المفهوم الحقيقي للشهادة في سبيل الله
التاريخ: 2012-12-14

المفهوم الحقيقي للشهادة في سبيل الله

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • المفهوم الحقيقي لنهج سبل الشهادة
  • العبادة الحقيقية إنما هي موت في سبيل الله
  • مرتبة الشهادة الفعلية
  • كيف ننال الشهادة اليوم
  • أقوال المسيح الموعود عليه السلام حول معنى الشهادة
  • فلسفة كلمة الشهادة
  • الاسشهاد حالة قلبية دون تكلف
  • نماذج واقعية وتحذير وتنبيه

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

يُفهَم من كلمة “الشهيد” عادة أنه الذي يضحي بحياته في سبيل الله، لأن الذي يضحي بحياته في سبيل الله ينال مرتبة الشهيد ويفتح الله تعالى له أبواب الجنة. بيد أنّ لكلمة “الشهيد” معنى واسعا جدا، ولها معانٍ أخرى أيضا إضافة إلى التضحية بالنفس. وسوف أبين اليوم هذه المعاني في ضوء الأحاديث الشريفة وأقوال المسيح الموعود . الأطفال الصغار الذين وُلدوا وتربَّوا وترعرعوا في هذه البلاد يطرحون هذا السؤال، وقد سئلتُ هذا السؤال أكثر من مرة. قبل بضعة أيام عُقدت جلسة في مدينة “هامبورغ” مع فتيات من مشروع “وقف نو”، حيث طرحت فتاة هذا السؤال في تلك الجلسة أيضا فقالت بأنك عندما تسرد أحداثا عن الشهداء يُذكر فيها كثيرا أن الشهيد قال لأقاربه أن يدعوا له ليُستشهد وينال مرتبة الشهادة، أو أن الشهادة تكون في نصيب ذوي الحظ السعيد؛ فلماذا لا يسألون الدعاء للغلبة على الأعداء بدلا من الشهادة؟

لا شك أن الدعاء للغلبة على الأعداء هو الأَولى في هذا الموضوع، وقد وعد الله تعالى الجماعات الربانية أن لهم الغلبة ولهم الفتوحات والانتصارات، كما أنبأ الله تعالى المسيح الموعود أيضا بالنجاح والانتصار والغلبة أكثر من مرة، ونحن على يقين أن الجماعة الإسلامية الأحمدية سترى آيات واضحة وبينة لهذه الغلبة بإذن الله، وها نحن نرى آثارها أيضا على صعيد الواقع إذ يبايع الناس وينضمون إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية بمئات الألوف على الرغم من المعارضة الشديدة، ويبايع الناس أيضا في البلاد التي تكون المعارضة فيها على أشدها. فكل هذه الأمور إنما تدل على التقدم والفتوحات التي نرى نماذجها بأم أعيننا. كذلك البرامج الأخرى التي تديرها الجماعة وتزيل شبهات العالم غير الإسلامي تدل على تحقيق النجاحات. وكل هذه الأمور إنما هي خطوات حثيثة تتخذها الجماعة للتقدم وهي التي سوف تُحدث انقلابا غير عادي في الوقت المناسب بإذن الله، فعلى كل أحمدي أن يسعى لهذا الغرض جاهدا ويدعو الله تعالى أيضا. لا شك أنه لا بد من تقديم التضحيات لتحقيق المقاصد الرفيعة، فيقدِّم أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية كل نوع من التضحيات ويكونون مستعدين لها – كلما اقتضى الأمر – بما فيها التضحيات بالأرواح أيضا التي تُكسبهم مرتبة الشهادة فيدخلون في جنات مرضاة الله. ولكن مفهوم الشهادة لا يقتصر على ذلك فحسب كما قلتُ قبل قليل. فهناك حاجة ماسة أن يطّلع الشباب والكبار أيضا من الذين يطرحون هذا السؤال على تفاصيل مفهوم الشهادة ليسعى كل واحد لنيل هذه المرتبة ويفهم روح هذا الدعاء ويدخل جنات مرضاة الله. لقد قال النبي مرة لأبي هريرة : إذا كنتم تعُدّون الشهيد من قُتل في سبيل الله فحسب فإنّ الشهداء في أمتي قليلون.

وهناك حديث في صحيح مسلم:

أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ.

نرى في معركة بدر أيضا أن النبي سأل الله تعالى الفتح مناشدا بوعده وسأل الله الحياة للذين كانوا معه في بدر ولم يسأله الشهادة لهم بالتضحية بحياتهم فقال: اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ. فالغاية التي بيّنها الله تعالى من حياة الإنسان هي عبادة الله تعالى.

الهدف الحقيقي للمؤمن الصادق ليست التضحية بروحه مرة واحدة بل المراد منه هو الجهد الدؤوب لنيل رضا الله تعالى واستعداده لتقديم التضحية في كل حين وآن.

