خطبة الجمعة يوم 15/7/1994 – مسجد الفضل: لندن
بعد الافتتاحية وتلاوة الآيات القرآنية الكريمة، قال أمير المؤمنين:
الآيات التي تلوتها آنفًا ذات موضوع واسع شيق، وفيه عبرة. لقد تلوتها من قبل، وألقيت الضوء عليها، وتحدثت عن انحطاط الأمم عندما تتغافل عن أهمية العمل. لقد رسم القرآن صورة لها جانبان: أولاً تخاطب الآية كل أهل الكتاب فتقول “مثل الذين حملوا التوراة” فالتوراة لم تكن خاصة لعلماء اليهود والربانيين منهم، وإنما أنزلت التوراة لكل أمة موسى الذين آمنوا به وصاروا تابعين لشريعته، فهؤلاء جميعًا ممن أنزل الله لهم التوراة.. الذين تبرأوا من العمل بتعاليمها، وتحرروا من حملها.. فمثلهم كمثل الحمار الذي يوضع على ظهره حمل من الكتب، فهو لا يدري ماذا على ظهره. وهذا مثال ينطبق على كل الأمم الدينية التي تعطى نعمة من الله تعالى، ولكنها لا تفهم أهمية هذه النعمة، ولا يستفيدون منها، ولا يحبونها، ولا يفيدون منها الآخرين.. وإنما تصبح حملاً كحمل الحمار الذي لا يقدر قيمة شيء يحمله. ولذلك تنزع الأمة هذا العبء عنها، كما ينزع الحمل عن الحمار عندما يصل إلى البيت أو الحقل. وهذا مفهوم من قوله تعالى “ثم لم يحملوها”
والصورة الثانية تنطبق على علماء اليهود، فإنهم أيضًا كالحمار يحمل أسفارًا. وعندما نرى هذا المشهد فإننا نرى هؤلاء العلماء الذين لم يلقوا بالحمل من فوق ظهورهم، وإنما يحملونه، ويحسبون أنفسهم المسؤولين عنه وأصحابه ومحتكريه، ومن أراد التعلم فليأت إلينا وليتتلمذ على يدنا. هذا يحدث أيام انحطاط الأمم الدينية، وهذا ما يصوره القرآن. كان أحبار اليهود يحسبون أنهم يفهمون التوراة ويحفظونها. ولكنهم لم يكونوا كذلك، ولم يقدروها قدرها، ونبذوا تعاليمها وراء ظهورهم، وألقوا بهذا الحمل كما تفعل الحمير التي لا تعرف قيمة ما تحمله.
والأمر الواقع أن الأمة عندما تكفر نعمة فإنها تؤول إلى طائفة منهم هي الأدنى. هذا ما يحدث وما سوف يحدث. إذا كفرت الأمة نعمة الله ورسالته فإنها تصير إلى يد أراذلهم، فيستغلون جهل القوم ويصبحون رؤساء في الدين. ولكن حالهم في الحقيقة يكون كحال الحمار الذي يحمل أسفارًا. بل إذا كان هناك حميرًا تحمل أسفارًا فهم هؤلاء. والقوم يتخذون من الحمار الذي يحمل أسفارًا قائدًا لهم. وهذه هي العقوبة التي تنزل بقوم يكفرون بنعمة الرسالة التي تأتيهم من الله تعالى، وليس هناك عقوبة دنيوية أشد من ذلك. إنهم رفضوا رسالة السماء، ولم يتعلموا منها، ولم ينتفعوا بها، وإنما ألقوا بها على ظهر الحمير، فجعلهم الله رؤساءهم الدينيين، أولئك الذين كانوا جاهلين لا قيمة لهم في المجتمع، وصاروا لعنة للناس.
