دعوات المغضوب عليهم والضالين
سلسلة كيف نتمتّع بالصلاة
خطبة الجمعة ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد -أيدَّه الله بنصره العزيز-
الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ،
ألقاها في تورنتو – كندا- يوم 5 مايو 1991.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
أخطب اليوم من مدينة تورنتو –أونتاريو- كندا، وتُسمعُ الخطبة على الهواء (1) في ثلاث مدن كندية هي فانكوفر، إدمنتن، وكالجاري. وتُسمع بالمثل حيّة في نيويورك، واشنطن شيكاغو، ولنجربورو ونيوجرسي. ومن بين بلاد العالم الأخرى تُسمع في موريشوس واليابان وباريس والدنمارك، وفرانكفورت وألمانيا.
وصلتني الأنباء اليوم من باريس أن اليوم هو ابتداء الاحتفال السنوي للخدَّام الأحمدية (الشباب) ولعلَّه أول حفل سنوي لهم في تاريخ فرنسا، لذلك عبَّروا عن رغبتهم في أن أتوجَّه إلى هؤلاء الخُدَّام بكلماتٍ قليلة على سبيل التشجيع. ولذلك، باسمي وباسمكم أيُّها الحاضرون هنا.. أُقدِّم من الصميم أطيب تمنياتنا لجميع المشاركين في اجتماع خُدَّام الأحمدية في باريس فرنسا، سواء كانوا من خُدَّام الأحمدية (الشباب) أو أنصار الله (المسنين) أو لجنة إماء الله (السيدات) أو أطفال الأحمدية (الصغار) ندعو الله تعالى أن يجعل اجتماعهم موفَّقًا ناجحًا من كل الوجوه لسوف ينتهي الاجتماع بعد يومين أو ثلاثة.. ولكننا نسأل الله تعالى ان تستمر بركاته ونفعه إلى الأبد.
والآن ألتفتُ إلى الموضوع الرئيسي. منذ فترة طويلة يدور موضوع خُطبتي للجمعة حول “الصلاة”، حيث أُلقي الضوء على كيفية الانتفاع منها. وفي خُطبتي الأخيرة التي ألقيتها في أمريكا قلت: عندما نتلو دعاء الفاتحة
نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى طريق الصالحين الأتقياء الذين تفضَّل عليهم بإنعاماته. ولكي تكون رحلتنا هذه يسيرة علينا أن ندعو بالدعاء الذي دعوا به وقَبِلَهُ الله تعالى وأنعم عليهم بسببه. وفي الخُطبة الأخيرة.. تناولتُ آخر دعوات الذين أنعم الله عليهم.
والجزء التالي من دعاء سورة الفاتحة يقول غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ .. أي يا ربنا لا تتركنا نتجه إلى الصراط الذي سار فيه من كانوا هدفًا لغضبك. أو نتبع خطوات الذين ساروا أولاً في الطريق المستقيم ثم تركوه وتاهوا في الضلال.
ونعلم من دراسة القرآن الكريم أنَّ هؤلاء أيضا كانوا يدعون بدعواتٍ، وأنّه كما حفظ لنا دعوات القوم الذين ينتمون إلى فريق الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، كذلك حفظ لنا دعوات فريق الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ و الضَّالِّينَ . ولذلك يلزمنا أن نصون أنفسنا من مثل هذه الدعوات، ونقي أنفسنا من روح تلك الدعوات التي احتفظ بها القرآن المجيد لتكون عبرةً لنا. وهذا هو موضوع خطبة اليوم.
يقول الله تعالى
أي هناك فريقٌ من الناس يسألون الله خير الدنيا.. وليس لهم نصيبٌ في الحياة الآخرة.
يتصل هذا الدعاء بموضوع الحج، فيقول الله تعالى
إذا أتممتم فرائض الحج.. أي إذا أدّيتم عبادتكم، فتذكَّروا الله كما تتذكَّرون آباءكم وأسلافكم.. أو بالأحرى بأشدَّ من ذلك. وبعد ذلك يقول تعالى: إنَّ منكم من يسألني الطيّبات الدنيوية فقط.
فما هي علاقة هذا القول بموضوع الحج؟ العلاقة بينهما أنَّ الذي لا يفكر فقط في هذه الدنيا.. يعيش لأجلها.. ويموت من أجلها.. لو أنه وصل إلى أعلى مستويات العبادة.. فإنَّ دعاءه يكون للأمور الدنيوية. لذلك يقول الله تعالى: لا تحسبوا أن أولئك الذين يقتربون مني أثناء فترة الحج، ووصلوا إلى أسمى درجات العبادة.. كلهم جاءوا شوقًا إليّ.. بل إنَّ منهم التعساء الذين كلّفوا أنفسهم مشقة هذه الرحلة الصعبة من أجل رغباتٍ دنيوية؛ وفي النهاية لا يزالون يسألونني متاع الدنيا حينما يطوفون بالكعبة. لسوف أُعطيهم الدنيا.. ولكن لن يكون لهم نصيبٌ بالآخرة.
وسبب العقاب هنا أنَّ الإنسان عندما يصل إلى أعلى قمة من قمم العبادة ويدنو الله منه، وفي هذا الوقت إذا لم يطلب رَبَّه بل مال إلى متاع الدنيا لدلَّ ذلك على أنّه في الواقع يعبد الدنيا. وسؤال متاع الدنيا ليس ممنوعًا.. ولكن الصورة التي ترسمها الآية تُبيّن أنَّ سؤالهم لمتاع الدنيا يكشف أنَّ هؤلاء القوم عندما يذهبون إلى الحج ينكشف باطنهم الواقعي. والله أعلم كم منهم يذهبون للحج بنيّة كسب دنيوي، والموضوع لا يخصُّ بالحج وحده وإنّما يتصل بكل العبادات.