الهدف الحقيقي للمؤمن الصادق ليست التضحية بروحه مرة واحدة بل المراد منه هو الجهد الدؤوب لنيل رضا الله تعالى واستعداده لتقديم التضحية في كل حين وآن. كذلك ورد في الحديث الشريف أن على المؤمن ألا يتمنى الحرب ولكنها إذا فُرضت عليه وحاول العدو قتله بسبب دينه فيجب على المؤمن ألا يتراجع قط، بل يجب أن يتصدى له كالأبطال. حين كانت الحروب مسموحة أو فُرضت على المؤمنين كانوا يقاتلون العدو ويضحون بأرواحهم وينالون مرتبة الشهادة أو كانوا يُكرَمون بالفتح دون أن يصيبهم خوف أو ذعر. أما اليوم فلا حرب دينية مسموحة وأعداؤنا أي أعداء الجماعة الإسلامية الأحمدية جبناء فيهاجمون في الخفاء، غير أنهم لو هاجموا من الأمام أيضا فلسنا مأمورين بشن الحرب. فهناك بعض الأحمديين الذين يتلقون رسائل التهديد يقال فيها بأن عليكم إما أن تتركوا الأحمدية أو تستعدّوا للقتل. ففي مثل هذه المناسبات تقتضي شجاعة المؤمن – وهذا ما يقوم به الأحمديون في باكستان -ألا يؤثر نفسه على الدين ورضا الله تعالى. فمن ميزات المؤمن أنه يكون صامدا وقويا في مختلف الظروف.

وكما قلت من قبل فإن كلمة “الشهادة” واسعة المعاني جدا، وقلتُ أيضا بأن الله تعالى علّم المؤمنين دعاء ليكونوا من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن ما المراد من ذلك؟ وما هي فلسفته وعُمقه؟ فقد منّ الله تعالى علينا في هذا العصر إذ وفّقنا للإيمان بإمام الزمان، أي المسيح والمهدي عليه السلام الذي فسّر وشرح لنا بوضوح معناها.

الآن لن أتناول ذكر مزايا النبي والصديق والشهيد والصالح مفصلا من الآية التي ذكرتها من قبل، إنما سأبين لكم عن الشهيد في ضوء ما كتبه سيدنا المسيح الموعود لأن السؤال يُطرح حوله عادةً، ولأنني في سياق ذكره أيضًا. فقد كتب سيدنا المسيح الموعود في مواضع عدة عن حقيقة الشهيد ومرتبته ومكانته وسأقرأ عليكم الآن بعض المقتبسات منها ويتبين منها لماذا من الضروري دعاء الله لنيل مرتبة الشهيد، ولأي نوع من الاستشهاد ينبغي أن ندعو، ولماذا ينبغي أن تكون عند المؤمن رغبةٌ فيها، يقول سيدنا المسيح الموعود :

عامة الناس يظنون أن الشهيد من قُتل في معركة أو غرق في النهر أو مات بالوباء فقط، لكنني أقول بأن الاكتفاء بهذا المعنى فقط وحصر الاستشهاد في هذه الحدود بعيدٌ عن شأن المؤمن، فالشهيد في الحقيقة من ينال الاستقامة والسكينة من الله، بحيث لا تزعزعه أي زلزلة أو حادثة بل يبقى صامدا متصديا للمصائب والشدائد لدرجة لو لم يجد إلا أن يجود بحياته في سبيل الله لنال صمودا خارقا للعادة ولَقدَّم رأسه دون أي نوع من الحزن أو الحسرة (أي يقدم رأسه للتضحية دون إبداء أي نوع من الغم والحسرة) فهو يتمنى أن ينال الحياة مرارا وتكرارا ليضحي بها مرارا وتكرارا، وتكون في روحه لذةٌ وسرور بحيث تمنحه كل ضربة سيف تقع على جسمه لتسحقه حياةً جديدة ومسرة جديدة ونضارة؛ فهذا هو معنى الشهيد.

عامة الناس يظنون أن الشهيد من قُتل في معركة أو غرق في النهر أو مات بالوباء فقط، لكنني أقول بأن الاكتفاء بهذا المعنى فقط وحصر الاستشهاد في هذه الحدود بعيدٌ عن شأن المؤمن، فالشهيد في الحقيقة من ينال الاستقامة والسكينة من الله، بحيث لا تزعزعه أي زلزلة أو حادثة بل يبقى صامدا متصديا للمصائب والشدائد لدرجة لو لم يجد إلا أن يجود بحياته في سبيل الله لنال صمودا خارقا للعادة ولَقدَّم رأسه دون أي نوع من الحزن أو الحسرة…

ثم هذه الكلمة مشتقة من لفظة “الشَهْد” أيضا، فالذين يتحملون العبادة الشاقة ويتحملون في سبيل الله كل أنواع المرارة والتكدر، ويستعدّون لمواجهتها فهم يجدون حلاوة كالشهد، وكما أن الشهد مصداق لـ فيه شفاء للناس ، يكون هؤلاء أيضا بمنـزلة الترياق، فالذين يجلسون في صحبتهم ينجون من أمراض كثيرة، (فإذا كانت الشهادة تُنال بالموت فقط فكيف يمكن أن يستفيد الإنسان من صحبته، فالشهيد هو أنَّ مَن يجلس في صحبته يُوفق للحسنات الحقيقية، والسير في سبيل رضوان الله والفوز بقرب الله تعالى فينجو من أمراض مختلفة) ثم يقول : ثم إن الشهادة اسم للدرجة والمكانة حين يحرزها الإنسان يرى اللهَ في كل عمل له أو على الأقل يوقن بأن الله يراه، وهذا يُسمى إحسانا أيضا. (ملفوظات، مجلد أول)

