
- من هو تقي الدين بن معروف؟
- ما الذي يدفعنا إلى القول بسبقه في اختراع المحرك البخاري؟
___
حين نتحدث عن الاختراعات التي غيرت مجرى التاريخ الحديث والمعاصر، فغالبا ما تسافر بنا الذاكرة مستحضرة أسماء شخصيات غربية، أوروبية وأمريكية بوجه خاص، بل إن شئت فقل من الشطر الغربي للقارة العجوز دون شطرها الشرقي. ومن بين الاختراعات المحورية تلك ما ارتبط اسمه بثورة من أهم الثورات العلمية والعملية في التاريخ، إنها الثورة الصناعية، والتي ارتبط اسمها بالتخلي عن القوة العضلية الممثلة في قوة الحيوان أو الإنسان، وذلك بفضل قوة الآلة المتحركة ذاتيا.
أولى الثورات الصناعية الأربع
بدأت هذه الثورة في إنكلترا وانتشرت بعد ذلك في جميع أنحاء أوروبا ثم في أمريكا الشمالية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر(1). وأطلق عليها الثورة الصناعية الأولى تمييزا لها عن ثلاث ثورات تالية لها، إذ يجدر القول بأننا نشهد حاليا أوج عصر الثورة الصناعية الرابعة. فالثورة الأولى كان محورها قوة البخار، والثانية كان اعتمادها على طاقة الكهرباء، والثالثة اعتمدت على الطاقة الإلكترونية بعد أن تمكن الإنسان من تحطيم الذرة وما ترتب على ذلك من حركة نقل البيانات عبر شبكة الإنترنت. أما الثورة الرابعة فكما نعلم الآن هي ثورة الذكاء الاصطناعي، والتي نشهد في الوقت الحالي جدلا محتدما بشأنها.
وعودة إلى الحديث عن الثورة الصناعية الأولى، حيث تغيرت حياة عامة الناس العاديين بشكل كبير وإلى الأبد، وذلك من خلال سلسة من الاختراعات الهندسية والإنجازات الصناعية، مما ساعد الصناعة على التطور بسرعة كبيرة، إلى درجة أن المجتمع بالكاد يستطيع مواكبة هذا التطور.. كان الهدف الرئيس من هذه الثورة الصناعية هو الاعتماد بدرجة أقل على الأيدي العاملة البشرية في عمليات التصنيع، ومن بين الأهداف أيضًا تغيير الخطوات الصناعية التي كانت تعتمد على البشر إلى شكل آخر يعتمد على الآلات، وهي فكرة استحوذت على تفكير المهندسين والصناع الحرفيين لقرون خلت. وقد تحقق هذا الحلم في هذا الوقت، وذلك بفضل عدد من الاختراعات والاكتشافات الهندسية. وتأتي الطاقة البخارية واختراع محرك البخار وتطويره على رأس هذه الاكتشافات.
كان التركيز الأول في التصنيع على المنسوجات في الثورة الصناعية الأولى، حيث بدأ التحول من عملية الإنتاج اليدوي إلى عملية التصنيع بواسطة الآلات، وعبر إدخال المواد الكيميائية، ومنتجات الحديد وتطوير الطاقة المائية واستغلال طاقة البخار، وذلك باستخدام الفحم مصدرًا لتوليد الطاقة الرئيسية. ومع ذلك، تغيرت كل جوانب الحياة نتيجة للثورة الصناعية، مما أدى إلى زيادة الدخل نتيجة لزيادة الكفاءة، الأمر الذي بدوره زاد من مستوى المعيشة لكثير من الناس، وكانت صناعة الغزل والنسيج هي الصناعة الأولى والأسرع استخدامًا لتلك التقنيات الحديثة في حينها.
كان الأساس الذي بنيت عليه هذه الثورة هو المُحَرِّك البخاري، والذي يُنسب اختراعه إلى الإنكليزي جيمس واط خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر في عام 1784 وحتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، وهي الثورة التي أَثَّرَت في تحسين مستوى معيشة الناس، وذلك مع انتشار التنمية الاقتصادية في كل مكان. يبدو مما تقدم أن الثورة الصناعية الأولى انطلقت من بريطانيا، وانتشرت إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في غضون فترة قصيرة من الزمن.