بعد ذلك يقول تعالى واعظًا: وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . هناك عِبادٌ يسألون طيّبات الدنيا وطيّبات الآخرة أيضًا ويطلبون النجاة من عقاب النار.. أي لا تَدعنا تجتذبنا مُتع الدنيا فننساكَ ونستحقُّ في النهاية عذاب النار.
فعندما نسأله طيّبات الدنيا يخبرنا القرآن من أننا سوف نحصل عليها مع طيّبات الآخرة أيضًا.. شريطة أن نتذكره دائمًا فلا نتيه في مُتع الدنيا.. لأنَّ في ذلك خطر التعرُّض لعقاب الله تعالى.
وهاكم دُعاء آخر لفريق “الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ والضَّالِّين”:
لماذا فرضتَ علينا الحرب الدفاعية بهذه العَجَلة؟ ألا تُؤجِّل ذلك لبعض الوقت؟ قل لهم أنَّ الحياة الدنيا متاعٌ مؤقت. أما الخير فهو في الحياة الآخرة وحدها.. ولن يُظلم أحدٌ منكم ولو كان بمقدار نواة تمرة.
وترجع خلفيّة هذا الدعاء إلى قوله تعالى:
وهو يرسم صورة لمن كانت تنزل بهم المظالم من جانبٍ واحد، وكانوا وقتها يتكلَّمون كثيرًا ويقولون: لماذا لا يُسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا والثأر لنا.
ومثل هؤلاء القوم موجودون اليوم كما كانوا موجودين بالأمس.
لقد لاقى المسلمون الأحمديون سلسلةً طويلة من الابتلاءات في باكستان، ولقد جاءتني مثل هذه المطالبات جاءتني الرسائل تحمل احتجاجاتٍ قوية.. أن أعْطِنا الفرصة لنقوم بأعمالٍ ثأرية. إنّهم يُطلقون العنان لاعتداءاتهم علينا، فلماذا لا ننتقم منهم؟ وكنتُ دائمًا أنصحهم بكبح جماح النفس.
يقول القرآن الكريم هنا أنَّ الله Y ألا يسمح للمؤمنين في بعض الأحيان أن يثأروا، فَيَعِظهم بضبط النفس وكفّ الأيدي والاعتصام بالصبر وأن ينالوا سكينة القلب بالصلاة والإنفاق في أمور البِّر. ولكن عندما يُفرض الجهاد يتبدَّل طبعهم تمامًا. كانوا يتشدَّقون كثيرًا بطلب الفرصة للثأر.. فإذا بهم يقولون: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ .. لم عجَّلت علينا فريضة الجهاد؟ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ، أي ما الفائدة من العيش بضعة أيامٍ أخرى. فهذه الحياة مؤقتة ومنافعها أيضا مؤقتة. الحسنات الباقية فهي في الدار الآخرة. فما الفائدة لو تأجَّل الجهاد لبضعة أيام؟
على أي حال.. يتصل هذا الدعاء بحالهم السابق.. وكان حالاً كاذبًا.. خادعًا للمؤمنين. وعندما يحين وقت الابتلاء يجبن هؤلاء دائمًا.
ومن دعوات المغضوب عليهم ما يحكيه قول الله تعالى:
لو أنك رأيتهم وهم واقفون أمام النار.. أي بعد الموت سيرون عذابهم.. فيتمنُّون لو أُعيدوا فلن يُكذِّبوا بآيات ربّهم ويكونوا من المؤمنين.
يقول الله تعالى عنهم:
لقد ظهرت حقيقة حالهم التي اعتادوا إخفاءها من قبل، ولو أنّهم عادوا لفعلوا نفس الأفعال المحرّمة. إنّهم كاذبون في دعواهم أنّهم لو أُعطوا فرصةً أخرى لصدّقوا بآيات الله وعملوا طبقًا لأوامره تعالى. هذا مجرّد تعبير عن حالة سيكولوجية، والواقع أنّ قرارهم قد تمّ اتخاذه في هذه الحياة الدنيا. وقول الله تعالى أنّهم سيعودون إلى نفس الأعمال ليس ادِّعاء دون دليل.. فإننا نرى الدليل على ذلك مرارًا وتكرارًا في حياتهم. فكل إنسان عندما يلمح عواقب أخطائه وخطاياه، ويُدرك أنّ العقوبة تقترب منه.. فإنه دائمًا يقول نفس العبارات: لو نلتُ العفو في هذه المرة فسوف أتوب.. فإذا انفرجت شدّته، وانتهت بلواه، عاد إلى ما كان عليه من سوء الفعال. ولا بدّ وأنكم شاهدتم بعض الطلاب، وأعرف هذا من خبرتي الشخصية أيضًا، عندما يقترب الامتحان يتوبون ويقولون: في العام القادم سوف نحتفظ بالكتب جيدًا، وسوف نستذكر منذ أول يوم وسنجتهد في دروسنا.. فيا ليت محنة هذا الامتحان تزول هذه المرة بأي طريق. وعندما تنقضي هذه المحنة يعود هؤلاء الطلاب إلى حالهم السابق. وليس الأمر خطيرًا إذا كان محدودًا بالاختبارات الدنيوية فقط، ولكن إذا كانت مثل هذه الوعود مع الله جلَّ وعلا.. ويتكرر ارتداد المرء إلى حاله السابق.. تبيَّن لك مدى صحة جواب الله تعالى لهم يوم القيامة: أنّكم نفس القوم الذين كانوا من قبل يُردِّدون مثل تلك الأقوال. لو تمَّ تأجيل عقابكم اليوم وأرجعناكم.. فأؤكد لكم أنكم سوف تعودون إلى نفس أعمالكم التي كنتم تعملونها من قبل. وإذن فترديد مثل هذا القول -عندما يأتي العقاب وينقضي الامتحان- لغو لا معنى له. وعلى المرء أن ينشد غفران الله تعالى من مثل هذا الدعاء، ويتجنب تلك الأحوال التي تميل بالمرء نحوه.