(هذا ما قاله سيدنا المسيح الموعود أن الإنسان الذي يرى الله في كل عمل له أو يوقن بأنه يراه هو أيضا شهيد، أي يوقن بأن الله ينظر إلى كل ما يحرزه من عمل، فحين تتحقق هذه الدرجة فالإنسان يبقى دوما ملتفتا إلى إحراز الحسنات فقط، فلا يسعه اقتراف أي سيئة)

ثم بيَّن المسيح الموعود انطلاقا من الذات الإلهي ما هو الإحسان، فقال عندما تتحقق هذه الحالة تسمى إحسانا، فما هو الإحسان؟ فيقول في بيان ذلك: لقد أمركم الله أن تقوموا بالعدل تجاهه وتجاه خلقه، (يشير حضرته إلى العدل الذي هو درجة قبل الإحسان).. أي تؤدوا حق الله وحق العباد، فإذا استطعتم أكثر من ذلك فلا تكتفوا بالعدل بل أحسِنوا أيضا، أي أحرزوا أكثر مما كُتب عليكم واعبدوا الله بإخلاص كأنكم ترونه، (فالفرائض محددة مكتوبة ولا بد منها لكن ينبغي أن تقوموا بأكثر من ذلك من النوافل، وتؤدوا حق عبادة الله وتنشئوا به علاقة، فإذا فعلتم ذلك فهذه هي العبودية وهذا هو الإحسان، وهو يؤدي إلى المراتب التي تخص الشهادة) ثم قال : عامِلوا الناس بدماثة بالإضافة إلى تأدية حقوقهم، يجب أن تعاملوهم بحسن الخلق، (فليس من الواجب عليكم أداء حقوق الناس فقط بل إذا أردتم أن تنالوا أسمى درجات الشهادة وتنضمّوا إلى الذين يحرزون درجة الشهادة، فعليكم أن تعاملوا الناس بالحب واللطف والإحسان بالإضافة إلى تأدية حقوقهم)

ثم قال : إن من مقتضى العدل أن تنشئوا العلاقة بالله حتى يتولد لديكم اليقين بأن لا أحد سواه جدير بالعبادة والعبودية، ولا أحد يجدر بالحب ولا أحد خليق بالتوكل إذ لا يمكن أن يتوكل الإنسان على غيره، لأنه خالق أيضا وهو قيوم هذه الحياة ونِعَمِها، وهو الرب الذي يربي ويهيئ نعمه. وقال: لا يكفي للمؤمن أن يوقن فقط بهذه الأمور أو يظن أن الله وحده مالك كل القدرات وهو الرب، بل يجب أن تسبقوا هذه الدرجة وتخطوا إلى الأمام بحيث يجب أن تؤمنوا بعظمة الله وتكونوا متأدبين في عباداتكم أمامه (أي يكون عندكم أدبٌ عند عتبات الله) وتخضعوا أمامه وتعبدوه بصدق القلب وتتفانوا في حبه وكأنكم رأيتم عظمته وجلاله وحسنه الخالد بأم أعينكم.

فحين ينظر الإنسان حُسن الله الذي لا حد له ولا نهاية، ويوقن بصفاته ويهتم بعبادته دوما فلا يمكن أن يصدر منه أيُ تصرف ينافي رضوان الله، فإذا تحققت هذه الحالة للإنسان فهو شهيد. لقد وضَّح كلمة الشهيد فقال بأنه حين تنشأ هذه العلاقة بالله فعندها تنشأ قوة الاستقامة، فيستعد الإنسان -لنيل رضوان الله- لكل نوع من التضحية، ولا يصدر كل ذلك اضطرارا بل يجد الإنسان متعة في مشاقّ هذا الطريق، فهي تنقلب راحةً وسكينة، إذ يتصدى المؤمن لكل مصيبة، ولا يبقى في قلبه أي خوف أو غم أو حسرة، بأنه لو لم يكن قد فعل كذا ولو كان قد قبِل قول فلان من أعداء الجماعة ولو كان قد ارتدّ عن الأحمدية إثر التهديدات؛ لسلِم من مواجهة هذه المشاكل التي يتعرض لها حاليا. كلا لا يمكن أن يخطر ذلك ببال مؤمن قط، إذا كان مؤمنا حقيقيا، بل إن إيمانه القوي ويقينه بالله يهيئ له الراحة والفرحة في هذه الشدائد. فهذه هي مكانة الشهيد.

ثم قال المسيح الموعود : ينال الإنسان مرتبة الشهيد عندما يعبد الله بتحمل المشقة، ويضحي بكل راحة دنيوية من أجل رضوان الله وعبادته، ولا يضحي فقط بل يصل إلى درجة يتلقى من الله فيها سكينة من هذا العمل، أي يتمتع بهذه العبادة كما يتمتع الإنسان من حلاوة الشهد.ففي العبادة التي يتمتع بها المرء كتمتُّعه بحلاوة الشهد، لا يبقى اهتمام المرء بالعبادة والصلاة اضطرارا بل يكون نتيجة يقينه الكامل بالله ، إيمانا منه بأن الله يراه. ومعلوم أن كل عمل يقوم به المرء ابتغاء مرضاة الله يُكسبه رضاه، فهذا الرضوان يُنيله درجة الشهادة. وكذلك كل سيئة يتركها المرء فإنما يتركها لأن الله نهاه عنها، لأنه يريد أن ينال رضاه ويقوي علاقته بالله. فحين يفكر أن الله ينظر إلى كل عمل له سواء أكان حسنا أم سيئا، يخطر بباله أن أعماله السيئة هذه أو عادته الفلانية يمكن أن تتسبب في غضب الله فهذا لن ينهاه عن ارتكاب السيئة فحسب، بل سوف يلفته إلى إحراز الحسنات أيضا، وسوف يتقوى إيمانه بالله ويقينُه به وهذا هو الهدف من حياة الإنسان المؤمن.