هذا هو خلاصة تاريخ الإسلام كله، وتاريخ الدين كله. وهذا هو الموضوع الذي أوضحته لنا الآية. يقول الله تعالى بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ، إن مثل أولئك الأشقياء سيء جدًا. أولئك الأشقياء الذين كذبوا بآيات الله وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، ما علاقة هذه الآية بسابقتها؟ القوم الأولون لم يكذبوا الرسالة. كانوا مؤمنين ولكنهم طرحوا عنهم الحمل. أما هؤلاء فقد حملوه فكيف صاروا مكذبين؟
الواقع أنهم كلما جاءهم نبي كذبوه، لأنهم لا يعرفون صدق الدين وحقيقته، ولا يعرفون قيمة هذه الرسالة. ومثل هؤلاء الناس إذا أتتهم رسالة السماء في صورة نبي جديد.. فإنهم لا يولونها أي تقدير، ويكونون مستعدين لتكذيبه. وعندما جاء سيدنا المصطفى حدث نفس الشيء. وقد أشير في هذه الآيات إلى ما حدث مع المصطفى . كانت معهم أسفار التوراة، وكانوا حميرًا يحملون الأسفار. وقال الله تعالى لهؤلاء اليهود: إنكم اتخذتم من هؤلاء الأحبار الجهال رؤساء لكم، فالهلاك مصيركم المقدور. ولذلك لا تتبينون صدق هذا الرسول بسبب جهلكم، وهذا ما يجعلكم تكفرون هذه النعمة التي أتتكم بها التوراة، ومع ذلك تدعون أنكم أولياء الله، وتدعون أنكم تُجلّون الله تعالى وتفعلون كل شيء لتعظيمه. كل هذه دعاوٍ تَدّعونها. وعلاج ذلك أن تعلنوا: إذا لم نكن أحباء الله ولا نحمل هذا الحمل من أجله فيا رب أهلكنا! ويخبر الله تعالى رسوله أن هؤلاء اليهود لن يفعلوا ذلك لأنهم لن يقبلوا بهذا الشرط على حساب حياتهم.
عندما وجهت دعوة المباهلة للمشايخ المعارضين لنا، رأيتم كيف ارتبكوا، وكيف فزعوا، ولكن مع ذلك لم يقبل أحد منهم هذه الدعوة بشروطها المناسبة، وإنما رفضوها وأبعدوها عن أنفسهم بكل طريق. والمباهلة لها أنواع متعددة كما ترون في هذه الآية، فهي تذكر نوعًا من المباهلة. وإنني أيضًا أدعو كل المشايخ المعارضين لنا إلى هذا النوع من المباهلة. وكل الأحمديين يقسمون معي بالله تعالى ويقولون: إن كل ما نفعله إنما نفعله لوجه الله تعالى، وكل طاقاتنا تتدفق من حب الله تعالى. ليس في قلوبنا أي كراهية أو رغبة في الانتقام، وإنما نحب الإنسانية، نحبها لوجه الله تعالى، وهو جل علاه شاهد أنه لا هدف لنا إلا ذلك.
هذا ما يقسم عليه كل أحمدي، صغير وكبير. واليوم يشارك معي كل أحمدي في هذا القسم، في كل أنحاء العالم. فليأت المشايخ وليدعوا وليحلفوا أن كل ما يفعلونه إنما يفعلونه لوجه الله تعالى، وأن ليس في قلوبهم كراهية أو رغبة في الانتقام، وليس لديهم أهداف سياسية، وإنما فعلهم كله لوجه الله تعالى. وإذا فعلوا ذلك فلينظروا ماذا سوف يحدث لهم. ولكن الله تعالى يقول:
يعلن الله سلفًا أنهم لن يفعلوا ذلك. لن يقبلوا هذه الدعوة لأنهم يعرفون ماذا يضمرون وماذا يرتكبون من أعمال. إنهم يعرفون سيرتهم، ولذلك من المحال أن يتقدموا لهذا الحل. ولكن قل لهم:
أيها الفارون من الموت، تذكروا أنكم لن تستطيعوا الفرار منه. ربما يأتيكم الموت قريبًا بسبب إعلانكم قبول المباهلة، وربما يتأخر لأنكم رفضتموها ولكن لا بد لكم في آخر المطاف أن تحضروا بين يدي الله تعالى ثمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ، تحضرون أمام الله تعالى وهو العارف بالغائب والحاضر فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، وعندئذ يخبركم بكل ما كنتم ترتكبون من أفعال.