وهناك دعاء في نفس السورة جاء فيه:
يا قادة الجن وكبراء الناس.. لقد أكثرتم من استغلال الجماهير. وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ .. قال أنصارهم من زعماء العامة، رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ لقد استغل بعضنا بعضا.. وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا حتى تم الموعد الذي حددتَه لنا. قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا ستكون النار مقرا لكم إلى زمن طويل، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إلا إذا شاء الله تعالى أن يرفع هذا العذاب… إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .
لا تذكر هذه الآيات دعاء ظاهرا، ولكنها تصوِّر حال أناس يتوقعون رحمة الله وهم بين يديه، وهذا الدعاء الذي يقوله بعض الناس عندما يقفون بين يدي العقاب يتطلب نسبيا مزيدا من الدراسة كي تعرفوا ما هو المقصود بكلمتي (جن ونس) وما هي الفكرة وراءهما.
أول شيء هنا هو قول الله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ لو كان الجن هم الخلق الذي يتوهم وجوده عامةُ الناس.. كما يروج بعض المشائخ تلك القصص عن وجود كائنات غير منظورة مختلفة عن البشر.. ويصادفكم مريض يقال عنه أنه تحت تأثير الجن الذين يسيطرون عليه، فمتى خَبَرَها الناس، ومتى عرفوا أن الجن قد استغلوا كثيرا من الإنس واستعبدوهم؟ بالتأكيد تعني كلمة “الجن” هنا شيئا آخر، وكما جاء في كتب التفسير الأحمدية.. كلمة “جن” تعني “كبراء الناس”، وكلما تحدث الله عن (جن وإنس) متقابلين أراد بذلك الرأسماليين والبروليتاريا.. أي البرجوازيين في مقابل عامة الناس، أو القوة الرأسمالية في مقابل القوة الشيوعية، أو عظماء الناس مقابل الفقراء. هذه المقارنة تظهر دائما باستعمال كلمتي “جن وإنس”. وبالنظر إلى هذه المقارنة يمكن لكم فهم كلمة “استكثار” بمعنى كثرة الاستغلال، وطالما رفعت الشيوعية صوتها بأن القوى الرأسمالية الغربية هي قوى الاستغلال، وتتأسس الاشتراكية العلمية على أن بعض الناس يستغلون الفقراء، وقام النظام الشيوعي كرد فعل لهذا الاستغلال.
هنا يقول الله تعالى: سيأتي وقت نخاطب فيه الشعوب العظمى ونقول: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ لقد تسيدتم على القوى الشعبية وانتفعتم كثيرا منهم انتفاعا يسمى استغلالا غير مشروع. كان أحد هذه الفترات قبل الحرب العالمية الأولى حينما لم يكن النظام الشيوعي قد قام بعد، وكان النظام الرأسمالي وحده هو المتسيد المسيطر على العالم كله، ونحن الآن ندخل فترة أخرى خلا فيها الجو للنظم الرأسمالي مرة أخرى ليمسك بأعنة غالبية العوام.
يجري هذا الحوار يوم الحساب.. عندما يدنو الفريقان من العقاب. يقول الله تعالى أن فريق العامة من الناس سوف يقول: يا ربنا لقد تسيّد هؤلاء القوم علينا، كانوا ذوي البأس فاستغلونا، وبسبب استغلالهم هذا ارتكبنا بعض الخطايا.. استسلمنا لهم، إذ لم تكن لنا حيلة.
يقول الله: لم يكن هناك مثل هذا الإكراه الذي يُنسي المرء ربه حتى يتنكب عن الصراط المستقيم، إذا كانوا قد استلغوكم فلا يعني ذلك أنكم أُكرهتم على ارتكاب المعاصي، وأُجبرتم على الخروج من الطريق السوي، هذا عذر باطل وغير مقبول.
في دعاء الضالين هؤلاء عبرة لنا، كثيرا ما يحسب مثل هؤلاء الناس أنهم ماداموا بلا حول تحت سلطان كبراء القوم فلا يستحقون عقابا على خطاياهم، ولكن الله تعالى يرفض هذا الاعتذار، ويقول إن كل إنسان مسئول عن سلوكه، إذا ارتكبتم الخطايا متبعين “الكبار” فلن يكفيكم القول بأنكم كنتم مضطربين واقعين تحت سلطان أحد الكبار.
هناك دعاء للشيطان جاء فيه: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (الأَعراف: 15) ورد هذا الدعاء ضمن الآيات التي تتناول رفْض إبليس السجودَ لآدم، وصدر هذا الدعاء من الشيطان! ترون كيف أن موضوع الدعاء شديد الاتساع، فمن بين الذين يدعون للبركات والنعم يأتي سيدنا محمد المصطفى على رأس القائمة، ثم الملائكة ثم كافة الأنبياء الآخرون ثم الأتقياء الصالحون الآخرون، ومن بين المغضوب عليهم والضالين يأتي الشيطان على رأس قائمتهم، ولقد حفظ لنا القرآن الكريم دعاءه أيضا، لقد حذّرنا من الشيطان وعرّفنا الدعوات التي نتجنبها، ونوعيةَ الشر الذي سوف نواجهه وطبيعته، وأخبرنا ماذا سأل الشيطان من الله تعالى.. وكيف قبل الله تعالى دعاءه لزمن ما. وهكذا كان التحذير لنا في عبارات واضحة تماما، قال الشيطان: أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يا رب أمْهلْنِي إلى يوم يقوم فيه الناس كلهم بين يديك قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قال الله تعالى: نعم.. أعطيتُك هذه المهلة.