الحق أن الأساس الذي قامت عليه الثورة الصناعية الأولى يرجع إلى فترة زمنية أسبق من أواخر القرن الثامن عشر ورقعة مكانية شرقية لا غربية كذلك، فمن حيث الزمن ترجع إرهاصات اختراع المحرك البخاري إلى منتصف القرن السادس عشر، ومن حيث المكان، كان ذلك في الدولة العثمانية، على يد شخصية عربية مسلمة. إذ لم يسبق أحد في تاريخ العالم العربي المسلم «تقي الدين محمد بن معروف الشامي الدمشقي» في ابتكار «المحرك البخاري» في منتصف القرن الــ 16 وتحديدا عام 1551م. وبذلك يكون قد سبق المخترع الإنكليزي جيمس وات بـ 268 أي أكثر من قرنين ونصف. إذ لم يرفع وات الستار عن اختراعه قبل عام 1819م. وبفضل هذا الاختراع تمكنت أوروبا من إطلاق نهضتها الصناعية، حيث إن هذا المحرك البخاري استعمل في المصانع وفي تحريك القطارات والسفن البخارية، اعتمادا على قوة الضغط الناتجة من بخار الماء الذي يحرك مكبسا يتصل بعجلة ويسبب دورانها.
وسواء كان جيمس وات قد اطلع على كتاب تقي الدين بن معروف الشامي، وسرق الفكرة والتصميم، أم وصل بنفسه إلى هذا الاختراع المذهل، فالنتيجة واحدة، وهي أن السبق محفوظ للمسلمين على الغرب في التوصل إلى هذا الاختراع الذي غير وجه العالم. ويصف العالم العربي تقي الدين ابتكاره للمحرك البخاري في كتابه «الطرق السامية في الآلات الروحانية»، والذي كتبه سنة 1551م(2).
من هو تقي الدين بن معروف؟
هو عالم مسلم دمشقيٌّ وأحد النابغين زمن الدولة العثمانية خلال القرن السادس عشر الميلادي، عمل مصنفًا عسكريًّا في الدولة العثمانية، وهو واحد من العلماء الموسوعيين: فكان عالمًا، فلكيًّا ومنجمًا، مهندسًا ومخترعًا، وصانع ساعات الحائط والساعات اليدوية، رياضيًّا وفيزيائيًّا.
أورد الباباني نسبه في كتابه هدية العارفين، فقال: «تقى الدين الراصد محمد بن أبى الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يوسف بن الأمير منكوبرس الأسدي تقى الدين أبو بكر الراصد»، اشتهر أوائل الحكم العثماني. وقد ورد اسمه كاملًا ومدونًا بخط يده على مخطوط له عنوانه «الطرق السنية في الآلات الروحانية». يرجع فيه نسبه إلى الأمير ناصر الدين منكويرس، ابن الأمير ناصح الدين خمارتكين(3).
وعن مولده أشارت معظم المراجع إلى أنه من مواليد مدينة دمشق، نحو سنة 1525م، ثم انتقلت أسرته إلى مصر، حيث استقرت فيها.
