إبداعات أدبية خالدة
الحياة الذاتية
مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعا التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد.وتستعيد (التقوى) مع قارىء اليوم بعضًا من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.
أكثر الناس يعيشون في نفوس الناس أكثر مما يعيشون في نفوس أنفسهم أي أنهم لا يتحركون ولا يسكنون، ولا يأخذون ولا يدعون إلا لأن الناس هكذا يريدون.
حياة الإنسان في هذا العالم حياة ضمنية مدّخلة في حياة الآخرين، فلو فتش عنها لا يجد لها أثرًا إلا في عيون الناظرين، وآذان السامعين، وأفواه المتكلمين.
يخيل إليّ أن الإنسان لو علم أن سيصبح في يوم من أيام حياته وحيدًا في هذا العالم لا يجد بجانبه أذنًا تسمع صوته، ولا عينًا تنظر شكله، ولا لسانًا يردد ذكره؛ لآثر الموت على الحياة عله يجد في عالم غير هذا العالم -من آذان الملائكة أو عيون الجنة- مقاعد يقتعدها فيطيب له العيش فيها. إذا كانت حياة كل إنسان متلاشية في حياة الآخرين، فأي مانع يمنعني من القول بأن تلك الحياة التي تحسبها متكثرة متعددة، إنما هي حياة واحدة يتفق جوهرها، كالبحر المائج نراه على البعد فنحسبه طرائق قددا، ونحسب كل موجة من أمواجه قسما من أقسامه، فإذا دنونا منه لا نرى غيره، ولا نجد لجزء من أجزائه حيزًا مستقلا، ولا وصفًا ثابتا. لا يحيا في هذا العالم حياة حقيقية، إلا ذلك الشاذ الغريب في شؤونه وأطواره وآرائه وأعماله، الذي كثيرا ما نسميه مجنونًا، فإن رضينا عنه بعض الرضا سميناه فيلسوفًا، ونريد بذلك أنه نصف مجنون، فهو الذي يتولى شأن الإنسان، وتغيير نظاماته وقوانينه؛ وينتقل به من حال إلى حال بما يغير من عاداته ويحول من أفكاره.
أية قيمة لحياة امرىء، لا عمل له فيها إلا معالجة نفسه على الرضا بما يرضى به الناس، فيأكل ما لا يشتهي، ويصدف نفسه عما تشتهي، ويسهر حيث لا يستعذب طعم السهر، وينام حيث لا يطيب له المنام، ويلبس من اللباس ما يحرج صدره، ويقصم ظهره، ويشرب من الشراب ما يحرق أمعاءه، ويأكل أحشاءه، ويضحك لما يُبكي ويَبكي لما يُضحك، ويبتسم لعدوه، ويقطب في وجه صديقه، وينفق في دراسة ما يسمونه علم السلوك -أي علم المداهنة والملق- زمنا لو أنفق عشر مشعاره في دراسة علم من العلوم النابغة لكان نابغته المبرّز فيه حرصًا على رضاء الناس، وازدلافًا إلى قلوبهم.
ليست شهوة الخمر من الشهوات الطبيعية المركبة في غرائز الناس فلو لم يذوقوها لما طلبوها ولا كلفوا بها، وما جناها عليهم إلا كلف تاركيها برضاء شاربيها، وما كان الترف خلقًا من الأخلاق الفطرية في الإنسان ولكن كلف المتقشفون برضاء المترفين فأترفوا، فحملوا في ذلك السبيل من شقاء العيش وبلائه وأثقال الحياة وأعبائها، ما نغص عليهم عيشهم وأفسد عليهم حياتهم، وإنك لترى الرجل العاقل الذي يعرف ما يجب ويعلم ما يأخذ وما يدع، يبيع منزله في نفقة عرس ولده أو ابنته، فلا تجد لفعله تأويلا إلا خوفه من سخط الناس واتقائه مذمتهم، وكثيرا ما قتل الخوف من سخط الناس والكلف برضاهم ذكاء الأذكياء، وأطفأ عقول العقلاء، وكم رأينا من ذكيّ يظل طول حياته خاملا متلففًا لا يجرؤ على إظهار أثر من آثار فطنته وذكائه مخافة هزء الناس وسخريتهم، وعاقل لا يمنعه من الإقدام على إصلاح شأن أمته وتقويمها إلا سخط الساخطين ونقمة الناقمين.