وهكذا في بعض الأحيان يُقبَل الداء السيء أيضا، ومن ثم فلا يكفي القول بأننا قد دعونا وقُبل الدعاء، فالدعاء السيء إذا قُبل كان لعنةً كبيرة، والدعاء الصالح إذا قُبل كان آية قربٍ من الله تعالى.. والحال ليس كذلك عند قبول الدعاء السيّء وإذا قُبلت بعض الدعوات السيئة فوراء قبولها حِكمٌ أخرى. على أي حال، أجاب الله هذا الدعاء فورا: لقد قبلت طلبك وأمهلتك.
قال الشيطان: أما وقد أنظرتني فسأخبرك بما سوف أفعل. لقد أدنتَني بالضلال. وسمحتَ لي أن أتربص لعبادتك، فلأمكننّ لهم على الصراط المستقيم لتضليلهم.
ترون أنه لا يكفينا دعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ولذلك تلاه هذا التوضيح
فالطريق مستقيم.. ولكن يتربص عنده من يستطيع تضليلكم ومن يقدر على غرس الشكوك في عقولكم، ومن يخترع لكم شتى الأعذار.. أن لو فعلتم كذا فلا لوم، ولو فعلتم ذاك فلا بأس.. هذا شيء صغير لن يضر، تجلس الشياطين على الصراط المستقيم في أماكن متنوعة محاولين تضليلكم بمختلف الأعذار كما يجلس الشحاذون في طريق القادمين إلى صلاة العيد، لقد كشف لنا الله تعالى هذا السر الذي لو بقي سرا خفيًا لكان لنا بعض العذر في الانخداع، ولكن بعد كل هذا التوضيح تتضاعف خطيئتنا إذا انخدعنا وضللنا.
ثم يقول الشيطان ماذا سأفعل معهم؟ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سآتيهم من الأمام ومن الخلف.. أي لن أتوقف عن ملاحقتهم، لن أقعد لهم على الصراط المستقيم بل سأجري معهم، لقد رأيت في طفولتي بعض الشحاذين المزعجين.. إذا لم تعطهم شيئا جاءك من الأمام ومن الخلف، ويسدون أمامك الطريق أو يجذبون ثوبك ولا يكفون عن السؤال الملحّ حتى يأخذوا شيئا. هكذا رسم الله تعالى صورة للشيطان قريبة من ذلك، فلن يكتفي الشيطان بالقعود على الصراط المستقيم بل سيجري معكم، يأتي من أمامكم ليقول شيئا، ثم يأتي ليهمس بشيء في أذنكم، ولسوف يلجئكم إلى قبول تحريضاته لتغادروا الطريق المستقيم وتتعثروا.
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ثم أفاجئهم من ناحية اليمين.. أي يقوم بهجمات مكشوفة على إيمانهم، وآتيهم من ناحية الشمال.. أي أغريهم بالطمع في الدنيا.. لأن الشمال علامة الدنيا واليمين علامة الدين، والخلاصة أنه سيضع الصعاب أمامكم من كل اتجاه.
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ يعلن الشيطان عما سوف يفعل، سأفعل هذا وذاك، ولن أكف عن مطاردتهم.. وأقول لك أنك لن تجد معظمهم شاكرين.
قال الله تعالى: اخرُج من ساحتي محقَّرا مطرودا، ومن تبعك منهم فسيلقى نفسَ المعاملة، ولسوف أملأ النار بكم أجمعين.
وهنا أعطى الشيطان نقطة معروفة حقيقية ينبغي أن ينتفع منها المؤمن، قيل إن أحدهم سأل سيدنا لقمان: ممن تعلمت الحكمة؟ قال: من الحمقى! فأحيانا يمكن أن يصدر عن الشيطان قول يستفيد منه المؤمن. أولا، الله تعالى سجّل ما صرح به الشيطان ووضعه أمامنا.. وأخبرنا: لقد سمحتُ له بعمل هذه الأشياء، وثانيا كان قرار الشيطان النهائي وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ .. وهذا يعني أن الشاكر.. كل شاكر ميال للشعور بالامتنان مقدِّر للجميل والإحسان.. لا يمكن أن يتعدى الحدود إلى المدى الذي يجعله يعمل شيئا ضد المحسن إليه، هناك بعض الناس لا ينفك عقوقا حتى لو أحسنت إليه طوال حياتك، وما أن تغفل عنه قليلا حتى يصير عدوًا لك، وقد يسعى للاضرار بك، وهناك بيت من الشعر الفارسي عن هذا الموضوع يقول ما معناه: لو أعطيت الكلب كسرة خبز وضربته مائة مرة فلن يعضك، ولكن هناك من الأشقياء من لو أطعمته مائة مرة ثم غفلت عنه مرة واحدة لنبح عليك وهاجمك وسعى للانتقام منك!