هذا الموضوع الذي بينته لكم يذكر خلاصة تاريخ انحطاط الأمم الدينية. هذه النتيجة تنطبق عليهم من كل النواحي. وفي هذه الأيام ترون كل يوم ضجة وشغبًا من المشائخ، حيث يطالبون في باكستان بصدور قوانين توجب عقوبة الإعدام لكل من يرتكب الإهانة ضد الرسول . يقولون إننا لا نتحمل هذه الإهانة! هذه الحركات موجودة في باكستان وبنجلادش، لذلك قررت أن ألقي الضوء على هذا الأمر في سلسلة من الخطب. وقد تحدثت عن ذلك في مناسبات أخرى، في أيام فتنة سلمان رشدي كانت هناك مثل هذه المطالبات، وقد أردت أن أقيم الحجة على القوم، وأكشف كل جوانب هذا الموضوع، وأبينها حتى تتجلى للناس، ولا يقولن أحد أمام الله تعالى: إني لم أفهم ذلك ولم أعرفه.
أول ما أريد أن أخبرهم به هو أن كل ما يحدث له يتعلق بهذه الآية. إن الأمم التي لا تعرف الدين عرفانًا ذاتيًا، وإنما يهملونه ولا يتجهون إليه، وينفصل عامتهم عن الدين وعن المشايخ، يكون هناك بالنسبة للدين طبقتان: طبقة تهمله إلا قليلاً، ولا تتجاوز معرفتهم هذا القليل السطحي، وطبقة يتسمَّون المتخصصين في الدين، ويحسبون أنهم يعرفون الدين كله، وأنهم ممثلوه. وعندما تتحدث هذه الطبقة الثانية عن الدين فإن الطبقة الأولى تستمع لهم وتقبل ما يقولون، وتُدخِل الطبقة الثانية في الدين من أهوائها ومصالحها، ولا تستطيع الأولى أن تميز بين هذا الهوى وبين تعاليم الدين. وأبناء الفئة الأولى يفرون من الثانية، ولكن هؤلاء يطاردونهم ولا يفعلون ذلك ابتغاء وجه الله كما تخبرنا بذلك هذه الآية. فهم يطاردونهم لمصالح دنيوية ومشاعر كراهية وانتقام في قلوبهم، ولا يفعلون ذلك حبًّا في الله تعالى ولا من أجل الدين، فالذين وراء هذه المطالبات، ويدعون أنهم يحافظون على عرض المصطفى ، أريد أن أكشف موقفهم للعالم كله، كي يفهموه، ويستنيروا بعض الشيء، ولا يبقوا في الظلمات التي أوصلهم إليها جهلهم.
ما هي العوامل وراء هذه الحركات؟ هل هي حركات سياسية وراءها مصالح وأهداف سياسية؟ هل يتطلع بعض المشايخ إلى السلطة السياسية، أم هم يريدون حقًا المحافظة على عرض المصطفى ؟ هذا موضوع يستحق الدراسة، وأود أن ألقي بعض الضوء عليه.
