
- ما التعريف الصائب والمحدد للربا؟
- ما موقف القروض البنكية الإسلامية الحالية من الربا؟
___
«…يقالُ في «المصارفِ الإسلاميةِ» إنَّ هناكَ ربحٌ وخسارةٌ إلا أنهَ أيضاً نوعٌ من الربا المبطن.» (1)
احتدمَ النقاشُ سنواتٍ عديدةً في عالمِ «التمويلِ الإسلامي» حولَ كيفيةِ استخدامِ العقودِ المختلفةِ وتفسيرِها. حيثُ صارَ التمويلُ الإسلاميُ يعتمدُ عملياً وبكثرةٍ على العقودِ القائمةِ على الربا أو الفائدةِ المقنَّعةِ بطرقٍ مختلفةٍ. والحججُ المؤيدةُ والمعارضةُ لاستخدامِ عقودِ التبادلِ وسيلةً لتوفيرِ الخدماتِ التمويليةِ ليست دائماً محددةً بوضوحٍ في الأدبياتِ. لذلكَ دعونا نوضحْ المسألةَ المطروحةَ قبلَ المضيِّ قُدمًا.
تعريفُ الربا وجوازُ تقاسمِ الأرباحِ
إنَّ الظنَّ بأنَ مفهومَ الربا يشيرُ فقط إلى الفائدةِ بالمعنى الضيقِ خطأٌ شائعٌ جداً. أولاً، من وجهةِ النظرِ الإسلاميةِ، فإنَ الفرضَ المسبقَ لنسبةٍ محددةٍ على قرضٍ في سياقِ المعاملةِ هو فائدةٌ، سواءَ أَكانتْ هذه النسبةُ مُبالغًا فيها أم لا. فالفائدةُ هي ربًّا بصرفِ النظرِ عن النسبةِ المفروضةِ. لا فرقَ بينَ ما إذا كانتِ الفائدةُ نسبةً ثابتةً أو متغيرةً من القرضِ الأساسيِّ (وهوَ المبلغُ الذي اقترضَهُ الشخصُ قبلَ الفائدةِ)، أو مبلغًا مُطلقًا يُدفعُ مقدمًا، أو حتى رسومَ خدمةٍ تستلمُ شرطاً للقرض، لأنَّ النقطةَ المهمةَ هنا هي أنَّ الفائدةَ المحددةَ سلفًا والانتظارَ الذي ينضوي إليهِ سدادُ القرضِ لا يبرَّرُ في حدِّ ذاتِهِ مكافأة.
يتبنى الإسلامُ تعريفًا أوسعَ للفائدةِ وتشملُ كلمةُ الربا أيَّ معاملةٍ يكونُ فيها الربحُ مضمونًا.(2) هذا يعني أنَّ الفائدةَ تعتمدُ من الناحيةِ النفسيةِ على الرغبةِ في الحصولِ على شيءٍ مقابلَ لا شيء. وهذا يشجعُ الكسلَ عند المُرابين، فبدلا من أنْ يُنَمُّوا ثرواتِهم بِعمَلهمُ الشاقِ وكدحِهم، يأخذونَ مما كسبهُ الآخرونَ بعرقِ جبينِهم. والأمرُ الآخرُ هو أنَّ الإسلامَ حرَّمَ الفائدةَ على رأسِ المالِ لأنهُ أغلقَ بابَ تكديسِ الثروةِ من غيرِ عملٍ أو مخاطرةٍ. القاعدةُ العامةُ في الإسلامِ هي أنَّ من يريدُ كسبَ الربحِ يجبُ أن يتحملَ المخاطرةَ أيضًا. فالمالُ في حدِّ ذاتِهِ عقيمٌ والمخاطرةُ (أو العملُ) هيَ الطريقةُ الوحيدةُ لتحويلِ المالِ إلى ثروةٍ.