قال الشيطان هنا نكتة معرفة ولذلك حفظها الله من أجلنا وعلّمنا وسيلة كي ننقذ بها أنفسنا من الشيطان، فالذي يستشعر الشكر على الفضل واللطف لا يمكن له أن يخطو خطوة واحدة ضد من تفضل عليه، والإنسان الذي تحيط به أفضال الله تعالى وتعمه من كل النواحي.. من أمامه ومن خلفه، عن يمينه وشماله.. من فوقه وتحته.. يذّكره الله تعالى أن الشيطان لا يستطيع الهجوم على مثل هذا الإنسان الذي يحفظ هذه الإحسانات دائما في باله، يقول الشيطان سأهجم من اليمين.. وسيقف إحساس الشكر لله تعالى على نعمه من اليمين حارسا مدافعا عنه، ويقول الشيطان سأهاجمه من الأمام.. ومن الأمام يكون أيضا الشعور بالامتنان لله على أفضاله صيانه له.
وهكذا يكون من الخلف ومن الشمال. فأفضال الله تعالى تحيط بالإنسان.. والقلب الشكور لله تعالى لن يكون أبدًا هدفًا لهجمات الشيطان.
نعم، لقد قال الشيطان نقطة معرفة عندما أعلن أنه سيهاجم غير الشاكرين.. وكل عقوقٍ سيكون عبدًا له وهذا قولٌ صحيح. فالواقع أنَّ بداية الخطيئة تكون من العقوق وكُفران النعمة. والنتيجة النهائيّة لذلك ما ذكره القرآن الكريم: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ . وردَ نفس الموضوع في مكانٍ آخر بأنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ .. لن تقدر على التسلُّط على «عبادي» مهما فعلت وحاولتَ معهم. والمراد من «عِبادي» الشاكرون الذين يذكرون نِعمَ الله وإحساناته ويكونون عبادًا مخلصين له.
وهناك دعاءٌ آخر ورد في تحاور لأهل النار في سورة الأعراف:
عندما تَفِدُ أمةٌ أو جماعة للدخول في النار.. يقول الله تعالى لهم: ادخلوا في مكانٍ مع قومٍ مثلكم.. قوم كانوا قبلكم وفعلوا كما فعلتم، وكيفما كان مثواهم سيكون أيضًا مثواكم. وهذا يعني أنَّ الله تعالى لن يظلم الأمم بسبب اختلاف الأزمنة. لقد لقيَ السابقون نهايتهم هذه في الماضي نتيجة أفعالهم وسيلقى نفس النهاية من يولدون بعدهم إذا فعلوا مثل فعلهم. كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا : كلما دخل فوجٌ لعنَ الأفواج المماثلة لهم. ولكن المؤمنون عندما يدخلون الجنة فسوف يُحيّون رفاقهم فيها بقولهم «سلام». ولكن من يدخلون النار فسوف يلعنون أقرانهم فيها. حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا .. فإذا اجتمعوا كلهم في جهنّم.. قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ .. توجَّه آخر الأفواج إلى الله تعالى وقالوا بشأن من سبقوهم إلى النار: رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .. يا ربنا هؤلاء هم القوم الشياطين الذين اتبعناهم فضاع منا إيماننا وفقدنا دنيانا أيضا. هؤلاء هم الأشقياء الذين اتخذناهم أئمة. فعاقِبهم يا ربنا عِقابًا مضاعَفًا.
وهذا يكشف طبيعةً خاصة في الخُطاة. يدعو المؤمن: اللهم اغفِرْ لي واصفح عني؛ أما ذوو الطبيعة الشيطانية فينالون المتعة بطريقةٍ مختلفة تمامًا. إذا لم يحظوا بالعفو تمامًا تمتَّعوا بعقاب الآخرين. وفي الحياة الدنيا أيضًا كانوا هكذا. يشعرون بالرضا عندما يشهدون أحدًا يتألم، وبعد دخولهم النار لن تتغيّر طبيعتهم هذه.. لن يقولوا: يا ربنا لقد أضلنا هؤلاء الملاعين فاغفر لنا وارحمنا.. بل يقولون: دَعْنا نستمتع بعذابهم المضاعف.
وردّاً على ذلك يقول الله تعالى لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِنْ لَا تَعْلَمُونَ . انظروا، لكلٍّ منكم عذابٌ مضاعف ولكنكم لا تُدركون ذلك.
لماذا العذاب المضاعف للفريقين؟ إذا كان أحدهما قد تسبّب في إضلال الآخرين، والثاني اتبع الضلالة.. فلماذا قيل إنَّ لكلٍّ منهما عذابًا مضاعفًا؟ السبب في ذلك أنّ أحدًا عندما يتبع القدوة السيئة من غيره فإنّه لا يضلّ وحده فقط بل يصير أيضًا وسيلة تعثُّر للأجيال القادمة. ولذلك لا يُقبل منه قوله: لقد اتبعته فضاعِفْ له العذاب. بل يقول الله تعالى لمثل هؤلاء: لقد اتبعتموهم وجئتم بين يدي.. ولكنكم لا تشعرون كم من قدوةٍ سيئة تركتم وراءكم، وكم تسبَّبتم في ضلال الأجيال من بعدكم. فالأساس الذي تبنون عليه مطلبكم بمضاعفة العذاب للسابقين.. على نفس هذا الأساس تستحقون مضاعفة العقاب.
وهكذا ترون أنَّ الله تعالى لا يظلم أبدًا. قد يبدو في الظاهر أنّه عندما يتكلم إلى فريق الضالين والمغضوب عليهم فإنّه يعطي جوابًا قاسيًا ولا يذكر السبب؛ ولكن لو نظرتم بعمق أكثر وجدتم في هذا الجواب الصريح حكمةً عميقة. إنّها أعظم الكلمات مجدًا وحكمةً من الله تعالى.
