أصل كل خير هو التقوى
ملخص خطبة جمعة ألقاها أمير المؤمنين
الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود
في 28 فبراير عام 1986، بمسجد ((الفضل)) بلندن
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 1-7).
ذات مرة كان الإمام المهدي والمسيح الموعود ينظم أبياتا في التقوى، ولما بلغ الشطر الأول لبيتٍ وهو:
ہر اک نيکی کی جڑھ يہ اتقا ہے
أي: أن أصل كل خير هو التقوى، إذا به يوحى إليه الشطر الثاني التالي:
اگر يہ جڑھ رہی سب کچھ رہا ہے
أي لو بقي هذا الأصل لبقي كل شيء.
ولا ريب أن بقاء أصل التقوى ضمان لبقاء كل شيء. ولقد وصف القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى:
أي أن الشجرة الطيبة لحياة المؤمن، الكلمة الطيبة، أصلها عميق راسخ في الأرض لدرجة يظل ثابتا لا يتزحزح عن مكانه وأن فروعها تبلغ عنان السماء. وأي شك في أن حياة المؤمن كلها متوقفة على عمق أصل التقوى. وموضوع التقوى يشمل سائر نواحي حياة الإنسان من الصباح إلى المساء ومن المساء إلى الصباح، وفي كل لحظة من يومه يتجلى موضوع التقوى في حياته بشكل أو بآخر. فيضيء حياته إذا تمسك به، أو يترك بصمة عار على وجهه إذا فشل في التمسك به.
سبب الخلافات هو قلة التقوى
إن السبب الأساسي لحصول الخلافات في معاملاتنا إنما هو في الحقيقة ضعف أصول التقوى. وما لم نهتم بالأصول، ولم نتعمق للقضاء على المرض الحاصل في الجذور في العمق لن نتمكن حقيقةً من أداء واجبنا تجاه إصلاح الأمور المالية في الجماعة. وعندما نتأمل في ذلك الأمر نجد أن أمراض الأصول والجذور شائعة شيوعًا تدريجيًّا ومتفاوتا. وأخطر هذه الأمراض وأفتكها هو عدم الصدق والإخلاص في المعاملة معَ الله . فالذي لا يكون صادقا في معاملته مع ربه ، من المحال أن يكون صادقًا في معاملاته مع الناس إلا أن العكس ممكن. فقد يوجد بين مرضى نقصان التقوى من لا يصل به المرض إلى حد اغتصاب حقوق الناس مع حقوق الله تعالى في نفس الوقت. إنه لا يتحرج في غدر الناس واغتصاب حقوقهم أحيانا، ولكنه في معاملته مع الله يكون صادقا مخلصا. فعسى أن ينجو بسبب هذه الحسنة فيتحسن سلوكه مع الناس أيضا، ويصبح صادقا في معاملتهم أيضًا.
التبرع العام وتبرع الوصية
هذا وكنت قد أعلنت في خصوص التبرعات أن من لا يستطيع أداء التبرع حسب النصاب بسبب ظروفه القاسية، فعليه أن يخبرني كتابةً بما يجب عليه سداده وما يستطيع سداده حسب ظروفه.. فيكون حينئذ بريئا عندي. وكان هذا الإعلان بخصوص التبرع العام، وكنت قلت بأنني مجاز بأن أنقص شيئا من نصاب هذا التبرع حسبما تتطلبه الظروف، ولكن فيما يتعلق بتبرع الوصية فإن نصابه قد حدده الإمام المهدي والمسيح الموعود بأمر من الله تعالى، فلا خيار لي في ذلك مطلقا. فإذا كان أحد المؤمنين لا يقدر على سداد التبرع للوصية حسب النصاب، فأسهل طريق له أن يخبر المركز بفسخ وصيته، ولا إثم عليه. ولكنه ما دام موصيا، فلا يحق له أبدًا مطلقا التبرع بأقل من المبلغ المستحق عليه؛ مظهرًا أن دخله أقل مما يرزقه الله في الحقيقة. فكيف يمكن أن يخفي الحقيقة على ربه الذي يرزقه والذي لا يخفى عليه خافية.
أهمية التقوى في التبرع
ولنعلم أن التبرعات التي تتسرب الخيانة إلى أصولها تؤدي إلى سوء المعاملة مع الله وتفسدها، فتمحق البركة من الأموال. وقد ذكر القرآن الكريم أنه:
أي أن الجزء المادي للقرابين لا يصل إلى الله تعالى، وإنما هي التقوى التي تصل إلى الله ويتقبلها. فبذلُ مال قليل مع تحقق شرط التقوى خير وأجدى.
ومقاييس التقوى إنما تعرف من المقدرة والنية. وهناك نواح عديدة أخرى أيضا تؤخذ في الاعتبار لا يمكن للإنسان إدراكها بسهولة، مثل مدى الحب والرغبة في الإنفاق في سبيله تعالى، ثم العقبات التي تحول دون هذه الرغبة، ثم رد الفعل بعد الإنفاق.. كل هذه الأمور نواح مختلفة من التقوى التي لها تأثيرها في كل حسنة. وإذا حصل الضعف في أي جانب منها هجم عليها الشيطان من هذا الجانب ونهبها.
من الناس من يبطلون حسناتهم بالمن والأذى باستخدام أسلوب الطعن والتشنيع. ولكن هناك أيضا من المتبرعين الذين يسعون دائما ليؤدوا أكثر ما يمكنهم أداؤه من حقوق الله تعالى، وكلما يساورهم شك في أدائهم يزيدون في كفة حقوق الله وينقصون من كفة حقوقهم، ومع ذلك يظنون أنهم ربما أخذوا من حق الله إلى حقوقهم. وتجدهم خاشعين متواضعين، وهذه إحدى سمات التقوى وآياته. بينما هناك صنف آخر على عكس ذلك، فهم الذين إذا لاح لهم جانب من الشك جدوا في استخدامه في حقهم، وتكون لديهم درجات من الشك لا يمكن الفصل النهائي فيها بأي قانون. وهنا تلعب التقوى دورها، إذ يحكم كل واحد حسب تقواه، ويختلف كل حكم عن الآخر. وأحيانا تكون هذه الاحكام بصورة لا يقدر نظام الجماعة المؤاخذة عليها، رغم أنه يعلم كل شيء.
الحسنة قدر المستطاع
هذا، ويجب على الإنسان أن يفعل من الخيرات ما يستطيعه. فمن مقتضى التقوى أيضا ألا يحاول الإنسان التجاوز عن قدرته، لأن الحسنة التي تتجاوز قدر المستطاع تصاب بأمراض أخرى.
فالذين لا يعاملون الله تعالى بالصدق كيف يستطيع نظام الجماعة إصلاح معاملتهم مع الناس. فعلى كل موصٍ وغيره أن يكون صادقًا وسديدا في معاملته مع الله تعالى، فسوف تصلح معاملاتهم تلقائيا.
الاستئذان للتبرع دون النصاب
ومن الناس من تسوّل له نفسه أحيانا فيقول: إن الخليفة قد أذن في خطبته بالتبرع دون النصاب، ولا داعي للاستئذان الكتابي منه، فالإذن قد تم بالفعل. وهكذا يرتكبون خطأ آخر خادعين أنفسهم. لأنه من الخطأ تمامًا الاعتقاد بأن الاستئذان كتابةً لم يكن ضروريا. إن ما قلته في تلك الخطبة إنما قلته نظرًا لنفسية الإنسان ونظرًا لمعاملته مع ربه. فعندما يظن أحد أنه لا يستطيع التبرع مثلا بألفٍ من ستة عشر ألفا حسب النصاب، فلا شك أنه سوف يستحيي من محاولة الاستئذان مني، فيستمر في التبرع حسب النصاب. وهكذا إن هذا الحياء ينفعه وينفع الجماعة، ويساعده على الحسنات. كان هذا هو قصدي عندئذ. في بعض الأحيان عندما يستأذنني أحد وأجده مضطرا حقيقةً، فيدفعني طلبه على الدعاء الخاص له. وفي بعض الأحيان يفيض قلبي تلقائيا بالدعاء من شدة الألم، وفي معظم الاحيان يتقبل الله تعالى مثل هذا الدعاء بسرعة عجيبة بحيث يصلني بعد فترة وجيزة من الدعاء خطاب من هذا الأخ يبشرني فيه بأنني كنت استأذنتكم، ولكن الله تعالى قد أنعم بعده عليّ كثيرًا حتى وفقني بفضله للتبرع حسب النصاب. فهذا الجانب الروحاني هو الذي جعلني آمركم بالاستئذان مني كتابةً. فمن أخفى بعد ذلك فأولئك هم الآثمون عند الله. وإذا كان هؤلاء يخفون علي فليخفوا، ولكنهم كيف يخفون على الله العليم الخبير.
التقوى طريق النجاة
يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
أي أن الذي يواجه المشاكل فعليه بالتقوى لينجو منها. فطُرق رزق الله عديدة ومدهشة لدرجة أن الإنسان لا يستطيع مجرد تصورها. فمن توكل على الله فهو يكفيه، والذي يعامله بالتقوى يتولاه طوال حياته ويرزقه بطرق لم تكن في حسبانه أيضا. إن كل نعمة إلهية رِزقٌ منه، والرزق المادي والرزق الروحاني كلاهما داخل في معنى الرزق. لذا فمن يتق الله لا تتحسن دنياه فحسب، بل إن دينه أيضا يتحسن.
لذلك يجب على جميع الإخوة أن يجعلوا أصل التقوى نصب أعينهم، ويتذكروا دائما وأبدًا أن الأصل الذي أشاد به ربنا هو أصل ثابت تنمو وتزدهر عليه شجرة التقوى العظيمة.
ففروا إلى ظل تلك الشجرة ونالوا تلكم الشجرة التي أصولها ثابتة في عمق أرض القلب وفروعها تصل إلى السماء ويأتي أكلها من السماء أتظنون أن أموالكم تنال الله؟ ذلكم ظنكم الذي جعلكم تنتقصون حقوق الله لو كنتم متقين لأدركتم أنه لا شيء يأتي من الأرض وإنما كل ثمر ورزق ينزل من السماء وتسألون من عند الله بعض الرزق ابتلاء واختبارا لأن ما عندكم ليس ملكا لكم، بل الله مالك كل شيء وهو الغني وأنتم الفقراء فلو تقدمتم في مجال القرابين المالية مع فهم كامل لهذه الحقيقة لرأيتم انقلابا مدهشا في حياتكم ولوجدتم آثارا حسنة لهذا الانقلاب على أولادكم أيضا ولتوارثت هذه الحسنة الأجيال بعد الأجيال ونلتم من الفرحة الغامرة والسكينة القلبية مالا يمكن أن تنالوه بأي طريق آخر.
وفقنا الله تعالى للتمسك بهذا الأصل أصل التقوى الذي هو أصل الحسنات، وأبقى الله هذا الأصل فينا إلى الأبد لأنه لو بقي هذا الأصل لبقي كل شيء إن شاء الله تعالى . آمين.