حلم (النظام العالمي الجديد).. حلم السلام أم الموت الزؤام؟!
لقد ألقى حضرة إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية سلسلة طويلة من الخطب أيام حرب الخليج وبعدها. وقد نشرنا معظمها، وسوف نقوم بنشرها إلى آخرها، إن شاء الله. وها نحن نقدم إلى السادة القراء الكرام ثلاث خطب أخرى وقد ألقيت بتواريخ 1 و8 و15 فبراير الماضي بمسجد “الفضل” لندن. (التقوى)
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)
تلوث تاريخ الإسلام بكثير من الخيانات المروعة. وباستثناء العهد النبوي، الذي يشمل زمن سيدنا محمد ، وزمن خلفائه الراشدين وما بعده بقليل، لو أنكم درستم مراحل التاريخ الإسلامي لوجدتم أن محاولات الإضرار بالإسلام كانت تتطلب دائمًا الاستعانة ببعض الخونة من بين المسلمين. ولولا ذلك ما أمكن لهم قط إلحاق أي أذى بالملة الإسلامية. ولو استعرضتم هذا التاريخ تبين لكم أن الحرب الجارية واحدة من تلك الخيانات، وهي جديرة بأن تسجل بأحلك الحروف. ذلك لأنه لم يحدث حتى اليوم أبدًا أن اشترك أو ساعد مثل هذا العدد من الأمم الإسلامية في القيام بهذه المؤامرة الخطيرة ضد مصالح المسلمين. اليوم يمكن للمعلقين قول ما يشاءون عن هذه الحرب لخداع البلاد الإسلامية التي شاركت معهم، ولكن الدارسين والباحثين والمؤرخين من عالم الغرب سوف يقولون ما أقول اليوم.. من أن تلك البلاد الإسلامية قامت بأخطر خيانة لمصالح الإسلام، وأنها بتضافرها مع القوى المناهضة للإسلام دمروا قوة إسلامية صاعدة، وسعوا للقضاء عليها بأسلوب ظالم. ولا يسعنا اليوم سوى القول بأنهم حاولوا ذلك.. والله تعالى أعلم بما ستكون عليه العاقبة غدًا.
ولكن، لا سمح الله، لو أنهم نجحوا في سعيهم هذا، فسوف يسجل المؤرخون غدًا أن هذه البلاد الإسلامية في سعيها ذلك تحالفت تمامًا مع أعداء الإسلام لهدم دولة إسلامية كبيرة، ولم يراعوا أقل قدر من العدل أو الرحمة، ولم يبدوا أقل حرص على هذه الأمة.
كنت توقعت مثل هذا الموقف من بعض البلاد.. منها دولة السعودية أولاً، ومصر ثانيًا. فعندما سعت مصر لاسترداد أرضها المحتلة.. كبلتها اتفاقياتها مع إسرائيل والضغوط العالمية، وتعدها القوى الغربية من الدول التي هي من صنعها تمامًا. أما السعودية فخيانتها لعالم الإسلام تاريخية. إنها دولة بدأت بالخيانة، وولدت ثمرة للخيانة، وظلت دائمًا تمثل مصالح بريطانيا ثم المصالح الأمريكية. ونظرًا لسيطرتها على البلدتين المقدستين عند المسلمين.. دأبت هذه الدولة على التظاهر تحت عباءة دينية كاذبة. ووقعت كثيرًا من بلاد الإسلام تحت تأثير هذه الدولة التعيسة، وظلت على محبتها والتودد لها.. بحسبانها تمثل مكة والمدينة، أو بعبارة أخرى تمثل محمدًا رسول الله.
وبهذا الأمر حاولت مرارًا أن أبيّن لممثلي بعض البلاد الإسلامية أنهم مخدوعون خدعة كبرى. فإني عارف بتاريخ السعودية جيدًا، وعارف بتاريخ المذهب الوهابي تمامًا. تحسبون الأصوات المنبعثة من مآذن مكة والمدينة من الله تعالى ورسوله ، ولكنها في الحقيقة مكبرات صوت مركبة على تلك المآذن.. وإسرائيل تؤذن خلف الميكروفون المركب في أمريكا. هذا شيء ظاهر بيّن، لا يتطلب تفكيرًا طويلاً أو عريضًا. فكل من له أدنى معرفة بالموقف الراهن يعلم بالجزم الحقيقة الواضحة بأن السعودية هي تحت النفوذ الإسرائيلي؛ وفي الواقع العملي قبلت أمريكا النفوذ الإسرائيلي في سياستها.
هذا موقف ظاهر، ومع كونه عيانًا بيانًا إلا أن البلاد الإسلامية ما تزال عمياء. ومن بين أسباب هذا العمى أنهم جعلوا الجماعة الإسلامية الأحمدية هدفًا لدعاية باطلة شنيعة، يزعمون فيها أن الأحمدية عملية لبريطانيا. ولما سمع ممثلو تلك البلاد الإسلامية هذه الفرية الخبيثة عن الأحمدية.. ظنوا أننا نلقي مشاكلنا على السعودية ثأرًا لأنفسنا منها.. وإلا فلا أساس لما نصفهم به. أما الآن فقد انكشف الأمر أمام الدنيا وتبين أن المشائخ الذين كانوا يقبضون الثمن من السعودية، والذين يتعيشون على ريالات السعودية، والذين كانوا يرمون الأحمدية أحيانًا بالعملة لليهود، وأحيانًا أخرى للإنجليز.. هؤلاء المشائخ أنفسهم يصرخون اليوم بأعلى صوت أن السعوديين جميعًا، ورأس حكومتهم، وشيوخ الوهابية كافة.. هم عملاء اليهود وعملاء الغرب. ويعلنون رأيهم هذا بلغة بذيئة لا يليق بنا ترديدها، ولكنها لغة تستعمل في أزقة باكستان، وسبق لكم سماعها منهم. هذه الأصوات ذاتها ترتفع في بريطانيا ضد السعودية؛ وتأتينا الأخبار بمثل ذلك من بلاد أخرى. اليوم لقد عرف عالم الإسلام حقيقة أمر السعودية. وإذن فلا مجال لمشاعر الدهشة من جراء خيانتهم، فلقد خانوا من قبل، وكنا على يقين من أنهم ما برحوا يفعلون ذلك.
ولكن المؤسف أن بعض الدول في الوقت الراهن قاموا بخيانة مصالح الإسلام بما تجاوز كل توقعاتنا. وهنا أيضًا.. وبالإضافة إلى الضغوط الأمريكية، تشتم رائحة الضغط والنفوذ السعودي إلى حد كبير. هناك قدر من الإكراه الناجم عن الفقر دفع بعض الدول إلى بيع دينها.. دول لم يساورنا أدنى احتمال من ناحيتها.. مثل باكستان وتركيا وسوريا. لم نتوقع ذلك من باكستان.. لأنه مهما كان اعتزاز باكستان بأمريكا.. إلا أنني باكستاني وأعرف مزاج المواطنين الباكستانيين من عامة الناس ورجال الجيش، فإنهم لا يتحملون أبدًا.. وبأي صورة كانت.. أن يضعوا أيديهم مع قوى الغرب وأن يشاركوا معهم لمهاجمة بلد مسلم، أو يلتمسوا عذرًا للهجوم. لا يقبل المزاج الباكستاني هذا بأي ثمن. ورغم ذلك آزرت حكومة باكستان الحالية هذه الخطوة المخيفة للغاية ضد العراق باسم التحالف. فأصابتني دهشة شديدة لما حدث وكيف حدث. ولكن بحمد الله تعالى قام الجنرال أسلم بيج رئيس الجيش الباكستاني قبل بضعة أيام بإزالة سوء الفهم حول مساندة الجيش لهذا القرار، فأعلن براءته بنفسه علنًا من هذا القرار قائلاً: إننا بالتأكيد لا نقبل هذا القرار.. فهو قرار خاطئ.. وضد مصلحة الإسلام.
أما تركيا، فهي أمة تأسست سمعتها الطيبة في العالم لقرون طويلة بوصفها حامية مصالح المسلمين. هكذا عرفتها أوروبا، وكانوا يرتعدون لذكر الإمبراطورية العثمانية في تركيا. كان اسم تركيا يجعلهم يفكرون بأن فرصة اختراق العالم الإسلامي مستحيلة تمامًا ما دامت هذه الإمبراطورية قائمة. وتلويث هذا التاريخ الطويل العريض.. بقرار واحد من الحكومة التركية.. وتسويد صورتها بهذا القبح يعد انتحارًا خطيرًا لا نجد له مثيلاً في التاريخ. لقد أصاب هذا التلوث الأمة التركية، فلا يغسله إلا ثورة عظيمة تطهره بدمائهم.
وهناك أسباب من جهة سوريا لم أتوقع لأجلها أن تنضم إليهم. فهضبة الجولان لا تزال أسيرة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وطال النزاع والشجار مع إسرائيل. ومنذ قيام إسرائيل وتبذل سوريا تضحيات عظيمة في مناهضتها، وفي سبيل ذلك فقدوا جزءًا من أرضهم، ومع ذلك لم يتغير صمودهم.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه مهما كانت الصورة التي رسمها الغرب لصدام حسين، فلقد رسموا لحافظ الأسد صورة أقبح وأسوأ، ولا تزال نفس دول الغرب تفعل ذلك. فكيف يفكر الرئيس حافظ الأسد أن بوسعه معانقتهم سرًا؟ ولكني شاهدت على الشاشة الرئيس الأسد يجلس مع الرئيس بوش، ويتحدثان سويًا بطريقة ودية، ورأيت سياسته تتبدل تبديلاً كليًّا بما يدعو للذهول! لا يستطيع المرء فهم ذلك ويتحير بشأن ما حدث!
لم أتوقع ذلك من إيران، ولا أتوقعه اليوم، ولن أتوقعه أبدًا؛ ولقد صرحت من قبل مرارًا بأنه برغم الفوارق في المعتقدات الدينية، إلا أن الإيرانيين أمة لا يمكنها اللجوء إلى النفاق في أمور الإسلام. إن بهم حبًا صادقًا للإسلام. ربما يكون بمفهومهم الإسلامي شيء من الخطأ.. قد تكون في عقائد الشيعة ما لا نوافقهم عليه.. قد يكون بفكرهم الإسلامي المتعلق بالسياسة أخطاء كثيرة، وفي رأيي أن بها أخطاء، ولكن ليس من المعقول أن تمارس الأمة الإيرانية خيانة متعمدة ضد الإسلام. فتاريخهم مضيء بخدماتهم العظيمة للإسلام. والأحرى أن ما فعلته إيران الكبرى التي جزء منها تحت الحكم السوفييتي اليوم، يتعذر تقديره مقارنة بما فعلته بلاد الإسلام الأخرى. فلا يسعنا القول بأن خدمات إيران للإسلام تخلفت بأي حال عن غيرها. والحمد لله.. حققت إيران توقعاتنا. هناك نزاع عميق بين حكومة إيران وصدام حسين.. ولقد اشتبكوا لثماني سنوات في حرب طويلة رهيبة سالت فيها الدماء، ولهم منه شكايات وآلام عميقة. ولو هبت إيران ضد العراق لتفهم العالم موقفها ذلك بعد حرب مريعة، ولو حاولت إيران استغلال الموقف فلا لوم عليها. فهذه هي مشاعر البشر التي تثور لأمور معينة فيصعب السيطرة عليها. وفي مثل هذا الوقت لا يستطيع المرء أن يفكر بعمق فيما هي متطلبات الإسلام، وما هي متطلبات أمة المسلمين.. إنه ينساب مع عاطفته. وبالنظر لهذه الأمور قد يحكم المؤرخ بأن ذلك مما يغتفر.
ومع أن إيران لم تقرر الاشتراك معهم، وظلت على الحياد التام تجاه هذه المحنة.. فإنها بذلك ذكرت العراق بخطئها، وذكرت قوى الغرب بخطئهم.. وهكذا بقيت ثابتة على قواعد العدل. ومن هذه الناحية.. سيذكر اسم إيران في تاريخ الإسلام بالتكريم إن شاء الله.
هذا تعليق وجيز بشأن البقاء على الإخلاص للإسلام أو عدم الإخلاص. وعندما أقول الإخلاص أو عدمه.. فإنما أعني بذلك المفهوم السياسي، أي البقاء على الإخلاص لجموع المسلمين أو لا. وبهذا الصدد أود أن أذكر شيئًا آخر.
هناك بلدان في جماعة الإسلام لهما مقام ممتاز بالنسبة للدين أيضًا. فالسعودية.. بوصفها حامية الأماكن الإسلامية المقدسة، وراعية الحرمين.. تتبوأ مركزًا عظيمًا في عالم الإسلام لا ينكر. ومن حسن طالعها أنها أعطيت هذا الشرف العظيم، ويعهد إليها بمسؤولية هذه الأمانة. وعلى الجانب الآخر تأتي مصر.. وتعتبر الحفيظة على المعارف الإسلامية، لأن الخدمات التي قدمها الجامع الأزهر للعلوم الإسلامية لا مثيل لها في أي بلد إسلامي. وفي الحقبة الإسلامية الأخيرة.. لقد نال الجامع الأزهر في مجال خدمة علوم الإسلام مكانة لا ينافسه فيها أي بلد من بلاد العالم. ومن هذه الزاوية لا يمكن أن يطوف بالخيال أبدًا أن يتحول هذان القطران إلى خيانة الملة الإسلامية. وتذكرني رؤية هذا الحال شطرًا من الشعر سمعته في صباي، كان محببًا إلي في ذلك الوقت، ولكنه فقد تأثيره فيما بعد:
شرعت تهتز لتهوي على النار وتزيدها لهبًا”.
فالبلدان اللذان طالما اعتمد عليهما عالم الإسلام.. من جهة العلم، ومن جهة الحرمة، هيجا النار التي أشعلها العدو في بيت العالم الإسلامي!
هي إذن ليست بجريمة يسع التاريخ غفرانها. أما عن قضاء الله تعالى.. وهل سيقضي به اليوم أو غدًا، وهل سيؤاخذهم بذنوبهم في هذه الدنيا أو يؤخرهم لعقاب يوم الدين، فذلك له، فهو مالك يوم الدين، وهو أحكم الحاكمين، ولكن بالنسبة لفكر البشر، وفهم الإنسان.. المتعلق بأمور الدنيا، فها هي بعض العواقب السيئة بدأ ظهورها، وهناك غيرها لن ينقطع ظهورها لزمن طويل، ولن يقتصر أثرها على هذا الجزء من العالم.. بل سوف يمتد وينتشر في أرجاء الدنيا.
أود أن أعرض أمامكم الوجه الثاني لهذه الحرب.. فما هو الغرض منها؟ لماذا القتال وما طبيعته؟ وما دُمنا لا نفهم ذلك تمامًا فلن نستطيع معرفة الموقف الصحيح لعالم الإسلام، أو ما ينبغي أن يكون عليه موقف العالم، وما هي الخطوات التصحيحية التي يجب اتخاذها من جانب الأمم المتحدة؟ إذا لم نشخص المرض تشخيصًا صحيحًا فلا يمكن وصف العلاج الملائم له. وسوف أحاول، بإذن الله تعالى، فيما تبقى من هذه الخطبة أن أقدم لكم تحليلاً موجزًا لأسباب هذه الحرب.. أسبابها الحقيقية وأهدافها؛ وعلى ضوئها سوف أقدم لكم في الخطبة القادمة، إن شاء الله، ما ينبغي على الأمم المتحدة، وأمم العالم الأخرى، وعالم الإسلام أيضًا لحل تلك المشاكل من وجهة النظر الأحمدية. وإذا أرادوا التفكير الجاد لتوطيد السلام العالمي حقًا.. فكيف يجب أن يتجه فكرهم.
في الوقت الحاضر نسمع صوتًا من الغرب.. ويرفعه المستر بوش بحماس وقوة أشد.. يقول: هذه الحرب ليست حربًا دينية، وليست حرب مصالح من أي نوع، وليست حرب بترول، وليست حرب إسلام أو يهودية أو نصرانية. فأي حرب هي إذن؟ يقول: هي حرب العدل والظلم، حرب الحق والباطل، حرب الخير والشر، حرب العالم مجتمعًا ضد طاغية وحشي واحد، صدام. هذه هي وجهة نظر أمريكا تذاع على العالم في أجهزة الإعلام من راديو وتلفاز وصحف. ولقد قبل بها العالم الغربي، ويحسبون أنها حرب الحق.
ولكن هناك كثير من المراقبين، ذوي النظر العميق.. يرفضون هذا الرأي، أتحدث عن المراقبين الغربيين، من بينهم سياسيون على قدر كبير من الخبرة، ومنهم علماء ومحررو أخبار أذكياء، ترتفع أصوات من كل طبقة منهم، بأن كل تلك الادعاءات كذب محض ودعاية مزورة. لقد خدعنا قادتنا، ولا يزالون يخدعوننا جهارًا نهارًا. إنها حرب تختلف عما يقولون. هناك إدوارد هيث، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وهو من بين الشخصيات العظيمة المعدودة في بريطانيا بعمق نظره وذكائه وحكمته السياسية وخبرته الواسعة.. لم يزل هذا الرجل على الموقف القائل: زعماؤنا السياسيون الحاليون يخدعوننا كثيرًا. وما يعلنون من أهداف صالحة ليس حقًا أبدًا. هذه حرب إثرة شديدة، حرب ظالمة حمقاء ستكون لها عواقب رهيبة وسيئة، وسيكون الموقف بعدها أشد خطرًا مما قبل.
وصوت ثان.. يقول بإيجاز: إنها حرب بترول. حرب مصالح أنانية، حرب الدفاع عن إسرائيل، وحرب تحقيق أهداف إسرائيل.
ويقول البعض: إنها حرب بين الرئيس بوش والرئيس صدام، وأن الأول جعلها مسألة تتعلق بأنانيته، فلم يعد تفكيره وعاطفته تحت سيطرته، وعندما يتحدث يفلت زمامه.. فيستخدم عبارات خاطئة كالأطفال.. لا يبدو قائلها كزعيم أمة كبير. ولذلك يرى هؤلاء المراقبون أن الحرب الجارية هي في الواقع حرب الرئيس بوش.. الذي يمقت الرئيس صدام مقتًا شديدًا، وأن الطريقة التي رفض بها الرئيس صدام السيطرة الأمريكية، وأبى أن يرهب أمريكا.. أثارت غضب بوش وأخرجته عن طوره.
دعونا الآن ننظر ما هو الموقف الصحيح. الجماعة الإسلامية الأحمدية لا تبني رأيها ولا تتخذ قرارها على أساس من العواطف، فنحن لا نهتم لأنفسنا فقط وإنما نبالي بالعالم كله، وبالرغم من ضعفنا وعجزنا وقلة عددنا.. يؤمن كل واحد منا يقينًا بأن الله تعالى قد آتانا قيادة العالم؛ أعني جعلنا الله “قائد” هذا العالم في مجال الخدمة. ومعنى “القائد” هو كما بينه المصطفى في قوله: “سيد القوم خادمهم”. فقائد الأمة خادمها؛ أو بعبارة أخرى: القائد والخادم لفظان يدلان على نفس المعنى. إذا كان المرء لا يعرف كيف يخدم فلا حق له في القيادة. وإذا أعطي المرء القيادة فالخدمة واجبة عليه. بهذا المعنى أتحدث عن كوننا “قادة” وليس بأي مفهوم آخر. وإذن واجبنا خدمة بني البشر، وعلينا تعليمهم كيف يميزون بين الخطأ والصواب، ونحاول أن نوضح لهم أين مصالح الناس، وأي الأمور ينفعهم وأيها يضرهم.
ومن المنطلق أود توضيح هذا الموضوع تمامًا. ثم إذا فهمه الأحمديون وجب عليهم رفع الصوت قدر استطاعتهم، والسعي لتغيير آراء مجتمعهم.
بدأت هذه المشكلة في واقع الأمر قرب نهاية القرن الماضي. فالحرب التي نشهدها اليوم لها جذور عميقة. في سنة 1897م تأسس مجلس لخدمة الأهداف الصهيونية، ذو صلة بطائفة من اليهود الذين يعتقدون في مملكة داود، ويؤمنون بأنها لا بد وأن تتوطد في العالم في يوم من الأيام، ويسمون الصهاينة أو الإسرائيليين. هكذا تأسس المجلس الصهيوني العالمي، وأذاعوا إعلانًا نترك تفاصيله الآن. وحوالي نفس السنة كشف النقاب عن وثيقة يهودية تسمى “بروتوكول رؤساء صهيون”. وكلمة صهيون ترمز للحركة الصهيونية، وهي اسم لجبل يقولون إن سيدنا “داود” أعطي الوعد عنده. على أي حال، كلمة صهيون عندهم تعني إسرائيل. وضع رؤساء إسرائيل الأعلون الذين يؤمنون بالصهيونية خطة: كيف يؤسسون سيادتهم على العالم، وكيف يكون خط سير عملهم، وما هي المبادئ التي يعملون عليها، وما هي أهدافهم، وأي الطرق ينتهجون.. وما إلى ذلك. ضمنوا كل ذلك في نشرة صغيرة، لا أذكر تاريخها، ولكني متأكد من أنه في نهاية القرن التاسع عشر، حول عام 1897 تقريبًا. وقع هذا المستند في يد سيدة روسية، كانت تعمل سكرتيرة لرؤساء صهيون في ألمانيا. وكانت صديقة لأحدهم، وذات مرة كانت تنتظره في بيته. ولما تأخر حضوره، التقطت شيئًا تقرأه من فوق المنضدة لتقطع به الوقت، فكان وثيقة “بروتوكول رؤساء صهيون”. فزعت المرأة لقراءة هذه الوثيقة التي احتوت على مؤامرة رهيبة لغزو العالم. فأسرعت بالفرار ومعها الوثيقة، وذهبت إلى روسيا حيث نشرت الترجمة الروسية للوثيقة لأول مرة سنة 1905.
وفي هذه الفترة أعدوا خطتهم السرية من جهة، ومن جهة ثانية أعلنوا خطة أخرى. وليس هناك جدال حول هذه الخطة الثانية المعلنة، فهم يقولون: نعم هذه كانت خطتنا، وكشفنا عنها، وهي ترمي إلى تنظيم جهود اليهود لزيادة اتصالاتهم بالحكومات وتنمية تأثيرهم للحصول على وطن منفصل لهم.
أما الخطة السرية فقد ذكروا فيها شيئًا عن الأمم المتحدة قبل أن تكون هناك فكرة لإنشاء أمم متحدة أو عصبة أمم. ذكرت الوثيقة موضوع الأمم المتحدة، وأن اليهود بعد نجاحهم في إنشائها سوف يسيطرون عليها، ومن خلال هذه السيطرة سوف يوطدون سيطرتهم على العالم كله. هكذا كانت خطتهم: السيطرة على الأمم المتحدة، ومن ثم السيطرة على العالم.
كان من الطبيعي أن يستغرق تنفيذ هذه الخطة سنوات طويلة.. ولكنهم ما برحوا يجتازون المراحل واحدة بعد الأخرى.. تلك المراحل التي وردت في الوثيقة والتي قالوا: إنهم بعدها سوف يصلون بالخطة إلى كمالها. وعندما أعلن اليهود براءتهم من هذه الوثيقة، التي تكشف خطتهم السرية، قالوا: إنها ليست خطتنا، ولكنهم نسبوها إلينا.. تبارى أهل الدراسة والسياسة والثقافة في العالم في إبداء الآراء حتى رفعت القضايا أمام كثير من المحاكم. وقام أحد البروتستانت في بريطانيا ببحوث مستفيضة حول هذا الموضوع، ونشر كتابًا تحت اسم “الماء ينساب نحو الشرق” (Water Flowing Eastward)، يناقش فيه كل تلك الجوانب. لقد أتيح لي قراءة الكتاب منذ عشرين عامًا، واستعاره مني أحد الأصدقاء، ولا أعرف أين ذهب بعد ذلك. وحاولت العثور على الكتاب في بريطانيا، ولكنه اختفى من الأسواق. وسواء صح القول بأن اليهود سارعوا بسحبه من السوق أم لا.. فهذا ما حدث بالفعل، وهذه تجربتنا. ولا أستطيع القطع بنفس كلمات الكتاب، ولكن ما أقوله عن هذا الموضوع صحيح في أساسه. كتب المؤلف أنه عندما سئل أحد السياسيين الغربيين: هل هذه الوثيقة المنسوبة إلى اليهود، في رأيك، من عمل رؤساء صهيون حقًا، وهل هي خطتهم أم مؤامرة عليهم لتشويه سمعتهم؟ أجاب: في ظني أن هناك احتمالين: إما أن تكون هذه خطة القوم الذين نسبت إليهم، لأن كل ما حدث بعد ذلك حدث بحسب الخطة تمامًا. فكيف يمكن للأحداث أن تقع هكذا تلقائيًا، بنفس الترتيب، وبنفس التفاصيل؟ أو أن هذا الكتاب من وضع أحد الأنبياء الذي يملك قدرة عظيمة على التنبؤ بحسب ما يتلقاه من علم إلهي. ومعنى قوله هذا أن هناك احتمالين: إما أن تكون الوثيقة من إعداد كذابين كبار.. وضعوا خطتهم وينكرونها الآن.. أو من عمل رجل صالح صادق أطلعه الله تعالى على الأحداث التي سوف تقع مستقبلاً!
والفترة التي دخلناها اليوم هي فترة المرحلة النهائية. وعندما جاء السلام بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وكان جدار برلين يتساقط. تذكرت هذا المخطط. ومع أن الكتاب لم يكن بيدي كي ينعش ذاكرتي.. لكني أعرف بأن ما ورد في نهاية الكتاب يقول: “وفي الأخير، سوف نقسم العالم أولا، ثم نوحده. ويكون هذا بعد أن تكون سيطرتنا قد توطدت تمامًا على الأمم المتحدة”.
منذ ذلك الوقت وقلبي يخفق بشدة أن قد حان اليوم المريع.. يوم تحقيق خطتهم. ولكن بالرغم من هذا الخوف الذي هو أمر طبيعي بعد ظهور كل تلك العلامات، فإني أيضا على إيمان وثيق من أن خطتهم سوف تبوء في النهاية بالفشل. وينبني إعلاني هذا على إلهام للإمام المهدي والمسيح الموعود .. تلقاه عام 1901: “إن الماسونية لن يسلَّطوا كي يهلكوه” وفي 1905م انكشفت هذه الخطة أمام العالم بترجمتها الروسية.. والتي تتلخص في أن الماسونية سوف تسود. ففي الوقت الذي لم يكن في ذهن أحد فكرة عن الماسونية.. تلقى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ذلك الإلهام. كانت قلة قليلة من الناس وخاصة في الهند يعرفون شيئا عن الماسونية. ثم في قرية مثل قاديان بالهند يتلقى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود مثل هذا الإلهام. إن هذا لشيء مدهش حقا! لذلك فإن إيماني متين بأن خطتهم مقدر لها الفشل والخيبة في نهاية الأمر، ولكنها قبل هزيمتها سوف تنفث سمومًا خطيرة جدًّا في العالم، وسوف تثور بسببها براكين عديدة.. تقع على أثرها كثير من الزلازل، ويحدث دمار كثير، وتعاني الأمم بلاء شديدًا، وسوف نمّر بأشد الأيام خطورة، لأن مثل هذه الخطة لا يمكن أن تنهزم هكذا تلقائيا وفجأة. بعد جهد كبير سوف تبدي هذه الخطة كل خصائصها الخفية، ولا مناص من أن ينتصر قضاء الله تعالى في إحباطها. ولكن ينبغي علينا أن نوطن أنفسنا ذهنيا على أن الجنس البشري سوف يمر في محن شديدة، وسوف يواجه الإنسان مصاعب عظيمة. ولا مناص أيضا من أن يشارك المسلمون الأحمديون في ذلك إلى حد ما. فليس من المعقول في أوقات الشدة القومية والابتلاءات أن تبقى جماعة صالحة بمنأى عنها تماما.. بل إنها لا بد وأن تعاني إلى حد ما. ولكن بعد أن ينقضي كل ذلك.. سوف تأتي في النهاية أيام ازدهار الإسلام، والنصر والغلبة للأحمدية. هذا هو القدر النهائي المحتوم، وهذا في الواقع هو “النظام العالمي الجديد”. هو ليس بالنظام العالمي الذي يجول بذهن الرئيس بوش، والذي يريد وضعه أمام العالم كنظام جديد.
أترك هذا الموضوع إلى هذا الحد… لأعود إلى ما كنت أقول من أن أساس الموقف الراهن وُضع من حيث الظاهر في عام 1897م عندما أعلنوا الشروع في جهودهم لإقامة دولة إسرائيل. ثم الخطوة الثانية الهامة بعد ذلك شهدناها في عام 1917م، عندما كتب بلفور (Balfour)، وزير خارجية بريطانيا رسالة إلى يهودي ثري جدًّا كان ممثلاً لليهود وهو اللورد روتشيلد (Rothschild)، يبلغه فيها بقرار الحكومة القاضي بمساندتها ومساعدتها الحصول على وطن قومي لليهود في فلسطين. والقرار موجود ويمكن الحصول عليه كوثيقة مطبوعة. وكانت هذه الفترة فيما بين عامي 1915 إلى 1919م أشد وأبغض فترات التآمر ضد الإسلام. ولقد لعبت الحكومة البريطانية وقتئذ أكبر دور وقامت بأعظم قسط من هذه المؤامرات.. وسأقدم لكم بعض الأمثلة على ذلك.
أشرت آنفا إلى إعلان قيام الصهيون العالمي الأول عام 1897م. كان رئيس هذا المؤتمر في ذلك الوقت الدكتور ثيودور هرتزل (Dr. Theodor Herzl). ونشر هذا المشروع رسميا في أغسطس عام 1897م. كما أشرت أيضا إلى وعد بلفور في رسالته التي كتبها إلى روتشيلد عام 1917م. قبل ذلك بعام أي عام 1916، كتب مستر ماك ماهون (Mr. Mc. Mahon) ممثل الحكومة البريطانية، رسالة إلى حاكم مكة والمدينة والحجاز الشريف حسين، وهو من عائلة من شرق الأردن، وكان ممثلا للحكومة التركية في إقليم الحجاز. تتلخص رسالة “ماك ماهون” إلى شريف مكة هذا أنه لو عَاهَدَ معهم معاهدة فإنهم سوف يحرّرونه من حكم “الأتراك الظالمين” ويساعدونه لإقامة دولة عربية حرة، وفي نظير ذلك يعطيهم كيت وكيت من الامتيازات. كانت بعض المناطق في خريطة المنطقة تحمل علامة (أ)، والبعض الآخر علامة (ب).. يعني بعضها منطقة نفوذ فرنسي، وبعضها منطقة نفوذ بريطاني. وملخص كل تلك الشروط هو أن سلطة صياغة السياسة الخارجية ستكون في يد البريطانيين أو الفرنسيين، ولن يُسمح لك عمل شيء في مناطق نفوذ الدولتين إلا بمشورتهما وبعد إذنهما، كما لا يجوز لك أن تقابل مراقبا أو مستشارا أوربيا ما لم تحصل على إذن من السلطة البريطانية في المناطق الخاضعة لنفوذهم، أو من السلطة الفرنسية في مناطق سيطرتهم.
فمن جهة كانوا يتحاورون مع حاكم مكة، ومن جهة ثانية كانوا يتواطأون مع زعماء الطائفة الوهابية.. عائلة سعود.. أنه إذا عقدتم معاهدة معنا تقبلون بها الإشراف البريطاني على منطقتكم إلى الأبد، ولا تشكلون سياستكم الخارجية إلا بموافقة بريطانيا.. وتعينوننا على إسقاط الحكومة التركية، فسوف نساعدكم على إقامة حكمكم بأرض الحجاز، ونعدكم بالمحافظة على حكومتكم إلى الأبد، ونسبغ عليكم حمايتنا، فلا ينظر إليكم أحد بنظرة تكرهونها. وأتموا معاهدتهم على ذلك مع شروط أخرى. وبعد سنوات قلائل نظموا حسب المخطط هجوما أطاحوا به بحاكم بمكة.
ففي الفترة من عام 1915م حتى 1917م كانوا يجرون محادثاتهم مع والي مكة في جانب، ويتفقون من الجانب الآخر مع السعوديين خصوم والي مكة، ومن الجانب الثالث اتفقت روسيا وبريطانيا وفرنسا عام 1916م على تقسيم الإمبراطورية العثمانية.. وقرروا فيما بينهم نصيب كل من روسيا وفرنسا وبريطانيا من الغنيمة بعد تمزيقها.. لتدخل تحت حكمهم. وإلى جانب ذلك تمت اتفاقية إنجلو فرنسية لتقسيم الجزيرة العربية في خطة للسيطرة على المنطقة، ولم يدعوا شيئا لروسيا في الجزيرة العربية، وجعلوها حكرا لبريطانيا وفرنسا.
وداخل هذا الإطار يسهل فهم ما وقع من حروب، والدور الذي قامت به هاتان الدولتان فيهما. وإذا حللنا الموقف الراهن من وجهة النظر هذه أمكن لكم فهم أهدافهم بسهولة نسبية.
ولكني قبل المضي في هذا البحث.. أود ذكر لغز يرتبط بهذه الأمور ارتباطا عميقا. فهناك شيئان لا يتوقع المرء بصفة عامة إمكان حدوثهما.. مع أنهما واقعان فعلا. أولهما أن الشرق الأوسط أضعف مناطق العالم في قدرته الدفاعية ونموه الصناعي أيضا.. فما هذا اللغز؟ حيث يوجد المال.. لا يوجد حراس؟ ومع أنهم هنا يضعون ترتيبات أمنية محكمة حول بضع سبائك من الذهب.. فإن المنطقة التي تمثل جبالا من الذهب تُترك من ناحية الأمن منطقة “فراغ عسكري”؟ وما بها من قوات لا تتناسب مطلقا مع الثروة الموجودة فيها؟ لماذا يكون الوضع هكذا؟ لماذا تركوا المنطقة على الضعف؟ في حين أن إسرائيل وهي جزء صغير من المنطقة، وليس بها ثروة بترولية جعلوا منها قوة متميزة! عجبا.. حيث يوجد المال يكون البلد ضعيفا، ومن حيث يكون خطر الهجوم للسلب والسرقة يكون البلد قويا! هذا لغز يتطلب تفسيرا وحلا.
وهناك لغز آخر، عندما عرض صدام حسين ربط مسأة الكويت بغيرها رفضت أمريكا وحلفاؤها وقالوا: أن لا علاقة بين المسألة الكويتية وغيرها. قال الرئيس صدام: إن الاحتلال الإسرائيلي متعلق بالكويت، وينبغي حل المسألتين وتسويتهما معا. ولو أنهم قبلوا بهذه الصلة لأمكن حل المشكلة.. والتزم صدام بسحب قواته وعدوانه من منطقة الكويت.. والتزم اليهود الصهاينة المعتدون على الضفة الغربية في الأردن بالانسحاب منها. أَوقِفوا العدوان الأول، وأوقفوا العدوان الثاني ويُسوَّى النزاع ويستقر العدل وينتهي الأمر عند هذا الحد. كان هذا هو غرض الرئيس صدام عندما كان يردد ويؤكد على الربط بين المسألتين.
وتعمدت القوات الكبرى المتصلة بالمشكلة لعرضها بطريقة أخرى، وعملت على خداع الرأي العامل العالمي.. في حين أن موقف الرئيس صدام كان تماما كما شرحته لكم. تعمد العالم الغربي أن يخطِّئ مسألة الربط بين القضيتين، وعَرَضَ فكرة الرئيس صدام هكذا: بما أن إسرائيل قامت باحتلال جزء من دولة مسلمة شقيقة، فقد أغضبه ذلك، وقام باحتلال بلد مسلم شقيق.. والمسألتان سيّان شكلا وموضوعا. ولما كان هذا العرض غير منطقي فإنهم أخذوا يسخرون منه، وأعلنوا أنه باطل وبلا معنى، وقالوا كيف يمكن ذلك.. والعالم كله يعلم أن النزاع بين العراق والكويت هو حول البترول ومسألة بيعه وسعره وغير ذلك من الأمور..؟ فبسبب هذا النزاع قرر العراق احتلال الكويت، واتخذه مبررًا، والحقيقة أن العراق استهدف الاستيلاء على الثروة البترولية في الكويت. فكيف يمكن الربط بين هاتين المسألتين وليس بينهما أي صلة.
والواقع أن بينهما صلة عميقة كما ذكرت آنفا. قال صدام: إذا كنتم تعارضون الاحتلال.. فالواجب عليكم أن تضعوا نهاية لعدوان واحتلال واقع، وسوف أضع حدًا ونهاية مثلكم.. ويسوَّى الموضوع. ولكنهم لم يكونوا على استعداد لقبول ذلك. ما السبب؟ لماذا هم على هذه الصلة العميقة مع إسرائيل؟ ما الداعي ليكونوا عبيدا للمصلحة الإسرائيلية، ويقدموا في سبيلها كل تلك الأثمان الكبيرة بما لا يمكن لأحد تصور حجمها؟ فعلى سبيل المثال ما هي قيمة بليون دولار؟ الفقراء من أمثالنا لا يستطيعون تخيل حجم بليون من الدولارات. بالنسبة لنا تكون بليون روبية مبلغا رهيبا.. ولكن بليون دولار فهو حقا مقدار هائل من المال. وطبقا للأرقام التي ظهرت فإن أمريكا وحدها تنفق بليون دولار كل يوم. وأيام الحرب مستمرة.. والإنفاق مستمر! وهناك أيضا إنفاق بريطاني وآخر فرنسي. وقد أنفقوا مبلغا كبيرا.. ودفعهم الموقف إلى التوجه نحو العالم بكيس تسولهم. والبريطانيون أكثر دبلوماسية من الأمريكان لخبرة اكتسبوها عبر القرون.. فدبلوماسيتهم ألطف وأدق. أرسلوا وزير خارجيتهم إلى ألمانيا، فأعطاهم الألمان 600 أو 700 مليون. وعندما أعلن الوزير هذا الأمر قال: لم نأت هنا لنتسول.. وليس معي كيس تسول. لا نحمل همًّا، ولم يكن في ذهني قدر معين من المال الذي سوف نحصل عليه مساهمة منكم بمثل هذا القدر الكبير. وإخواننا الألمان قوم عطوفون وأمة طيبة، وأحسوا أن من واجبهم مساعدة إخوانهم في شدتهم والمساهمة معهم في جهودهم الحربية.. ونحن نقبل منهم ذلك مع الامتنان والشكر.
في الليلة الماضية، عندما كان إدوارد هيث يشترك في المناظرة قال: إن هذا نهاية أكاذيبكم وخداعكم. لقد فضحتم أمتكم في العالم. تجوبون الدنيا بكيس الشحاذة. ما هو الداعي للتورط في هذه المصاعب التي لا تستطيعون تحملها، والتي لطختم بها شرف بريطانيا وعظمتها، وصرتم بسببها متسولين؟
وبالمقارنة مع هذا نجد الساسة الأمريكان على خشونة. المستر كويل موجود معنا هذه الأيام، وهو نائب رئيس الجمهورية في أمريكا، وكل ما يبديه من مقدرة وفكر يثير الضحك عند محرري الأخبار ويحكون فكاهات حولها. هؤلاء الساسة لا يملكون مهارة الكلمة ولا يعرفون كيف يغلفونها في بعض الأمور. إنهم يتبعون وسيلة للشحاذة تحت مسمى آخر. عندنا في البنجاب بعض الشحاذين لا يمدون أيديهم قائلين: أَعطُونا لله، ساعدونا بإحسان من فضلكم، فنحن نتضور جوعًا، ارحمونا.. ولكن هؤلاء الشحاذين يحملون عكازا ويقولون: أعطونا شيئا وإلا كسرنا رءوسكم! هذا هو الأسلوب الذي تتبعه أمريكا في تسولها: الشحاذة بالعصا. عندما سأل صحفي المستر كويل: ماذا تتوقعون من العالم؟ قال: أي توقع؟ لقد قررنا تقاضي مبلغ كذا من دولة كذا، ومبلغ كيت من دولة كيت. لسنا مضطرين للشحاذة، سنخبرهم كم يدفعون. فسأله الصحفي: إذا لم يدفعوا فماذا تفعل؟ أجاب: إذا لم يدفعوا فإني أقول لك ألا يعتمدوا بعد ذلك على العلاقات مع أمريكا. وهذا بالطبع تهديد ضمني.
على أي حال فإنهم يدفعون الثمن، وأزالوا كل سمعة أقاموها لهم في عالم الإسلام، منذ وقت قريب كانت باكستان من الناحية العملية تابعا من توابع أمريكا، وقَبِلَ عامة الناس بهذا الوضع. واعتاد كل السياسيين أن يهرعوا إلى أمريكا من أجل رفع مركزهم واعتبارهم، وتوقفت ردود فعل العامة ضد هذا التصرف. واليوم.. اشتعلت نيران الكراهية في مدى بضعة أيام، وأصبحت كلمة أمريكا سُبَّة. وبالمثل حلت بريطانيا كل عُرى روابطها مع عالم الإسلام، ومسحت كل اسم حسن لها أقامته في زمن طويل.
لماذا يدفعون هذا الثمن. لماذا لم يقبلوا بالربط، وطلبوا من إسرائيل الانسحاب من كذا وكذا.. وينسحب العراق من كذا وكذا، وينتهي الموضوع؟ ينبغي علينا دراسة هذه الأمور بتفصيل أكثر. ما هي الأسباب العاملة خلف هذه الحرب.
التهمة الموجهة إليهم أنهم بسبب مصالحهم المشتركة مستعدون لتدمير العراق، وما تحري الكويت سوى ذريعة علينا أن نتفحص ذلك عن قرب ونرى هل هذه البلاد أبدت ردود فعل كهذه من قبل نتيجةً لمصلحة مشتركة أو غير مشتركة. والدعوى الثانية بأنهم فعلوا ذلك لصالح إسرائيل.. وعلينا دراستها أيضا. فحيثما حارب اليهود المسلمين، والأحرى أن نقول إسرائيل، لأن من بين اليهود فئات يعارضون إسرائيل، وينتقد هؤلاء الأشرافُ علنًا عدوان إسرائيل، ولا يؤيدون أفعالهم بأي شكل، لذلك يحسن أن نقول إسرائيل. لماذا ساندوا إسرائيل في كل مناسبة؟ إذا كانوا مؤيدين لهم فهل ذلك بسبب تحيز ديني.. أم هو مجرد مصالح؟ ما هو الهدف والغرض من إنشاء إسرائيل؟ لماذا يسعون جاهدين للحفاظ على وجودها بأعلى التكاليف؟ هذه هي التساؤلات التي سوف أجيب عليها إن شاء الله في خطبتي القادمة. وأترك المناقشة التاريخية هذه، وأصلها بما سأقدمه لكم من أحداث أساسية كانت تقع حتى يومنا هذا.. كي أُنعش ذاكرتكم. وبعد هذا التحليل، في الخطبة القادمة إن شاء الله، إن توفر لي الوقت، أو في الخطبة التي تليها بإذن الله تعالى سوف أقدم الحلول لهذه المشكلات من وجهة نظر الإسلام. لقد تأخر الوقت، ولذلك أنهي خطبتي.
اللهم مكِّنْ لنا، نحن خدام محمد المصطفى كي نقدم حلا لمشاكل العالم له قوة داخلية، بحيث إذا قبلوا به وجدوا سلاما أكيدا، أما إذا لم يقبلوا به فليفعلوا ما يشاءون، فلن يجدوا السلام ولن يُقروه. هذه هي القوة في الحل الصحيح، وهي قوة الحق. إذا قبل أحد الاقتراح الصحيح فإنه ينتفع به، أما إذا رفضه فسوف يقاسي الأضرار. وما دمتُ سوف أمثل الإسلام في حديثي.. فإني على يقين من أن كل حل أقدمه باسم الجماعة الإسلامية الأحمدية سيكون حلا لا ينبغي أن يستهان به. إذا قبلتم به فهو لصالحكم وخيركم ولصالح البشرية جمعاء، وإذا رفضتموه فمهما فعلتم لفض النزاع من الدنيا فلن ينفض، وستلقى كل جهودكم الهزيمة، وستنشب الحروب واحدة تلو الأخرى، والنزاعات واحدة بعد أخرى، حتى يتلون المجتمع البشري بالدماء، ويُسلَب من الإنسان هدوءه وسلامه الداخلي. إني أؤمن، ما دمت بفضل الله تعالى أقدم حلا إسلاميا، فلن يكون هناك موقف آخر، فإما أن يقبلوا وينتفعوا به، أو يرفضوا ويتبعوا سبيل الضرر.
وأسأل الجماعة الأحمدية أن يدعوا الله تعالى ليحفظ قدرتي الذهنية والروحية ثابتة على التقوى.. فأرى بعين التقوى ونور التقوى.. وأقدم حلاً يضمن للجنس البشري سلاما أكيدا. اللهم آمين.
خطبة يوم 8 فبراير / شباط 1991
منذ ستة أشهر تقريبا.. تحدثت عن هجوم هولاكو خان على مدينة بغداد، وخشيتُ أنه إذا لم يتخذ الرئيس صدام حسين خطوات حريصة، فستفرض عليه حرب مروعة هدّامة ستكون أفعال هولاكو خان بالقياس إليها ضربًا من الأحلام. وكل ما جرى حتى هذه اللحظة فظيع ومؤلم، وما سمعه العالم من أنباء تنزف لها قلوب العالم الإسلامي جميعه. ولكن الأخبار المذاعة لا تساوي عشر معشار ما سوف تكشف أخبار ما بعد الحرب شيئا فشيئا. وفي تقديري أن مئات الألوف من المدنيين والعسكريين قد قُتلوا وأصيبوا في عمليات القصف. إنه لدمار هائل ذلك الذي حاق بالسكان المدنيين ولم يكشف عنه النقاب بعد. ثم إن نوعية العمليات الحربية التي تجري ضد الجيش العراقي لا تعكس موقفا حربيا، وإنما هي كمن يقيد أحدا ثم يقطع أوصاله بالتدريج، فيبدأ بخلع أظافره، ثم قطع أصابعه، ثم نزع قواطعه، ثم بتر أطرافه.. وبعد ذلك ينادي: أيها الليوث البواسل.. هلموا وهاجموا ذلك الرجل. وما داموا غير واثقين من أن الرجل لا يستطيع حيلة بذراعه المبتورة فلن يسمحوا لأبطالهم البواسل بمهاجمته. هذا هو وصف وجيز بكلماتي لهذه الحرب الراهنة.
يتحدث الجنرالات الأمريكيون الذين يقودون هذه الحرب عن صواريخ سكود العراقية وأثرها الذي لا يتعدى أثر بعوضة تقف على ظهر فيل. والواقع أن القوات المتحالفة كالفيل، والرجل الذي يعارضهم.. ويسمونه “هتلر العصر” ليس في المجال العملي أكثر من بعوضة حسب قولهم. وما دامت هذه المعركة بين الفيل والبعوضة مستمرة.. فأرى مؤامرتهم الخبيثة لتدمير تلك البلد المسلمة قد قاربت التمام.
وليس من واجبي أن أعلق على هذه الحرب، وليس هدفي أن أخبر الجماعة بما يحدث اليوم في هذه الحرب أو ما حدث بالأمس أو ما سيحدث في المستقبل، إنما غرضي أن أضع أمامكم الخلفية التاريخية لهذه الحرب واضحةً، وعلى ضوئها يمكن للمسلمين الأحمديين وغيرهم في أنحاء العالم، الذين وصل إليهم هذا الصوت.. أن يتفهموا الموقف تماما، من ناحية ما حدث، ولماذا يحدث، وما هو الدور الذي لعبه العالم الغربي حتى الآن، وما هو الدور الذي سيلعبونه في المستقبل، وما هو الدور الذي قامت به الأمم المتحدة، وما هو الدور الذي قامت به عصبة الأمم من قبل، وما هي الروابط المتبادلة بينهم، وما روابطهم مع اليهود، ولماذا لهم مثل هذه الروابط، وإلى أي مدى تورطت أخطاء المسلمين في هذا؟ وبعد كل هذه التحاليل، وبقدر ما يمكنني ربي، أهدف إلى أن أضع أمامكم ما أنصح به تلك الأمم فرادى فرادى، أعني بتفهم هذا الموضوع تماما يصبح الحل لكل هذه المسائل واضحا بنفسه. .
والواقع أن تشخيص المرض هو الأهم. فلو كان التشخيص صحيحا فلن يصعب التوصل إلى العلاج الصحيح. ولذلك سوف أوجه نصحي لليهود، وللأمم المسيحية، وللمسلمين، وإلى البشر جميعا.. لأدلهم على نوع المعاملة العادلة التي ينبغي عليهم انتهاجها طلبا للسلام الدائم.
سوف أبحث معكم الآن باختصار الخلفية التاريخية البعيدة لهذه المشكلة، التي تسمى المشكلة الفلسطينية، أو التي نعرفها اليوم باسم حرب الخليج.
ذكرتُ من قبل وعد بلفور الذي منحه لليهود عام 1917م، وبعده وقعتْ حادثة مدهشة عام 1922م إذ وضعت عصبة الأمم فلسطينَ تحت الانتداب البريطاني. واشتمل قرار الانتداب مسئولية الحكومة البريطانية المشرفة على فلسطين في تحقيق وعد بلفور وتنفيذه. ويندر أن تقع حادثة ظالمة كهذا التآمر المشترك من قبل هذه الأمم، فعصبة الأمم تمثل العالم كله، ولم يكن من مسئولياتها بحال من الأحوال أن تضمن قرارها ما جاء في رسالة وزير بريطاني إلى لورد روتشيلد اليهودي رجل البنوك في فرنسا.. والتي يقول فيها بأن وزارتنا تبحث منحكم وعدا بوطن يهودي. فمن أعطى عصبة الأمم هذه السلطة لتوزع الحظوظ بين العالمين، فتعطي حق الإشراف لدولة أصدرت هذا الوعد من عندها.. وتمكّنها من تنفيذ وعدها بالطريقة التي تشاء؟ ومع قرار الانتداب وافقت عصبة الأمم على تهجير ألف يهودي وتوطينهم في فلسطين!
وبدأ البريطانيون بتنفيذ هذا الأمر. وفي 17/05/1939 قبيل الحرب العالمية الثانية.. نشر البريطانيون “الورقة البيضاء” بعد أن استقر أكثر من مائة ألف من اليهود في فلسطين. وبحسب هذه الورقة البيضاء بدلوا سياستهم السابقة. كانت حكومة تشمبرلين (Chamberlain) في السلطة، فأعرب عن رأيه بأننا على حافة حرب عالمية ثانية، ولو أصدرنا قرارا ضد اليهود غضبوا وصاروا أعداء لنا، أو ضد العرب كانوا لنا أعداء. وأرى أن يكون القرار ضد اليهود وليس ضد العرب، لأن الحرب وشيكة الوقوع.
كان القرار الأول قبل الحرب العالمية الأولى، والقرار الثاني قبل الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الأخير مبنيا على اعتبارات سياسية.. وليس على الأمانة. أعلنوا رسميا في ورقتهم البيضاء أن الحكومة البريطانية لا تؤيد إقامة حكومة يهودية في فلسطين، ولا تقبل بحق اليهود في إقامة حكومة لهم فيها. ولكنهم في نفس الوقت سمحوا لـ 75 ألفًا من اليهود بالهجرة والاستقرار في فلسطين. بدأت العملية بمائة ألف ثم زادت 75 ألفًا آخرين.
لو كانوا أمناء في قرارهم لردوا الانتداب إلى عصبة الأمم قائلين: إن حكومتنا لم تعد في جانب القرار الذي كلفتموها به.. لذا كان ينبغي إنهاء الانتداب تلقائيا، ولكنهم في الواقع سمحوا بزيادة حصة إضافية من المهاجرين اليهود، ثم حصة ثالثة عام 1964م من 100 ألف يهودي! وانتهى الانتداب عام 1948م.
قيل إن عدد السكان اليهود كان 85 ألفًا عام 1919، وهناك خلاف كثير حول هذه العدد يتطلب بحثا كثيرا، ولكن يبدو أنه رقم صحيح. وفي عام 1947م، قرب نهاية الانتداب، عندما أعلنت الأمم المتحدة ضرورة تقسيم فلسطين، وإقامة حكومة يهودية، وحكومة عربية مسلمة، كان عدد اليهود قد ارتفع إلى 700 ألف يهودي. وكان مجموع السكان العرب الفلسطينيين العرب طبقًا لبعض الإحصائيات مليونين، أي أن النسبة 1:3. وبالنظر إلى شروط الانتداب.. ما كان يمكن أن يزداد عدد اليهود إلى 700 ألف، ولكن البحث دل على أن اليهود كانوا يهربون إلى هناك بأعداد كبيرة. فبرغم الجهد الحقيقي في بعض المرات من جانب الحكومة البريطانية لوقف التهريب، استمرت عملية التهريب. وكلما حاولت الحكومة وقفها ثار اليهود ضدهم وقاموا بأعمال انتقامية.
على كل حال كانت النسبة العددية 7:20 عندما اجتمعت الأمم المتحدة لتتخذ قرار التقسيم، وتحدد أي المناطق لليهود وأيها للمسلمين. صدر القرار ليعطي 56 بالمائة من مساحة فلسطين لليهود، والباقي 44 بالمائة يخصم منها مدينة القدس لتكون تحت الإشراف الدولي.. لأنها أرض مقدسة عند اليهود والنصارى والمسلمين أيضا، وما تبقى بعد ذلك يخصص للعرب. وأعلنوا في نفس القرار أيضا فيما يتعلق بإقامة حكومة لكل فريق في منطقته.. ضرورة أن تتعاون الحكومة البريطانية مع الأمم المتحدة، وتقوم لجنة معينة من هيئة الأمم، لتنفيذ ذلك تماما بالتعاون مع الحكومة البريطانية.
ولكن ما نفذ عمليًا هو أن الحكومة البريطانية رفضت التعاون، ونتيجة لذلك كان حال المسلمين في قلق وعدم استقرار وفوضى.. إذ لم يكن لديهم قادر على تشكيل حكومة مناسبة. أما اليهود فكان لهم تنظيمان: أحدهما تحت قيادة مناحيم بيجن الذي أنشأ منظمة إرهابية قوية قبل عام 1948، وكانت تستخدم الإرهاب ضد البريطانيين والعرب؛ ومنظمة ثانية بقيادة بن جوريون. وكانوا يتلقون كميات ضخمة من العتاد والسلاح من أمريكا، فأقاموا عدة منظمات للدفاع عن منطقتهم وتمكين حكومتهم.. وأيضًا للاستيلاء على الأرض من العرب. وهكذا في غضون عام ونصف، من 1948 إلى 1949م وقعت أعمال عدائية بين اليهود والعرب، اشترك فيها بعض الدول العربية المجاورة، واشتعلت بينهم حرب غير رسمية، بمعنى أنه لم تعلن حربًا رسمية ضد إسرائيل، وإنما استمرت تلك الدول تساعد العرب الفلسطينيين. وأخيرًا عندما تقرر وقف إطلاق النار في عام 1949.. كان اليهود يحتلون 75 بالمائة من الأرض بدلاً من 56 بالمائة المقررة لهم!
هكذا كان مسلك الأمم المتحدة، والحكومة البريطانية والحكومة الأمريكية. هناك تفاصيل مستفيضة وعندي مراجعها.. ولكني لا أريد شغل خطبي كلها في هذا، والخلاصة: شاركت عصبة الأمم والأمم المتحدة في مؤامرة دولية.. مشاركة كاملة؛ ولعبت كل من بريطانيا وأمريكا دورًا لإقامة حكومة يهودية في فلسطين، ما كان لها أن تقوم أبدًا بناء على أي نوع من العدل. وبالنظر إلى القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة.. ما كان من الممكن حتى اتخاذ الخطوة الأولى من هذه المؤامرة، ولكنهم قاموا بها، وبعدها بدأت الأعمال العسكرية.
في هذه المنطقة وقعت عمليتان؛ إحداهما كانت للدفاع عن المصالح الغربية وإن قاموا بها باسم مصالح العالم، قالوا هي لصالح المجتمع العالمي، ولكنها في الحقيقة كانت لمصالح غربية بحتة. وقام بالدور الأكبر فيها كل من بريطانيا وفرنسا، وكانت أمريكا تظاهرهما دائمًا. كانت العملية الأولى ضد إيران. ففي عام 1950م قرر البرلمان الإيراني أنه بالنظر إلى جشع العالم الخارجي وأطماعه في ثروتنا البترولية.. نرفض العرض الروسي للمشاركة في حقول بترولنا الشمالية. عرض الاتحاد السوفييتي عليهم أنكم سمحتم للشركة البريطانية الإيرانية للعمل في حقول النفط الجنوبية، وبموافقتكم يحفرون آبار البترول لكم وينتفعون بها.. فاسمحوا لنا أيضًا بذلك. فقرر البرلمان الإيراني ألا يسمح للسوفييت بالتنقيب عن البترول في الشمال، كما قرروا مراجعة الاتفاقية المعقودة مع الشركة البريطانية من وقت لآخر، على أن تكون أول مراجعة عام 1951.
فابتهجوا في أمريكا لهذا القرار، وصفقوا له لأن عينهم كانت على القرار الخاص بالاتحاد السوفييتي.
وفي عام 1951م عندما حان وقت مراجعة الاتفاقية.. كانت الشركة من القوة بحيث لم تتخيل بريطانيا وأمريكا أن بوسع إيران إدخال أي تغيير في الشركة وهي مشتركة بين بريطانيا وإيران. ويمكنكم تصور مدى نفوذ هذه الشركة إذا علمتم أن الإتاوة أو الضرائب التي كانت تدفعها للحكومة الإيرانية تمثل نصف الميزانية الإجمالية لإيران. وكان ما تدفعه لبريطانيا أكثر، وكان ما تحصل عليه الشركة من أرباح يزيد عن ذلك عشرة أضعاف. ومعنى ذلك أن أرباح الشركة كانت تفوق الدخل القومي لإيران خمسة أضعاف. لذلك لم يتخيلوا أن يصدر قرار ضدهم. وعندما عرضت المسألة أمام البرلمان، وكان رئيس الحكومة آنذاك قد باع نفسه للشركة، فقدم تقريرًا ادعى فيه أن تأميم الشركة يتعارض بشدة مع مصالح إيران. فهاج البرلمان، وقتل الرجل رميًا بالرصاص، وانتخبوا دكتور مصدق رئيسًا للوزارة. ولما كان الرجل مخلصًا حقًّا للمصالح الإيرانية.. بدأت أجراس الحرب تدق. اتصلت بريطانيا أولاً مع أمريكا، وكانوا قبلها قد أعدوا قواتهم المحمولة جوًا في قاعدة موريشوس لتهاجم إيران. ولكن أمريكا أخبرتهم بأن هذه ليست الطريقة السليمة، وأنها ستسوي المسألة بطريقة أخرى. وبالضغط على أمريكا تمكنوا من إعداد مؤامرة قام بها مخابرات بريطانيا (ISI) ومخابرات أمريكا (CIA). تم هذا الاتفاق سرًا بين مستر سنكلير رئيس ال (ISI)، ومستر كيم روزفلت ممثل الـ (CIA). واستخدمت أمريكا نفوذها لمقاطعة بترول إيران. ولما كان نصف الدخل القومي لإيران من دخل البترول لذلك حدثت أزمة مالية كبيرة عندما توقف بيع النفط الإيراني. وفي منتصف عام 1952 طلب دكتور مصدق من رئيس أمريكا معونة مالية مؤقتة للتغلب على الأزمة يسددونها بعد تسوية النزاع. ولكن الرئيس الأمريكي أجابه بأنه ليس في صالح دافعي الضرائب في أمريكا لينقل الأموال إلى إيران.. في حين أنها قادرة على الحصول بنفسها، فأمامهم خيار بسيط.. وافقوا على شروط الشركة البريطانية للبترول لتحصلوا على المال منهم، والشركة مستعدة لذلك. فأدرك دكتور مصدق سوء طويتهم، ولم يكن بوسعه فعل شيء.
كانت خطة جهازي المخابرات (CIA) و(ISI)، قد اكتملت قبل رد الرئيس الأمريكي بأربعة أيام، واعتمدها ووقع عليها رئيس أمريكا بالتنفيذ. كانت عملية طويلة، وتتلخص في السيطرة على الشرطة والجيش الإيراني.. وهذا أسلوبهم المعتاد عند القيام بانقلاب عسكري؛ فاشتروا رؤساء الإدارات، وفازوا في العملية التي قادها كيم روزفلت. فأعطي ميدالية الشرف التي لا تعطى إلا نادرًا للأبطال في أمريكا.
أسفرت المؤامرة عن وقوع نزاع بين د. مصدق وشاه إيران، وسعى كل منهما للفوز بأكبر قدر من السلطة، وأصبح د. مصدق قائدًا أعلى للجيش، وقرر تعيين رئيس الشرطة، ورشح رئيس الأركان. وذكر رئيس الشرطة متفاخرًا أن بحوزته قائمة بأسماء عملاء بريطانيا يحفظها في قلبه، فاغتيل الرجل في اليوم التالي.
وعندما اكتملت الاستعدادات، أصدر الشاه أمرًا بإقالة د. مصدق. وقامت المظاهرات لتأييد رئيس الوزراء، ولكن جيشًا مأجورًا قوامه حوالي 6000 من المدربين المجهزين بأسلحة قوية، تغلبوا على المظاهرات إلى حد ما، ولكن المظاهرات كانت قوية ومنتشرة بحيث توقع الناس أن يتدخل الجيش كما هو المعتاد. فدفع 200 ألف جندي لمساندة الشاه كما كان مخططًا. وسلط شاه إيران الذي كان انعكاسًا كاملاً لعبيد أمريكا وبريطانيا حتى لقي نهايته الكئيبة. كانت هذه الحادثة الأولى التي ينبغي وضعها في الاعتبار من هذه الخلفية التاريخية. أما الحادثة الثانية فقد وقعت عام 1956م عندما قرر الرئيس المصري عبد الناصر تأميم قناة السويس. ويتعلق هذا القرار بمشروع السد العالي عند بلدة أسوان في جنوب مصر. وعدت أمريكا جمال عبد الناصر بتمويل المشروع.. ولكن نظرًا لميل الرئيس المصري نحو الاتحاد السوفييتي، ونظرًا لعدم تخفيفه من معارضته لإسرائيل رغم تحذيرهم المتكرر.. ارتأت أمريكا أن تلقنه درسًا، فسحبت وعدها. كان السد العالي حينذاك مشروعًا كبير الأهمية لحياة مصر، وكان سيؤدي دورًا كبيرًا في الاقتصاد المصري والإنتاج الزراعي؛ وبدونه لا تستطيع مصر كفاية نفسها من طعام ونواح اقتصادية أخرى. كما أن المشروع كان قد وصل إلى مرحلة لا يمكن لمصر أن تؤجله. لذلك كله أممت مصر شركة قناة السويس لتمويل المشروع. كانت القناة تحت إشراف بريطانيا وفرنسا اللتين تملكان الجزء الأكبر من أسهم شركة القناة. وهنا قررت بريطانيا خطة أخرى لمعاقبة عبد الناصر ومصر بسبب تعرضهم لمصالحها. كانت خطتها سخيفة خرقاء، ولكنها شريرة للغاية. دفعوا إسرائيل للهجوم على مصر والوصول إلى قناة السويس. كان هجومًا غير معلن وغير متوقع على مصر، ولم تكن لدى مصر قوة دفاعية قادرة على صد الهجوم المباغت.. لذلك كان مقدرًا له النجاح السريع. عند ذلك يأمر الإنجليز والفرنسيون كلا من مصر وإسرائيل بالانسحاب بجيوشهما بعيدًا عن قناة السويس، وتعلن الدولتان الغربيتان عن تدخلهما لصالح السلام. وهذا ما حدث تمامًا. وصلت القوات الإسرائيلية فجأة على الضفة الشرقية من القناة، وفي اليوم التالي صدر إنذار مشترك من بريطانيا وفرنسا موجه لمصر وإسرائيل لأنهما يتحاربان ويعرضان سلام العالم للخطر، لذلك يجب عليهما وقف العمليات الحربية والتراجع لمسافة معينة من شاطئ القناة. فوافقت إسرائيل على الفور حسب المخطط، ولكن مصر قالت: هذه أرضي ووطني، والقناة قناتي. فلماذا أسحب قواتي من أرضي؟ كيف يعقل هذا؟ يكفي أن ينسحب المهاجم المعتدي. عند ذلك هاجمت الدولتان مصر معًا، وكانت حرب عام 1956م.
أما عن دور بريطانيا في تلك الحرب.. فقد كتب وزير خارجيتها وقتئذ مستر ناتنغ (Nutting)، كتابًا عنه. ودراسة هذا الكتاب تبين أن خط سير الأحداث الذي انتهجه البريطان ضد الرئيس جمال عبد الناصر ومصر هو بالضبط الخط الذي اتبعه مستر بوش ضد صدام والعراق، ويبدو أنه نسخة بالكربون من الموقف الراهن. وكما فعلوا ضد عبد الناصر فإنهم شرعوا يفتعلون أشد الحركات ترويعًا لاغتيال شخصية الرئيس صدام، وقالوا كما قالوا من قبل: إننا نفعل ذلك لحماية المصالح العالمية.. ونيابة عن المجتمع العالمي. واللغة التي استخدمها الرئيس بوش ضد الرئيس صدام، ولا أستطيع ترديد ألفاظ السباب، ولكنه تحدث عن ضرورة ركله وطرده. وملخص ما ورد في الكتاب المشار إليه آنفًا هو: الغرض من هذه الحرب هو ركل عبد الناصر من عليائه. واستخدم الرئيس بوش نفس العبارة عن ركل صدام وإنزاله من عليائه. وهذا هو الهدف الحقيقي من الحرب كما قرروا من قبل. قال بعض المعلقين: الواقع أن هذه الحرب تنشب بسبب جرح كبرياء الرئيس بوش. ومع أن ذلك ليس صحيحًا.. لكن هناك دخل لكبرياء المستر بوش، ومن المؤكد أنه لم يكن الغرض الأساسي للحرب.
وجاء في كتاب وزير خارجيتهم عن رئيس الوزراء البريطاني مستر أنتوني إيدن (Anthony Eden)، أنه قام بهذه الحرب لمعاقبة عبد الناصر على جريمته.. فكيف لكولونيل مصر أن يتحدى رئيس وزراء الإمبراطورية البريطانية؟ ويقوم اليوم بعض المعلقين بعمل نفس التحاليل على المستر بوش. وهذه الحرب في الواقع تكرارًا لحرب 1956.. اليوم بسبب البترول، والبارحة بسبب قناة السويس. والقوى الثلاث البارزة في هذه الحرب.. هي نفسها التي كانت بارزة في الحرب الماضية؛ والفرق هنا أن أمريكا تقوم بدور إسرائيل، التي بقيت أو احتفظوا بها في خلفية الصورة.
والعجيب أنه عند انتهاء الانتداب عام 1948م انسحبت بريطانيا من فلسطين بكيفية ليس لها مثيل. عند انسحابهم من الهند حين تقسيمها بين باكستان والهند أرضوا أنفسهم رسميًا بإيجاد خط تقسيم رسمي، وقالوا لا بد من وجود حدود واضحة بين الدولتين، ولا بد من توطيد الحكومتين بطريقة لائقة. ولكنهم عندما انسحبوا من فلسطين.. وحتى اليوم الأخير.. لم يتخذوا خطوة واحدة، ولم يدعوا منظمة الأمم المتحدة لتتخذ أي خطوة في هذا السبيل. كانت سفنهم محملة وجاهزة للرحيل قبيل منتصف الليل وغادروا كل مكان كان تحت أيديهم بمقتضى الانتداب، وعند منتصف الليل تمامًا أطلقوا صفارات الرحيل وغادروا البلد. كان ذلك منهم فعلاً قاسيًا، وقع أثره المدمر على رؤوس الفلسطينيين.
على أي حال.. هذان هما حربا المصالح اللتان كان القتال فيهما تحت نفس الاسم.
والحرب الثالثة هي حرب اليوم، وهي أيضًا حرب مصالح. وإسرائيل مشاركة معهم في اللعبة بسلوكها، مع أنها محفوظة في الخلف. تؤدي أمريكا دورها وتنوب عنها.
أما الحروب الأخرى التي وقعت في منطقة الشرق الأوسط فيمكن تسميتها رغبة إسرائيل التوسعية. وفي هذه الحروب ألقوا باللوم على الفلسطينيين والبلاد الإسلامية المجاورة برغم أنهم بدأوا الهجوم مما اضطر إسرائيل إلى اتخاذ إجراءات انتقامية، واللجوء إلى توسيع رقعتها.
ولكن كل حرب عدوانية بعد ذلك لم يكن لإسرائيل عذر من أي نوع للقيام بها. كانت حرب 1967م حربًا توسعيّة صرفة، وكانت حربًا فظيعة.. قضوا في غضون أيام قلائل على القوة المصرية والسورية والأردنية، ووسعوا رقعة أرضهم حتى ضاعفوا المساحة التي منحتهم إياها الأمم المتحدة.
وسأعرض أمامكم بإيجاز موضوع التوسع اليهودي في الأرض، ليدركوا منه كم توسعوا، ولا يزالون يتوسعون، ولن يتوقفوا غدًا عن توسيعهم في الأرض.
ربما كان ذلك حول عام 1937م عندما بدأ البريطانيون، وعيونهم على وعد بلفور، يضعون الأرقام عن المساحة التي يمنحوها لليهود، وقرروا أن يعطوهم خمسة آلاف كيلومتر مربع. وفي نهاية عام 1948م أعطوهم 20 ألف كيلومتر بدلاً من خمسة آلاف. وزادت هذه المساحة خلال سنتين قادمتين كما أشرت من قبل. ومع نهاية عام 1967م كانت إسرائيل تسيطر على 88 ألف كيلومتر من الأرض. من ذلك ترون كيف ابتدأت المسألة بخمسة آلاف ثم أين انتهت.
ثم كانت “حرب أكتوبر” عام 1973 وتسمى أيضًا “حرب كيبور”. وادعوا أيضًا أنها حرب عدوانية من جانب البلاد العربية المسلمة، في حين أن ذلك قول غير صحيح. والحقيقة أن حرب عام 1967م، التي وقعت بعد حرب 1956م بأحد عشر عامًا، كانت حربًا عدوانية من الجانب اليهودي، واحتلت فيها إسرائيل كل تلك المساحة من الأرض حتى بلغت كما ذكرت 88 ألف كيلومتر. وأصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 242 تلوم إسرائيل، وتأمرها بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد هذه الحرب. وتلاعبوا أيضًا في القرار كعادتهم وعلى الطريقة البريطانية والغربية.. وذلك عندما يحين وقت تنفيذ قرار ما تبدأ المحاورات والمجادلات، يقولون: إن من حق جميع بلدان المنطقة أن يحفظوا أمنهم، وأن تكون حدودهم الدولية بحيث لا تتعرض للخطر. وغرضهم من هذا أنه عند تنفيذ القرار يقولون: سلامة وجود إسرائيل يتطلب تعديل الحدود في المنطقة. ولكنهم مع ذلك لم يعملوا أي شيء من القرار.
والآن نتساءل: إذا كان تحرير الكويت تنفيذًا لقرار الأمم المتحدة، يبيح لأمريكا وحلفائها مهاجمة العراق، علمًا بأن الكويت ليست جزء من أراضيهم، ألا يحق لأولئك الذين سلبت أراضيهم وبعد أن صبروا عامًا بعد عام، فلم يساعدهم أحد على تنفيذ القرار الصادر من الأمم المتحدة.. ألا يحق لهم محاولة استرداد ترابهم الوطني ولو بعمل عسكري؟ فالقول بأنه خطوة عدوانية هو نفسه عدوان وظلم. إن ما فعلته مصر ليس إلا محاولة من جانب أمة ضعيفة معتدى عليها.. إذا لم يكن هناك أحد ليساعدنا على تنفيذ قرار الأمم المتحدة فمن حقنا أن نحاول بأنفسنا. هذا هو تاريخ الحروب في المنطقة، وهذه هي مواقف الأمم منها وضعته أمام أنظاركم.
والأشياء التي تجلت لنا بوضوح في هذه الحرب الجارية، ليس لدينا وقت كاف للخوض في تفاصيلها.. وستكون غضة في ذاكرتكم، وسوف أتحدث عن أهدافها إن شاء الله فيما بعد. وعلى ضوء هذه الخلفية تتلخص هذه الأشياء في أن هذه الدول أعطت إسرائيل الحق في القيام بأي عمل عدواني تشاء، وقتما تشاء، وضد من تشاء، وحق احتلال أي منطقة تضع يدها عليها ثمرة لعدوانها. وإذا أصدرت الأمم المتحدة أو مجلس الأمن قرارًا ضد إسرائيل للانسحاب؛ وليس لأي بلد آخر هذا الحق، حتى وإن كانت معتدى عليها.. وحاولت تنفيذ قرار الأمم المتحدة لتحرير أرضها من إسرائيل!
لم أذكر لكم أنه فيما بين عامي 1947 و1949م ابتدعت إسرائيل النشاط الإرهابي في العصر الحديث؛ وكان مناحيم بيجن هو مخترع الإرهاب. قتلوا في مسلسل إرهابهم نائب الحاكم البريطاني، ونسفوا فندق الملك داود، وراح فيه مئات القتلى والجرحى، ووقع خراب شديد. وهاجموا الفلسطينيين وذبحوا منهم 3000 بين رجل وامرأة وطفل. وقاتلوا الحكومة البريطانية مرارًا. كانت الحكومة وقتئذ في يد حزب العمال، ووافق المستر بيفن (Bevin)، وزير الخارجية على أن المسلمين تعرضوا للظلم، وأن اليهود يتجاوزون الحدود، وفعل كل ما في وسعه لوقف دخول اليهود تسللاً بطرق غير شرعية إلى فلسطين. وعلى سبيل المثال تدخلت السلطات البريطانية بأمر المستر بيفن وأعادوا إلى ألمانيا سفينة تحمل 4000 يهودي أرادوا الهجرة ودخول فلسطين بطريقة غير شرعية. عندئذ شنت صحافة العالم احتجاجًا شديدًا، وسبوا المستر بيفن بما يذهل الإنسان. لقد كلفت دولة بأمانة المحافظة على منطقة ما، وجاء في هذا التكليف كشرط من شروط الأمانة يقضي بألا يسمح إلا بدخول عدد محدود من اليهود، فكان رد فعل كتاب اسمه “صناعة إسرائيل” (Making of Israel): تخيلوا الفظاعة والظلم في إعادة 4000 من اليهود إلى أرض التعاسة والقسوة في ألمانيا! لقد أعيدوا عام 1947.. أي بعد الحرب بثلاث سنوات؛ فإذا كانت ألمانيا أرض القسوة والتعاسة قد تحولت بعد هزيمة النازي إلى حطام، وتسيدها الأمريكان والروس والفرنسيون والبريطانيون.. فأي حق لهؤلاء اليهود ليعيشوا في فلسطين بعد ذلك؟
على كل حال.. يكشف هذا كيف كان الصحفيون في صفهم وكان كل الرأي العام الأوروبي يحميهم. فمن حقوق اليهود المقبولة.. أعني في الخلفية التاريخية، أن يتخذوا خطوات إرهابية، ولن يسمى الإرهاب الإسرائيلي. أما بلاد المسلمين فلا يسمح لهم بأي نشاط إرهابي لحماية مصالحهم السياسية، وإن هم فعلوها فسنشهر بهم، ونشهر بالإسلام أيضًا معهم، وسنصمه بالإرهاب.
أضع أمامكم بإيجاز على هيئة نقاط.. أمورًا أخرى قبلوا بها:
- لليهود الحق في رفض قرارات مجلس الأمن؛ ولهم الحق في النظر إليها باحتقار ونبذها نبذ قصاصة ورق في سلة المهملات، وليس لأي بلد حق في لومهم.
- ولإسرائيل باسم حماية أمنها الحق في تغيير الحدود الجغرافية للدول المجاورة لها.
- ولها الحق في صنع القنبلة النووية وتخزين كميات منها. ولها الحق في صنع أسلحة الدمار الشامل من كيماوية وبيولوجية، ولا يحق لأحد انتقادها، وليس لدولة مسلمة هذا الحق.
هذا هو ملخص النزاع التاريخي الذي وضعته بين أيديكم. وهناك شيء يقيني.. لم تتغير هذه السياسة حتى اليوم، ولن تتغير غدًا. هذه حقوق لليهود ستبقى دون مساس؛ وحرمان المسلمين من حقوقهم جزء عضوي من هذه السياسة لن يتبدل.
وعلى ضوء هذه الخلفية تعالوا ننظر ما هو حلم الرئيس بوش حول “النظام العالمي الجديد”.. لأننا ما لم نفهم حلمه جيدًا لن نستطيع تقديم نصح سليم له. بقدر ما تفكرت في هذه الخلفية التاريخية للعدوان.. فإن حلم الرئيس بوش عن السلام في حقيقة الأمر ليس حلمًا للسلام، بل هو حلم الموت الزؤام. ويخطئ بعض الناس إذ يحسبون الموت سلامًا. وهذا يذكرنا بقصة الحصان المريض؛ يحكى أن ملكًا كان له حصان يحبه ويعتز به كثيرًا. فمرض الحصان وشارف على الهلاك. فاستبد القلق بالملك وقال: من يأتيني بخبر موته سوف أقتله. ووقع القدر الإلهي المحتوم ومات الحصان. فأمسكت الحاشية برجل أجبروه على الذهاب إلى الملك لإبلاغه بالخبر. كان الرجل ذكيًا، فذهب إلى الملك وقال: أهنئك يا مولاي، فإن حصانك في سلام تام. سر الملك كثيرًا وقال: زدني، كيف حاله؟ قال الرجل: كنا في أول الأمر نسمع حشرجة صدره من بعد ميل، والآن لا نسمع له صوتًا حتى من قريب. وعندما كان قلبه ينبض تهتز الأرض من تحته، أما الآن لو وضعت أذنك على صدره لم تسمع شيئًا. إنه يرقد في سلام وهدوء! قال الملك: إذن لماذا لم تقل إن الحصان المسكين قد مات؟ فأسرع الرجل يقول: جلالتك قلت بنفسك، إني لم أقلها!
فما يحلم به الرئيس بوش للشرق الأوسط والبلاد الإسلامية في الواقع تأويله الموت، حتى وإن كان الحلم باسم السلام؛ وليس له تأويل آخر. وبقدر ما فكرت.. أرى حلمه هكذا: على بلاد البترول الغنية كالسعودية والمشيخات أن تعد نفسها لتوزيع قسط من دخلها البترولي كإحسان ومن على بعض بلاد العرب المحرومة من الثروة البترولية أو الفقيرة فيها. وكما تستعبد أمريكا بلاد العالم الثالث بالمعونة الأمريكية.. سيحولون بعض بلاد العرب إلى عبيد لبلاد عربية أخرى. ومن خلال هذا الإحسان، ونتيجة له.. تربط المعونات المالية بشروط كتلك التي تربط المعونات الأخرى. فالمعونة الأمريكية مثلاً تحمل معها دائماً بعض الشروط السياسية التي تخدم المصالح الأمريكية. وسيكون لهذه المعونة العربية بعض السياسات التي تخدم مصالح إسرائيل، ومصالح العالم الغربي بصفة عامة.
وأول هذه الشروط ألا تذهبوا بخلافاتكم إلى مجلس الأمم المتحدة، وإنما يجب تسوية الأمور مع إسرائيل تحت الرعاية الأمريكية. والشرط الثاني أن تعطوا عهدًا مؤكدًا بأنكم لن تتجاسروا أبدًا في المستقبل على الدخول في حرب بالمنطقة. قدموا لنا هذه التأكيدات. وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل صنع الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل التي لا يحلم أحدكم بصناعتها. هاتان هما العلامتان الأساسيتان لحلم السلام الذي حلم به الرئيس بوش، وسترون أن هذا ما سوف يحدث غدًا تمامًا.
وهناك أجزاء أخرى للحلم، قد تتحقق أو لا تتحقق. أحدها يتعلق بالضغط على اليهود لاتخاذ بعض الخطوات. آسف، من الخطأ التعميم ونقول اليهود، لأن منهم قومًا شرفاء يقفون بشدة ضد إسرائيل ويرفضون سياستها، ويعدونها ضارة بالعالم وباليهود أنفسهم. فعندما أقول اليهود فإني بالتأكيد لا أدين اليهود كافة، ولكني أعني يهود إسرائيل. على أي حال.. سيفكرون في محاولة الضغط على إسرائيل، لتنسحب من مرتفعان الجولان ومن الضفة الغربية لنهر الأردن، ويظنون أنهم بذلك سوف يحصلون على معاهدة سلام. ولكن المؤكد أن إسرائيل لن تنسحب من كل مناطق الجولان بأي ثمن. ومن المؤكد أيضا عندي أنها لن تنسحي من الضفة الغربية للأردن.
ومع ذلك فإن حلفاءهم من بلاد العرب المسلمين سيسعدون بأعمالهم.. وسوف يشاركون في المعاهدة التي أشرت إليها! والسبب في ذلك أن ضرر احتلال الضفة الغربية واقع على الفلسطينيين والأردنيين وحدهم، ولن تُغضب أمريكا اليهودَ من أجل خاطر الفلسطينيين والأردنيين.. فهذا شيء غير وارد أبدا. والسبب الثاني أن خطة تهجير اليهود من الخارج وتوطينهم في إسرائيل خطة قديمة، ونفذوا جزء كبيرا منها، وأقاموا مستوطنات يهودية دائمة لهم في هذه الأماكن المحتلة. لذلك حتى ولو أرادت أمريكا.. فليس الإسرائيليون مستعدين للانسحاب من هذه المناطق. ويكشف ما يبدو من علاقات أمريكا وإسرائيل أن الرئيس بوش إلى الآن.. لا يملك الشجاعة على إغضاب إسرائيل. عندما أُطلقت صواريخ سكود على إسرائيل اتصل الرئيس بوش هاتفيا برئيس إسرائيل وبعث رسله الرسميين إليه، وتوسل إليه كيلا تحاول إسرائيل الانتقام الفوري من العراق. وتكشف هذه الواقعة أمام العالم بجلاء عن طبيعة العلاقة بينهما. بهذه الصواريخ ماتت سيدتان وجرح شخصان أو ثلاثة، فقالوا هذا عدوان من جانب واحد، مع أن إسرائيل من قبلها أرسلت طائراتها بدون إنذار وقذفت بالقنابل المفاعلات النووي العراقية ودمرتها عن آخرها، ولم يقل أحد منهم إنه عمل عدواني. وهكذا… فلإسرائيل هذا الحق. وهم قبلوا به، فلها أن تعتدي وتجوس بطائراتها البلاد الأخرى وترميها بالقنابل، وليس للأمم المتحدة ولا لأي بلد حق الاعتراض. كما أنه ليس من حق المعتدى عليه بالقنابل محاولة أي عمل انتقامي. وهم إذ قبلوا بالمبدأ القائل بأن حق الانتقام الفوري ليس لازما.. كان من الممكن على الأقل اعتبار صواريخ سكود عملا انتقاميا آجلا من جانب العراق، ووجب عليهم إعلانه بهذا الوصف. ولو تفكرتم قليلا في هذا الموضوع اتضحت أمامكم علاقة أمريكا وإسرائيل. يتصل الرئيس بوش عدة مرات هاتفيا، ويتوسل بلهجة رقيقة.. لا تقوموا بعمل انتقامي فوري، ثم يرسل ممثليه لمناقشة الموضوع تفصيليا، وينتهون إلى أنه لو امتنعت إسرائيل عن العمل الانتقامي الفوري.. فسوف نسعى للانتقام لها بأشد انتقام، وسنضاعف ضرب المدنيين أكثر مما ضربوكم آلاف المرات، وندمرهم تدميرا. ولقد كان بالفعل انتقاما لإسرائيل.. وأخذت القوات المتحالفة بالمهمة على عاتقها ونفذتها تماما.
ومن جانب آخر.. بالإضافة إلى ثأرنا لكم، نعطيكم تسعة بلايين من الدولارات معونة مالية. تخيلوا هذا القدر من المال.. إنه جبل من الثروة. لِمَ يدفعونه؟ هل ذلك في نظير ألا يثأروا لأنفسهم بأنفسهم؟ لا، فقد أعلنت إسرائيل أن تأجيل الانتقام أمر مؤقت، وبعد ذلك فلهم الحق وقتما يشاءون، وحيثما يشاءون، لفعل ما يشاءون للثأر من هذا العدوان! لذلك قلت: قد قبلوا أن لإسرائيل الحق في العدوان، ولا يجوز لأي بلد أن يتخذ تدابير الوقاية ضد عدوانها؟ ولو أن بلدا فعل ذلك بإسرائيل فسوف تقوم تلك القوى بالعدوان عليه، ويبقى بعد ذلك لإسرائيل حق العقاب؟ ولسوف نرى متى وكيف يكون ذلك. هذا هو النظام العالمي الجديد الذي حلم به المستر بوش، والذي يقول عنه إنه يضمن سلام العالم إلى الأبد. ولا تزال لهذا الحلم بقاياه.
فكما قلت: لن تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية بأي ثمن، بل أخشى أن يكون الأساس قد وضع لتحتل إسرائيل الضفة الشرقية أيضا. لقد أجبر الملك حسين على البقاء محايدا، وكل جريرته أنه منذ أيام قليلة عبر في مؤتمر صحفي عن أسفه الشديد لأن القوات المتحالفة تقضي على المدنيين الأبرياء في العراق، وأنها ارتكبت فظائع مؤسفة. وبنى الملك حسين تعليقه على ما تعلنه القوات المتحالفة بلسانها، وما يصدر عنها من بيانات عن عملياتها الحربية تبرز هذه الصورة. إذا كانت هناك طلعة جوية كل دقيقة للقذف والتدمير، ويعترفون أن القذف على العراق لم يحدث مثله في أي حرب أخرى.. على مدى التاريخ كله.. في أي مكان بالعالم، وأنه لا مجال للمقارنة بينه وبين ما حدث في فيتنام.. بعد كل ذلك إذا استنتجتَ أن مائة ألف من المدنيين قد تأثروا بها، يكون هذا في نظر الرئيس بوش إهانة لأمريكا ووقاحة في حق لإسرائيل؟ فيُنذر الملك حسين بأن احذَرْ واحفظْ كلماتك عندما تتكلم!؟ ألا تدرك ما تقول؟ من أعطاك حق النقد هذا!؟
هذه أيضا بعض الجوانب المرعبة من الحلم.. فقد رأى حلم السلام بمعنى الهلاك. وهناك أيضا ناحية تحذيرية في حلمه أرى أنها تتضمن تدبير عذر لمهاجمة الضفة الشرقية حتى يمتد الاحتلال الإسرائيلي على الضفتين. ويؤيد حدسي هذا محاولاتٌ تاريخية عديدة منذ البداية وحتى اليوم أشرت إليها آنفا. فاليهود يتوسعون في الأرض دائما، وسياسة التوسع ليست في زيادة عددهم فقط، بل ولزيادة مساحة منطقتهم أيضا. وحلم إسرائيل الذي ارتآه اليهود منذ البدء هو أن يجمعوا اليهود من كل المناطق المضطهدة ويوطنوهم في دولة حرة لهم. ودون دخول في التفاصيل، أقدم لكن عدد السكان اليهود في بعض البلاد: في إسرائيل مليونان ونصف، أمريكا 5 ملايين، روسيا مليونان ونصف. وهناك برنامج في الوقت الحالي لتوطينهم في إسرائيل، والبرنامج مستمر، وعند اكتماله ينتقل مليونان ونصف يهودي إلى إسرائيل. وهذا يعني مضاعفة عدد سكان إسرائيل. وهذا يحتاج إلى مزيد من الأرض هذا شيء بيِّن واضح طبيعي. وكل أرض يحتلونها اليوم هم بحاجة إلى أكثر منها لتفي بحلمهم. وفي نفس الوقت.. هجرة اليهود من أوروبا وأمريكا مستمرة.
وحول هذا الموضوع سوف أعرض عليكم بعض الأمور في خطبتي القادمة إن شاء الله تعالى، ولكني أود الآن أن أخبركم في إيجاز أنه في مقدمة الأسباب التي أُخبرنا بها عن إقامة دولة إسرائيل هو أنهم غير آمنين في البلاد الأوربية، وتعرضوا فيها للفظائع. ولو كان هذا حقا هو الغرض من إنشاء إسرائيل فإن الحلم الإسرائيلي لن يتحقق ما لم يفسح مكان في فلسطين لليهود المقيمين في البلاد الغربية. والاتجاه الحالي يشير إلى نفس الأمر، أي كيف يتقدمون.
ففي حلم الرئيس بوش وجه تحذير بضرورة احتلال الضفة الشرقية من الأردن. أما كيف يتقدم هذا الحلم فيما بعد، وإلى أي مدى سوف يبتلع العالم.. فهذه يحتاج إلى تفصيل طويل. وبإيجاز أشعر أنها مسألة أدوار.
وما دامت القوى المسلمة لم تدمر واحدة بعد الأخرى.. لن يتحقق حلم الرئيس بوش. فمن عليه الدور؟ لا أستطيع القول هل هي باكستان أم سوريا؟ باكستان تحلم بأن تكون قوة نووية، ومسألة وصولها إلى ذلك أم لا موضوع جدلي، ولكن هناك طرقا عديدة لتدمير باكستان. فهناك مشكلة كشمير، ومشكلة السيخ بوسعهم تحريض الهند والسماح لها بالهجوم على باكستان. وبوقف المساعدات الدفاعية والاقتصادية بجعلون القوة الباكستانية عديمة الجدوى والسلاح، فلا يبقى لها قوة للدفاع عن نفسها ضد هذا الهجوم. يمكن أن يكون هناك كل أنواع المؤامرات، والخطر ماثل بلا شك.
وسوريا بالتأكيد تواجه الخطر لأنها قوة كبيرة أيضا. ومن الخطأ الفادح، ومن الحماقة أن تحسب سوريا نفسها بمأمن من الخطر لأنها انضمت إلى القوى المتحالفة. مادامت إسرائيل هناك فسوريا في خطر.
وإيران أيضا تواجه الخطر، وتركيا أيضا.. وأشعر أنهم سوف يحققون حلمهم بإثارة النزاع بين البلدين.. والنزاع قائم اليوم، فيشعلون بين إيران وتركيا حربا بالطريقة التي اتبعها الأمريكان وحلفاؤهم عندما هيجوا العراق لمهاجمة إيران، وساعدته في هذا السبيل بلاد عربية متحالفة مع أمريكا، وزودت بلاد الغرب العراق بأسلحة الدمار الشامل، وساعدته مساعدة كلية.
هذه هي خلفية الحلم.. نستطيع أن نرى في أي اتجاه يتقدم الحلم وينتشر. وعلى ضوئها سوف يتحقق الحلم في النهاية كما فعلوا في الماضي.. يستخدمون قوة إسلامية، يعطونها القوة لهدم قوة إسلامية أخرى، ثم يعدون خططهم لتحطيم القوة الأخيرة مستعينين بقوى إسلامية أخرى. فما هي الخطوة التالية؟ إنهم سوف يقضون على ما تبقى من البلاد الإسلامية التي تتمتع بقدر من القوة واحدة بعد الأخرى. هذا هو حلم الموت الذي رآه الرئيس بوش، وسماه حلم السلام!
لقد ذكرتني أيديهم الملوثة بدماء المسلمين العراقيين والفلسطينيين المستضعفين وغيرهم من العرب.. بأسطر من رواية ماكبث (Mc. Beth). لما سلَّطتْ ليدي ماكبث زوجَها لقتل ملك اسكتلندا، فقتله وهو نائم، أصابها رد فعل سيكولوجي جعلها تحسب نفسها القاتلة الفعلية. ونتيجة لهذا المرض النفسي كانت تغسل يديها باستمرار وتقول: لا تزال رائحة الدم في يدي.. ولن تستطيع كل العطور العربية تعطير هذه اليد الصغيرة. أي أن رائحة الدم ستبقى في يدها، لا تزيلها العطور العربية القوية.
وموضوع الرئيس بوش يختلف شيئا ما عن ذلك، فإن يده التي تلوثت بلون دماء العرب المسلمين لن تكف عن مطاردة أمريكا وحلفائها، ولن تقدر عطور العالم كله على تعطير ريحها اللاذع وتحويل مرارتها إلى الحلاوة.
وبمناسبة حلم السلام الأمريكي أقدم لكم مناجاة ماكبث لنفسه بعد أن جفاه النوم. كانت جريمة قتل الملك شديدة الوطأة على ضميره القلق، ولم يغفر لنفسه ما فعله، وفارقه النوم ليلا، وقال يصف حاله:
فلأنه قتل المالك النائم.. لا يمكن، تحت الضغط النفسي، التعبير عن مقتله بأحسن من هذه العبارة: لقد قتلتَ النومَ عندما قتلتَ النائمَ.
فإذا بدلنا كلمة واحدة هنا أمكن أن تكون العبارة مناسبة لحال الرئيس بوش، فأقول:
وأشعر، إنْ تحقق الحلم الأمريكي، بصوت صراخ مسموع يقول: إن سلام هذه المنطقة، بل العالم كله.. لن يستقر أبدا.. فقد قتلته أمريكا.
ماذا نستطيع عمله؟ هذا ما سوف أخبركم به في خطبة الجمعة القادمة، إن شاء الله تعالى. وأود الانتهاء من هذا الموضوع.. لأعود سريعا إلى موضوعي الحقيقي الأبدي.. ألا وهو موضوع العبادة ووسائل الاستمتاع بها.
خطبة 15/02/1991
فيما يتعلق بحرب الخليج، شرحت لكم أمورًا مع خلفيتها، لنفهم لماذا يدخلون الحرب، وأنه ما لم نتفهمها تماما فلن يكون بوسعنا حقا صنع خريطة جديدة للعالم. والموقف الراهن هو أن الجهد المبذول لإقرار السلام قد تسارع فجأة، ويرتبط بذلك مصلحتان لأمريكا. فقبل الشروع في الهجوم الجوي تركوا في العالم انطباعا بأننا قدمنا مرارا لصدام حسين مقترحات معقولة، ونريد أن نقر السلام، ولا نريد الحرب، ولكن انظروا كيف يرفضها رفضا متواصلا. والحرب توشك أن تدخل في مرحلة أخرى، فيها خطورة شديدة من بعض النواحي على القوات المتحالفة.. فهم وإن كان لهم التفوق المادي والقدرة على إصابة العراق بأشد الضرر.. لكنهم سيتعرضون لخسارة كبيرة في الأرواح. فشرعوا في هذه المرحلة حملتهم الدعائية مرة ثانية التي يهدفون بها إلى كسب ميزتين: إذا كان تقدير الخسائر العراقية يصيب صدام حسين بالفزع، ويثير الرأي العام في العراق ضده لأنهم قاسوا ما يكفي من الدمار، ويحبّون إنهاء الأمر وقبول مطالبهم.. بالانسحاب من الكويت، فبذلك يكون هدفهم من تدمير قوة العراق قد تحقق، وفي نفس الوقت تتحرر الكويت، وتنقذ أرواح الأمريكان التي يخشون فقدانها. وعند هذه المرحلة أرسلوا إلى بغداد مبعوثيهم من الدول التي سوف تعرض الأمر بحيث يبدو كأن الأمر هكذا: كل ما عليك هو الانسحاب من الكويت وعندئذ ينتهي النزاع. يجب ألا تصر.. فقد نلت ما يكفي من الدمار.
ولكن الموقف الحقيقي ليس هكذا. لقد ذكرت لكم في إحدى خطبي السابقة أن هذا كله كذب وخداع، فلم يرفض صدام حسين أبدا الانسحاب من الكويت. كان موقفه دائما أن هجومي على الكويت عمل عدواني، ولكن ثمة أعمال عدوانية أخرى وقعت من إسرائيل على البلاد الإسلامية، ولا يزال احتلالهم قائما بالرغم من أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن قد أصدرا قرارات متكررة تدين الاحتلال الإسرائيلي وتصمه بعدم الشرعية. فإذا كنتم حقا ترغبون في السلام فلتكن هناك مناقشة لكل هذه الأمور. ليست مسألة الكويت فحسب، بل ينبغي النظر في أمر تحرير الكويت، وأيضا تحرير الأراضي المحتلة.. كي ينتهي هذه الموضوع الذي لم يزل مصدر فظائع منذ زمن طويل.
وما برحت أمريكا ترفض ذلك بقوة حتى إنها كانت تعطي تعليمات صارمة حول هذا الرفض.. لكل مبعوث ذاهب إلى العراق ليضغط عليه، حتى السكرتير العام للأمم المتحدة بيريز ديكويلار حمل هذه التعليمات بألا يبدأ أي بحث حول هذا الموضوع، ولا يربط أبدا بين مشكلة فلسطين والكويت في المباحثات بأي طريقة.. لأنهم إذا بدأوا بحث الموضوعين سويا لانكشف الخداع الأمريكي مما يخلق مشكلة سيكولوجية لأولئك العرب الذين يساندون أمريكا. أمريكا ترفض أن تضغط على إسرائيل للانسحاب بينما تصر على العراق بالانسحاب.. إنه خداع وظلم مفضوح بحيث يتعذر على أية حكومة مسلمة أن تستمر في مساندتهم. وهناك سبب آخر لاستمرار حكومات البلاد الإسلامية في تأييدهم.
وفيما يتعلق باللوم.. فإننا لا نستطيع إلقاء المسئولية على طرف واحد. الموضوع طويل جدا، وسآخذ مزيدا من الوقت لشرحه، بيد أني أشعر بأن الله وحده يعلم كيف ومتى تنتهي هذه الحرب، ولكنها عندما تنتهي لن تنتهي المشاكل، بل سوف تزداد. وأول ما خرج للضوء نتيجة لهذه الحرب بوضوح هو موضوع هذه الآية القرآنية: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ، أي رمت الأرض بمصاعبها ومشاكلها المتعلقة بالشرق الأوسط. بل وكل مشاكل العالم المشابهة خرجت جلية أمام عيون العالم. كيف ستكون خريطة العالم الجديد؟ وماذا ستكون العلاقات بين الدول الكبرى والصغرى في هذه الخريطة الجديدة؟ وما الدور الذي سوف تلعبه الأمم المتحدة، إذا كان باستطاعتها أن تؤدي دورا محددا. كل هذه الأمور وأمثالها تواجه العالم اليوم. من يملك السيطرة على ثروات النفط، وكيف يكون التصرف فيها؟ وسواء تكون هناك حرب أم لا، وسواء تنتهي الحرب أم تستمر.. فسأمضي في موضوعي حول مشاكل العالم المستمرة.
وفيما يتعلق بمسئولية الحرب أشعر أن الرئيس صدام حسين يتحمل بالتأكيد مسئولية مهاجمته للكويت، وكان متسرعا في هجومه. ونتيجة لذلك أساء إلى سمعته الشخصية وسمعة العراق أيضا. وكان أعظم الأضرار وقوعه في فخ العدو. هناك الجدل حول هذه المسألة عمن هو المسئول.. ويعترف أهل الفكر والمثقفون حتى من أمريكا من الفئة العليا صراحة أن النصيب الأكبر من المسئولية واقع على أمريكا. وجريمة صدام أنه وقع في الفخ الذي نصبته له أمريكا.. هي أعظم جرائره، فهو مسئول أيضا من هذا الوجه.
أما عن سلوك أمريكا فأقرأ لكم تصريح جيمز أكينز (James Akins)، السفير السابق للولايات المتحدة لدى العراق. كتب يقول: أوقعت الولايات المتحدة صدام حسين في غزو الكويت بتعليماتها إلى السفيرة الحالية أبريل جلاسبي (April Gillespie)، كي تشجعه وتؤكد له أن المسألة هي من الشؤون الداخلية للعراق ولن نتدخل فيها (Canadian Ecumenical News. Jan & Feb 1991,p3)
وقال الجنرال ميكل دوجان رئيس الأركان لسلاح الطيران الأمريكي الذي بسبب بيانه هذا أمام الصحفيين أقيل من منصبه، بأن أمريكا تهدف قطع رقاب صدام وأسرته وأعوانه لتنتهي المشكلة من الأساس. وإن قواتنا الجوية مستعدة لتنفيذ هذه الخطة التي اقترحتها إسرائيل. (Aviation Week & Space Technology, Sep24-1990, USA &Times, Oct 1-1991,USA)
هذا التصريح من رجل يشغل منصبا رفيعا كرئيس الأركان له ثقله.. فهو ليس تصريحا لمعلق عادي. فالواقع أنه كانت هناك مؤامرة لترتيب هجوم لاغتيال على الرئيس صدام وأسرته، وعلى كبار الضباط، وبهذه الطريقة أرادوا تسوية المشكلة!
وأبدت أمريكا إزاء هذا رد فعل عنيف، ولكن لا عذر لها في إنكار التصريح.. فمن الحقائق الثابتة أنهم رتبوا سابقا هجومًا مماثلاً على الرئيس القذافي، وتعلم الدنيا كلها ذلك. القانون الأمريكي لا يسمح للرئيس بترتيب اغتيال أحد في دولة أجنبية، ولكنهم لا يزالون يقومون بعمليات اغتيال تحت اسم “العمليات الخفية”. وعندما تنفضح هذه العمليات الخفية تصبح جريمة كبرى. فأمريكا تتحمل مسئوليتها الكبرى بكل يقين.
ثم هي عملية باسم الأمم المتحدة، في حين أنهم في الواقع قد اشتروا كثيرا من البلاد، وضغطوا على بلاد كثيرة أخرى، ودفعوا كثيرا من الرشاوي الآجلة.. وكل هذا لعبة أمريكية. وبهذا الصدد لم يزل الرئيس صدام يقول: إن استخدام اسم الأمم المتحدة لتبرير هذه العملية سخرية واستهزاء بالأمم المتحدة نفسها. فمن الناحية العملية أمريكا هي التي تفعل ذلك وليست الأمم المتحدة. وعندما زار سكرتير الأمم المتحدة أخيرا صدام حسين للتباحث معه، أخبره أن العملية كلها خداع للعالم، إنها عملية أمريكية، ومن الخطأ القول بأنها من الأمم المتحدة. فأقر ديكويلار أنه شخصيا يوافق على قوله مائة بالمائة وأن هذا ما حدث تماما، ولكنه من الناحية الرسمية ليس في موقف يسمح له بإعلان ذلك. وحاولت أمريكا إخفاء هذه الملاحظات عندما عاد السكرتير العام وقدم تقريره عن مهمته متضمنا بعض أمور مشابهة، ولكن الرئيس صدام حسين أذاعها، ونشرتها الصحف البريطانية التي اطلعت عليها. (Guardian 12-2-1991)
فالمسئولية الأولى تقع على كاهل أمريكا.. بالرغم من أن الرئيس صدام قد استغِلَّ. وفيما يتعلق بمسئولية الرئيس صدام فثمة أمور تجعل بوسعنا القول أنه عديم الحيلة. ولكن مسئولية الحلفاء واضحة، وهم فعلوا كل تلك المظالم لأغراضهم الذاتية. كل طرف من الحلفاء له أغراض ومصالح خاصة ترتبط بها.
وإسرائيل مسئولة لأن الخطة كلها من وضعها كما سبق الإشارة إليها. فليس هناك مكيدة لإسرائيل أعظم من القضاء على قوة إسلامية مناهضة يمكن أن تمثل تهديدا حقيقيا لها في الحرب.. بحيث تتحمل النفقات البلاد الإسلامية أو بعض الحلفاء الآخرين، وتكون الجنود لهذه المكيدة من الأمريكان والبريطان والعرب، ويكون الغنائم لإسرائيل، كما تجد فرصة لاحتلال مزيد من الأرض، وتكسب تسعة بلايين من الدولارات، ويبقى لها بعد تدمير العراق تماما، لا سمح الله، الحق من الثأر من البلد الذي يعاني سكرات الموت. فالميزة العظمة من هذه الجريمة كانت لإسرائيل، وعليها معظم هذه المسئولية.
والأمم المتحدة أيضا مسئولة. عندما بدأوا الشراء والبيع في أعضاء مجلس الشعب الباكستاني قيل: إنهم يتاجرون في الخيل. كانت فعلا جارة خيل، ولكن من أين تعلموا هذا التعبير.. للدلالة على شراء أعضاء المجلس لأغراض سياسية؟ كيف بدأ وكيف فكروا فيه؟ لقد علمنا الآن أن المفهوم جاءهم من أمريكا.. لأنهم هناك عند شراء الأصوات فتحوا تجارة للخيل داخل الأمم المتحدة. وإذا كانت الأمم المتحدة قد صارت فعلاً سوقا تستطيع الأمم الغنية الشراء فيه بثروتها، فهي ليست ترتكب فقط أبشع جريمة وإنما انتحارًا أيضا، وقد ضاعت الأمانة والثقة في هذه المنظمة إلى الأبد.
وإلى جانب ذلك هناك خلفية تاريخية ينبغي أن تضعوها تحت نظركم. ولا داعي هنا للدخول مرة ثانية في تفاصيل مسلك حكومة بريطانيا ومؤامرة اليهود التي طبخت لإنشاء إسرائيل. بالاختصار صاغ الدكتور تيودور هرتزل (Dr. Theodor Herzl) الخطة عام 1897، وعين تحت مظلتها كثيرا من علماء اليهود ومفكريهم للتغلغل داخل القوى الغربية. ومن بين هؤلاء الكيميائي وايزمان (Weizmann)، الذي كان خبيرا كبيرا في الكيمياء ومن مواطني بولندا، وتعلّم في ألمانيا، وجاء إلى بريطانيا، وأنشأ علاقات مع ذوي النفوذ، وكان أشد تأثيرا في اللورد بلفور (Lord Belfour) الذي كان وزير الخارجية في وزارة لويد جورج من عام 1915 حتى 1918. وإن أكبر جهد لإنشاء إسرائيل قام به بلفور. ولذلك تتحمل بريطانيا رسميا مسئولية النزاع الحالي، لأن الموضوع برمته غير شرعي، ولا حق له في الوجود. فتوجههم إلى بلد، ثم فرضهم عليه قوما ضد رغبتهم، وضد شروط الانتداب، وضد اتفاقياتهم أنفسهم، لهو ظلم مستمر ما بعده ظلم.. لا مبرر له على الإطلاق. لقد لعبت بريطانيا أكبر الأدوار في ذلك، ولذا هي شريكة دائمة في المسئولية.
ولكن دعوني أخبركم بأن الأمة البريطانية في مجموعها لم تكن متورطة في هذا التصرف عند بدايته. وتدل دراسة الصراع الذي دار بين عامي 1917 و1920 في بريطانيا على أن المسلمين أبدوا كثيرا من الجهل أيضا. ففي الوقت الذي كان اليهود ينشرون فيه فخاخ مؤامراتهم في جميع الاتجاهات ويؤثرون على أصحاب النفوذ.. بقي المسلمون مهملين ذلك. قام اللورد كرزن (Lord Curzon)، الذي خلف بلفور في وزارة الخارجية، والذي ناصر المسلمين كثيرا.. بكشف أشد الأمور غرابة بحيث لا يكاد المرء فهمها. فبينما كان اليهود مشتغلين بنشر مؤامراتهم باذلين أقصى جهودهم، كان العرب يَبدُون كالمتفرج يختلس النظر من فرجة ضيقة، وليس مسموحا لهم بالدخول، أو أنهم أنفسهم لم يكونوا يدرون بما هنالك.
على كل حال.. فالقول بأن الأمة بكليتها مشاركة في هذه المؤامرة ليس صحيحا. لقد فتح اللورد كرزن الباب بشدة، وفهم الهدف والغرض من إنشاء دولة إسرائيل، وكتب:
“إنهم ضغطوا عليَّ مرارا كي أقبل بالصلة التاريخية بين إسرائيل وأرض فلسطين، ولكني أعرف أنها مؤامرة عميقة، وشديدة الخطورة وذات آثار بعيدة المدى. وإذا ما قبلنا بها فلن يكون لدينا عذر لكبح جماح اليهود والسيطرة عليهم. سوف يكررون كل تاريخهم القديم، ويقولون لقد فعلنا كذا وكذا في موقع كذا وكذا.. فاليوم لنا الحق في كذا وكذا!!
(The origins & Evolution of the Palestine Problem 1917-1989, P21 to 28, Published By UNO)
كان الرجل على طول الخط صلبا، وفعل كل جهد بوسعه ضدها؛ ولكن نتيجة لخططهم السرية ظلت وزارة لويد جورج تحت دائرة النفوذ اليهودي. وفي النهاية تركوا الأمر يمر في البرلمان، وأقروا بإقامة دولة لليهود في فلسطين على أساس من الصلة التاريخية. واعترض اللورد كرزن أولا على العبارة الأولى للقرار بشدة، ولكنهم غيروها بدهاء إلى صلة تاريخية. ولكن صيغة القرار التي لا أستطيع قراءتها الآن، عندما تتطلعون عليها ستندهشون، لأنهم استخدموا أسلوبا أشد ما يكون مكرا بحيث يُحقق كل أغراض اليهود.
وعندما عرضوا القرار أمام مجلس اللوردات قاموا باستخدام العدل الكامل، بل حذروا أمتهم من اتخاذ مثل هذه الخطوة لأنها ظلم فادح شديد الخطورة سيؤدي إلى أضرار بعيدة المدى، ولا نستطيع التكهن متى تتوقف هذه النتائج الضارة له.. وهكذا رفض مجلس اللوردات المشروع، بعد ذلك عرض المشروع على مجلس العموم مرة أخرى فوافقوا عليه.
كان اللورد سيدنهام Lord Sydenham))، عضو مجلس اللوردات يرد على بلفور قائلا: “ربما لا يمكن علاج الضرر الذي وقع نتيجة إلقاء سكان غرباء على قطر عربي، والعرب يحيطونه بما وراء الساحل، ولم يكن ما فعلناه حقًا ممنوحًا للشعب اليهودي، وإنما هي تنازلات لقطاع من الصهاينة المتطرفين، كي يشرعوا في تكوين قرحة مؤلمة، لا يدري أحد إلى أي مدى تمتد هذه القرحة” (المرجع السابق ص 29).
وإذًا كان هناك عدل في الأمة البريطانية، ولا يزال هناك اليوم. فمثلا تعبر فئة من كبار المفكرين بشجاعة عن آرائها الأمينة، ولكن، كما قلت، فإن المؤامرات عميقة وتمتد بعيدا بحيث أنهم واقعون في قبضة اليهود.
واليوم يقع اللوم على أمريكا، ومع ذلك كان هناك إنصاف في أمريكا. فمثلا المبادئ التي وضعها الرئيس ودرو ولسن (W. Wilson) عام 1918 والتي تتضمن تمسك أمريكا بتلك المبادئ واحترامها ولا تدعها تتبدل… وهي بأن للأغلبية في أية منطقة الحق الأول في المشاركة لاتخاذ القرار الذي يتعلق بمصيرها، وهو المعروف بحق تقرير المصير. فإذا لم يقبلوا شيئا فلا يحق لأحد في الدنيا فرض قرار عليهم. هكذا كان موقف أمريكا آنذاك. كانوا أرسلوا لجنة معروفة باسم لجنة (king crane)، إلى فلسطين عام 1919.. قدمت تقريرا عادلا ومفصلا. جاء في هذا التقرير: نؤكد لكم أنه لا يمكنكم إقامة دولة إسرائيل هنا بدون استخدام قوة كبيرة، وبدون سفك الدماء غزيرة. فما الداعي لفعل إلى ذلك؟ لأن هؤلاء الناس عاشوا هناك منذ 2000 سنة؟ إذا قبل هذا المنطق لانمحى العقل والعدل من وجه الأرض! إنه منطق سخيف ولا ينبغي أخذه في الاعتبار.
ما أشد الفارق بين ذلك الوقت ويومنا هذا! القوة الأمريكية كلها تلعب في كف اليهود كالدمية؛ ولم يعد هناك عدل، ولا إدراك ولا قيم أخلاقية، ولا شيء.
وعيب المسلمين أنهم كان من الواجب عليهم تقدير الموقف بذكاء. عندما كان اليهود يعملون على زيادة تأثيرهم في تلك المواقف.. كان ينبغي على المسلمين استخدام نفوذهم وتغلغلهم. ولكن يبدون أنهم بعد إنكار سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، لم تعد بهم قيادة تتفكر في مشاكل الأمة الإسلامية كلها، وتمضي بهم قدما كجسد واحد، مرتبط بعقل واحد وقلب واحد.
وفي بريطانيا لا يزالون هم على نفس القدر من الصراحة.. ففيما يتعلق بالأسباب، وما هي أهدافهم، ولماذا يقاتلون في هذه الحرب كتبت بمجلة “سوشياليست ستاندارد” (Socialist Standard)، حول كل ذلك في عدد نوفمبر 1990: “قبلت جريدة سنداي تايمز (Sunday Times)، بأن أغراضهم أنانية، فقالت: “أما عن السبب فليس تحرير الكويت.. وإن كان ذلك مرغوبا، كما ليس الغرض حماية السعودية وإن كان هذا هامًا أيضا، وإنما الهدف القضاء على صدام الذي صار خطرًا على المصالح الغربية الحيوية في الخليج، وخاصة التدفق الحر للنفط بأسعار السوق، وهو أمر جوهري لرخاء الغرب”. ولكن هذا ليس في الواقع اعترافا كاملا، لأن الهدف الأكبر هو حماية إسرائيل إلى الأبد من أي خطر من العراق، وإزالة هذا التهديد عن إسرائيل بحيث لا تستطيع أي بلد مسلم تحديها. وهذا الهدف وثيق الصلة بالبترول؛ لأن من أسباب إنشاء إسرائيل هو إقامة حارس على البلاد الإسلامية قادر على تعنيفهم عند اللزوم، وذلك يعني أنه عندما لا تتفق البلاد الإسلامية مع متطلباتهم ينبغي أن يكون هناك ممثل لهم يلقنهم الدرس المطلوب.
تعالوا بي الآن أخبركم عن تكلفة الحرب. أنفقوا حتى الآن 89،5 بليون دولار على الحرب، منها 30 بليونا بمعدل بليون كل يوم، وقد مضى شهر على الحرب. ويقال أن أمريكا قد أنفقت 9 بلايين وبريطانيا بليونين قبل أن تبدأ الحرب. وليس هناك أرقام مؤكدة للنفقات الحربية البريطانية لكل يوم وهذا مبلغ إضافي. وبجانب ذلك هناك ما أنفقوه لشراء الحكومات الأخرى.. فقد أسقطوا 21 بليونا من ديون مصر. ومن ذلك تستطيعون تقدير الثمن الذي قبلوا به بيع المصالح الإسلامية. ودفع حتى الآن 13 بليونا لإسرائيل كمكأفاة وتقدير لضبط النفس العظيم الذي أبدوه بعد إصابة عدد قليل منهم بصواريخ سكود العراقية وتجنبهم الانتقام الفوري. قال الإسرائيليون: بعد تدمير العراق وتمزيقه إربا.. سيأتي يوم الانتقام بما تقر به قلوبنا. وتقول أمريكا بأن هذا ضبط نفس عجيب سندفع من أجله 13 بليونا من الدولارات بالإضافة إلى أشياء أخرى كالأسلحة وغيرها.. وذلك على سبيل الهدية.
وفيما يتعلق بروسيا.. كشفت جريدة “العرب” التي تصدر في بريطانيا أن السعودية دفعت 3 بلايين، كما دفعت الكويت بليونا للاتحاد السوفييتي. وهناك بعض النفقات المتنوعة لتركيا وسوريا، مع وعود لا ندري عنها بعد الحرب.
بالإضافة إلى هذه النفقات.. هناك الخراب الرهيب الذي وقع. كان تقدير المراقبين بضعة أيام أن الدمار في الممتلكات يتطلب 50 بليون دولار لمجرد بناء الكويت. ويقدر هذا المبلغ 10 مرات لبناء العراق، أي 500 بليون، فهذا الإنفاق المرتفع للغاية هو غير الإنفاق الذي يتم على الحرب والرشاوي. وفوق كل ذلك ما فقد من أرواح.. وما قاسته البشرية من أهوال، وما عانته بلاد العالم الثالث من أضرار اقتصادية تبلغ 200 بليون اليوم، ويقول المعلقون أنها سوف تزيد ولا يمكن أن تنقص.
ثم هناك أضرار البيئة.. من تلوث في الجو وتلوث في البحر. وعندما حدث تلوث في الخليج.. اعترف الجنرال الأمريكي مزهوَّا بأنهم نجحوا في ضرب حقول البترول بالكويت، وأن البترول ينساب منها. ولكنهم في اليوم التاي بدلوا القصة بأكملها وألقوا باللوم على العراق، وقالوا: إنها بلد أثيم.. لم يرحموا حتى الطيور لقسوتهم. كان هناك بعض طيور مغموسة في النفط لم يتوقفوا عن عرضها مرات ومرات.. يريدون بها بيان قسوة صدام حسين وكيف لم ينج من قسوته وشروره حتى الطيور الصغار. ومقارنة بهذا الضرر الذي يثبتون به للعالم تعاطفهم مع الإنسان وكل أنواع الحياة، فإن مسلكهم الذي أبدوه بالنسبة لمعالم العالم.. أود أن يكون واضحا لكم لأنه كله خداع. لقد وضح سيدنا محمد المصطفى تاريخ كل هذه الحقبة المعاصرة مع تفاصيلها الكاملة في كلمة واحدة: الدجال. إنه خداع مدهش رهيب.
إن إفريقيا تواجه المجاعة منذ سنوات، والملايين من الناس.. رجالا ونساء وأطفالا يتحولون إلى هياكل عظمية تموت في معاناة شديدة، ولا يلتفت أحد إليهم. لقد سمعتم منذ لحظة تقديرات نفقات الحرب: يتطلب إصلاح الخراب 550 بليونا من الدولارات، وقد أنفقوا 100 بليون تقريبا، و200 بليون خسائر العالم الثالث؛ فيه وجبة تتكلف 1000 بليون من الدولارات.
وعلى الجانب الأخر هناك 25 مليونا من الأفارقة يموتون جوعا حسب تقدير الأمم المتحدة. وإذا احتجتَ دولارين لطعام يومي لرجل واحد في إفريقيا، فإنك لإنقاذ 25 مليونا من الموت جوعا طول العالم تحتاج إلى 1،5 بليون دولار فقط. يمكنكم الآن تصور هؤلاء القوم الذين لا ينظرون نظرة رحمة على 25 مليونا من الناس في إفريقيا، ويُمطرون الموت على رؤوس 16 مليونًا من الناس في العراق بإنفاق جبال من الثروات. تصوروا أن ما عندهم من تعاطف فهو لبضعة طيور! يخلقون كل هذا الضجيج من أجل موت بضعة طيور!! إن هذا إلا خداع وخبث. كان ينبغي عليهم أن يظهروا الاحترام لحياة البشر أولا. كان ينبغي عليهم أن يهتموا بالفقراء المتضورين جوعا في أفريقيا وغيرهم من الشعوب. كان ينبغي عليهم محاولة القضاء على عدم التوازن الاقتصادي.
بذلك يمكنكم إدراك معنى بليون من الدولارات لخمسة وعشرين مليونا من الناس.. يستطيعون إطعامهم عاما كاملا ببليون ونصف. ينفقون بليون دولار كل يوم ليصبوا الهلاك، ولكنهم لا يستطيعون إنفاق بليون لحفظ حياة 25 مليونا من البشر لمدة تسعة شهور!!
يذكرني هذا بالحادثة التي ذكرها ونستون تشرشل قال: كان مستر لويد جورج ساخطا على السير إدوارد جراي، فاعتذرت عنه قائلا لمستر لويد جورج الذي كان حادا: حسنا، نعرف على أي حال أن الألمان لو كانوا هنا.. وقالوا لجراي: إذا لم توقع هذه المعاهدة سوف نرميك بالنار فورا.. فمن المؤكد أن رده سيكون: لا يليق أبدا بوزير بريطاني أن يرضخ للتهديد. لن يتم هذا الشيء.
ولكن لويد جورج أجاب: لن يقول له الألمان هذا لو كانوا أذكياء. إنهم سيقولون: إن لم توقع هذه المعاهدة فسنخنق الجميع سناجيبك وعندئذ سوف ينهار!
(Great Contemporaries, by Winston S. Churchill, P240, London) أي أنهم إذا هددوه بقتل سناجيب يحفظها كحيوانات مدللة يوقع المعاهدة على الفور.
ومعنى ذلك أن إحساسهم بالتوازن قد فسد، وأصابه التلف من زمن طويل. إنهم يهينون البشر من أجل الكلاب، ولا يستطيعون تضحية اهتماماتهم الأنانية من أجل إخوانهم من الناس. ومن ثم فهم مسؤولون مثل غيرهم، وإذا لم يحاسبوا على جرائهم اليوم فلسوف يقدمون عنها الحساب غدا.
ذكرتُ لكم ما وقع من أضرار ومعاناة، ولكن لا يزال هناك مزيد من الأضرار وبعض المزايا أيضا. وقد ذكر بعض المعلقين المطلعين أن من أسباب دخول أمريكا في الحرب عقدة فيتنام التي استهلكت الرئيس بوش وأمريكا. لقد وقعت حادثة مشابهة في فيتنام، فقد ضربوها بالقنابل بشدة لم تحدث قط من قبل. لقد دمروا قرى بأكملها، وأهلكوا كثيرا من الحياة، وأضروا باقتصاد فيتنام بما ينذر أن يرى المرء مثل هذه الفظائع من جانب واحد ترتكب ضد بلد آخر. ومع ذلك فشلت أمريكا في تحطيم عظمة الشخصية لدى هذه الأمة. لم يتمكنوا من إجبار شعب فيتنام على إحناء الرأس أمامهم. واستمرت هذه الأمة تقاتل وتضحي بالأرواح ولم تركع أبدا أمام سيادة أمريكا. وفي النهاية تحطمت عزيمة أمريكا، وتبعثرت خيلاؤها، واضطروا إلى التراجع والانسحاب من فيتنام بغير أن يحققوا غرضهم. كثير من الناس يسيئون الفهم عندما يسمعون حكاية فيتنام.. ويحسبون أن الرأي العام في أمريكا وتعاطفهم الإنساني.. أن كفى ما دمرتم من الحياة، ويجب ألا يتكرر مرة أخرى.. هو السبب في تراجع الأمريكان. كلا، قطعا ليس هذا بصحيح. ما كان الرأي العام الأمريكي ليتألم حتى لو هلك عشرة ملايين من الفيتناميين. ما كان ليعاني بقدر ما عانى لهلاك بضعة طيور بحرية. ولكن ضياع الأرواح الأمريكية، وتحدي الصلف الأمريكي كان جحيما روحيا ما كان باستطاعتهم تحمله.
فمن بين أسباب هذه الحرب أيضا كانت تلك الخلفية السيكولوجية. يرى الأمريكان كبرياءهم المهشم، وتدمى جراحهم إلى اليوم، فيحسون الحرقة في قلوبهم.. ويريدون الانتقام من فيتنام في العراق، ويقولون في أنفسهم: سوف نحطم عزيمتهم ونشعر بالراحة والرضا.
ويجب علينا أن ندعو الله تعالى ألا يسمح للآلهة الباطلة أن تفرض نفسها على عباده. إن أشد آلام الدنيا هو ما يصيب توحيد الله من جراح. إذا تركت الأرباب الباطلة تمارس ربوبيتها.. فمن أين يأتي عباد الله الإله الواحد الأحد.. وأين يعيشون؟ إنهم لا يستطيعون العيش بعد ذلك في هذه الدنيا. فأعظم الأخطار هو على توحيد الله تعالى، وعلى بيت الله تعالى، وعلى شرف يبت الله تعالى. إن الخطر على سمعة توحيد رب المصطفى . الحق أنه لن يكون الخطر إن شاء الله على التوحيد.. ولكن استثارة لتأييد الله تعال.. يجب أن نتضرع ونبتهل كما ابتهل النبي الأكرم يوم بدر، مشيرا إلى تلك الحفنة القليلة من صحابته الأوفياء. المحبين لله وللرسول: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض أبدا. فالمسألة اليوم هي مسألة شرف توحيد الله وتفوقه. ويمثل الأحمديون جبهة باسلة في هذا المجال. وأقول لكم بإيمان راسخ أن الأحمديين في مشارق الأرض ومغاربها.. كأعضاء الجسد الواحد.. مستعدون اليوم للتضحية بكل شيء في سبيل توحيد الله، ومستعدون غدا، ومستعدون دائما، إن شاء الله تعالى.
تذكرون أن سيدنا الخليفة الثالث لسيدنا المهدي كان يقول “إن القرن القادم هو قرن غلبة التوحيد وتمكنه”. وهذا صحيح تماما. فكل المخاطر التي يتعرض لها توحيد الله اليوم إنما تشب كي تعدّنا وتخبرنا: لقد أُقمتم لأداء هذه المسئوليات العظام.
وأهداف هذه الحرب، وما في خلفياتها من أسباب نفسية، كل هذه وثيقة الصلة أيضا بالتاريخ. ولما كنت أريد إنهاء هذا الموضوع في خطبتي القادمة إن شاء الله تعالى، لذلك سأطيل خطبة اليوم قليلا حتى لا يطول الموضوع إلى الخطبة الرابعة.
هناك خلفية تاريخية لهذه الحرب أو لإنشاء إسرائيل بكل حروب المسلمين والنصارى. لابد وأنكم تذكرون أن الغارات الصليبية بدأت عام 1095. واسترد السلطان صلاح الدين فلسطين عام 1190 أو 1191، فلم يتمكنوا بعدها من الاستيلاء على فلسطين.. واستمرت هذه الحروب لمدة 200 عام. لم يكن المسلمون أبدا البادئين لهذه الحروب، ولكن البلاد الأوروبية تضافروا في الغارات على العرب المسلمين ثماني مرات. كانوا ينجحون أحيانا، وينهزمون أحيانا أخرى. وفي النهاية استطاع المسلمون إنقاذ فلسطين من براثنهم. ولم يزل هذا الجرح من جراحهم داميا حتى اليوم، ولم ينسوه أبدا. يشعرون بألم عميق كيف أن القوى الأوروبية العظمى تتحد في هجومها المتوالي مرة بعد أخرى، ويشترك في هذه الغارات ريتشارد قلب الأسد(Richard the Lion Hearted) ، وغيره من ملوك فرنسا الطغاة وألمانيا وبلجيكا.. ثم يخرجون فاشلين لم ينالوا خير! هذا الجرح لا يزال يؤلمهم من ناحية، ومن ناحية أخرى طالما لقوا الهزائم المتكررة على يد الإمبراطورية العثمانية التي حكمت شطرا كبيرا من أوروبا. هذا جرح ثان سبب لهم الألم ولن يبرح يؤلمهم.
هذا ملخص ما جعل الأوربيين يعتقدون أن الإسلام خطر عليهم، فبسبب الحروب الصليبية الطويلة وسيادة الإمبراطورية العثمانية وعلى الخصوص في زمن السلطان سليمان العظيم، وما تعرضت له القوى الأوروبية من هزائم متكررة.. كل ذلك أقر في خلفيتهم النفسية أن المسلمين قمعوا كل اعتداءاتنا بقوة (وهم بالطبع لا يقولون عدواننا وإن كانت في الواقع عدوانا).. فيجب ألا نعطيهم مثل هذه الفرصة أبدا في المستقبل فيحموا مصالحهم منا.
وهناك خلفية أخرى مثيرة للاهتمام ومؤلمة جدًا أيضا. عندما عرض الصهيوني تيودور هرتزل لأول مرة مخططه لإنشاء دولة إسرائيل.. برر ذلك بأننا نُضطهد منذ آلاف السنين، وعلى الخصوص تعرضنا للاضطهاد في أوروبا.. كما حدث في فرنسا عندما اتُهم يهودي في قضية باطلة، ربما كان اسمه روفوس. وبهذا الصدد سافر هرتزل من النمسا إلى فرنسا، وكان متأثرا للغاية بسبب ما تعرض له اليهودي من ظلم حتى إنه بدأ هذه الحركة. فبرر مطلبه إنشاء دولة إسرائيل بأننا نُضطهد في أوروبا! وفي ذلك الوقت لم يفكر أحد بأن الاضطهاد يقع في مكان ويتم الثأر له من أهل بلد آخر. فأين المنطق في هذا؟ وبدخولهم فلسطين كيف يتوقف اضطهادهم في أوروبا؟
إن اضطهاد البلاد المسيحية الغربية لليهود حقيقة واقعة. لقد أنزلوا بهم الفظائع المرعبة الرهيبة. واليهود محقون تماما في أن أمتهم كانت هدفا للمظالم والعدوان المتكرر لألف عام.. بما لم تتعرض له أمة أخرى من أمم العالم. وسأضع أمامكم بعض ما يتعلق بهذا.
بدأت الحملات الصليبية عام 1095 من فرنسا، وكان أول من حركها نبيل فرنسي من مكان يدعى بويلان (Bouillon)، وانضم إليه ملوك فرنسا، ونظموا الحملة الأولى. فقال: في سبيل هذا الغرض النبيل يجب أن نقدم قربانا. وحسب نبيل بويلان كان خير قربان يقدم في هذه المناسبة أن ينتقموا لسيدنا عيسى ويقتلوا كل اليهود. وكما في عادة المسلمين أن يقدموا وقت الشدائد أو المهمات العظيمة قربانا أو أضحية.. كذلك فعل هؤلاء الصليبيون وقاموا بمذبحة على نطاق واسع في فرنسا.. ويندر أن ينطلق الطغيان بمثل هذا الوصف ضد أمة بلا حيلة. وكانت هذه أضحيتهم لحملتهم الصليبية الأولى. بعد ذلك صار من تقاليدهم على مدى 200 عام أن يذبحوا اليهود قبل خروجهم لحملة صليبية. وهكذا فإن فظائعهم بينة واضحة.
وتقدم الأضاحي أيضا لطرد الشرور، وفي هذا الصدد أيضا كانوا يذبحون اليهود. وعلى سبيل المثال: لعلكم سمعتم “بالموت الأسود” الذي انتشر في أوروبا فيما بين 1347 إلى 1352، وكان وباء من الطاعون رهيب.. جاء من الصين، وانتشر بالتدريج من شرق أوروبا حتى وصل إلى هنا. خلال هذه المحنة، ولكي يتخلصوا من الشر أخذوا يضحون باليهود، ولفقوا عنهم كثيرا من الحكايات الباطلة تقول بأن كل ما نزل بهم هو بسبب شؤم اليهود، ولاسترضاء الرب وطرد الشر لا بد من القضاء على نذير شؤم اليهود. ولسوف تعتريكم الدهشة لو عرفتم كيف أن أعدادا لا حصر لها من اليهود قتلوا وأُحرقوا أحياء في بيوتهم. والتقديرات التقريبية تقول بإفناء اليهود من 60 مدينة كبيرة، ومن 140 بلدة صغيرة. وهذا هو الانتقام النصراني الثاني ضد اليهود.
أما الانتقام الثالث الكبير.. وكان هناك انتقامات أخرى عديدة، لكن هذا أكبرها، فهو الذي قام به النازي في ألمانيا. ومع أن الخبراء لا يتفقون على الأرقام، فإن اليهود يصرون على أن 6 ملايين يهودي فقدوا حياتهم داخل غرف الغاز، وقاسوا غير ذلك من الفظائع. ووقع كل هذا خلال 10 سنوات.
فقد حدثت إذن مظالم وشناعات رهيبة مفزعة تقتضي المطالبة بوطن قومي لليهود. كان هذا منطقهم. وفي تلك الأوقات، كان اليهود يفرون من التعذيب والاضطهاد ويجدون ملاذهم في ظل المسلمين بفلسطين، التاريخ يثبت ذلك. كما يؤكد التاريخ أيضا أن المسلمين في عصور سيادتهم لم يرتكبوا مثل تلك الفظائع ضد اليهود. فتح المسلمون فلسطين مرتين.. أعطوا فيها الحماية الكاملة للأرواح والممتلكات، ولم يصب أي يهودي أو مسيحي بضرر. مرة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب ، ومرة فتح السلطان صلاح الدين الأيوبي فلسطين. يقول الباحثون العلماء أنه باستثناء هاتين المرتين.. لم تحدث ولا مرة واحدة أن غزا جيش فلسطين ولم تقع مجازر واسعة. فمثلا عندما غزا جزء من فلسطين الملك ريتشارد قلب الأسد ذبح كل اليهود والمسلمين رجالا ونساء وأطفالا، ولم ينج أحد منهم.
هذا هو تاريخ تلك الأمم، وعدالتهم ومساواتهم ورحمتهم وقيمهم الإنسانية. وهذا ما أجبر اليهود، وأدرك هرتزل أنهم لا يملكون حماية أنفسهم. أقول: إذا لم تكن لهم حماية في أوروبا كان ينبغي عليهم الفرار منها. ولكن أي نوع من العلاج كان هذا.. لتبقى أوروبا كلها تحت سلطانهم، بل ويمدون سلطانهم هنا أيضا، وبالإضافة إلى ذلك يذهبون ويعيشون في وسط المسلمين؟ إنه ليس علاجا إذن، ولكنه يشبه حال من رفسه الحمار فقطع رجل الجمل! إنه لظلم عظيم أن يضربك أحد فتعاقب الآخر.. وليس في ذلك منطق سليم أبدا.
أشعر أن القوى النصرانية أيضا لديها خلفية سيكولوجية، وينبغي التفكر في سبب كل هذه الاعتداءات المتكررة ضد اليهود. يبدو أن موقف اليهود التاريخي من أن العين بالعين، جعلهم حتمًا يثأرون من تلك الاعتداءات، وكانت هناك سلسلة تاريخية من الأحداث، يأخذ فيها اليهود ثأرهم سرًّا شأن الضعفاء.
إذ ليس ممكنًا لليهود أن يستمروا في تجاهل تاريخهم على مدى ألفين من السنين، ويخلعوا مزاجهم عن فطرتهم الأساسية. ذلك مستحيل. لا يحفظ لنا التاريخ ما كانوا يفعلون، وكل ما نعرفه أنهم كانوا دائمًا موضع اتهام ببعض الجرائم، وكانوا يعاقبون. فالفظائع التي ارتكبت في حقهم يذكرها الغرب جيدًا ويعرف طبيعتهم. وتكشف شخصية شايلوك (Shylock)، في رواية اليهودي التائه لشكسبير صورة أدبية لولعهم بالانتقام. وفي مثل هذا الموقف.. وربما لم يدر ذلك بخلدهم أول الأمر، ولكنهم بالتدريج فكروا: لماذا لا نحول خطر اليهود بعيدًا عنا ونوجهه نحو عالم الإسلام؟ إن هذا يحقق لنا ميزة مضاعفة.. إذ نقتل عدوين في وقت واحد.
وهناك نكتة سخيفة تعكس هذا المزاج: يقال ثلاثة شبان أرادوا الزواج من فتاة واحدة. وكان أحدهما شديد الذكاء، فجلس في هدوء وترك الآخرين يقتتلان. سأله بعضهم: إنك ماهر جدًا ولكنك لا تبدي اهتمامًا؟ فأجاب: لا تقلق، إني أحرضهما على التقاتل، فإذا قتل أحدهما كنت شاهدًا على الجريمة.. فيشنق الثاني، وبذلك يخلو لي الميدان.
قد تكون نكتة.. ولكنها تنفذ كجريمة رهيبة أمام أعيننا، والمؤامرة النهائية هي نفسها، أي لا ينفكون يستخدمون اليهود في الثأر من المسلمين وقهرهم إلى الأبد حتى يفرغوا نار غضبهم في المسلمين بدلاً من أن تكون عليهم. ولكن هذا من حماقة الغرب.. كما سأبين لكم في الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى. إنهم مخدوعون، وسيخدعون، وسيعرفون خطورة الأخطاء التي وقعوا فيها عندما يفلت اليهود تمامًا من يدهم.
وفي الخطبة القادمة سأوجه النصح أولاً للقوى الغربية.. كيف يخرجون من هذا المستنقع الذي تورطوا فيه؛ وماذا ينبغي عليهم فعله حقًا لإقرار السلام في العالم؛ وما هي التغيرات التي ينبغي أن يفعلوها بأنفسهم.
وثانيًا سأوجه النصح أيضًا لليهود.. إذا لم يتوقفوا عن نشاطهم هذا فماذا سوف سيكون مصيرهم الذي وصفه القرآن الكريم. وإذا لم يستفيدوا من هذه النصيحة فلن يكون بوسعهم النجاة من القدر.
وثالثًا سوف أوجه النصيحة للعرب والمسلمين، إن شاء الله تعالى، عن الدور الواجب عليهم في هذا العالم المتغير. فلا يكرروا الأخطاء التي وقعوا فيها آنفًا، وكيف يكون برنامجهم للمستقبل.
ورابعًا سوف أوجه النصح لسائر أمم العالم: كيف يبدأون في جهاد سلمي معقول للتحرر من الأرباب الباطلة. هذه المشاعر الجاهلة المثيرة الدافعة لبغض وعداوة البريطان أو الأمريكان.. كتصرفات المجانين، لا يمكن أن تنجح في هذه الدنيا. إن القيم العليا هي التي سوف تنتصر. إنها سنة سيدنا محمد المصطفى التي سوف تفوز. إنها سنة القيم الأخلاقية الرفيعة. لو أن المسلمين اختبروا هذه السنة فسيكونون مثلاً عظيمًا لسائر العالم. وهذه هي السنَّة التي لم توجد لتلقى الهزيمة أبدًا. ما من قوة على الأرض تستطيع الغلبة على السنة المحمدية. عليكم إذن أن ترجعوا إلى سنَّة العدل، وتتبعوا أسوته.. وعندئذ إن شاء الله تعالى، يمكن حل جميع مشاكل العالم؛ ويمكن تحقق تلك الثورة الحقة الجديدة التي يمكن تسميتها جنة الله على هذه الأرض.
وإذا لم يتبعوها.. فلن يبرحوا يتقاتلون ويموتون بنفس الطريقة، ويقاسون المحن والعنف. ونظرًا لتأخر الوقت فسأكمل الموضوع في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى. والسلام عليكم ورحمة الله.