بعد الاستماع إلى ذلك القرار الإلهي يحكي القرآن الكريم:
أرأيتم الآن.. لستم أحسن منا في شيء. ولن تفضلوا علينا بمعاملة ممتازة. فلنذق معًا هذا العذاب الذي اكتسبتموه معنا أيضًا.
وهناك دعاء لجماعة من التعساء يحكيه القرآن الكريم:
هذا دُعاء بعض معارضي النبي من مشركي مكة الذين قالوا: اللهم إذا كان (محمد) رسولاً صادقًا وأوحيتَ له بالحق من عندك فأنزل بنا عذابًا رهيبًا. هذا دعاء، تنسبه بعض الروايات إلى أبي جهل.. صدر منه هذا القول معبّرًا عن يقينه بكذب النبي ( ). والدليل على ذلك أنّه يقول بشجاعة عظيمة موجّهًا حديثه إلى الله تعالى: أنا لا أصدِّق هذا الرجل الذي يدَّعي الرسالة والنبوة.. فإذا كان من عندك حقًا فأمْطِرْ علينا حجارةً أو أنْزِلْ علينا أيّ عذابٍ شديد نُقاسي منه.
يُحكى أنَّ بدويًا عيَّر أحد خلفاء بني العباس قائلاً: إنّكم معشر قريش تتحدَّثون بحكايات تفوقكم، ولكن الله تعالى قد كشف لنا حالكم. فأنتم قومٌ حمقى، وشهد القرآن الكريم على حماقتكم إلى الأبد. فسأله الخليفة مندهشًا: وما هي هذه الشهادة؟ أجاب البدوي: كان أحكم رجل فيكم “أبو الحكم”.. وسمَّاه الله تعالى “أبا جهل”، وهو الذي دعا قائلاً:
لا شكَّ أنه كان مجنونًا.. كان عليه أن يقول: إنَّ كان محمد على الحق من عندك فوفِّقنا للإيمان به، وإن كان كاذبًا فلا نؤمن به. إذا كان صادقًا فانظر إلينا برحمتك وهيِّء لنا أن نتقبَّل الحقّ. ولكنه سأل الله تعالى أن يُسقط عليه حجارةً من السماء!
وتوجد طبيعة أبي جهل هذه في كل زمن. لقد سمعنا أُناسًا يقولون: لو نزل الله من السماء وقال إنَّ مرزا غلام أحمد القادياني صادق فلن نقبله! هذه هي طبيعة التمرُّد وهي طبيعةٌ شيطانيّة. وقولهم هذا ليس شيئًا خياليًا.. لأنَّ حوار الشيطان مع الله، الذي سمعناه دلالة بيّنة على أنَّ الشيطان يعرف أنَّ الله حق، وأنّه أعلن صدق آدم.. ومع ذلك ترون كيف تكلّم باستعلاء وتباهٍ قائلاً: لا يارب.. لن أؤمن به، لقد أعطيتني فرصة وسوف أتربّص به على الصراط المستقيم إلى يوم القيامة.
ونتعلّم من هذا الدعاء الشيطاني درسًا آخر، نفهم منه: في أي صورة يتخفّى الشيطان وهو قاعدٌ على الصراط المستقيم؟ ففي زمن كل نبيّ -كما في زمن آدم- يدور هذا الحوار بين الشيطان وبين الله جلَّ وعلا، وفي الواقع العملي لا يزال يولد مثل هؤلاء الأبالسة، ويقولون نفس القول: يا الله.. حتى وإن قلتَ لنا بنفسك فلن نؤمن. وتتكرَّر قصة آدم هذه في كل عصر. وهكذا نجد درسًا نافعًا في أدعية المغضوب عليهم ومحاوراتهم مع الله جلَّ وعلا. ونسأله تعالى أن يساعدنا على الانتفاع من هذه الدروس.
وهناك دعاء منسوب إلى فئة المغضوب عليهم في سورة يونس الآيات 23 إلى 24. وذكرُ المغضوب عليهم هنا ليس واضحًا وإنّما وارد تحت غلالةٍ من الحجب. يقول الله تعالى:
يأخذكم الله تعالى في رحلاتِ البحر، فإذا كنتم في سفنٍ عريضة تبسط أشرعتها لريحٍ باردة منعشة وفرحتم بها جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ .. فتغيَّر الحال فجأةً واكتسبت الريح سرعةً وهبَّت عاصفة.. وقامت الأمواج تلوَ الأمواج، وأحاطت بكم من كل اتجاه. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ . وحسِبوا أنَّ الهلاك قد أحاط بهم.. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. عندئذٍ تتصاعد دعواتهم مفعمة بإخلاص، تُعلن عن إيمانهم الصادق بالله ويبتهلون إليه لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ .. لو خلّصتنا يا ربنا من هذه المصيبة فسنكون من عبادك الممتنّين.
ويُنجيهم الله فيمضون في تمرُّدهم وعصيانهم دون وازعٍ أو رادع.. كما كان دأبهم من قبل، ويُضايقون عِباد الله الأبرياء. يقول الله تعالى لهم:
إنَّ تمرُّدكم هذا ستقع عاقبته على رؤوسكم. تتحدَّثون عن المنافع التي حصلتم عليها.. ولكنه متاعٌ مؤقت في هذه الدنيا.. وفي نهاية المطاف تُرجَعون إلينا وتقفون بين أيدينا وعندئذٍ نخبركم بحقيقة أفعالكم.