الواقع أن هناك حربًا بين السياسيين وبين رجال الدين، ولا علاقة لهذه الحرب بالله تعالى. وهذا ما يحدث في بنجلادش والهند وفي باكستان أيضًا، وهذا ما حدث في القرون الأولى، وموجود في البلاد العربية أيضًا. تجدونه بين رجال الدين في مصر وبين السياسيين، وكذلك ما يجري في الجزائر هو من هذا القبيل، ولا علاقة له بعرض المصطفى . وفي إيران أيضاً استولى رجال الدين على الحكم باسم الدين. وما يجري في السودان لا يتعلق بالدين. وإذا ألقيتم نظرة على العالم الإسلامي وجدتم فيه قتالاً بين المشايخ وبين الساسة. ويحاول المشايخ أن يصلوا إلى الحكم بهذه المسميات الدينية. وهذه أعذار سموها بأسماء كثيرة، أحيانًا باسم المحافظة على عرض المصطفى ، وأحيانا باسم الحرب على الاستعمار، أو الحرب ضد الصهيونية. هذه أعذار ومبررات بأسماء مختلفة، وراءها هدف واحد: هو الغلبة على الحكم باسم الدين. والسياسيون الذين لا يفهمون ذلك يتراجعون أمام المشايخ شيئًا فشيئًا، ولا يعرفون أن بلاء المشايخ هذا إذا اتسع لا يتوقف أبدًا مهما فروا من أمامهم. إذا حققوا لهم شيئًا واستجابوا لإحدى ذرائعهم فإنهم يأتون إليهم بعذر آخر. وكما يحدث في باكستان مثلاً، عندما قال السياسيون: يجب أن نحل المشكلة القاديانية ليسكت المشايخ. وكم مرة حاولوا ذلك ولكن المشايخ لم يسكتوا. في عام 1974 أصدروا قرارهم باعتبار الأحمديين غير مسلمين، فهل سكت المشايخ بعد ذلك؟ لماذا لا تفهمون الحقيقة؟ لماذا لا تدركون أيها السياسيون، أن هؤلاء المشايخ يلجؤون إلى هذه الأعذار ليقبضوا على رقابكم ويضيقوا الخناق عليكم؟ إنهم لا يهمهم المحافظة على عرض المصطفى أكثر من أي أحد. والمدعون الآخرون -أي المشايخ- كاذبون. إن عقائدهم تكذبهم (وسوف أعود إلى هذا الموضوع فيما بعد)، تذكروا جيدًا أولاً أن هذه لعبة سياسية، لا علاقة لها بالدين، وإنما يستخدمون اسم الدين ذريعة، ومن أقوالهم وأعمالهم يتضح أنهم لا يعرفون الدين إطلاقًا، وحالهم كحمار يحمل أسفارًا، لا يدري ما فوق ظهره من حمل. سوف أثبت لكم -فيما يتعلق بالمحافظة على عرض المصطفى – أن موقف المشايخ يخلو من الحقيقة والصدق تمامًا. وسوف أبين لكم ذلك على ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث والتاريخ. إذا كان عرض المصطفى في خطر، فإن الخطر يأتي من هؤلاء المشايخ. وكان في الماضي في خطر منهم أيضا. لو درستم القرآن من هذه الناحية لتحيرتم، لأن تعاليمه في هذا الصدد لا علاقة لها بما يفعله هؤلاء المشايخ. ولكن الساسة –للأسف- يحسبون أنفسهم أذكياء، وأنهم سوف يتغلبون على المشايخ بمسايرتهم، وسوف يتخلصون من إلحاحهم بقبول بعض مطالبهم وأعذارهم الدينية. وفي بعض الأحيان يفلح الساسة في غرضهم هذا لفترة من الوقت، ولكن بعد ذلك يأتي دور المشايخ مرة أخرى، ويتقاضونهم أكثر من ذي قبل. سقفاراً، ولا يدري ما فوق ظهره من حمل. سوف أثبت لكم – فيما يتعلق بالمجحافظة على عرض المصطفى صلى الله عليه وسلم – أن موقف المشائخ يخلو من الحقيقة والصدق تماماً. وسوف أبين لك ذلك على ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث ال
