يوجد بينهم من يوقن بالحياة الآخرة يقينًا تامًّا، بل المراد منه ذلك الإنسان الذي يستغرب من الحياة الآخرة، ويقول هل يُحيَى الإنسان مرة أخرى حقًّا.
أما إذا كان الإنسان هنا بمعنى الجنس الإنساني كله، فالمراد أنه لمن المستغرب جدًّا أن يقول هذا الذي ينتمي إلى الجنس البشري هل أعود إلى الحياة ثانية. ذلك لأن الإنسان مركب من الأُنس، ويعني في الواقع «أُنسانِ»، وفي فطرته ما يؤكد البعث بعد الموت، فكيف يمكنه أن يقول هل سأعود إلى الحياة ثانية حقًّا؟
ثم يقول الله تعالى ]أَوَ لا يذكُر الإنسان أنّا خلقْناه مِن قبلُ ولم يكُ شيئًا .. والمراد من جملة ]ولم يكُ شيئًا أنه لم يكن شيئًا يستحق الذكر، بدليل قوله تعالى في موضع آخر هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا (الإنسان: 23).. أي عندما كان في حالة النطفة أو الجماد والنبات. بمعنى أنه كان عندها شيئًا، ولكنه لم يكن شيئًا مذكورًا.. أي شيئًا ذا بال يستحق الذكر والعناية. فإذا كان الله تعالى قد قام بتطوير ذلك الشيء الحقير الذليل وجعله إنسانًا، فما العجب في أن يخلق تعالى من هذا الإنسان، الذي يصير رفاتًا وترابًا بعد الموت، إنسانًا جديدًا. (يُتبع)