لقد أطلقتُ على هذا الدعاء اسم دعاء “المغضوب عليهم”.. لأنَّ هؤلاء القوم يتجاهلون وعودهم ويُخلفونها. ولكن هذا الدعاء في حدِّ ذاته عندما يصدر في وقت الشدّة لا يصدر فقط من فئة المغضوب عليهم.. ولهذا السبب قلتُ إنّه دعاءٌ مستورٌ بعض الشيء فكلّ إنسان، سواء كان صالحًا أو فاسقًا عندما يقع في الشدّة يصدر منه هذا الدعاء وبين هؤلاء الداعين يكون فريق المغضوب عليهم، فيكذبون ويخادعون. يعِدونَ الله تعالى ويُخلفون وعودهم. وعن هؤلاء يقول الله تعالى: إننا مع ذلك نقبل دعاءهم أيضا.
إنني أضع هذا الموضوع أمام أعينكم بالتفصيل لأبيّن لكم أنَّ الدعاء الذي يدعو به المرء في وقت الشدّة يخرج أحيانا من القلب بقوة يشهد الله تعالى أنّه صادرٌ حقا عن إيمان مخلص عميق. وهذه هي في الواقع حال القلب. والله تعالى لا يرفض مثل هذا الحال من الاضطرار أبدًا، مع علمه بأنه سوف يتبدَّل. ينظر الله تعالى إلى هذا الحال المؤقت برحمةٍ وشفقة ويقبل دعاءه. ولذلك يجب ألا ينخدع أولئك الذين يقولون أنَّ الله يقبل دعاءنا حتى وإن كنا أهل سوء. نعم.. يُبدي الله تعالى رحمةً عظيمة للمرء إذا دعاه مخلصًا في حال الشدّة والكرب. ولا بدّ أنكم شاهدتم ذلك في حياتكم اليوميّة.. حيث يفعل بعض الناس أفعال الشر والفتنة مرارا وتكرارا، ولكنهم عندما يؤخذون يتمسكنون وتفيض الدموع من مآقيهم وترتعدُ أجسادهم، وينحنون ليمسّوا الأقدام ويقولون: اعفُ عنا لأجل الله تعالى هذه المرة، ولن نعود لمثلها أبدا، ومع العلم أنهم سيكررون نفس الخطأ مرة أخرى. فإن حالهم الذي يعبر عن قلة الحيلة والمسكنة يجعل الإنسان الكريم لا يرد التماسهم. فإذا كان الإنسان العادي يتأثر لهذا الاتضاع العميق.. فكيف بالله تعالى وهو الغفور الرحيم. وهو أعظم من يتأثر له. ولا يعني هذا أنه لا يعرفهم فهو جل وعلا يعلم أنهم سيقعون في نفس الأعمال مرة ثانية.. ولذلك يقول: سوف ترجعون في آخر المطاف إلينا. نعلم أنهم لن يهربوا مني إلى مكان آخر لأن مآلهم الأخير إلينا. وليس ثمة فارق لو أني غفرت لهم عشر مرات أو ألف مرة.. فنهايتهم هي المثول بيني يدي، وسوف أتخذ بشأنهم القرار يوم الحساب.. عندما تعرض كل اعمالهم أمامي.
الوقت يتأخر، لذلك سوف أُنهي خطبة اليوم بعد ذكر دعاء آخر. في سورة يونس دعاء يتعلق بفرعون. يقول القرآن الكريم:
لقد أخذنا بني إسرائيل عبر البحر، فتعبهم فرعون وجيشه باغين عاصين. خرجوا وراءهم بدافع العداوة حتى إذا أوشكوا على الغرق قال فرعون: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ .. أشهد أن الإله الذي آمن به بنو إسرائيل لا إله غيره، وصرت مسلما. فيقول له الله تعالى: آلْآنَ ماذا تقول؟ تؤمن الآن وأنت تغرق هنا؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ .. لقد قضيت حياتك في العصيان وكنت دائما ممن ينشرون الفساد ويخلقون الاضطراب. بعد ذكر هذا الدعاء يقول الله تعالى إنه قبله قبولاً مشروطا. إنك الآن في لحظتك الأخيرة.. ولا حق لك في الدعاء. لقد قضيت حياتك في الشر والعصيان، ولا حق لك في الدعاء. لقد قضيت حياتك في الشر والعصيان، والآن يحلّق الموت فوق رأسك، بل وأنت تغرق. وفي هذه اللحظة ليس لدعائك معنى أو اعتبار، ومع ذلك يفصح دعاؤك عن شعور عميق بالعجز وقلة الحيلة لذلك نقبله. فقبله الله تعالى بناء على حكمة بالغة. قال له الله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ نعم.. نخلص اليوم جسدك لأنك تبت وندمت خوفا على جسدك من الهلاك، وليس خوفا على روحك. ولتوبتك هذه في لحظتك الأخيرة سوف ننقذ بدنك. لماذا؟ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَة[LB].. عبرةً لمن وراءك ولمن يأتي بعدك. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ .. وكثير من الناس في هذا العالم لا ينتبهون لآيات الله.
استنتج شتى المفسرون أشياء مختلفة من هذه الآية. يظنون أن قوله أدْرَكَهُ الغَرَقُ . يعني أن الله تعالى أنقذ الجثة فقط ولم ينقذ فرعون وهو حيّ، ذلك لأنه قال دعاءه وهو يغرق، ويحسبون أن عدَم ذكر روحه والاقتصارَ على ذكر بدنه يعني أن الله تعالى سوف يحفظ جسده فقط.
وإنني لم أرتَحْ أبدا لهذا التفسير. ذلك أن أجسام الفراعنة في مصر كانت تحفظ عمومًا من قبل.. فما الذي استجابه الله تعالى من دعائه؟ كان تحنيط الجسد وحفظه عادة أهل مصر.. فما أن انخفض الماء عند الجذر حتى وجدوا جثته وحنطوها.