ثم يقول سيدنا المسيح الموعود : إن فهم العامة لكلمة الشهيد ينحصر في أن الشهيد من يُقتل بالسهم أو البندقية أو يموت بالموت الفجائي (هنا أوضح الحديث الذي قال فيه النبي “الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ” (البخاري، كتاب الأذان) فالمسيح الموعود يوضح ذلك أن العامة يعدون هؤلاء من الشهداء حصرا)، لكن مكانة الشهيد عند الله لا تتوقف هنا فقط، (أي هذا الاستشهاد يترتب على الموت الظاهري لكن للشهادة درجات أخرى عند الله ويجب أن ينشدها كل مؤمن فقال ) إن للشهيد في رأيي حقيقة أخرى أيضا بغض النظر هل قُطع جسمه أم لا، وهي كيفية تتعلق بالقلب، تذكَّروا أن الصديق يقترب من النبي (لقد أخبرتُكم في البداية أن الله علَّمنا الدعاء أن يجعلنا من الذين يعملون الحسنات ويطيعون الله والرسول من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقد قال حضرته مشيرا إلى ذلك) ويحتل الدرجة الثانية بعد النبي كما يكون الشهيد جارًا للصِّدّيق، فالنبي يحوز جميع الكمالات؛ أي يكون النبيُ صديقا وشهيدا وصالحا معا، لكن الصديق والشهيد درجتان منفصلتان، فلا داعي للخوض في البحث هل يكون الصديق شهيدا أم لا. فدرجة الكمال التي يُعدّ فيها كلُ أمر خارقا للعادة ومعجزةً، مختلفة من حيث هاتين المرتبتين والدرجتين. لذا فإن الله يهب له قوة بحيث تصدر منه أروع الأعمال والأخلاق على أكمل وجه وفي صورتها الحقيقية، وبلا أي تكلف، بحيث لا يكون صدور هذه الأعمال بدافع الخوف أو الرجاء، بل تكون جزءا لا يتجزأ من طبعه وفطرته، فلا يبقى في طبعه أيُ تكلف، فمثلا إذا جاء سائل إلى أحد فيُضطر ليعطي له شيئا سواء كان يقدر على ذلك أم لا، (أي نرى في المجتمع المادي أن الإنسان الغني إذا سأله أيُ شحاذ أمام الناس فهو يقدم له شيئا رغما عنه خجلا من الناس) حتى لو لم يكن يخشى الله لكنه يقدم خجلا من الناس، (أي يخاف أنه إذا لم يقدِّم له شيئا فسيقول الناس في حقه أقاويل بأنه بخيل رغم غناه) لكن مثل هذا التكلف لا يكون في الشهيد، بل تزداد قوته وقدرته، وبقدر ما تزداد يخف ألمه ولا يعود يشعر بالثقل، (ويستعد لمواجهة كل نوع من المعاناة في سبيل الله دون أي تكلف، فلا يستعد بدافع أي خوف أو إنعام، بل كما قال) فمثلا إذا وُضعت نملةٌ على رأس الفيل فهل سيعاني من ثقلها؟ (ملفوظات، مجلد أول) (فهناك معاناة وحيدة يتحملها المؤمن الحقيقي وهي تتمثل في رغبته العارمة في الفوز برتبة الاستشهاد)فقد شرح هنا أكثر أن الاستشهاد الحقيقي هو حالة قلبية، وهذه الحالة القلبية تنشأ بالإيمان الكامل واليقين الكامل بالله ، أي أن يوقن بأن الله –كما بينت سابقا- ينظر إلى كل عمل له، وأنه يجب أن يقوم بكل عمل ابتغاء مرضاة الله. فعندها تصدر من المؤمن أسمى الأخلاق والأعمال الحسنة، أي لا يكون الدافع وراءها أيُ رياء بل تصدر منه ابتغاء مرضاة الله فقط، وإن الفوز برضوان الله أيضا لا يتحقق بالسعي والجهد فقط بل حين يداوم على هذا السعي يكون جزءا لا يتجزأ من طبعه وفطرته، فلا تشغل باله فكرةٌ سوى الحصول على مرضاة الله فقط. فإذا كان أحد يوفَّق مثلا لخدمة الجماعة فإنه يخدم على أحسن وجه لا لكسب الصيت بل لكسب رضوان الله فقط، لأن عادة الخدمة قد ترسخت فيه لدرجة لا يهدأ له بال ولا يطمئن دون تقديم الخدمة، لدرجة أن هناك أناسا إذا لم تُطلب منهم أيُ خدمة يقلقون ويضطربون. فقد قدم حضرته مثالا أنه إذا طلب شحاذٌ أو ذو حاجة من أي رجل دنيوي فهو يعطيه شيئا عادةً، لكن ذلك يكون بدافع الرياء عادة. أما الشهيد فلا يقوم بأي حسنة بهذه النية بل إن فطرته السليمة تجبره على إحراز الحسنة، وإن قوة الحسنة الفطرية تزداد بمرور الوقت، بحيث لا يشعر الإنسان إثر إحراز حسنة أو إسداء خدمة أنه قام بإنجاز ويجب أن ينال جزاءه على ذلك من أهل الدنيا أو ينال إعجابهم بها، ولا يخطر بباله قط أنه خدم الجماعة فلا بد أن يكافئه المسئولون حتما، كلا بل هو ينجز كل عمل ابتغاء مرضاة الله فقط. ثم يقول سيدنا المسيح الموعود في كتابه “ترياق القلوب”:

“المراد من مرتبة الشهادة هو حين يحرز الإنسان يقينا بالله تعالى وبيوم الجزاء نتيجة قوته الإيمانية كأنه يرى الله تعالى بأم عينيه؛ عندها تزول مرارة الأعمال الصالحة ببركة هذا اليقين، وينـزل قضاء الله تعالى وقدره على القلب مثل العسل نتيجة التوفيق الحاصل، ويملأ صحن القلب بالحلاوة، فيرى الإنسانُ الإيلام إنعامًا. فالشهيد هو الذي يرى اللهَ تعالى نتيجة قوة إيمانه، ويتلذذ من مرارة قضاء الله وقدره كأنه العسل اللذيذ، فمن هذا المنطلق يُسمّى شهيدا. وهذه المرتبة إنما هي كالآية للمؤمن الكامل.”

لا شك أن كل مؤمن يؤمن بيوم الجزاء ولكن ما المراد من اليقين به هنا؟ الحق أن اليقين به يتسنى نتيجة توطيد العلاقة بالله تعالى في هذه الدنيا. من المعلوم أن الناس الماديين أيضا يتحملون أنواع المشقة من أجل حبيبهم، فما أحوجنا نحن لنتحمل المصائب من أجل الله الذي يجب أن يكون أحب من كل محبوب عندنا!! الحب الدنيوي إما يخمد مع مرور الوقت أو ينتهي في هذا العالم نهائيا، أما الحب الإلهي فيثمر أكثر في الحياة الأخروية بعد رحيل المرء من هذا العالم، وإن جزاء الأعمال الصالحة يجذب الإنسان إلى جنات مرضاة الله تعالى. لا شك أن بعض الأعمال التي يكسبها المرء في هذا العالم تكون قاسية وشاقة في بعض الأحيان، فمثلا إن الإنسان المادي يسعى لتحسين دنياه باللجوء إلى قول الزور، أما المؤمن الحقيقي فيرى الكذبَ شركا، ولا يحاول أبدا أن ينتفع أو يحقق مصلحة بقول الزور. بل يلتزم بالصدق دائما وإن ألحق به خسارة في بعض الأحيان. فمثلا إن الأحمدية حق، أي أننا آمنا بالمسيح الموعود الذي بُعث بحسب وعود الله تعالى ولكن بسبب هذا الحق والصدق يواجه المسلمون الأحمديون مشاكل كثيرة في عدة بلاد وعلى رأسها باكستان حيث يعاقَب المسلمون الأحمديون نتيجة إظهارهم هذا الحق والصدق ولكنهم مع ذلك ثابتون على إيمانهم.

هنا أريد أن أقول بالمناسبة بأن هناك أحمديون هاجروا من باكستان إلى بلاد غربية طالبين اللجوء فيها، وهم مضطرون للهجرة من بلادهم نتيجة قولهم الصدق ولكن إذا لجأوا إلى الكذب بعد مجيئهم إلى هنا ولفّقوا قضية زائفة لتقوية موقفهم كلاجئين فقد أضاعوا كل شيء. إن هذه البلاد تقدّر الصدق والحق كثيرا. فلو صدق اللاجئون – علما أن قضايا بعض الإخوة تكون صادقة تماما إذ يتعرض البعض للضرب والتعذيب نتيجة القضايا الزائفة المرفوعة ضدهم ويكونون قد تعرضوا للمعارضة الشديدة أيضا، وهناك بعضهم الآخرون الذين لم يتعرضوا لشيء مثله – وقالوا بأن القانون الغاشم المسنون ضد الأحمديين، والفوضى السائدة ضدهم قد سلب حريتنا ولم نعد قادرين على أن نتحمل هذه الظروف، ولأن لكل شخص حدودا للصبر والتحمل والجَلَد لذا اضطررنا للهجرة. لا شك أن هناك مئات آلاف من المسلمين الأحمديين مازالوا ماكثين في باكستان وسيبقون هنالك بإذن الله ولكن مستوى الاحتمال مختلف عند كل شخص فمنهم لم يعودوا قادرين على الاحتمال الآن. والمسؤولون في هذه البلاد يفهمون هذا الأمر جيدا ويقبلون لجوءهم من باب المواساة أو يعطونهم تأشيرة طويلة الأمد للبقاء هنا. ولكن لو كذب أحد مرة لاضطر للكذب عدة مرات نتيجة كذب واحد، وهذا يؤدي إلى فساد قضاياهم أيضا. ولو نجحت قضية البعض نتيجة الكذب على سبيل الافتراض فمما لا شك فيه أن الكاذب يُسخط ربه بكذبه. فلا بد أن نضع رضا الله تعالى أمام أعيننا دائما. كلما أمرتُ أفراد الجماعة بالالتزام بالصدق وتسجيل قضيتهم على أساس الصدق وقالوا قولا سديدا وإلى جانب ذلك خضعوا أمام الله تعالى فقد ربحوا قضاياهم في بضعة أيام. لقد ورد في حديث أن الذين يهاجرون من أجل الحق والصدق شهداء بل صديقون. هناك حديث في سنن أبي داود ما مفاده: الذي يهاجر من مكان إلى مكان تجنبا للفتنة في دينه فهو صديق عند الله، وإذا مات في هذه الحالة فهو شهيد. ثم تلا النبي آية:

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ

ثم قال بأن الذين يهاجرون إلى بلد آخر إنقاذا لدينهم من الفتنة سيكونون في الجنة مع عيسى بن مريم يوم القيامة.