ثانياً، متفقٌ بينَ علماءِ الإسلامِ أيضًا أنهُ يجوزُ للشخصِ الذي يُديرُ عَملاً تِجاريا مشاركةُ الأرباحِ الناتِجةِ عنهُ معَ مُستثمرٍ يُمولهُ. يتفقُ المستثمرُ ورجلُ الأعمالِ على نِسَبِ الأرباحِ المُستقبليةِ التي سَيتقاسمُها كلٌّ مِنهُما قَبلَ بدءِ العملِ. وبالتالي يجبُ مكافأةُ المستثمِرِ بما يتناسبُ معَ مُساهَمَتِهِ في تحقيقِ الربحِ ولكنْ بعدَ وقوعِهِ، وليسَ مُقَدمًا كمَا وضَّحنا أعلاه. ومعَ ذَلكَ، يُجادِلُ بعضُ المعلِّقين بأنَّ تقاسُمَ الأرباحِ لا يُلبي جميعَ المتطلباتِ المحتملةِ للتمويلِ في الاقتصادِ. عادةً ما يشتري الفردُ الذي يرغبُ في شراءِ منزلٍ هذا المنزلَ للعيشِ فيهِ، وليسَ من أجلِ تحقيقِ ربحٍ نقديٍّ. فكيفَ يمكنُ للمسلمِ أن يجمعَ المالَ لشراءِ منزلٍ إذا كانَ هذا المنزلُ لا ينتجُ ربحاً يمكنُ تقاسُمُهُ معَ الممولِ؟ الجوابُ وفقاً لبعض الناس هو أن تَستخدمَ المصارفُ «الإسلاميةُ» الحاليةُ عقودَ تبادلٍ مثلَ المرابحةِ أوِ البيعِ بثمنٍ مؤجلٍ (BBA) بدلاً من عقودِ الاستثمارِ.
مثالٌ على القروضِ «الإسلاميةِ» الحاليةِ
دعونا نتخيلْ أن يذهب فرد ما إلى مصرفٍ «إسلاميٍّ» بعدَ أنْ حددَ منزلاً يرغبُ في شرائهِ من شركةِ بناءٍ ما. ثم يوافقُ المصرفُ على شراءِ المنزلِ من الباني نيابةً عن الفردِ بسعرِ السوقِ البالغِ 300.000 جنيهٍ إسترلينيٍّ، ثمَ يبيعهُ للفردِ بسعرِ 375.000 جنيهٍ إسترليني. ويدفعُ المبلغُ على أقساطٍ قدرُها 15.000 جنيهٍ إسترليني سَنوياً وعلى مدارِ خمسةٍ وعشرينَ عاماً. ويكونُ «هامشُ الربحِ» البالغُ 75 ألفَ جنيهٍ إسترليني ربحَ المصرفِ، وليسَ رسومَ فائدةٍ، كما يجادلُ المصرفيونَ الإسلاميونَ الذينَ يمارسونَ هذهِ التقنيةَ، فالمصرفُ يعملُ كتاجرٍ يشتري المنزلَ بـ 300,000 ثمَّ يبيعهُ بـ 375,000 ويستخدمُ عقدَ التبادلِ لتوفيرِ التمويلِ المطلوبِ لمشتري المنزلِ.
لكنْ عندَ التحليلِ الدقيقِ للصفقةِ كاملةً يتضحُ أنَّ «الشيطانَ يكمنُ في التفصيلات». فمن بينِ الاتفاقياتِ التي يطلبها المصرفُ عادةً بموجبِ عقدِ المرابحةِ «الوعدُ بالشراءِ». أي يقومُ الفردُ بهذا الوَعدِ قَبلَ أن يشتريَ المصرفُ المنزلَ من البنّاءِ. وبموجِبِ هذا الوَعدِ، يؤكدُ الفردُ أنهُ سيشتري المنزلَ منَ المصرفِ في تاريخٍ لاحقٍ متفقٍ عليه. فيقومُ المصرفُ وبحوزتهِ وعدُ الفردِ بشراءِ المنزلِ من الباني ببيعه لهُ. ويأخذُ المصرفُ عادةً ضماناً ما لسدادِ الأقساطِ بأنْ يفرضَ مثلاً رُسوماً على المنزلِ. هذهِ هي العمليةُ المألوفةُ لأخذِ الضمانِ (الأصولُ أو الأملاكُ المقبولةُ عندَ المقرِضِ لتأمينِ القرضِ – هنا المنزل) الذي يسمحُ للمصرفِ ببيعِ المنزلِ من أجلِ سدادِ أي أقساطٍ مستحَقةٍ في حالِ تخلّفِ الفردِ عنِ السدادِ.