وما أُعجبت برجل في حياتي إعجابي بأديب من أدباء هذه الأمة يكتب الرسالة التي يريد كتابتها بينه وبين نفسه ثم يدلي بها إلى صحيفة من الصحف أية كانت ثم يمضي لسبيله كأنه ما صنع شيئًا، فلا يسير وراءها سير المتسمع المتجسس ليعلم ما رأي الناس فيها، وما حديثهم عنها، وهل سخطوا عليها، أو رضوا بها؟ ولا يمسي متنقلا في المجامع والأندية، مسائلا عنها كل غاد ورائح، ليجد خيرًا فيضحك ويستبشر، أوشرًّا فيبكي ويبتئس، بل كثيرًا ما رأيته يسمع حديث الناس عنه في حاليْ رضْاهم وسخطهم ساكنًا هادئًا، كأنما يتحدثون عن غيره، ويعنون شخصًا سواه، حتى كدت أتخيل ألا فرق عنده بين: أحسنت وأجدت، وأسأت وأخطأت، بل قلما رأيته على كثرة لصوقي به، وتفقدي مواقع سمعه وبصره يقرأ ما تكتبه الصحف عنه، وما تعلقه على آرائه وأفكاره، من مدح أو ذم، حتى كدت أحمل تلك الحال الغريبة من أمره على البله والغفلة، أو العظمة والكبرياء، لولا أني فاتحته مرة في ذلك وسألته: لم لا تحفل برأي الكُتاب فيك، ولم لا تقرأ ما يكتبون عنك؟ فأجاب: إنني ما أقدمت على الكتابة للناس في إصلاح شؤونهم، وتقويم معوجهم، إلا بعد أن عرفت أني أستطيع أن أنزل منهم منزلة المعلم من المتعلم، للناس خاصة وعامة، أما خاصتهم فلا شأن لي معهم، ولا علاقة لي بهم، ولا دخل لكلمة من كلماتي في شأن من شؤونهم، فلا أفرح برضاهم، ولا أجزع لسخطهم، ولأني لم أكتب لهم، ولم أتحدث إليهم، ولم أشهدهم أمري، ولم أحضرهم عملي، بل أنا أتجنب جهد المستطيع أن أستمع منهم كل ما يتعلق بي من خير أو شر، لأني راض عن طريقتي التي أكتب بها رسائلي، فلا أحب أن يشككني فيها مشكك، ولم يهبني الله من قوة الفراسة ما أستطيع أن أميز بين مخلصهم ومشوبهم، فاقبل على الأول لأستفيد من علمه، وأعرض عن الثاني لأتقي غشه؛ فأنا أسير بينهم مسير رجل بدأ يقطع مرحلة لا بد له أن يفرغ منها في ساعة محدودة، ثم علم أن يفرغ منها في ساعة محدودة، ثم علم أن على يمين الطريق الذي يسلكه روضة غناء تعتنق أغصانها وتشتجر أفنانها وتغرد أطيارها وتتألق أزهارها، وأن على يساره غاًبً تزأر أسوده، وتعوي ذئابه، وتفح أفاعيه وصلاله، فمشى قدمًا لا يلتفت يمنة مخافة أن يلهو عن غايته بشهوات سمعه وبصره؛ ولا يسرة مخافة أن يهيج بنظراته فضول تلك السباع المقعية والصلال الناشرة فتعرض دون طريقه، وأما عامتهم: فهم بين ذكي قد وهبه الله من سلامة الفطرة وصفاء القلب وسلامة الوجدان ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه؛ فأنا أحمد الله في أمره؛ وضعيف قد حيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه، ولا يسمع إلا ما يطربه، فأَكِلْ أمره إلى الله واستلهمه صواب الرأي فيه حتى يجعل له من بعد عسر يسرًا؛ فأنا إنما أكتب للناس لا لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أنت أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثرًا مما كتبت، فلو أن هذه الملايين الإثنى عشر التي يحتضنها هذان الجبلان أجمعت أمرها إلى الإعجاب بي والرضا عني، ثم رأيت من بينها رجلاً واحدًا ينتفع بما أقول، لكان الواحد المستفيد آثر في نفسي من الملايين المعجبين، أتدري لم عجز كُتاب هذه الأمة عن إصلاحها؟ لأنهم يظنون أنهم لا يزالون حتى اليوم طلبة يتعلمون في مدارسهم وأنهم جالسون بين يدي أساتذة اللغة يتلقون عنهم دروس البيان؛ فترى واحدًا منهم يكتب وهمه المالىء قلبه أن يعجب اللغويين، أو يروق المنشئين، أو يطرب الأدباء، أو يضحك الظرفاء، ولا يدخل باب أعراضه ومقاصده أن يتفقد المسلك الذي يجب أن يسلكه إلى قلوب الذين يقول إنه يعظهم أو ينصحهم أو يهذبهم أو يثقفهم، ليعلم كيف ينفذ إلى نفوسهم؛ وكيف يهجم على قلوبهم وكيف يملك ناصية عقولهم؛ فيعدل بها عن ضلالها إلى هداها، وعن فسادها إلى صلاحها، فمثله كمثل الفارس الكذاب الذي تراه حاملاً سيفه كل يوم إلى الجوهري ليرصع له قبضته أو الحداد ليشحذ له حدّه، أو الصقيل ليجلو له صفحته، ولا تراه يوما في ساحة الحرب ضاربًا به.
نعم قد يكون الولع برضاء الناس والخوف من سخطهم مذهبًا من مذاهب الخير وطريقا من طرق الهداية للضال عنها لو أن الفضيلة هي الخلق المنتشر فيهم، والغالب على أمرهم، ولو كان الأمر كذلك لآثرت أن يعرض المرء نفسه على الفضيلة ذاتها من حيث هي، لا من حيث تشخيصها في أذهان الناس وقولهم، فإذا استوثق منها وعلم أنها قد خالطت قلبه وأخذت مستقرها من نفسه جعلها ميزانًا يزن به أقواله وأفعاله كما يزن به أقوال الناس وأفعالهم، ثم لا يبالي بعد ذلك أرضوا عنه أم سخطوا عليه، أحبوه أم أبغضوه، فإنما يبكي على الحب النساء.
(النظرات، الجزء الثاني)