
- كيف كانت حال الإنسانية قبل مبعث خاتم النبيين ؟
- ما الدور الذي أدته بعثة سيدنا محمد (ص) المباركة؟
___
إن أخلاق الأمم عبر كل العصور يمكن استنباطها على المستوى الأدنى من خلال النظر في أخلاق ملوكها، على اعتبار صحة القول: «الناس على دين ملوكهم.»(1) أما على المستوى الأعلى فتستنبط حقيقة أخلاق الأمم من تصورها عن الإله الذي تؤمن به. إذ إن التصور الراسخ عن الإله في كل زمان ومكان أنه يجمع في ذاته كافة الصفات التي يراها الناس فضائل وكمالات. ولما كانت الفضائل في نظر الناس صورةً منعكسة من صفات الإله الذي يؤمنون به، أمكننا أن ندرك مدى عمق الهوة السحيقة التي انحدرت إليها أخلاق الناس في كافة بقاع الأرض قبيل مبعث سيدنا خاتم النبيين ، حيث إن حياة آلهتهم كانت طافحة بألوان الفساد الخُلُقِي. وهذا بالضبط فحوى ما أشار إليه الذكر الحكيم مُجمَلا في قول الله :
فلم يُصب الفساد تلك الأمم المتخلفة فقط كما قد يظن البعض، بل حتى الأمم المتحضرة بمقاييس تلك الأيام، قد خرَّبتْها سوسة الفساد، فعمَّت الآفات بلاد الروم والفرس والهند، والتي شكَّلت في مجموعها أغلب مساحة العالم القديم وقتئذ.
فعن الفساد الذي استشرى في بلاد الفرس مثلا، يكفينا ذِكر ما اجترحته يدا مزدك، الذي قاد حركة مناهضة للزرادشتية في القرن السادس الميلادي، وكان من مبادئها جعل الأموال والنساء حقًّا مشاعًا! وعلى الرغم من إعدام مزدك (مصلح ديني إيراني) خلال النصف الأول من القرن السادس الميلادي، إلا أن مدَّ حركته كان قد غطى بلاد الفرس طولا وعرضا، وخلَّف وراءه من الأتباع والعقائد الملتصقة بالأذهان ما لا يُحسب له حساب.
أما الفساد المتفشي في بلاد الروم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك طقس «الاعتراف» المعروف في الديانة المسيحية، والذي كان يُمارس بمباركة آباء الكنيسة، كان ما يُقترَف فيه من الشرور والآثام أكثر مما يُتَطهَّر منه.
فلم تُكتب للعالم وثيقةُ إطلاقِ سِراحِهِ من سجن الجاهلية إلا بمولد خير الأنام والمدافع عن خلق الله ، ثم مبعث ذلك المولود السعيد نفسه بعد أن بلغ من عمره الأربعين، مقدما خلالها ملفَّ سيرة ذاتية ضخما ناصعا من شهادات الصدق والخُلُق القويم ودلائل الرأفة والرحمة بخليقة الله كافة.
أما ما استشرى من صور الفساد في بلاد العرب، فحدِّث عنها ولا حرج! ففوق أنهم كانوا قوما مُحتَقَرين في نظر جيرانهم المتحضرين، فرسًا ورومًا، فإنهم لم يتركوا فاحشة إلا فعلوها.
ويا لها من مفارقة مضحكة مُبْكِيَةٍ في آن! فإن ذلك الفساد المستشري في الأرض من أقصاها إلى أقصاها قد اتخذ صورة رمزية واضحة أيضًا، فالكعبة التي هي مركز التوحيد ومعقله منذ جعلها الله مثابة للناس وأمنا، قد داهمها الشرك، فتحولتْ إلى مركز لثلاثمائة وستين صَنَمًا تستقطبُ الناسَ من أكناف جزيرة العرب.
كل ما سبق سرده، كان أبرز دواعي وصف العالم قبل مبعث سيدنا خاتم النبيين بالجاهلية، والتي صور بعض مظاهرها نظم بديع لسيدنا المسيح الموعود في نعت حبيبه سيدنا خاتم النبيين في قصيدة إعجازية، حيث قال مبينا حال العرب قبل مبعثه وكيف أخرجتهم دعوة الإسلام من الظلمات إلى النور، فقال (3):
كانوا كمشغوفِ الفسادِ بجهلـِهم
راضِـين بالأوساخ والأدرانِ
.
عيبانِ كان شِعارَهم من جهلِهم
حُمْقُ الحمارِ ووَثْبةُ السِّرْحانِ
.
فطلَعتَ يا شمسَ الهدى نُصحًا لهم
لتُضيئَهم من وجهِك النّوراني
فلم تُكتب للعالم وثيقةُ إطلاقِ سِراحِهِ من سجن الجاهلية إلا بمولد خير الأنام والمدافع عن خلق الله ، ثم مبعث ذلك المولود السعيد نفسه بعد أن بلغ من عمره الأربعين، مقدما خلالها ملفَّ سيرة ذاتية ضخما ناصعا من شهادات الصدق والخُلُق القويم ودلائل الرأفة والرحمة بخليقة الله كافة.
على أننا لسنا نهدف من ذِكر انتشار الفساد أن نقول بأن الدنيا كانت خلوا تماما من الأخلاق قبل بعثة سيدنا خاتم النبيين ، بل قد عُرف أناسٌ ذوو أخلاق حميدة فاضلة من هنا وهناك، حتى في زمن الجاهلية، ومنهم من خلَّد الله ذكرهم بهذه الأخلاق، فحيث ذُكرت ذُكروا. وقد أقر النبي بوجود الأخيار حتى قبل بعثته المباركة. وذلك الأمر يُعدُّ من المفهوم بداهة، إذ لو كان معنى شيوع الفساد في الأرض أن العالم يكون خاليا تماما من الصلحاء، لـمُحي بهذا نظام الكون الروحاني من أساسه. فصلحاء الناس من أولياء الله في الأرض هم مدار بقاء العالم واستمراره إلى أن يُبعث نبي يعيد نشر التوحيد من جديد.
ويخرج عدد أكتوبر 2024 وشهر ربيع الأول يجر أذياله، فتقتنص أسرة التقوى هذه الفرصة، لتُخرِج مواد عدد هذا الشهر ككواكب سيارة تدور في أفلاكها حول شمس العالم الروحاني، سيدنا محمد المصطفى ، فتعكس دُرَّة العدد ممثلة في خطبة حضرة الخليفة الخامس أيده الله تعالى بنصره العزيز شعاعا من نور سيرة النبي الخاتم ونُبُوءَاتٌ وَكَرَامَاتٌ عَلَى طَرِيقِ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ. كما يطالع القارئ الكريم مادة مقالية ثرية ذات صلة بموضوع ملف العدد. ندعو الله تعالى أن يجعل كل كلمة سُطرت في هذا العدد وكل عدد خالصة لوجهه الكريم، وأن يرينا ثمارها اليانعة بفضله وجوده، آمين.
الهوامش:
- الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري، ج٧/ ص٤٢
- (الروم: 42)
- مرزا غلام أحمد القادياني، كتاب «التبليغ»