
- ما هي مدارج فلاح المؤمن الروحانية السبعة؟
- ما نظير تلك المدارج على المستوى المادي؟
- ما فلسفة الطواف في سبعة أشواط حول البيت الحرام؟
___
“المؤمن” و”المسلم” والفرق الدلالي
نحن اليوم على موعد مع المؤمنين، الذين ذكرهم الله تعالى في قرآنه المجيد، وجعل لهم سورة وبناءً عظيمًا في فُرقانه العظيم وكتابه المبين، سماها باسمهم، وعدد فيها صفاتهم، ورفع بها ذكرهم، وجعلهم في أعلى عليين، ألا وهي سورة «المؤمنون»، وقد سماها سبحانه وتعالى، وسماهم «المؤمنون»، ولم يسمها ولا سماهم «المسلمون»، لأن وجود المسلمين أمر سهل يسير، وتَحقُّق مظاهر الإسلام في شخص لا يحتاج إلى جهد جهيد، ولا عملٍ عسير، فيكفيه حتىى يدخلَ في زمرة المسلمين أن ينطق الشهادتين، ويصلي الخمس، ويُخرِجَ من ماله جزءًا يسيرًا لا يكادُ يُذكر، ويصومَ الشهر، ويحج البيت ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فليس مجرد الإسلام بالأمر الذي يُمدح صاحبه من أجله، ولا يُرْفع به إلى أعلى عليين، بل لا يكون ذلك إلا بالإيمان، وقد رد التنزيل الحكيم ادعاء الأعراب الإيمان لمجرد إسلامهم، فقال:
فالإسلام مرحلة أولى، ودرجة دنيا، ينفذ منها الإنسان إلى الآفاق السماوية، والترقيات الروحانية وصولا إلى درجة الإيمان التي هي الغاية من الديانات والعبادات، حتى يصير كل مؤمن إنسانا كاملا على قدْره، يحمل من صفات الله فيوزع منها على عباده ليريهم كيف يكون الله رحمانا رحيما كريما حليما صبورا شكورا، ويكون كل منهم للآخر شمسا تضيء له سبله، وتُذهب ظُلمةَ ليله، فالجميع يضيء، والجميع يستضيء.
يقول :
المدارج الروحانية السبعة
ومن الآيات التي تلوناها من مفتتح سورة «المؤمنون» نخلص إلى أن هؤلاء المؤمنين يمرون بمدارج وترقيات سبعة تؤهلهم للفلاح في نهاية المطاف. أول هذه المدارج هو الخشوع، ومظهره أنهم لا يعبدون الله تعالى في الظاهر فقط، بل في الباطن قبل الظاهر، ولا يكون الظاهر إلا مظهرا لعباداتهم الباطنة التي لا يعرفها إلا ربُّهم، وهذا هو جوهر الخشوع في العبادة، إذ الخشوع شعور نفسي خفي يستحيل تمثيله تظاهرا، فالمُرائي يستحيل أن يتمكن من الخشوع.
المَدرج الثاني من الآيات التي تلوناها هو مدرج الإعراض عن اللغو، ومعناه أن هؤلاء المؤمنين يتجنبون كل عمل لا يعود بالنفع على أنفسهم أو قومهم أو بلدهم، فلا يضيعون أوقاتَهم في ما لا يفيد.
أما المدرج الثالث فهو التزكية، ومفاده أن المؤمنين مستعدون لجميع التضحيات الماليةِ والبدنيةِ والنفسيةِ من أجلِ رقيّ بلدهم، وكل ما يقدمونه من تضحيات لوجه الله خالصة إنما يعمل عمله في تزكيتهم وتطهيرهم.
ثم المدرج الرابع، وهو حفظ الفروج، وسدُّ كلِ المنافذِ التي تتسربُ منها المساوئُ إلى القلوب، فالمؤمن عفيف بطبيعته.
والمدرج الخامس يتمثل في التزامهم بمسئولياتهم كاملة، فلا ينقضون العهودَ التي قطعوها مع غيرهم، على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو الدولي.