يبدو أنَّ الفرقَ العمليَّ أو النوعيَّ بسيطٌ جداً بينَ المرابحةِ العاديةِ وأشكالِ التمويلِ القائمةِ على الفائدة. فالمصرفُ الإسلاميُ يأخذُ على عاتِقِهِ مسؤوليةَ المنزلِ، تماماً كما تفعلُ المصارفُ القائمةُ على الفائدةِ، وسيكونُ مخولاً ببيعهُ في حالِ تخلفِ المُقتَرِضِ عن السدادِ، تماماً كما المصارفِ القائمةِ على الفائدةِ. وبهذهِ الطريقةِ، تحاولُ المصارفُ الإسلاميةُ ضمانَ هامشِ ربحٍ لها لا يقلُ عن أي مصرفٍ قائمٍ على الفائدةِ يحاولُ ضمانَ رسومِ الفائدةِ بموجبِ قرضٍ تقليدي.
عندما تجتمعُ نسبةُ الفائدةِ المتفقِ عليها مُسبقاً ووعدُ الشراءِ، تنشأُ حالةٌ لا يمكنُ تمييزُها في جَوانِبها العمليةِ عن الربا. تسمحُ عقودُ البيعِ بأثمانٍ مؤجلةٍ والمرابحةُ للمصارفِ الإسلاميةِ بالتنافسِ معَ المصارفِ التقليديةِ في مجالِ الإقراضِ القائمِ على الفائدةِ الذي هو شريانُ حياةِ الخدماتِ المصرفيةِ. وقد حَقَّق هذا النجاحُ التنافسيُّ أيضاً من خلالِ تحديدِ هامشِ المرابحةِ بما يتماشى معَ أسعارِ الفائدةِ السائدةِ. وبالتالي، فإنَّ التدفقاتِ النقديةَ لمعظمِ عقودِ التمويلِ الإسلامي ليستْ بالفائدةِ فحسب، بل هيَ مضبوطةٌ على أسعارِ الفائدةِ في السوقِ.
يجوزُ في الإسلامِ أساساً أن يشتريَ الفردُ المنزلَ من بنَّاءٍ مقابلَ 300 ألفِ جنيهٍ إسترليني نَقداً وأن يشغَلَهُ فوراً. أو يمكنهُ أن يتفاوضَ معَ المنشئِ لدفعِ أقساطٍ قدرُها 12 ألفَ جنيهٍ إسترليني سنوياً مدةَ خمسةٍ وعشرينَ عاماً، فيدفعُ لهُ في النهايةِ السعرَ نفسهُ، أي 300 ألفَ جنيهٍ إسترليني، ولكنْ على مدارِ خمسةٍ وعشرينَ عاماً بَدلاً من دفعةٍ واحدةٍ لمجملِ المبلغِ. ليسَ في ذلكَ فائدة. فَفي الحالتين، يُحققُ المنشئُ رِبحهُ، وهوَ الفرقُ بين تكلفةِ بناءِ المنزلِ وسعرِ البيعِ البالغِ 300 ألفِ جنيهٍ إسترليني. وفي الحالتين، يشتري الفردُ المنزلَ للعيشِ فيه بموجبِ عقدِ تبادلٍ، لا يشكِّكُ في صحتهِ إلا القلةُ القليلةُ من العلماءِ.
تخيلِ الآنَ أنَّ المنشئَ يعرضُ المنزلَ بسعرِ 300 ألفِ جنيهٍ إسترليني للدفعِ مقدماً، وبسعرِ 375 ألفَ جنيهٍ إسترليني للدفعِ بالتقسيطِ على مدارِ خمسةٍ وعشرينَ عاماً. إذا قررَّ المشتري الذهابَ إلى خيارِ الدفعِ المؤجَّلِ، فهل تمثلُ الـ 75 ألفَ جنيهٍ الإضافيةُ فائدةً يتقاضَاها المنشئُ، أو أنها مُجردُ مبلغٍ إضافيٍ من الأرباحِ التي يحاولُ المنشئُ تحقيقَها؟ وإذا كانَ بإمكان باني المنزلِ أن يتقاضى هذا المبلغَ الإضافيَّ مقابلَ الدفعِ المؤجلِ، فلماذا لا يستطيعُ ما يسمى المصرف الإسلامي أن يفعلَ الشيءَ نفسهُ عندما يشتري عقاراً ثمَّ يبيعُه بسعرٍ أعلى؟ وبتبسيطٍ أكثر، فإنَّ السؤالَ الملحَّ الذي يطرحُ نفسهُ هنا هوَ: ما الفرقُ بينَ التجارةِ والفائدِة؟
احتدمَ النقاشُ سنواتٍ عديدةً في عالمِ «التمويلِ الإسلامي» حولَ كيفيةِ استخدامِ العقودِ المختلفةِ وتفسيرِها. حيثُ صارَ التمويلُ الإسلاميُ يعتمدُ عملياً وبكثرةٍ على العقودِ القائمةِ على الربا أو الفائدةِ المقنَّعةِ بطرقٍ مختلفةٍ. والحججُ المؤيدةُ والمعارضةُ لاستخدامِ عقودِ التبادلِ وسيلةً لتوفيرِ الخدماتِ التمويليةِ ليست دائماً محددةً بوضوحٍ في الأدبياتِ. لذلكَ دعونا نوضحْ المسألةَ المطروحةَ قبلَ المضيِّ قُدمًا.
الفائدةُ ليستْ تجارةً والعكسُ صحيحٌ
قدْ يظنُّ المرءُ أنَّ علماءَ الإسلامِ يمكنُ أنْ يُوجهوا الشخصَ العاديَّ لفهمِ الفرقِ بينَ التجارةِ والربا (الفائدة)ِ. لكنَّ العلماءَ أنفسَهُم غيرُ مُتفقينَ على بعضِ القضايا الحاسمةِ. ربما يرجعِ ذلك إلى وجودِ عددٍ قليلٍ جدًّا ممنْ يفهمونَ التمويلَ الحديثَ فهماً مُفصَّلاً، لذا فإنَّ التوجيهَ الواضِحَ في هذهِ المسألةِ غالِباً مَا يكونُ غَيرَ متاحٍ. إنَّ القرآنَ الكريمَ واضحٌ وضوحَ الشمسِ في تمييزهِ بين الاثنينِ فالتجارةُ ليستْ ربا، إذ يقولُ في الآيةِ 276 من سورةِ البقرةِ: …قالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فاللهُ سبحانَهُ وتعالى ينسخُ الحجةَ البائسةَ التي يستخدمُها مؤيدو الفائدةِ. وبعبارةٍ أخرى، يقولونَ إنَّ الفائدةَ ليستْ سوى شكلٍ من أشكالِ التجارة. وكما هوَ الحالُ في التجارةِ، يستثمِرُ المرءُ المالَ بهدفِ زيادتِهِ، كذلكَ يفعلُ المرءُ في إقراضِ المالِ بفائدةٍ. لكنَّ التفكيرَ الأعمقَ يكشفُ أنَّ ثمة فرقًا شاسعًا بينَ الاثنينِ. وتتابعُ الآية: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا . لقد سُمحَ بالتجارةِ لأنها لا تعتمدُ فقط على رأسِ المالِ بل تتطلبُ العملَ أيضًا وبالتالي يتقاسمُ كلُّ طرفٍ الربحَ والخسارة. فالمخاطرةُ في التجارةِ تقتضي احتمالَ إخفاقِ الاستثماراتِ التي يختارُها المرءُ في تحقيقِ النتيجةِ المتوقعةِ. قد يعني ذلكَ الحصولَ على عوائدَ أقلَّ من المتوقعِ، أو خسارةَ الاستثمارِ الأصليِّ. وقد يعني ذلكَ في بعضِ المجالاتِ خسارةً تتجاوزُ إيداعَ الفردِ في حالِ لم يُرِدْ أحدٌ شراءَ منتجهِ أو الخدمةَ التي يُقدمها.
يجادلُ بعضُ الناسِ بأنهُ إذا كانتِ المرابحةُ الحالية هي بالفعلِ شكلا من أشكالِ الفائدةِ، فيجبُ إدانةُ عددٍ كبيرٍ من أصحابِ المتاجرِ المسلمينَ لفرضِ فائدةِ بنسبةِ 50٪ عندَ بيعِ أسهمِهم للعملاءِ بهامشِ ربحٍ 50٪. ولكنْ في عقدِ المرابحةِ الحديثِ أو البيعِ بثمنٍ مؤجلٍ، يوافقُ المصرفُ على بيعِ البضائعِ لعميلهِ قبلَ شرائِها من المزوِّدِ (وهذا في الأساس هو الغرضُ منَ الوعدِ بالشراءِ). في المقابلِ، يوافِقُ التاجرُ على بيعِ البضائعِ للعميلِ بعدَ شراءِ تلكَ السلعِ من المُزوِّدِ. مخاطرةُ المتداوِلِ تكمُنُ في ألَّا يشتريَ أحدٌ بضائِعَهُ. المصارفُ الإسلاميةُ لا تخاطرُ كهذهِ المخاطرة.
عِندما يُحاولُ أحدُ المصرفيينَ ضمانَ استلامِ هامشِ ربحٍ متفقٍ عليهِ مُسبقاً عنْ طريقِ فرضِ وعودِ شراءٍ وغيرِها من الالتزاماتِ التعاقديةِ على المُشتري، فإنَّ أقلَّ ما يمكنُ قولُهُ هوَ أنَّ المصرفَ الإسلامي يَدخُلُ في عالمِ ما هوَ «مشكوكٌ فيهِ». هذا الجانبُ مهمٌ أيضا لأنهُ يُروى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أنه قَالَ: «إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قُبِضَ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ». (3)
يَتقاضى باني منزلِنا سِعرًا لهُ الحريةُ في تَحديدِهِ وَفقًا لظروفِ السوقِ. ويجوزُ لهُ أنْ يعرضَ هذا الثمنِ للدفعِ بأيِّ طريقةٍ يراها مُناسِبَةٍ، إما نقدًا مقدماً أو بالتقسيطِ. إذا كانَ سعرهُ مرتفعًا جِدا، فقدْ يُخفِضًهً حتى يتقدمَ مَنْ يرغبُ بالشراءِ. الفرقُ بينَ تكلفةِ الباني وثمنِ البيعِ هوَ ربحهُ. ولكنْ إذا سعى الباني إلى زيادةِ سعرهِ تعويضا عنِ التأخيرِ في تلقي المدفوعاتِ، فهوَ يحاولُ كسبَ إيراداتٍ إضافيةٍ بسببِ مرورِ الوقتِ. وهذا رِبا أشارَ إليهِ النبيُّ الكريمُ ﷺ عِندما قالَ: «لا ربا إلا في النسيئةِ.» (4) هَذا الربحُ على الانتظارِ يُفيدُ أولئكَ الذينَ يودعونَ أموالَهُمْ في المصرف (وبمعنى آخر يقرضونَه إياها). يقومُ المصرفُ بدورهِ بإقراضِ هذهِ الأموالِ للمقترضينَ، ويدفعُ المقترضونَ رسومَ الفائدةِ إلى المصرفِ. وعندما يسرعُ الباني في إِقراضِ أموالِهِ للمصرفِ، يبدأُ في تلقي حصتهِ من رسومِ هذهِ الفائدةِ. في الإسلامِ، لا يستفيدُ الباني مِنَ المقترضينَ بهذهِ الطريقةِ.
عِندما يسمحُ الباني لِمشتري المنزلِ بالدفعِ بموجبِ أقساطٍ مؤجلةٍ، سَيكونُ المُشتري مَديناً للبانِي تَماماً كَما كانَ مَديناً للمصرفِ. ومِثلما يطلبُ المصرفُ في المقابلِ أكثرَ ممَّا يُعطي، كَذلكَ يفعلُ البانِي. إذ يقولُ الباني: «سِعري 300 ألفِ جنيهٍ إسترليني ولكنْ إذا كنتَ لا تستطيعُ أن تدفعَ ليَ الآنَ، خُذِ المنزلَ وادفعْ لِي 375 ألفَ جنيهٍ إسترليني لاحقًا.»
وهذهِ لغةُ الربا لا لغةُ التجارةِ.
الخاتمة
مِن أجلِ إقامةِ خدماتٍ مصرفية إسلاميةٍ حقيقيةٍ، وليسَ مجردَ خدماتٍ مصرفيةٍ تقليديةٍ تحملُ شعارَ «إسلامية»، يجبُ على المَصرفيينَ المسلمينَ أولاً دراسةَ تاريخِ الخدماتِ المصرفيةِ في الغربِ وفهمهِ. فالخدماتُ المصرفيةُ الإسلاميةُ الحقيقيةُ لها وجهةُ نظرٍ تتجاوزُ الآلياتِ الدنيويةَ لتَقَاسُمِ الأرباحِ وتصلُ إلى قلبِ النظامِ النقديِّ.
معَ أنَّ لِلعقيدةَ الإسلاميةَ نظرةً عالميةً متميزةً تؤكدُ المَعنى الإلهيَّ والسامي للطبيعةِ والغرضَ منها، وتربُطُ البُعدَ الاقتصاديَّ للحياةِ بأبعادٍ أسمى وأوسعَ، إلا أنهُ لَا يُمكِنُنَا الوصولُ إلا إلى استنتاجٍ مفادهُ أنَّ «التمويلَ الإسلاميَّ» الحاليَّ يكافحُ من أجلِ تخليصِ نفسِهِ منَ الخلفيةِ الفكريةِ للخدماتِ المصرفيةِ التقليديةِ.
لا يُعَلِّمُنا الإسلامُ أن التغلب على الربا يكونُ في أنْ نُنافِسَ المرابيَ مُتَّبعينَ ممارساتِهِ نفسَها. فالإسلامُ يُخبِرُنَا أنَّ الوسيلةَ إذا صَحَّتْ، صَحَّتِ الغايةُ (ستعنى الغايةُ بصحتِها). إن اتِّباعَ نهجٍ مُعاكِسٍ سَيؤدِّي إلى مُساوَمَةٍ في الرِّبا، وهوَ مَا آلتْ إليهِ المسيحيةُ.
المراجع
- إجابة حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله بنصره العزيز) خلال اجتماع افتراضي، مجلس خدام الأحمدية وطلاب غرب كندا، 23/10/2021
- ميرزا بشير الدين محمود أحمد ، (طبعة 2013)، النظام الاقتصادي في الإسلام، الشركة الإسلامية الدولية المحدودة، فارنهام، ص 54.
- سنن ابن ماجه، كتاب التجارات.
- سنن النسائي، كتاب البيوع.