وسواء كان جيمس وات قد اطلع على كتاب تقي الدين بن معروف الشامي، وسرق الفكرة والتصميم، أم وصل بنفسه إلى هذا الاختراع المذهل، فالنتيجة واحدة، وهي أن السبق محفوظ للمسلمين على الغرب في التوصل إلى هذا الاختراع الذي غير وجه العالم. ويصف العالم العربي تقي الدين ابتكاره للمحرك البخاري في كتابه «الطرق السامية في الآلات الروحانية»، والذي كتبه سنة 1551م
المخطوطة وتحقيقها
في عام 1976م قام أحد المحققين بتحقيق ودراسة مخطوط «الطرق السنية في الآلات الروحانية»، ونشره مصورًا لها في كتاب عنوانه «تقي الدين والهندسة الميكانيكية العربية»، وبين بالرسم والشرح شكل وعمل الآلات التي وردت في هذا الكتاب، وقال: «إن أهمية كتاب الطرق السنية في أنه يكمل حلقة مفقودة في تاريخ الثقافة العربية، وتاريخ الهندسة الميكانيكية». أما موضوعات الكتاب فتشمل مقدمة وستة أبواب. وذكر المحقق أن تقي الدين تحدَّث في مقدمة كتابه «الطرق السنية» عن آلة أسماها بـ «حُقِّ القمر»، والحُق معناه العلبة، وهي آلة مشابهة في تركيبها للساعات الميكانيكية(4).
وفي الباب الأول: تكلم عن أربعة أصناف من الساعات الرملية والمائية، مما عرفه العرب في مطلع حضارتهم. وفي الباب الثاني: ذكر ثلاث آلات لجر الأثقال. وفي الباب الثالث: وصف أربع آلات لرفع الأثقال ومثلها لرفع الماء. وفي الباب الرابع: تكلم عن عمل آلات ثلاثة أنواع من الآلات الموسيقية ذاتية العمل، وهي آلات الزمر الدائم والنقارات، وتحدث أيضا عن أربعة أشكال مختلفة من الفوارات، أي نوافير المياه. وفي الباب الخامس ذكر أحد عشر نوعًا من الآلات الطريفة الأخرى. وفي الباب السادس: وصف سفود اللحم الذي يدور بصورة آلية بقوة البخار، وهذه كانت الفكرة التي انبنى عليها اختراع المحرك البخاري لاحقا.
لقد صدرت منذ أكثر من عقدين، وتحديدا عام 2002م، عن دار الآثار الإسلامية دراسة تحليلية قيمة، وذلك ضمن سلسلة إصدارت مشروع «خير جليس». وهذه الدراسة تحقيق وشرح للمخطوط الذي وضعهُ تقي الدين محمد بن معروف الدمشقي إبان القرن السادس عشر بعنوان «الطرق السنية في الآلات الروحانية»، وضحت الدراسة أهمية هذا العالِم المسلم، حيث ظهرت فيه عقليته الرياضية والفيزيائية والفلكية. كما نوهت إلى الدور الذي قام به العلماء المسلمون في الانتقال بالبحث العلمي من التحليل النظري إلى التطبيق العملي ونجاحهم في سد الفجوة بين العلم والصنعة، يحتوي المخطوط الذي عُثِرَ عليه في مكتبة تشستر بيتي في دبلن بأيرلندا على وصفٍ دقيقٍ ومصوّر لبعض الآلات كنموذج تطبيقي لموضوع المخطوط مثل ساعة فلكية ميكانيكية، وأيضاً الآلات الخاصة بجر الأثقال، ورفع الماء من أسفل إلى أعلى، وكذلك الآلات الموسيقية، والتي تُعد بمثابة نموذج عملي لآلات الموسيقي الميكانيكية. يمتاز الكتاب بوجود معجم (عربي- إنكليزي) لبعض المعاني والمصطلحات والتعابير الواردة في متن المخطوط.
الهوامش:
- Anthony Wrigley, “Reconsidering the Industrial Revolution: England and Wales”, Journal of Interdisciplinary History 49.01 (2018): 9–42
- انظر: منى سنجقدار شعراني، دراسة تحليلية لمخطوط الطرق السنية في الآلات الروحانية، سلسلة خير جليس، شركة الخليج للاستشارات المتحفية، دار الآثار الإسلامية، الكويت.
- إسماعيل باشا بن محمد أمين بن مير سليم الباباني، هدية العارفين.. أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، وكالة المعارف، إسطنبول، 1951-1955م.
- انظر: أحمد يوسف الحسن، تقي الدين والهندسة الميكانيكية العربية مع كتاب الطرق السنية في الآلات الروحانية من القرن السادس عشر، الطبعة 1، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، 1987م.