أي أن قول الله: نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ يعني نحفظ جسدك الحي.. ولكن روحك لن تحظى بالنجاة، وعندما يأتي يوم الحساب سيُقدم كواحد من الخطاة المجرمين. لأنه دعاء من أجل حياته الدنيوية ولم يَدَعْ لحياته الروحانية لذلك يقول الله تعالى: سنعطيك حياة موقوتة.. ولا فرق عندنا أن تعيش خمسين عاما أو حتى مائة عام أخرى.. فلن نعفو عنك، لأنك لم تتب من الجرائم التي ارتكبتها.
ونظرًا لهذا الانطباع في قلبي كنت أفكر دائما لأقوم بالبحث فيما حدث فعلا لفرعون. ومنذ فترة قريبة وجدت في بريطانيا موسوعة فيها ذكر تفصيلي لفرعون هذا، أعني رمسيس الثاني. وأدهشتني معرفة أنه عاش بعد حادثة “الغرق” 50 إلى 60 عاما.. بل أكثر من ذلك لأنه عاش إلى سن التسعين. مات أبوه عندما كان (رمسيس) في شبابه المبكر. قضى سيدنا موسى معظم حياته في زمن أبيه الذي كان من طبيعة مختلفة. وبعد موته توجوه ملكا في هذه السن المبكرة. ولما كان حسودا لبني إسرائيل، وعرف أن هذا الغلام الإسرائيلي قد تربى في قصره.. ولذلك كان يحسده، فعامله بشدة بدافع الانتقام الشخصي. وعندما وقعت الحادثة كان سيدنا موسى في سن متقدمة، ولكن فرعون كان شابا جدا. ولو أن رمسيس الثاني مات عند الحادثة لكانت جثته المحنطة التي اكتُشفت فيما بعد لشاب صغير، ولكنها جثة رجل في التسعين من عمره. وهذا يدل على أن الله تعالى وعد بإنقاذ بدنه بمعنى أن يخلصه للحياة الدنيوية، ولا معنى أبدا لحفظ الجسد وحده. لأن الله تعالى ذكر السبب في حفظ الجسد.. ليكون عبرة، ولنخبر العالم بأن هذا هو الرجل الذي وقف ضد الله تعالى.
وثمة سبب أخر لحفظ الجسد.. فلو أنه غرق لكان من المحتمل أن تُبذل جهود للعثور عليه بعد المد ووقت الجزر، ولم يكن هناك فرصة لذلك لأن هناك في البحر وعلى مقربة من الدلتا أسماك تأكل الجثث بسرعة، كما تحمل الأمواج الجثث إلى أماكن بعيدة. ويبدو أن فرعون عندما أوشك على الغرق ودعا دعاءه.. تمكن حراسه الخصوصيون ومن حوله من الجنود أن ينقذوا حياته.
والدرس الذي يمكن أن نتلقى من هذا الدعاء، بناء على وجهة النظر هذه، أن الدعاء الذي يصدر من الإنسان في لحظته الأخيرة غير مقبولة، وأن وقت التوبة المقبولة عندما يكون لدى المرء فرصة حياة بعدها. أما إذا تاب في وقت وصل إلى نهايته فلا تقبل مثل هذه التوبة. لذلك علينا أن ندعو الله تعالى ألا تكون توبتنا كتوبة فئة المغضوب عليهم التي تتم عندما تسد أبواب قبول التوبة وإنا نتوب في حياتنا، وأن نتذكر دائما عاقبة أولئك التعساء، وندعو الله: إننا الآن مخلصون في الدعاء.. وأخبرتَنا يا رب أن بعض المغضوب عليهم وبعض الضالين كانوا وقت دعائهم مخلصين.. ولا نعرف يا ربنا ما هي نهايتنا.. ولذلك نسجد أمامك ونبتهل بتواضع عميق ألا يكون إخلاصنا مؤقتا أبدا. نرجوك ألا تجعلنا من هؤلاء التعساء الذي قبلت دعاءهم بسبب إخلاصهم المؤقت، ولكنك أمهلتهم ليعودوا إلى ما كانوا فيه. مكِّنا يا رب لتكون توبتنا دائمة، وكلما وقعنا في خطأ فلا تصفح عنا على أننا مجرمون نصفح عنهم صفحا مؤقتا، ولكن اعف عنا واصفح عن خطايانا برحمتك وصفحك كما تعفو عن عبادك المخلصين.
أرجو الله تعالى أننا عندما ننتهي من هذا الموضوع ستتولد في دعواتنا حياة جديدة من صنف الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، ونكون قد أدركنا لون دعاء الذين أنعمت عليهم، وأسلوب دعاء الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، ونكون قد عرفنا: لماذا يقبل دعاء ولا يقبل دعاء أخر.
عسى الله تعالى أن يمكننا من السير في الصراط المستقيم، صراح الذين أنعم عليهم.. وبالرغم من أن الشيطان يجلس هناك متربصا بنا.. ولكننا نسير ونتقدم في خطانا كما وفق الله لعباده الشاكرين، وألا يتمكن الشيطان أبدا من مهاجمة إحساسنا بالشكر.. لأن هذا الشكر هو دفاعنا الوحيد.. ولو حرمنا نعمة الشكر فلا رجاء في خلاصنا.
اللهم مكنا من السير في الصراط المستقيم الذي سار فيه من فازوا بنعمك وبركاتك داعين مبتهلين وفي النهاية حققوا أهدافهم. آمين!