- كيف تجذَّرت ممارسة الربا في المعاملات الاقتصادية قبل الإسلام؟
- كيف أصَّل القرآن الكريم لتحريم تلك الممارسات؟
- ما الأثر الإيجابي الذي تجنيه الإنسانية من قطع دابر الممارسات الربوية؟
___
كل كلمة وكل حرف من القرآن الكريم عند المسلمين هو كلام الله الذي أنزل على محمد ، خاتم النبيين.
ودام نزول الوحي طوال فترة نبوته التي استمرت ثلاثة وعشرين عاماً. وبعبارة أخرى، فإن نزول القرآن بدأ منذ بداية نبوته، واستمر إلى قبيل وفاته بمدة قصيرة. فلو حسبنا معدل نزول وحي القرآن بقياس النسبة بين مجموع كلمات القرآن والعمر الذي عاشه حضرة خاتم النبيين منذ بُعث، يكون متوسط الوحي اليومي حوالي تسع كلمات.(1) فمن الواضح، استناداً إلى هذه الحسابات، أن القرآن نزل بوتيرة بطيئة وتدريجية، وهذا ما جاء في منطوق التنزيل الحكيم من قول الله تعالى:
الحكمة وراء ذلك هي أنه كان من الضروري أولاً السماح للمسلمين، وخاصة للأتباع الأوائل لرسالة الإسلام، بدراستها وحفظها. علاوة على ذلك، هناك العديد من الآيات التي تحث على تغيير نمط بعض الممارسات التي كان قد اعتاد عليها العديد من العرب. وفي وقت بعثة الرسول الكريم محمد ، كان أهل مكة يميلون على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي ميلاً واضحاً نحو الفردية.
فالقول بأن القرآن الكريم مليء بالسور التي تشير إلى الاستياء الإلهي من مجتمع مكة هو في الحقيقة تصريح مكبوح. إذ ركزت ثقافتهم الاقتصادية الثروة في أيدي قلة قليلة مستبعدة بذلك الشريحة الواسعة من المجتمع، والتي كانت ترزح تحت خط الفقر. وهكذا نتج الانقسام الطبقي في مكة عن تركُّز الثروة في أيدي التجار الأثرياء(3). وبدأ هؤلاء التجار في استخدام رأس مالهم الفائض في ممارسة مالية من نوع آخر، ألا وهي الفائدة الربوية.
وهذا الذم المبكر للربا، ترافق نزول آيات القرآن الكريم المكية التي أدانت ممارسات الظلم الاقتصادي التي تفشَّت في مجتمع مكة آنذاك، كالاكتناز والبخل والممارسات التجارية اللاأخلاقية كالغش التجاري والتطفيف في الكيل والميزان، إلى آخر تلك الممارسات المستقبحة. ما تجدر ملاحظته هنا أن الآية لا تشير إلا إلى الفائدة الربوية من بين كل تلك الممارسات آنفة الذكر، وحتى هذه الفائدة الربوية لم تتطرق الآية بعد إلى حظرها كتشريع
الممارسات الاقتصادية الفاسدة منذ الجاهلية
يبدو من الفحص الدقيق للوضع العام في الجزيرة العربية أنه حتى قبل نبوة الرسول الكريم محمد ، كان فرض الفائدة ممارسة واسعة الانتشار في مكة المكرمة(4)، مما سبب صعوبات كبيرة للطبقات الفقيرة. ونتيجة لذلك، تم تثبيط العديد من المعاملات لمنع ممارسة الفائدة واستخدام أساليب ملتوية. كان هذا هو الحال بالنسبة «للمحاقلة» (تأجير الأراضي مقابل الذهب) و«المخاضرة» (بيع القمح الأخضر قبل نضوجه). وكانت هناك أيضاً ممارسات «المعاومة» (بيع المحصول مقدماً)، و«القراع؟» (شراء محصول قبل حصاده أو اشتداده مقابل محصول آخر)، و«المزابنة» (بيع العنب مقابل الزبيب/القمح مقابل الأغذية الجاهزة)(5).