فإذا كان المهاجرون إلى هذه البلاد قد هاجروا للدين فعليهم أن يتمسكوا بالصدق دائما ويقوّوا إيمانهم ويؤمنوا ويوقنوا بيوم الجزاء. يقول المسيح الموعود بأن الجزاء أمر يقيني – كما قال الله تعالى ورسوله وقد وضح المسيح الموعود الموضوع أكثر؛ فما دام الجزاء أمرا يقينيا فلماذا لا يحسّن المرء حياته بالعيش بحسب أوامر الله ويصير محل عقابه تعالى؟ هذا على أية حال موضوع منفصل، أما ما أريد قوله هنا باختصار هو أن الذي يؤمن بيوم الجزاء والعقاب فهو أيضا شهيد عند الله.

يقول المسيح الموعود :

“إن كمال الشهيد هو أنه يُظهر، في وقت المصائب والمعاناة والابتلاءات، قوةَ الإيمان والأخلاق الفاضلة والصمود والثبات التي تكون آية لكونها خارقة للعادة.”

ويقول أيضا:

“كلما كان الإيمان قويا أحرزت الأعمال أيضا قوة، لدرجة أنه لو نمت هذه القوة الإيمانية بوجه كامل لاحتلّ ذلك المؤمن مرتبة الشهيد لأنه لا يعرقل طريقه شيء، فلا يقصِّر في التضحية بحياته أيضا.”

إذًا، ليس المراد من الشهيد التضحية بالنفس فقط بل المراد هو الحصول على أعلى درجات الإيمان ونيل رضا الله تعالى، واليقين الكامل عند كل عمل وفعل أن الله يراه. وأريد أن أبيّن أيضا باختصار المعايير التي وضعها الله تعالى للمؤمن. يقول الله تعالى: “يؤمنون بالغيب” أي يجب أن تؤمنوا بالأمور الغيبية، وأقيموا الصلاة وأنفقوا في سبيل الله، وآمنوا بجميع الأنبياء الذين سبقوا وكذلك بسيدنا محمد ، ثم آمِنوا بإمام هذا العصر أي المسيح والمهدي الموعود ، إذ يقول الله تعالى: “وبالآخرة هم يوقنون” أي أن المؤمنين يوقنون بما سيأتي في الزمن المتأخر. وأهم ما في الزمن الأخير هو بعثة المسيح الموعود. لذلك يقول المسيح الموعود بأن الله تعالى فرض الإيمان به في آية: “وبالآخرة هم يوقنون”. ثم يقول الله تعالى أن عليكم أن تقوّوا إيمانكم. ومن علامات المؤمن الحقيقي أنه يحب الله تعالى أكثر من غيره على الإطلاق. لذا يجب أن يضع كل واحد منا في الحسبان دائما أن يكون الله أحب إليه من كل مَن سواه وإلا سيكون إيمانه ضعيفا. ثم لا بد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله كما ذكرتُ من قبل أيضا. فهذا كله ضروري لتقوية الإيمان ثم لا بد أن يظل مستوى الإيمان بها في ارتفاع باستمرار. ومن علامات المؤمنين كما قال الله تعالى بأنه كلما ذُكر الله أمامهم وجلت قلوبهم خشية وخوفا. ثم قال : المؤمنون يجاهدون في سبيل الله. والمعلوم أن للجهاد أنواعا عدة منها الجهاد بالسيف ولكنه أُلغي في هذا الزمن بمجيء المسيح الموعود لأنه لا حروب دينية الآن. وهناك نوع آخر من الجهاد الذي يجب على كل أحمدي أن يقوم به في كل مكان وفي كل بلد، وهذا الجهاد هو جهاد تبليغ الدعوة بُغية تقوية الإيمان ونيل مرتبة الشهادة.

فمِن واجب كل مسلم أحمدي أن يقوم بجهادِ إصلاحِ نفسه، كما عليه أن يقوم بجهادِ نشر رسالة الله في العالم، وهذا الجهاد يمكن أن يقوم به المرء وهو في أي مكان وأي بلد. ومن واجب كل من هاجر إلى هذه البلدان أن يشترك في هذا الجهاد بكل ما أوتي من قوة.