أما المدرج السادس فيتمثل في ممارستهم العباداتِ الجماعية، والأعمالِ الجماعية، ويحافظون على الهُوِيةِ الجماعية والأواصر الرابطة بين أفراد الكيان الواحد، جاعلين الفرديةَ تابعةً للدين والمصلحةِ العامة، لا العكس.
وببلوغ الترقي السادس يكون المؤمن في هذه الحال مؤهلا لأن تُتَوَّجَ رحلة سلوكه وطوافه، فيرث الفردوس خالدًا فيها، وقد نفخ الله تعالى فيه روحًا جديدة فكان خلقًا آخر أرقى وأسمى، فتبارك الله أحسن الخالقين!
ومن الآيات التي تلوناها من مفتتح سورة «المؤمنون» نخلص إلى أن هؤلاء المؤمنين يمرون بمدارج وترقيات سبعة تؤهلهم للفلاح في نهاية المطاف. أول هذه المدارج هو الخشوع، ومظهره أنهم لا يعبدون الله تعالى في الظاهر فقط، بل في الباطن قبل الظاهر، ولا يكون الظاهر إلا مظهرا لعباداتهم الباطنة التي لا يعرفها إلا ربُّهم، وهذا هو جوهر الخشوع في العبادة، إذ الخشوع شعور نفسي خفي يستحيل تمثيله تظاهرا، فالمُرائي يستحيل أن يتمكن من الخشوع.
نموذج الطواف يعكس صورة المدارج الروحانية السبعة
إن فكرة مدارج الترقيات السبعة التي يمر بها الجنين الإيماني الروحاني حتى يُكتب له الاكتمال ومن ثم الولادة هي فكرة أصيلة في التعاليم الإلهية، وهي مبثوثة فيما حولنا من مظاهر الشريعة في جلاء تام، وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك شعيرة الطواف حول بيت الله الحرام، والتي يؤديها كل من الحاج والمعتمر، والتي ينبغي لكل من يقصد بيت الله حاجا أو معتمرا أن يُدرك فلسفتها، فبإدراكها يجني المرء ثمرة طوافه، وينقلب إلى أهله وقد حج حجًا مبرورا، فيستحق الثواب الذي وعد به النبي بقوله:
ومما كتبه سيدنا المسيح الموعود بهذا الصدد قوله:
أما عن سر الطواف سبعة أشواط، فيحدثنا سيدنا مرزا بشير الدين محمود أحمد مبينا الحكمة من كون الطواف والسعي كليهما سبع مرات فيقول:
التطور الروحاني ونظيره المادي
إن هذه المدارج السبعة المذكورة آنفا هي مراحلُ روحانيةٌ مترتبة بعضها فوق بعض، ولها علاقةٌ وثيقةٌ بمراحل تطور الجنين المذكورةِ في فواتح هذه السورة، فليس من العبث أن يَذكر الله تعالى صفاتِ المؤمنين، ثم يتبعها مباشرةً بمراحل تَكوّن الجنين، إذ قال:
وعندما نُدقّقُ النظرَ والتأملَ نجد أن عددَ الصفاتِ التي وردت في حق المؤمنين، هي نفسُ عدد المراحل التي ذكرها الله تعالى باعتبارها مراحلَ تكوُّن الجنين في بطن أمه، إننا إذن بإزاء جنينين اثنين، جنين إيماني، يشبه الجنين المعروف، فالمؤمن يمر بمراحلَ تطورٍ إيمانيةٍ مماثلةٍ تمامًا لما يمر به الجنين من مراحل التكوين والخلق، حتى إذا اكتملت تلك المراحل أصبح مؤهَّلا لأن يستقبله العالم، فينزل ويحل عليه ضيفًا إلى حين.
الخلق الروحاني هو الأصل
الملاحظ أن الله تعالى قد أورد ذكر الخلق الروحاني أولا، ثم أتْبعهُ بذكر الخلق الماديّ، تأكيدا على أهميته، وأولويتِه، وأنه هو الغاية من الخلق، أما الخلق المادّيُّ فهو شاهد على الخلق الروحانىّ ودليلٌ عليه، ولم يُرد ذكرَه بعده إلا لذلك، فكما يولد البشر ثم يموتون، ثم يُبعثون يوم القيامة، كذلك تولد الأمم، ثم تموت، ثم تولد بدلا منها أممٌ أخرى، وهكذا دواليك.