وقد عُثِر على أقدم بيان موثق عن الربا في زمن ما قبل الإسلام في موطأ الإمام مالك، وقد جاء فيه:
ومع زيادة النشاط التجاري والحد من المخاطر التي تنطوي عليها هذه الاستثمارات، اضطُر أولئك الذين لا يملكون أصولا ثابتة أو مال مدخر على الاقتراض من التجار أصحاب رؤوس الأموال، وأصبح الربا بالنسبة للمُقرِضين طريقة أخرى لزيادة رأس المال وجمع الثروة.
ولذلك كان من الطبيعي أن يُدعى سكان مكة إلى مزيد من الاعتدال والمرونة، وخاصة تجاه الفقراء والأيتام والأرامل وجميع الضعفاء والمحتاجين إلى المساعدة. فمثل هذا الحرمان ليس سليمًا اقتصاديًّا أيضًا لأن الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء لم تخلق توترًا اجتماعيًّا فحسب، بل أجبرت التجار على التخلي عن المزيد من ثرواتهم. ونتيجة لذلك، طُلب منهم جعل ثرواتهم أكثر حركة من خلال توزيعها بدلاً من تكديسها بشكل مفرط.
إشارة الوحي الأولى إلى الربا، على سبيل الاستهجان
وبالعودة إلى الفائدة، دعونا نضع في اعتبارنا أن المصطلح المستخدم في القرآن الكريم هو «الربا» وكان معناه آنذاك أوسع بكثير مما هو عليه اليوم. إذ كان أحد معانيه هو أخذ الفائدة على قرض من المال، بغض النظر عن مبلغ القرض. إن الترتيب الذي نزلت به الآيات عن الفائدة يدل على أن حظرها تم تدريجيًّا من أجل تنمية القيم الأخلاقية لدى جماعة المؤمنين، فتمثلت أولى الإشارات إلى الفائدة الربوية في قول الله تعالى:
هذه الآية الكريمة من سورة الروم المكية. وتشير العديد من القرائن، لا سيما في الآيات الافتتاحية لهذه السورة، إلى أنها نزلت خلال السنة السادسة أو السابعة من بعثة الرسول الكريم ، حيث كانت الإمبراطورية الفارسية في أوج مجدها في ذلك الوقت، وكانت جيوشها تقرع أبواب القسطنطينية، وفي المقابل كانت حال الروم في الحضيض. لا عجب في أن ذم الربا جاء في فترة مبكرة من نزول الوحي، بل إن غياب هذا الذم لمما ينافي حكمة القرآن.
وهذا الذم المبكر للربا، ترافق نزول آيات القرآن الكريم المكية التي أدانت ممارسات الظلم الاقتصادي التي تفشَّت في مجتمع مكة آنذاك، كالاكتناز والبخل والممارسات التجارية اللاأخلاقية كالغش التجاري والتطفيف في الكيل والميزان، إلى آخر تلك الممارسات المستقبحة. ما تجدر ملاحظته هنا أن الآية لا تشير إلا إلى الفائدة الربوية من بين كل تلك الممارسات آنفة الذكر، وحتى هذه الفائدة الربوية لم تتطرق الآية بعد إلى حظرها كتشريع، ذلك لأن الإسلام لم يكن قد وصل بعد إلى السلطة السياسية التي تتيح له التشريع الذي يمكنه من القضاء على هذا الشر.
يهود المدينة، وأولى ملامح النهي التشريعي للربا
تمثلت أولى ملامح النهي التشريعي للربا في مجتمع المدينة، والتي كانت مجتمعا تعدديا، لم يعدم هو أيضا ممارسة الربا، وكان يهود المدينة أبرز من مارسوه، فنزل قول الله تعالى:
نزلت هاتان الآيتان من سورة النساء بعد الهجرة إلى المدينة المنورة بعام واحد تقريبا، هاتان الآيتان تُدينان بشدة ممارسة الشعب اليهودي للربا، مذكرة إياهم بأنه كان محظوراً في كتابهم المقدس. فكما هو مبين في سفر التثنية، كان أخذ الربا محرماً بين الشعب اليهودي، ولكن سمح لهم بأخذه من غير اليهود:
نجد أيضا في سفر الخروج:
في وقت لاحق وعدوا نحميا بالتخلي عن هذه الممارسة الشريرة(11) ، لكن بعضهم أخلف الوعد. فكان جزاؤهم أن أُذيقوا الاضطهاد على أيدي أعدائهم، طبقًا لنبوءة حزقيال:
وبما أن الرسول الكريم محمد كان متحالفاً مع القبائل اليهودية خلال السنوات الأولى في المدينة المنورة، فقد دعاهم إلى المساهمة إما لدعم المهاجرين من مكة المكرمة، أو لتغطية النفقات العسكرية والاستعدادات(13). كانت هناك حاجة إلى ذلك لا سيما وأن تهديد مشركي مكة كان قائما وهجومهم على المدينة كان وشيكا. وطولبت كافة شرائح مجتمع المدينة، بمن فيهم اليهود والمسلمون، بناء على ميثاق المدينة، طُولبت بالمساهمة في النفقات، لكن اليهود رفضوا وعوضا عن ذلك أعلنوا استعدادهم لتقديم قروض بفائدة ربوية، ويمكننا العثور على ذكر تلك الممارسة في روايات السيرة النبوية، فمما رواه البخاري أَنَّ النَّبِيَّ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ (14). كان الرسول الكريم يعرف أنه من المخالف للشريعة اليهودية الانخراط في مثل هذه الممارسة تجاه المؤمن الآخر. ففي نظره، كان الشعب اليهودي والمسلمون يشتركون في اتباع دين توحيدي، وبالتالي، وجب على اليهود أيضاً المساهمة في القضية الوطنية، أو على الأقل تقديم قروض حسنة، أي دون فائدة ربوية. وبهذه الطريقة، أصبحت مسألة الفائدة نقطة شائكة أخرى في التعاليم الدينية بين القرآن الكريم والثقافة الاقتصادية لليهود المعاصرين.
النهي الصريح عن الفائدة المركبة
كان هذا بنزول قوله تعالى:
نزلت هذه الآية من سورة آل عمران بعد معركة أحد (3 ه أو 625 م)(16) وهي تحظر الفائدة المركبة على المؤمنين. وتختلف هذه عن الفائدة البسيطة في أنها تعتمد على المبلغ الأصلي والفائدة المتراكمة عليه في كل فترة. كانت هذه هي الممارسة الرائجة في زمن الرسول الكريم ، وكانت تفرض عقوبة على سداد الديون المتأخرة أو التخلف عن السداد، بأن يضاعف مبلغ الدين المستحق إذا لم يسدد في الوقت المحدد.
تحريم الربا يزداد وضوحا
ترافق هذا مع نزول قول الله تعالى:
نزلت هذه الآيات من سورة البقرة قرب نهاية حياة الرسول الكريم محمد . والدليل على ذلك الحديث التالي حيث يروى أن عمر بن الخطاب قال:
فالآيات تحرم الفائدة بجميع أشكالها وكل شر اقتصادي ينتج عن الفائدة عُدَّ جريمة اقتصادية. وتنص أيضاً على أن الفائدة مدمرة للسلام العالمي بل وترقى إلى مستوى شن الحرب ضد الله.
الحكمة من تحريم الربا
إن الغرض من الإسلام لا تجسده مجرد المفاهيم الاقتصادية البحتة، فهدفه هو الارتقاء بالحالة الأخلاقية والروحية للإنسان. وهناك نوعان من الواجبات الموكلة إلى المسلمين: واجبهم تجاه الله، وواجبهم تجاه الإنسانية، ذلك الواجب الذي تلخصه عبارة الشكر في قوله : «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ”(19). أي على المسلمين أن يتخلوا عن مصالحهم الخاصة عندما يتعلق الأمر بتحسين حالة المجتمع ككل، لقوله تعالى:
والفائدة هي على وجه التحديد مثال على ذلك، لأن الإسلام كلف الإنسان بالسعي لمساعدة المحتاجين. أما بالنسبة للمبالغ المقترضة لتلبية الاحتياجات الأساسية أو لحالة طارئة، فإن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك من خلال الحث على منح فترة سماح إضافية، أو حتى إلغاء المبلغ الذي اقترضه الشخص الذي لم يتمكن من سداده بالكامل، لقوله تعالى:
ولذلك لم يكن الهدف من حظر الفائدة رمزياً، بل كان يهدف إلى خلق مشاعر نبيلة في داخل المرء تجاه جاره. والفكرة الأساسية لعالمية حظر الفائدة هي أن جميع البشر إخوة، وبالتالي يجب أن يساعد بعضهم البعض مالياً وبوسائل أخرى.
الزكاة كبديل اقتصادي فعال
بدلاً من تعزيز عدم المساواة الناتج عن فرض الفائدة، فإن الطريقة التي قدمها الإسلام للحفاظ على حركة العجلة الاقتصادية تسمى الزكاة. وقد تحقق هذا النظام المتمثل في فرض ضرائب على رأس المال الخامل من الميسورين وأعيد توزيعه لتلبية احتياجات أشد الناس فقراً وتلبية لمتطلبات الرعاية الاجتماعية. كما ذكر في الآية 40 من سورة الروم:
فإن القرآن الكريم يقارن بين تداول الثروة السيء (الربا) والتداول الجيد للثروة (الزكاة). ومن الأمثلة الهامة الأخرى على التداول في القرآن الكريم ما يلي:
الزكاة ركن أساسي من أركان الإسلام، وهي النقيض التام للفائدة. وكما أوضح الخليفة الرابع رحمه الله، فإنها «تثبت أن من حق كل شخص أن توفر له بعض ضروريات الحياة الأساسية في كل أرض ومجتمع، وأن المسؤولين عن الوفاء بهذا الالتزام هم الذين يمتلكون أكثر من احتياجاتهم الأساسية، تاركين للدولة قرار تحديد طريقة العمل المناسبة، مما يضمن أن يكون النظام منصفاً وعادلاً ويفي بغرضه الأساسي المنشود.»(23)
الهوامش:
- راجع: مرزا بشير أحمد، سيرة خاتم النبيين”، المجلد 1، ص 6-7، منشورات الإسلام الدولية، تيلفورد.
- (الإسراء: 701)
- ر. إ. وولف، ر. إ.، “التنظيم الاجتماعي لمكة وأصول الإسلام”، مجلة الأنثروبولوجيا الجنوب غربية، المجلد 7، العدد 4، ص 329-356، سنة 1951.
- ه. لامنز، “جمهورية مكة التجارية حوالي عام عام 006 م”، نشرة المعهد المصري، ص 23-45، (0191)
- م. إبراهيم، رأس المال التجاري والإسلام، مطبعة جامعة تكساس، أوستن، ص 87، (1991).
- مالك ابن أنس، الموطأ، مالك، كتاب البيوع.
- (الروم: 04)
- (النساء: 161-162)
- (التَّثْنِيَة 23 : 91-02)
- (اَلْخُرُوجُ 52 : 22)
- (نحميا 5: 12)
- (حزقيال 18: 13)
- مونتجومري وات، محمد في المدينة المنورة، مطبعة جامعة أكسفورد، ص792، (6591).
- صحيح البخاري، المبيعات والتجارة، كتاب البيوع، رقم 2068
- (آل عمران: 131)
- مرزا طاهر أحمد القرآن الكريم: الترجمة الأردية لمعاني القرآن الكريم، ومقدمة للسور وملاحظات توضيحية موجزة، ص79، منشورات الإسلام الدولية، فارنهام، لندن، سنة 2002
- (البقرة: 672-182)
- سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، رقم 2276
- الترمذي، كتاب البر والصلة، رقم 1955
- (آل عمران: 39)
- (البقرة: 182)
- (الحشر: 8)
- مرزا طاهر أحمد، بعض السمات المميزة للإسلام، ص 41، منشورات الإسلام الدولية، فارنهام، لندن، 7102.