في زمن (بوتو) نظم المشايخ حركة في باكستان، يعلنون فيها أن الأحمديين غير مسلمين، وقبل هذا الحادث كانت أنباء الصحف واضحة، وكذلك كانت بعد الحادث واضحة أيضًا. كان المشايخ يعلنون لبوتو أنهم يجعلونه أميرًا للمؤمنين إذا استجاب لمطالبهم، وسوف يعتبرونه زعيمًا في السياسة والدين أيضًا، ويكون عندهم مجاهداً عظيمًا لم يسبق له مثيل بعد النبي عبر هذا التاريخ. وعندما استصدر بوتو هذا القرار من مجلس الشعب امتدحه الشيوخ وأشادوا به، وقالوا له يا أمير المؤمنين: لقد فعلت عملاً عظيمًا، وكتبوا مقالات طويلة كثيرة. ولم يكد يجف مدادها حتى ثاروا عليه، وسودوا جدران باكستان ضد بوتو ونعتوه بأنه عدو للإسلام. وقد أدت هذه الحركة السياسية الأخيرة إلى مجيء الحكم العسكري. وجاءت حكومة عسكرية سيئة في زمن (ضياء الحق). وحدث نفس الشيء في زمن الدكتاتور ضياء الحق، وطالما امتدحوه، وقالوا: إنك حققت أملاً عظيمًا، واستلمت الراية من حيث توقف بوتو، ولم تبال بما يقول العالم كله، ولم تخف من أمريكا، ولم تخش القوة السياسية للأحمديين في باكستان، ولم تعر اهتمامًا لأي شيء، وتقدمت وحدك وفعلت ما لم يفعله أحد. وخطوت إلى أبعد من بوتو كثيرًا، وأصدرت تلك القوانين ضد الأحمديين. وترون بعد ذلك أنما حدث مع ضياء الحق مثلما حدث مع بوتو، وكيف سبُّوه وغيروا اسمه من أمير المؤمنين إلى أسوأ الألقاب. إن لم يقولوا حمارا وإنما سموه كلبا. وكانوا من قبل يعتبرونه رئيسا وزعيما لهم.
هذا ما فعل المشايخ.. وهم قوم عجيب. إذا سلمتم أعناقكم في أيدي هؤلاء المشايخ – وأنتم تفعلون ذلك، واستمر الحال بكم هكذا.. فسأخبركم ماذا تكون عاقبتكم. لقد فات أوان رجوعكم من هذا الوضع. لا تظنوا أن الأحمدية ترتعب منكم أو تتوسل إليكم. إنما نحن نحذِّركم ونقول إنكم لا تستطيعون الرجوع.. لأنكم لم ترجعوا من قبل، ولقد فات الأوان. لم تعد فيكم تلك القلوب التي تخشى الله تعالى، والتي تتصدى لكل السهام وتفدي الشعب بأرواحها.. فالعقول قد عادت لا تفهم شيئا. هؤلاء المشايخ الذين صاروا كالحمار.. كيف تتوقعون منهم أن يتغيروا؟ كلا، إنهم لن يتغيروا. إننا نقدِّم لكم هذا النصح المعذرة إلى ربنا. نفعل ذلك كي لا يكون لله تعالى علينا سلطان.. إذ أدِّينا الرسالة قمنا بالبلاغ.
والآن لكم أن تقبلوا قولنا أو لا تقبلوا.. ولكننا قد بلّغنا الرسالة بكل وضوح. وإلى آخر نفس فينا. هذه هي المعذرة الثابتة من القرآن ومن السُّنة ومن سيرة الصحابة.. وهي التي نقدمها لكم. لقد قدم الصحابة هذه المعذرة لآخر أنفاسهم لكن يبرِّئوا أنفسهم أمام الله، ويكونوا قد أدوا الواجب. وليس هناك أي غرض آخر لهذه المعذرة.. ولقد حذرناهم مرارا.
كل الذي جرى كان مجرد تغيُّر سياسي في البلاد، وظن بعض الأحمديين أن الوضع قد تبدل، وقالوا الحمد لله.. تمثل هؤلاء الجهال في أنفسهم ما قاله امرؤ القيس:
بصُبحٍ.. وما الإصباح منك بأمثلِ
كان يتمنى لهذا الليل الذي طال أن تنقشع ظلمته بنور الصبح.. فلا وجه للمشابهة بين الصبح والليل. ظن هؤلاء أن التغير السياسي كالصبح يشرق بعد ليل بهيم..
ولكني قلت لهم في كتبي أن كل تغيُّر يرونه صُبحا هو في الحقيقة ظلام آخر وليلة أخرى. إذا كانت الأمة قد وصلت إلى هذه الدرك من الشقاوة.. فكيف يمكن أن نقول لهم استيقظوا وافتحوا عيونكم؟ إن هذه الظلمات هي النتيجة الطبيعة لرؤوسهم المظلمة. أمّا نور المؤمن فإنه يتدفق من قلبه وينير له طريقه.
كذلك تخرج هذه الظلمات من رؤوسهم ويضلون في هذه الظلمات. بينما المؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم وإيمانهم، ويتجلى في وجوهم. أقول إننا لا نتوقع منكم أيها السياسيون في باكستان أن يوجد فيكم من يكون متَّقيا ويتصدى للمشايخ، ويُحيى اسم القائد الأعظم محمد على جناح مؤسس باكستان. لقد رأينا المعارضة في الحكم، ورأينا الحكومة في المعارضة.. ولا نعرف كيف يتغير الجو غدا.. ولكن لن يأتي أي صباح برسالة الضوء لهم. يمكن أن تعرفوا حالهم من إعلان وزير لهم قال: لا يمكن أن نغيِّر قرارنا. ولن نقاضي أي مسيحي بتهمة إهانة الرسول . فخاف المشايخ أن يخرج الأحمديون من وطأة القانون.. فأثاروا ضجة وقالوا: كيف يمكن أن ينصف الحاكم الأحمديين؟ وسوَّدوا صفحات الجرائد. ثم حدث شيء لم يحدث في تاريخ العالم، وسجلوا حدثا فريدا في تاريخ الإنسان.. إذ حاصر المشايخ المحكمة العليا في باكستان، وقالوا: كيف تسمحوا للأحمديين بحقهم في الحرية؟ لن نترككم تفعلوا ذلك، ولا بد من الانتقام منكم. ونتيجة لذلك لم يتمكن قضاة المحكمة العليا من عمل شيء. وربما كان من الممكن أن يعلنوا استقالتهم ويقولوا خذوا مقاعدكم، ولكن لن نخدم مثلا هؤلاء المشايخ على حساب العدل. ولكن الذي جرى هو أن جلس الحكام في بيوتهم. وعندما حاصر المشايخ تلك المحكمة.. جاء وزير الداخلية يتوسل إليهم، وأعلن شيئا عجيبا.. قال: أعدكم بأنه لو أصدرت المحكمة العليا قرارا مبنيا على العدل والإنصاف وبرأوا الأحمديين، وقضوا بأن كل القضايا التي أقيمت ضدهم مزروة باطلة.. إذا قال القضاة ذلك فسوف أتصدى لهم وأخالفهم، ولن أن أقبَل قرارهم. هذا ما قاله وزير الداخلية الباكستانية.. وكل العالم يعرف..
قال هذا الوزير أنه يقدم استقالته إذا حكم القضاة لصالح الأحمديين. فانصرف المشايخ من مخاصرة المحكمة العليا. إذا كان حال العدل في قوم قد وصل إلى هذه الدرجة .. فكيف نتوقع منهم أن يعقلوا بسماع هذا البلاغ منا.
أقول الحق.. سواء انتفعوا من قولي أم لا.. إن الجماعة الإسلامية الأحمدية هي التي تقدم التصور الحقيقي للعدل.. فعلنا ذلك في حرب الخليج وقبله ونفعله اليوم.. إننا نفعل ذلك معذرة إلى الله.. ونؤدي واجبنا من جانبنا. هذا هو الموضوع الذي يتعلق جزءه الثاني بالدين. أمّا في المجال السياسي فأقول إن الله تعالى يبتلي مرارا.. ويعطي فُرصًا..
وليس فرصة واحدة. وإذا كفر الإنسان نعمة الله مرات، ولم يصلح حاله وينتهز هذه الفرص، وإذا تولى الحكم ولم يؤدِّ حق الله.. فلا بد أن ينزل قدر الله في صورة العذاب. الله أعلم إلى متى يمهلكم، ولكني أرى أن أيام المهلة قليلة.. لذلك كنت أريد أن أكمل الحديث في خطبة اليوم.. ولكن الموضوع طويل، وربما لا ينتهي في خطبتين أو ثلاث. وأدعو الله تعالى أن يُمدِّ مهلتهم حتى يفهم بعض العقلاء الشرفاء ويُنقذوا. هناك فئة من الشرفاء يرتكبون بعض الأخطاء بسبب جهلهم.. لذلك يجب أن نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه منهم. أنظروا في زمن نوح .. كيف أهلك الله أعداءه، ونجّى نوحا وبعض المؤمنين.. فكانت نجاته ومَن معه منهم فتحا ونصرا له. إن قدر الله تعالى لا بد أن يظهر، ويرضى الصادقون بقدر الله في كل حال.. وإننا نحاول بالدعاء والنصح أن ينتصح هذا القوم. ولكن إذا لم ينتصحوا فإننا راضون بقدر الله تعالى.. لأنه لا يستطيع أحد أن يغير قدر الله..
إذا أراد الله تعالى أن يعاقب أمة على أخطائها فلا مانع لعقابه، ولا يجول دون قرارة شيء، وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ .. ولن ينقذهم من أخْذ الله تعالى ناصر ولا ولي.
لقد وصل القوم فيما يبدو إلى هذا المصير، ولكن الله أعلم.. فربما أعطاهم مهلة بسبب ابتهالنا كي يستغفروا.. وإن كان حالهم في نظرنا قدر وصل إلى مِثل حال كفار اليهود، وأنهم لن يلِدوا إلا فاجرا كفّارا. إن قدر الله تعالى -كيفما كان- ستكون له حكمته. وأريد أن أشرح لهم الأمر.
الآن أتناول موضوع إهانة الرسول من الناحية الدينية. والسؤال هو: هل هي إهانة للرسول أم هي مسألة إهانة الله تعالى والملائكة والرسل؟ والسؤال الآخر هو؟ هل يهمنا فقط المحافظة على عِرض المصطفى أم علينا أن نحافظ أيضا على عرض الأنبياء الآخرين؟ هل نحافظ على عرض الأنبياء الذين تقبلهم بعض الأمم الأخرى وتراهم صادقين.. أم لنا الحق في أن نسُبهم ونهينهم كما نشاء؟ هل يطالبنا القرآن الكريم بالمحافظة على كرامة الأنبياء الذين نؤمن بصدقهم.. ويبيح لنا إهانة غيرهم وسبهم؟ إذا حدث ذلك فسوف يشيع الفساد في العالم كله باسم الدين. كثير من الناس يُكذِّبون معظم الأنبياء. وأشد الجهل من هؤلاء المشايخ أنهم لا يدركون ميزة الإسلام في أنه وحده هو الذي يحافظ على عرض الأنبياء جميعا ويصدِّقهم. هل هناك دين آخر قال بذلك؟ إن هؤلاء المشايخ جهال لدرجة أنهم كتبوا في الصحف بأن القرآن يحافظ على عِرض المصطفى .. ولا يذكرون الأنبياء الآخرين.. مع أن من سمات الإسلام أن يحافظ على عرض جميع الأنبياء، ويكره أن يهينهم أحد. أما الأديان الأخرى فهي تكذب الأنبياء في غيرها من الأمم. أعني أن أتباع هذه الأديان لا يعتقدون بصدق الأنبياء الآخرين في الديانات الأخرى. فإذا كان القرآن يأمركم بأن تصْدِروا قوانين للمحافظة على أعراض الأنبياء الآخرين.. أقول إن حدث ذلك فإن أهل الديانات الأخرى جميعا سوف يحاربون الإسلام، وسيستخدمون لغة بذيئة في حق المصطفى ، ولن تستطيعوا الاحتجاج على ذلك.. لأنكم تقولون بأن هذا ما يأمر به القرآن.
الحق أنه ينبغي أن يكون ابتداء هذا الأمر من عند الذات الإلهية. لماذا لا يفكرون في المحافظة على عرض الله تعالى من الإهانة.. وينزلون العقوبة بمن يرتكب هذا الجرم؟ يجب أن نعرف أن كل عظة هي من الله جل وعلا.. وأن كل نبي نال العزة من الله تعالى، فلو ارتكب أحد جريمة الإهانة في حق الله تعالى فقد أهان الأنبياء جميعا، وأهان المؤمنين جميعا. يجب أن نفكر في هذا. إن العوام لا يعرفون هذه الأمور عموما.. لذلك أقول لهم: اسألوا مشايخكم.. هل لديكم شيء عن موضوع حِفظ عِرض الله جل وعلا؟ وهل عندكم عقوبة على من يعتدي على عرض الله تعالى؟ لماذا لا يثيرون هذا السؤال؟ لم يسأل أي عضو من مجلس الشعب هذا السؤال للشيوخ؟ إذا سألتم الشيخ فإنه لا يجيب، ولكني أجيبكم بلُغة القرآن الكريم حيث يقول:
لقد رد الله بنفسه سبحانه على كل سؤال أثرته. يقول جل وعلا: لا تجرحوا مشاعر الآخرين ولا تسبوا آلهتهم ومقدساتهم.. حتى وإن كانت باطلة ومزورة. يقول الله تعالى للمؤمنين: غير مسموح لكم أن تهينوا وتسبوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله الحق. هذا هو التعليم الإلهي، ولكن انظروا إلى تعليم المشايخ.. ذلك التعليم المشْيَخي الكريه! يقول الله للمسلمين أن يمتنعوا عن سب الآلهة الكاذبة، وألا يتدخلوا في مسألة هل هي آلهة باطلة أم غير ذلك.. بل يأمر ألا تُسب هذه الإلهة الباطلة.. لأن النتيجة المحتومة أنهم يحِق لهم -أو أنهم سوف يسبون الله الإله الحق- جهلا منهم دون علم. فالله تعالى يمنع المسلمين -لم يمنع الأغيار، ولم يفرض عليهم أي عقوبة- وإنما منع المسلمين من أن يكون فعلهم ذريعة لغير المسلمين ويضع في يدهم حق السب لله جل وعلا. فسبُّكم للآلهة الباطلة لا يفيدكم شيئا لأنها لا وجود لها.. ولكنكم بهذا السباب تعطونهم الفرصة للوقوع في إهانة الله جل وعلا.. وتعرضون ذاته العلية إلى سهام السباب.
انظروا إلى العامة فإنهم لا يدركون ذلك.. ولا يسألون الجهال من المشايخ؛ ولكن يثور المشايخ، ويثيرون معهم العامة بدون علم. يجب أن تعرفوا كل شيء باسم الله تعالى ومن كتابه القرآن الكريم. وهذا هو تعليم القرآن في هذا الموضوع. والسؤال الآن هو أن الآلهة الباطلة كاذبة.. فلماذا يمنعنا الله تعالى عن سبِّها؟ لقد ذكر الله السبب فقال:
ألا تفهمون؟ إن كل لشخص يرى عمله صالحا. فهم مع أنهم يعبدون آلهة كاذبة إلا أنهم يحبونها، وكل إنسان يحسب عمله جميلا حسنا.. وإذا سببتم هذه الآلهة فقد أشعلتم بذلك حربا دينية في كل العالم، ونشرتم الفتنة في كل مكان.
ألا فاعملوا أنكم جميعا راجعون إلى الله. إن الله تعالى هو الذي سوف يخبرهم بحقيقة عملهم إن كان صالحا أو طالحا. أرأيتم كيف أن الله تعالى لا يعاقبهم في الدنيا؟ وهذا ما يزعج المشايخ.. يقولون: نحن نقوم بهذا العقاب!! هذا يجوز إذا لم يكن الله تعالى موجودا. وهنا يقول : إنني موجود.. وسيرجعون إلي وسأخبرهم بكل عمل قاموا به. فلا مجال إذن للمشايخ أن ينزعجوا ويأخذوا في أيديهم بقانون من صنعهم. إن آيات القرآن هذه لا تسمح أبدا لأحد أن يضع القانون في يده ويضرب أعناق الناس.
انتهى الوقت المحدد.. ويشكو المستمعون لو فاتهم شيء.. لذك سوف أتوقف الآن، وقد يستغرق الموضوع عدة خطب، ولكني سوف أبيِّنه أمام القوم ثم نتركهم وشأنهم مع الله تعالى.. أعاننا الله على ذلك. آمين!