وعندما نُدقّقُ النظرَ والتأملَ نجد أن عددَ الصفاتِ التي وردت في حق المؤمنين، هي نفسُ عدد المراحل التي ذكرها الله تعالى باعتبارها مراحلَ تكوُّن الجنين في بطن أمه، إننا إذن بإزاء جنينين اثنين، جنين إيماني، يشبه الجنين المعروف، فالمؤمن يمر بمراحلَ تطورٍ إيمانيةٍ مماثلةٍ تمامًا لما يمر به الجنين من مراحل التكوين والخلق، حتى إذا اكتملت تلك المراحل أصبح مؤهَّلا لأن يستقبله العالم، فينزل ويحل عليه ضيفًا إلى حين.
دلالات لغوية
لقد بدأت الآيات بحرف التوكيد «قد»، وكذلك تبدأ السورة كلها مؤكَّدة بهذا الحرف، مؤكِّدة ثبوتَ الفلاحِ للمؤمنين بالزمن الماضي، فالذي يجب أن تكونَ واثقا منه وثوقَك من الأمر الواقع المشاهَد للعَيان، هو أن الفلاحَ قد حصل، وأصبح وثيقَ الصلةِ بالمؤمنين، ولا خيبة ولا خسران تلحقان بهم بعد اليوم، وإنما الخيبةُ والخسرانُ لمن لم يكن منهم، والفلاحُ هو الفوز والوصول إلي البغية، وتحقيقُ النجاح في الأعمال الموكَلةِ إليهِ والذي هو مكلفٌ هو بأدائها.
وكذلك نأخذ معنًى من هذه الآية الكريمة أنه كلُّ من أراد الفلاحَ فلينضمَّ لجماعةِ المؤمنين، ومن لعِبتْ به الظنونُ وأوهمتهُ أنه يمكن أن يكونَ له فلاحٌ في غير جماعة المؤمنين فإنه من المخدوعين، والمؤمنون الذين أفلحوا ليسوا من يُؤدون بعضَ العباداتِ في الظاهرِ، وتكون قلوبُهم خاويةً من اليقينِ والتسليمِ والتَّوكلِ على الذي يُؤدون له تلك الصلوات، ويتوجهون إليه في العبادات، وإنما هم الذين تَجَذَّر حُبُّ ربِّهم في قلوبهم، وأخذهم الحُبُّ كلَّ مأخذٍ في الذوبان في عشق معبودِهم.
وهذا الوصف بـ «المؤمنين» لفظٌ عامٌ يشترك فيه من كان على عهدِ النبيّ ومن كان فيما تَبِعه من عصور، ومن هم إلى يوم القيامة، فكلُّ من انطبقت عليه الصفاتُ التاليةُ فهو من المؤمنين، وقد وصف الله تعالي أصحابَ النبيِّ أنهم مؤمنون إذ قال:
ووصف رسولُ الله أتباعَه من بعده حتى يوم القيامة، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
فكلهم آمنوا، وكلهم مؤمنون، وجدير بالذكر أن الله تعالى ذكر الفلاحَ ولم يذكر النجاةَ، فليس كافيا أن تنجو، وتظلَّ صِفْرَ اليدين من إحرازِ التقدمِ والنجاح، بل عليك أن تنجوَ من الظلمةِ أولا، ثم تسلكُ بنفسِك إلى ربك سُبلًا وعرة ودُروبًا خطِرة وصولًا إليه، ولا يكونُ المؤمنُ إلا ذلك المناضلَ الباحثَ دائما عن كل مرتبةٍ عُليا تُقرّبهُ بسموّها من محبوبه.
الهوامش:
- (الحجرات 14)
- (المؤمنون 2-12)
- الطبراني، المعجم الأوسط
- مرزا غلام أحمد القادياني، خطاب الاجتماع السنوي عام 1906
- مرزا بشير الدين محمود أحمد، التفسير الكبير ج 2 ص 449
- (المؤمنون:13-18)
- (الفتح 30)
- مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين