لا نقبل إلا بالروبية كاملة
- قيام الخليفة الثاني y برحلة ترويحية إلى معالم دلهي الإسلامية.
- التقى حضرته صدفة برجل وفيما بعد أرسل له رسالة ذكر فيها تفاصيل بيعته.
__
لا يخلو كلام المقربين وفعلهم من حكمة بالغة وعبرة عظيمة، فجدهم جد وهزلهم جد، وهم جميعهم يشتركون في هذه المزيَّة، إمعانا في التدليل على صدقهم وصفائهم، حتى أنهم يصدقون في مواقف لو كَذِبوا فيها، على سبيل الافتراض الجدلي، لما كانوا مورد لوم أحد، فلا لوم على مازح وممازح كما جرى العُرف. ولا يتوقف الأمر حال مزاح عباد الله المقربين عند حد أنهم لا يكذبون، بل يتعداه إلى كون مزاحهم ذا مغزى فريد وعمق بعيد. إن أولئك المقربين ذوو طبيعة مفطورة على نموذج الإنسان الكامل الذي قال:
«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا». (1)
وفي حياة حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد من هذه المواقف اللطيفة الكثير، وقد وقع اختيارنا على أحدها لنقدم للقراء جانبا من شخصية المصلح الموعود ربما لم يَخبُروه من قبل، وهو مثير للإعجاب بحق.
يروي حضرة الخليفة الثاني أنه أثناء رحلته الترويحية، التي قام بها إلى معالم دلهي الإسلامية، التقى برجل من قومية «البتهان» له من الأشقاء ثلاثة، فذكر له ذلك الرجل، ولم يكن أحمديا إلى ذلك الحين، أن له أخوين أحمديين، وأخا ثالثا غير أحمدي، فسأله حضرته عن سبب عدم إقدامه على قرار البيعة على الرغم من أن الأحمدية دخلت بيته، فأجاب الرجل ممازحا حضرته قائلا: هكذا قد عدلت أسرتي وأنصفت، إذ قدمت إلى الجماعة اثنين من أبنائها، واحتفظت بالآخرَين، فكأنما دفعت إليكم نصف روبية واحتفظت بالنصف الباقي. هنا رد حضرة المصلح الموعود، ممازحا كذلك، بقوله: ولكننا لا نقبل إلا بقبض الروبية كاملة. لقد عنى حضرته لفت انتباه الرجل إلى البيعة، ثم استطرد سائلا إياه: ألم تقرأ شيئا من كتبنا؟! فما كان من الرجل إلا أن اعتذر بضيق الوقت وضعف الرغبة في القراءة. وانتهت وقائع هذا اللقاء القصير، ومضى الرجل إلى حال سبيله، ثم بعد بضعة أشهر تلقى حضرته رسالة بيعة من لندن، اتضح بعد قراءتها أنها تخصُّ ذلك الرجل البتهاني الذي التقى بحضرته في دلهي، واعتذر فيها عن أنه لم يتمكن من إرسال نصف الروبية، ولكنه يرسل ربعها الآن، مومئا إلى بيعته، وهو أحد الأبناء الأربعة، فكأنما تساوي بيعته ربع الروبية، في إشارة منه إلى الحديث الذي دار مع حضرة المصلح الموعود في اللقاء المذكور.
وفي الرسالة حكي الرجل تفاصيل عن السبب الذي دفعه لاتخاذ قرار البيعة، فقال أن أحد شقيقيه الأحمديين قد أودع حقيبته قبل السفر مجموعة من كتب الجماعة، وأوصاه بقراءتها أثناء سفره، فقبلها على مضض لأنه يحب شقيقه ذاك كثيرا، ولكنه لم يلتفت إلى تلك الكتب إلا مؤخرا، فحين وطئت قدماه أرض أوروبا أدرك أن غلبة الإسلام على تلك الأقوام أمر بعيد المنال، إن لم يكن ضربا من الخيال، وعليه فإن الحق ليس في كفة الإسلام على ما يبدو، وإلا فبم نفسر انهزامه أمام الحضارة الأوروبية المسيحية حتى لا أمل مطلقا في نهوضه ثانية؟!
لقد تسلل اليأس والشك إلى قلبي مع ذلك التساؤل، حينها تذكرت الكتب التي أودعها شقيقي حقيبتي قبل السفر، فقلت لعلّ فيها شيئا حول هذا الموضوع، فأخرجت كتابا لكم عنوانه «الدعوة إلى الحق»، ذَكرتم فيها أن رسول الله أنبأ بانحطاط الإسلام وقال أن المسلمين يُخزَون بحيث يُقضى على تجارتهم وتتلاشى جميع مظاهر تقدمهم. من كان يستطيع القول قبل 1300 عام أن هذا ما ستؤول إليه حالة المسلمين؟! لا شك أن من يجرؤ على التنبؤ بمثل هذه الأمور منذ ذلك الزمن البعيد لهو مؤيد من الله تعالى. ثم واصلت القراءة فوجدتكم تطلقون نداء عاما للمسلمين تذكرون فيه نبأ رسول الله الأول عن انحطاط الإسلام، وهو الأمر الذي كان تحققه محالا في الظاهر، فلِمَ لا تستيقنون بحتمية تحقق نبئه الثاني الذي أسرده لكم الآن، وهو بعث الإسلام وعودته إلى الحياة من جديد؟! ثم كتبتُم بعض النبوءات التي تتعلق بتقدُّم الإسلام قائلين بأن على المسلمين أن يستيقنوا نظرا إليها بأن الإسلام سوف يتقدم مرة ثانية حتما. واستطرد صاحب الرسالة قائلا: عندما قرأت هذا اطمأن قلبي إلى أن ما أراه على صعيد الواقع يحدث كما قلتُم تماما من أن رسول الله قد أنبأ بذلك من قبل، وحين تحقق ذلك مع أنه كان يبدو مستحيلا فلا بد أن يتحقق نبأه الثاني أيضا، وفهمت أن الذي جاء إلى الدنيا وأرشدنا إلى هذا الأمر لا يجوز الابتعاد عنه قط. فبايع هذا الأخ وانضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية. هذا وقد قبضت الجماعة ببيعة ذلك الأخ ربع الروبية الثالث، ونأمل أن يكون الربع الرابع أيضا قد تم سداده.
1. (سنن أبي داوود, كتاب الأدب – حديث 4167)