ثم قال إن الهجرة ابتغاءَ مرضاة الله من الإيمان. ومن علامات الإيمان أن المؤمنين إذا دُعوا إلى العمل بأحكام الله تعالى قالوا سمعنا وأطعنا، فهم ليسوا من الذين يسمعون ثم لا يطيعون، بل يسمعون ويطيعون بصدق. هذه ميزة المؤمن الحق. هناك أحكام ونصائح ومواعظ كثيرة تسمعونها في الخطب، وهي ليست لمجرد السماع، بل لتسمعوها ثم تعملوا بها وتطيعوا فيها طاعة نموذجية. فإذا سعيتم لذلك صرتم مؤمنين حقيقيين وتقدمتم إلى الدرجة العليا التي هي درجة الشهادة، وتسابقتم إلى الطرق التي تبوّئكم مقامَ الشهادة. لا يليق بالمؤمن أنه إذا أُمر أخذ في النقاش قائلا إن الحكم لا يعني هذا بل يعني هذا، أو بدأ يحتج بشتى الأعذار. ثم يقول الله تعالى إن المؤمنين إذا سمعوا أحكام الله تعالى وجلتْ قلوبهم. إذًا فهذه علامة أخرى من علامات المؤمنين الحقيقيين، فإنهم إذا سمعوا أحكام الله تعالى خرّوا أمامه ساجدين يسألونه التوفيق للعمل بها.

ثم من علامات المؤمن الحقيقي أنه يزداد حبًا للرسول باستمرار . ثم عليهم أن يزدادوا حبًا للمسيح الموعود العاشقِ الصادق للنبي ، والذي بعثه الله تعالى في هذه العصر لإتمام مهمته متفانيًا في طاعته، وذلك كما ذكر المسيح الموعود في شروط البيعة. فهذه هي المزايا التي يجب أن يتحلى به المؤمن الحقيقي في هذا العصر، ولو فعل ذلك مات شهيدًا وإن مات موتًا طبيعيا. فلكي نحرز هذه المرتبة العالية علينا أن نسعى للتحلي باليقين الكامل بالله تعالى وبيوم القيامة، بحيث يتجلى يقيننا هذا في كل عمل نقوم به، فنكون موقنين عند الإقدام على أي عمل أن الله يرانا، ونستعين بالله تعالى للصبر على كل أذى في سبيل مرضاته، ونسأله قوة الإيمان التي تكون آية، ونقوي إيماننا بحيث لا يزعزعه أي طمع مادي ولا رغبة دنيوية، ولا تستشعر قلوبنا وعقولنا أي خوف عند فعل الصالحات، بل نقوم بكل عمل صالح بلا تردد ولا تكلف، بحيث يصبح كل برّ جزءًا من فطرتنا، وننيب إلى الله تعالى ليهب لنا الثبات والاستقامة والسكينة، ونسعى للوصول إلى المستوى العالي في العبادات مما يمكننا من قرب الله تعالى. هذه هي المستويات التي يجب على المؤمن أن يسعى ويدعو لبلوغها.

فهل من مؤمن حقيقي يسأل بعد ذلك ويقول لماذا ينبغي لنا أن ندعو من أجل نيل درجة الشهادة؟ هذه هي الشهادة الحقيقية التي يجب على المؤمن أن يدعو الله تعالى من أجلها لكي يكون مؤمنًا حقيقيا.

إن الأمور التي ذكرتها من أقوال المسيح الموعود بإيجاز لهي مما يجب على كل واحد منا أن يسعى للعمل بها وتطبيقها في حياته، ولو عملنا بها أصبحنا صالحين لنيل درجة الشهادة، في أي بلد كنّا، وبغض النظر عما إذا كنا سنُقتل نتيجة هجوم العدو وبرصاصاته أم لا. وفّقنا الله لذلك.

لقد أعلنتُ في خطبة الجمعة الماضية في “همبورغ” وقلتُ إننا قد تلقينا اليوم خبر استشهاد أحد إخواننا، ولكن بياناته لم تكن متوفرة بعد، فلم نُصَلِّ عليه الجنازة عندها، وسوف أصلي عليه اليوم بعد صلاة الجمعة إن شاء الله تعالى.

هذه الكلمة مشتقة من لفظة “الشَهْد” أيضا، فالذين يتحملون العبادة الشاقة ويتحملون في سبيل الله كل أنواع المرارة والتكدر، ويستعدّون لمواجهتها فهم يجدون حلاوة كالشهد، وكما أن الشهد مصداق لـ فيه شفاء للناس ، يكون هؤلاء أيضا بمنـزلة الترياق، فالذين يجلسون في صحبتهم ينجون من أمراض كثيرة….

هذا الشهيد اسمه السيد مقصود أحمد بن السيد نواب خان المحترم. لقد استُشهد في 7/12/2012 في كوئته (بباكستان). إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد دخلتْ الأحمدية في عائلة الشهيد بواسطة جدة جدة أبيه واسمُها السيدة “بهاغ بهري”. كانت من سكان قرية “ننغل” القريبة من قاديان، وقد بايعت المسيح الموعود في حياته. لقد هاجرت عائلة الشهيد عند تأسيس باكستان إلى “ساهيوال”، ثم انتقلت من هناك إلى “كوئته” في عام 1965. وُلد الشهيد في “كوئته”. كان سنّه عند الشهادة 31 عامًا. لم يتعلم إلا للصف الثامن، وكان يساعد أباه في أعمال المقاولات. لقد سبق أن استُشهد أخوه السيد منظور أحمد في شهر نوفمبر الماضي، وكان الشهيد مقصود يقوم بأعمال مقاولات البناء فقط من قبل، كما كان يساعد أخاه بعض الوقت في محله لبيع الخردوات، أما بعد استشهاد أخيه فبدأ يقضي كل وقته في محل أخيه.

أما قصة استشهاد السيد مقصود فهي أنه وصل في الساعة السابعة صباحًا إلى محله الكائن في حي “سيتيلايت” مع أحد العمال، حيث ترك العامل في المحل ثم خرج ليأخذ ابنيه من البيت ويوصلهما إلى المدرسة. وبعد إيصالهما لما أراد العودة جاء مجهولان على دراجة نارية وأطلقا عليه النار، فأصيب الشهيد بأربع رصاصات في رأسه وبرصاصة واحدة في كتفه. فنُقل إلى المستشفى ولكن لحقت روحه ببارئها من شدة الجروح وهو في طريقه إلى المستشفى. إنا لله وإنا إليه راجعون.

وكما قلتُ آنفًا كان أخوه الأكبر قد استُشهد في الشهر الماضي. وكان الشهيد مقصود قد تعرض للاختطاف عام 2009، ولكن الله تعالى كان قد كتب له الشهادة –حفِظ الله أهله وأولاده ونصَرهم- فترَكهم المختطفون مقابل فدية كبيرة بعد 12 يومًا.

«كلما كان الإيمان قويا أحرزت الأعمال أيضا قوة، لدرجة أنه لو نمت هذه القوة الإيمانية بوجه كامل لاحتلّ ذلك المؤمن مرتبة الشهيد لأنه لا يعرقل طريقه شيء، فلا يقصِّر في التضحية بحياته أيضا.»

كان الشهيد شغوفًا بخدمة الخلق. كلما عقدت جماعتنا المخيمات الطبية، لم يعط الشهيد سيارته للمتطوعين فقط، بل ذهب معهم قائدًا سيارته. كما كان يقدم سيارته للإخوة الذي يخرجون للدعوة إلى الله تعالى. كان يعتني بالدعاة القادمين إلى “كوئته” عناية كبيرة، وكان يفرح كثيرًا بخدمتهم. كان يؤدي خدمة الحراسة بشوق ولا سيما يوم الجمعة.

لقد قال رئيس الجماعة في منطقة “سيتلايت تاون”: كان الشهيد مضيافا، قليل الكلام، دمث الأخلاق، حليم الطبع، وبسيطا. لم يسخط على أحد، ولم يُثِرْ سخط أحد قط. في بعض الأحيان كان المعارضون يتكلمون معه بنبرة قاسية مسيئة، ولكنه كان يتبسم على ذلك فقط، وهذا لا يعني أنه كان لا يستاء من تصرفهم المجحف، بل كان في بعض الأحيان يبكي وهو يخبر أهل البيت بما فعله به المعارضون.

يقول رئيس الجماعة: لقد تحدث الشهيد بالهاتف قبل استشهاده بثلاثة أيام وقال لماذا لم يأخذوا مني ما علي من التبرعات حتى الآن، ثم دفَع تبرعاته كلها في اليوم نفسه. كان يعاشر أهله وأولاده بحب ورفق بالغين. لم يتكلم مع أهله ولا أولاده بنبرة عالية. كان يكرم والديْ زوجته بالإضافة إلى والديه، ويعتني بهم. وقد ترك وراءه بالإضافة إلى أبيه نواب خان المحترم أرملته السيدة ساجدة مقصود المحترمة، وابنه “مسرور” الذي عمره تسعة أعوام، وبنتَه مريم مقصود التي عمرها سبعة أعوام، وأختين. أما والدته فهي متوفاة، وكان أبوه متزوجًا بسيدة أخرى.

فهذه هي المزايا التي يجب أن يتحلى به المؤمن الحقيقي في هذا العصر، ولو فعل ذلك مات شهيدًا وإن مات موتًا طبيعيا. فلكي نحرز هذه المرتبة العالية علينا أن نسعى للتحلي باليقين الكامل بالله تعالى وبيوم القيامة…

يقول معلِّمنا في منطقة “سيتلايت”: كان الشهيد بسيطًا، مضيافا حيث كان إكرام الضيف أبرزَ خُلق أهلِ بيته جميعًا. كان يحترم الدعاة والمعلمين ويكرِمهم. كان بيته مركزًا لأداء الصلاة جماعة، فكان الشهيد يسعى دومًا أن يظل بيته عامرًا بأبناء الجماعة. كانت الصلوات تؤدى في بيته دومًا، ثم بدأت الجماعة تقيم في بيته ندوات تربوية للأطفال والأولاد الذين قد نذرهم آباؤهم تحت مشروع “وقف نو”. كان شديد الاهتمام بتربية أولاده، بل كان يفكّر في الهجرة لأن الأوضاع قد ساءت جدًا في كوئته، وكان يستشيرني في ذلك، وكان ينوي أن يبعث رسالة لكم (أي للخليفة) بهذا الشأن، ولكن قدر الله غلَب، فنال درجة الشهادة قبل أن يبعث لي الرسالة.

كان لأبيه ابنان فقط، وكلاهما قد ضحى بحياته في سبيل الله، وغاية ما فعله أبوهما عند استشهاد الثاني هو أنه رفَع رأسه إلى السماء وقال رب، لقد أخذتَ ابنيّ كليهما، فخُذْ الآن ثأري من الظالمين.

رفَع الله درجاتِ الشهيد، وألهمَ زوجته وأولاده ووالديه الصبرَ والسلوان والهمّة، وأنزَلَ عقابَه بالأعداء. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك