تربية هتلر جديد

تربية هتلر جديد

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

لقد ألقى إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا طاهر أحمد أيده الله حول أزمة الخليج منذ انفجارها عديدا من الخطب وقد تم نشر معظمها. وتسر التقوى أن تقدم للقراء الكرام آخر ما تبقى منها ليعرفوا ويعرفوا الآخرين بالحلول التي قدمها هذا الناصح الأمين لمشاكل المسلمين بل لمشاكل العالم كله.

خطبة 22 فبراير 1991

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)

في خطبتي الماضية ذكرت أني بإذن الله تعالى سوف أقدم النصح للعالم من زوايا متنوعة وسأبدأ بأمريكا. وأول نصيحة لأمريكا أن تحاول رؤية نفسها بعيون الآخرين. فموقف الرئيس بوش هذه الأيام مع ما يكال له من صنوف المديح عن نفسه والخطوات التي يتخذها.. تجعله من الناحية النفسية غير مدرك تماما لضرورة فحص خطواته وسياساته من منظور الآخرين كما وأنه غير مهتم كيف تتشكل صورته في العالم الخارجي. ترى أمريكا أو يرى الرئيس بوش أنهم نجحوا في جعل العالم يقتفي أثرهم. ويذكرنا هذا بالتعبير الذي يقوله الصيادون عن كلاب الصيد بأنها تسير في كعبهم فيقول الرئيس بوش في نفسه: لقد جعلت بريطانيا والحلفاء الآخرين (يسيرون في كعبي) طلبا للصيد الذي خرجت له وأن هناك حيوانات أخرى تتبعنا رغبة في أن ينالوا شيئا من الفريسة بعد إمساكنا بها. هذا هو ظن الرئيس بوش عن الخطوات التي اتخذها باسم تحرير الكويت ضد العراق وضد العالم الإسلامي.

ولو نظرنا من زاوية أخرى.. لاستطعنا القول وهو الأصح أن إسرائيل لها الحق أكثر من أمريكا والرئيس بوش لتقول: لقد جعلت العالم كله يسير في كعبي وأمريكا تتبعني كما يتبع كلب الصيد كعب الصياد وهذه الصورة أكثر صحة والعالم يتفحص الموقف برمته بمثل هذه النظرة. عند تغيير زاوية النظر يبدو الشيء مختلفا. هناك زاوية النظر الأمريكية وهناك أيضا زاوية أخرى وسأضع أمامكم بعض الأمثلة لذلك.

تعتبر أمريكا والحلفاء إسرائيل حامية لمصالحهم النفطية وغيرها من المصالح ويقولون: ينبغي إرضاء إسرائيل بأي ثمن ولا يهم حتى لو سخط العالم جميعه بسبب ذلك. وفي المقابل ترى إسرائيل أنه لو اتجه الرأي العام لقارة آسيا (مثلا) بأكملها ضدنا فسوف نفضل مساندة دولة غربية. أمريكا وحلفاؤها يظنون أنهم يحتاجون إسرائيل والحقيقة أن إسرائيل ترى أنها بحاجة إلى الغرب. فلماذا تلعب المباراة بهذه الطريقة؟ وما الغرض من ذلك؟ وإلى أية مرحلة وإلى أين تؤدي؟ سوف أضع أمامكم بعض الأمور بعد قليل.

فيما يتعلق بالمصالح البترولية.. يجب النظر إلى إسرائيل نظرة عميقة، فقد فشل هؤلاء الغربيون في دراستها. إن طبيعة إسرائيل تقتضي الحكم باستحالة وجودها على مقربة من حقول البترول ولا ينتهي بها الحال إلى الهجوم على هذه الحقول. فاتخاذ إسرائيل حارسة على البترول يتفق مع المثل البنجابي: القط حارس اللبن أو الجدي حارس الغلال! عبارة بسيطة ولكنها حكيمة. ليس هناك مظهر للغباء أجلى من أن يتخذ القط حارسا على اللبن أو الجدي أمينا على الحنطة. فأشد الأخطار على تلك المصالح سوف تأتي من جانب إسرائيل التي جعلوها حارسة عليها. وفي النهاية سوف يصل الأمر إلى هذه المرحلة لو لم يلحظ العالم ذلك. وسأتناول هذا الموضوع بتفصيل أكثر فيما بعد إن شاء الله تعالى.

تهمس إسرائيل في أذن حلفائها الغربيين وأمريكا بصفة خاصة.. أن هناك وسيلة واحدة وحلا واحدا لإقرار السلام في هذه المنطقة.. ذلك بأن نمنع ظهور أمثال عبد الناصر وصدام هنا. ما دام النواصر والصوادم يولدون هنا فلن تصل المنطقة أبدا إلى بر السلام. والمعنى الآخر لهذه الرسالة هو القضاء على روح الحياة في بلاد العرب وحريتهم والقضاء على فترة مساندة الفلسطينيين. وهذا هو الرأي الذي قبله عالم الغرب في ممارساتهم العملية. إنهم لا يرون أن الفظائع ليست من صنع النواصر والصوادم حقيقة وإنما هي ثمرة مظالمهم والواقع أن صدام اليوم هو ثمرة ارتكاب المظالم ضد مصر للقضاء على عبد الناصر والبلاد الإسلامية. الكراهية لا تثمر إلا البغضاء وشجرة الحنظل لن تثمر فاكهة حلوة. فالموضوع إذن على العكس تماما. فما دمتم تعاملون العرب معاملة جائرة ولا تنفكون تطلقون عليهم فظائعكم.. فلسوف يظهر ناصر بعد ناصر وصدام تلو صدام. هذا هو القدر الإلهي ولن تستطيعوا تبديله. لقد قصفتم العراق حتى اليوم قصفا رهيبا مريعا لا يقاس به قصف الحرب العالمية الثانية. في سنوات الحرب العالمية الست قذفوا 2.700 ألف طن من القنابل ولكنهم أسقطوا على العراق في خمسة أسابيع فقط 150 ألف طن. ومن ذلك ترون كيف أمطروا الموت. عليهم بلا رحمة. إنهم لا يحاولون فهم الطبيعة البشرية. هذه القنابل لا تهدم الصدامية وإنما تشعل رغبة في قلوب مثات الألوف من المسلمين عربا وغير عرب لخلق عديد من الصوادم. ثمة أجيال من الصغار يراقبون الموقف اليوم وقد عقدوا العزم في قلوبهم على ما سيفعلون غدا. تمطرون القنابل وتتوقعون بذلك ثمارا حلوة؟ هذا هو أشد الجهل!! الكراهية تولد الكراهية دائما. فما سبب الكراهية؟ ما داموا لم يصلوا إلى معرفة سبب الكراهية التي خلقت عبد الناصر وصدام.. فلن يستطيعوا اقتلاع جذورها ولن يستتب السلام في المنطقة.

وبقدر ما بحثت والوقائع تؤيدني.. توصلت إلى أن إنشاء إسرائيل هو الجذر الأساسي لكل الكراهية وأن مفهوم خلق إسرائيل نفسه يتضمن الحروب. وليس هذا قولي أنا وحدي بل إن (بن غوريون) مخطط إسرائيل ومؤسسها ينادي بذلك. سأتلو عليكم مقتطفا من كتاب (صنع إسرائيل) Making of Israel في صفحة 55 يقول كاتبه جيمس كاميرون james camerone بالنسبة لبن غوريون.. ليس لكلمة دولة من معنى سوى أنها أداة للحرب. وقال أي بن غوريون: لا أستطيع التفكير الآن في معنى آخر سواه. وأشعر الآن أن حكمة إسرائيل هي شن الحروب ولا شيء غيره. هذا، وهذا فحسب.

وذكرتني قراءة هذا الكلام بسطرين من شعر كولريدج الذي كتبه عن قبلائي خان في قصيدته المشهورة (قبلائي خان).. قال:

(في وسط هذه الضوضاء.. سمع قبلائي من بعيد أصواتا ملحة.. تتنبأ بالحرب)

وسواء سمع قبلائي هذا الصوت أم لا فمن المؤكد أن بن غوريون سمع ذلك الصوت ينبعث من جبل صهيون قائلا: يا إسرائيل وجودك بعد اليوم له غرض واحد لا ثاني له، إنه شن الحروب المستمرة ودفع العالم دائما نحو الحرب. ولا معنى لإسرائيل دون ذلك.

مهما خدع أمريكا والحلفاء أنفسهم بتأييدهم إسرائيل هذه فالواقع أنه لن يكون هناك معنى لأي سلام. فطبيعة إسرائيل ذاتها وتعريفها يجزمان دفع العالم نحو الحروب. لماذا يدفعونه؟

سوف أميط اللثام عن هذا السر وإن لم يعد سرا مكتوما. وفيما يتعلق بتجهيزات إسرائيل للحرب.. كان العالم الغربي مهتما فقط بتضخيم الخطر العراقي للعالم وأنه هتلر العصر وظهور جديد للنازية. في حين أن أحد المعلقين من الغرب كتب عن العراق يقول: تسمون هتلر من لم يستطع في 8 سنوات أن يتغلب على بلد مثل إيران.. في حين أن هتلر خلق هزة مفاجئة عنيفة في أوروبا جميعها؟ كانت نفوسكم ترتعد منه. قام من برلين ليطرق أبواب لينينجراد وكانت صواريخه على الجانب الآخر تنهال على لندن؟ بأي لغة تسمون صدام هتلر وأنتم تمطرونه بصواريخكم ما أسخف هذه الفكرة!

إنه لا يستطع صنع صاروخ سكود واحد حتى أنكم تعدون ما تبقى لديه من الصواريخ. وإذا كان أدخل تعديلا على الصاروخ لزيادة مداه فهذا ترقيع ردي كما يفعل النجار أو الحداد في قرانا. وهم بأنفسهم يسخرون من العراق الصريع ويقولون: هذا هو حالهم ومع ذلك يجرؤون على الحرب معنا.. لا يحسنون صنع صاروخ سكود! هل هكذا كان هتلر؟

بينما ادعى جنرال إسرائيلي بل عدة جنرالات.. ادعاءات مرعبة حيث قيل:

(كثيرا ما تبجح جنرالات إسرائيل بقدرتهم على مواجهة كل الجيوش العربية مجتمعة في وقت واحد والقضاء عليها. وادعى رئيس الأركان أن بوسعه هزيمة القوات المسلحة السوفيتية) (Dispossessed, The ordeal of the Palestinians, by D. Gilmour, p 224)

ففي محاولة تدمير هتلر خيالي افترضوا وجوده يصنعون هتلر حقيقيا!! ما أشد عماهم وما أضعف بصيرتهم! لا يعرفون أنهم باسم هتلر الذي أطلقه اليهود على صدام والفلسطينيين يخلقون هتلر حقيقيا. إنهم إذا فشلوا في إدراك هذا فستخبرهم الأيام إلام تهدف إسرائيل وكيف ستعاملهم!

وبهذه الخلفية.. عندما يرى المسلمون إسرائيل ترتكب فظائع تلو الفظائع وتتلقى مساندة بعد مساندة فإنهم يندهشون ولا يفهمون لماذا يفعل بهم هذا. لقد تحدثت إسرائيل مرارا عن إرهاب المسلمين. ولعل عيونكم ملت من قراءة عناوين كثيرة تقول: (الإرهاب الإسلامي الإرهاب الإسلامي الإرهاب الفلسطيني)، وما شابه ذلك من إرهاب. لقد قدموا الإسلام والإرهاب كأنهما شيء واحد اسمين لروح واحدة وجسد واحد. ولكن الحقيقة أن إسرائيل هي مخترعة الإرهاب ومؤسسته. ولقد عرضت عليكم بعض الأمثلة لذلك في الخطبة الماضية وسأخبركم الآن بإيجاز عن الإرهاب المروع الذي ارتكبته إسرائيل وعن المدن العربية التي دمرتها مثل دير ياسين ويافا وبيروت الغربية وصبرا وشاتيلا. وقعت على هذه المدن فظائع مرعبة وذبحوا فيها الرجال والنساء والأطفال.. شيبا وشبانا.. في وضح النهار وطعنوهم بالحراب في قسوة بالغة وهم ينظرون في عيونهم. وقتلوهم بوسائل أخرى. فلم يتركوا وراءهم أحدا حيا. ودمروا الكثير من هذه البلاد ولم يدعوا فيها بنيانا قائما. في هجمة واحدة منها عام 1977 شردوا 250 ألف فلسطيني بلا مسكن يأويهم. ولكن دول الغرب حيال كل هذه الأمور صم بكم عمي لا يشعرون بأي ألم. والعرب والمسلمون الآخرون ينظرون بدهشة إلى ما يحدث. لماذا هذه الأكوام من الفظائع المتراكمة وعواصف الظلم المتزايدة.. وهم لا يبدون إحساسا بها وليس هناك إنسان منصف يقول لإسرائيل: إنك سطرت في تاريخ الإنسانية صفحات يخجل منها تاريخ الإجرام والفظائع؟ ولا يزالون يغلقون عيونهم متعامين عنها ولدي أمثلة كثيرة عن فظائعهم ولكن الوقت لا يسمح بعرضها كلها وإذا أمكن فسوف ننشرها فيما بعد. ولقد أعدوا خطة للهجوم على لبنان سموها (عملية سلام الجليل). إن جوهر الصورة التي رسمها في هذا الصدد دافيد جيلمور في كتابه المذكور آنفا تبين أن خطة إسرائيل عن الجليل كانت بحجة حماية أنفسهم والدفاع ضد هجمات الفلسطينيين المتكررة من جنوب لبنان مما اضطرهم إلى وضع هذه الخطة. ولكن في عام 1981 تم اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن يوليو 1981 حتى مايو 1982 عندما شنت إسرائيل هجومها على لبنان.. لم يحدث أن خرق الفلسطينيون هذا الاتفاق ولا مرة واحدة ولم يقع هجوم فلسطيني واحد خلال هذه الفترة. ثم يقول ثانيا: ولم تتعرض الجليل لأي خطر من جانب لبنان. ويضيف ثالثا: وكانت هذه الخطة معدة قبل عام 1982 ودلل على ذلك من مراجعهم. (المرجع السابق من ص 222 و225).

فأعذارهم باطلة ومفتعلة ولا أساس لها من الواقع لأنهم أعدوا خطة الحرب قبل التواريخ الواردة في حججهم. وهذه حقيقة ثابتة.

ويكتب جيلمور أنهم عندما شرعوا في قصف بيروت عام 1982.. كان القصف شديدا وكانوا يطلقون مدافعهم من ناحية ومن ناحية أخرى كانت سفنهم المجهزة بمدفعية رهيبة تمطر قذائفها ليل نهار لتنسف البيوت واحدا بعد الآخر وتبيد الناس. (المرجع السابق). ولم نسمع صوتا واحدا بعد الآخر في هذا العالم لنجدة الفلسطينيين المعتدى عليهم. كان الغرب صامتا. والأتعس من ذلك أن العرب أنفسهم كانوا صامتين! كانت مخافة الإرهاب الإسرائيلي عندئذ قد استقرت فيهم بحيث لم يرفع أحد من بلاد العرب صوتا ضدهم. ونتيجة لهذا القصف قتل 14 ألف شخص وأصيب أكثر من 20 ألفا وصار المشردون بلا مأوى لهم بلا حصر. (المرجع السابق).

هذا ملخص قصف عام 1982 كما نشر في بعض الصحف. ولعلكم سمعتم أنه عند نهاية الحرب العالمية.. عندما أطلق الألمان صواريخ v2 على بريطانيا وبلجيكا.. اعتبروها أشد الفترات فظاعة وألما وطالما يتحدثون في بريطانيا في مناسبات متعددة عن القصف بهذه الصواريخ ولم ينسوها. ولكن العجيب أن ضحاياها في بريطانيا وبلجيكا لم يتعد 7500 من القتلى.. في حين أن قتلى القصف الإسرائيلي بلغ 14 ألفا.

هذه كلها أحداث الإرهاب الإسرائيلي.. التي لم يدخلوها في أي حساب ولم تلتفت إليها أية قوة غربية ولم يرفعوا الصوت ضد إسرائيل بسببها.

أما فيما يتعلق بوعود إسرائيل فيقال: لو تعاهدتم على السلام مع إسرائيل فلا خوف عليكم من خطرها. ولكن هذا كذب محض. كذب كبير لا تجدون له مثيلا في الدنيا وسوف أثبت من الحقائق والأرقام أن وعود إسرائيل لا ثقة فيها إلا بقدر الثقة في كذابي الدنيا كلهم مجتمعين!

في حرب عام 1967 التي فرضت على العرب بسبب عدوان من إسرائيل.. احتلت على أثره مساحة كبيرة من أراضي العرب.

كانت إسرائيل من قبلها قد أعلنت أنها لا تريد احتلال قدم واحدة من أرض العرب وأكدت لبلاد الغرب ذلك قائلة: إننا نفعل ذلك لتلقين الفلسطينيين درسا.. إذا لم تتوقفوا عن مهاجمتنا.. ودأب مناصروكم على إبداء البطولة فسوف ننزل بكم جميعا هذا العقاب.

وهذا هو كل غرضنا. فمثلا أعلن ليفي أشكول رئيس الوزارة وقتئذ باسم إسرائيل قبل حرب 1967: ليس لدى إسرائيل نية الاحتفاظ ولا بقدم واحدة من هذه المناطق. (المرجع السابق ص 225)

ولكن في تلك الحرب احتلوا ولا يزالون يحتلون كل أرض وضعوا أيديهم عليها. وبدلا من قدم واحدة.. لا يزالون يحتلون 73 تريليون قدما من أراضي العرب!

تذكرت عند ذلك تعليق أحد كتاب الغرب على النشاط الإسرائيلي قال فيه: بوسعي فهم ما جاء في تعاليمهم الدينية من أن عينا بعين وسنا بسن ولكني لا أستطيع فهم عشرين عينا أو أكثر مقابل عين واحدة!

الواقع أن الكاتب لم يضم أرقام النشاط الإسرائيلي إلى بعضها. إن إسرائيل في الوقت الحاضر لا تعتقد في أن عشرين عين بكل عين ولكنهم يعتقدون في 20 ألف أو مليوني عين بعين واحدة منهم. فإنهم يحققون وعودهم بمفهوم سلبي مضاعف ملايين المرات يعني أنهم ينقضون عهودهم مرات كثيرة. وهذا ليس من قبيل المصادفات. اسمعوا هذا: قبل هجومهم على لبنان عام 1982وقد أشرت إليه أعلنوا أنهم لا يريدون احتلال بوصة واحدة منها. (المرجع السابق ص 225) وفي عدوانهم هذا فعلوا كثيرا من الفظائع لم أذكرها لكم وبعدها انسحبوا من لبنان فيما عدا المنطقة جنوب نهر الليطاني وهي منطقة في خطة إسرائيل منذ البداية ومساحتها ليست بوصة واحدة بل هي 8 تريليون و830 بليون بوصة. فهم عندما يقولون: لا نريد قدما واحدة فمعنى ذلك أنهم يريدون 73 تريليون قدما وعندما يقولون: لا نريد بوصة واحدة فمعناه أننا سنستولي على 8 تريليون و830 بليون بوصة من الأرض.

عند ذلك فكرت في ضرورة فحص تاريخهم ومعرفة كم مضى من الزمن على نزول تعاليم التوراة التي تقول: عينا بعين وسنا بسن ثم نحولها إلى ثوان وعندها نعرف سيكولوجيتهم وكيف نما فيهم حب الانتقام كل ثانية. اندهشت لما عرفت أنه انقضى منذ نزول التوراة ما يقرب من 6 تريليون و224 بليون و128مليون ثانية تقريبا. فتصوروا منذ زمن سيدنا موسى حتى الآن كم مضى من تلك الثواني ولكن سرعة نقضهم للعهد وقولهم الكذب وولعهم بالانتقام تزداد بمعدل أسرع من الثواني!

أضع أمامكم اقتباسا آخر نقلا عن مراقب غربي حول الفظائع التي انهالوا بها على لبنان. كتب السفير الكندي في لبنان مستر تيودور أركاند تعليقا على قصفهم لبنان بعد أن شهده بنفسه: يبدو أن قصف برلين عام 1944 مقارنا به لا يزيد عن حفلة شاي. (المرجع السابق ص 224)

وقد حللها بعض المراقبين جيدا فقال أحدهم: لم يكن مجرد مذبحة عامة لمنظمة التحرير الفلسطينية.. بل خطة لتحطيم احترام النفس لديهم (المرجع السابق).

بل صرح دكتور ناحون جولدمان مؤسس الصهيونية ورئيس المؤتمر الصهيوني العالمي لسنوات وقال إن هدفهم الظاهر هو تصفية الشعب الفلسطيني (المرجع السابق).

وكان موقفهم عدوانيا ضد الشعب الفلسطيني حتى إنهم لعبوا دورا هاما في تشويه الشخصية الفلسطينية بحيث كتب بعض المراقبين الغربيين أنهم عندما يخاطبونهم لا يذكرون اسمهم إلا مصحوبا بكلمة سخرية.. فلا يقولون: فعل الفلسطينيون كيت وكيت وإنما يقولون: فعل الإرهابيون كيت أو الحيوانات يفعلون كذا ويستخدمون ألفاظ السباب والشتائم قائلين بأنهم يفعلون كذا (المرجع السابق) حتى كانوا يصفون عرفات بأنه هتلر الجديد المختفي في مخبأ في بيروت. (المرجع السابق ص 443)

وكانوا إلى زمن قريب يقولون: إننا نبغض الفلسطينيين لأنهم لا يقبلون بوجودنا فلماذا نقبل بوجودهم؟ إلى من نتحدث؟ إلى من يريدون إلقاءنا في البحر!؟ بعد محاولات فاشلة لزمن طويل سعى ياسر عرفات إلى إبطال حجتهم فقال في مجلس الأمم المتحدة حينما دعي للتحدث فيه بصراحة أمام كل الأمم:

أعلن باسم حركة التحرير الفلسطينية اعترافنا بإسرائيل ونقبل بحقها بالوجود. وعندما قام بهذا الإعلان أعلنت إسرائيل ردا على إعلانه بلسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية: (الشيء المفيد الوحيد الذي تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية فعله هو أن تختفي لأن فلسطين لم يعد لها وجود ومن ثم فلا معنى لوجود حركة تحرير لها). (المرجع السابق ص 22).. أي أنهم لا حق لهم في هذه الحياة.

هذه هي الأمة التي يغمض الغرب عينه عن طغيانهم وعدوانهم ويتخذون الفلسطينيين الضعفاء المضطهدين هدفا لدعاية ظالمة قاسية. جردوهم من كل أرضهم وطردوهم من ديارهم ووطنهم. في كل يوم جديد يعرضهم الإسرائيليون لمعاملة قاسية وينشرون فيهم القتل ويمحون بلادًا بأكملها ويشردون أهلها. أربعة ملايين فلسطيني يتيهون في العالم من بلد لبلد.. في حين يزرع الغرب اليهود في أراضي الفلسطينيين ويثبتونهم بقوة. فزاد عددهم في الماضي ولايزال يزداد. وبرغم كل محاولاتهم هذه وصل عدد اليهود هناك إلى مليونين و نصف المليون . فلا يزال مليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون هناك. يزيدون عدد اليهود من يوم لآخر، وفي مخططهم أنه بعد امتلاء الضفة الغربية باليهود سيطالبون بمزيد من الأرض. فهم يستزيدون من الأرض أولا، ثم يكثرون عدد السكان، وهكذا يمضون في عملية متكررة مستمرة. وهذه هي طريقتهم. أما الفلسطينيون الذين حكموا هذه الأرض لقرون، ووُلدوا ونشأوا وتربوا على ترابها، فلا حق لهم في الحياة داخلها. يقولون: ليس لكم وطن، ولستم موجودين، ولا نعترف بكم.

والسؤال الآن: مع رؤية هذا كله.. بأي قوة، وبأي فكر، ونتيجة لأي استراتيجية.. لا تنفك أمريكا توطد علاقة الوداد مع إسرائيل.. وكما يقولون في بلدنا: (يطلقون الثور الوحشي)؟ لقد أطلقوا في حقول العرب ثورا متوحشا هائجا. إن الثور العادي يلتهم الخضار، ولكن هذا الثور يعيش على الدماء ولحم البشر، ولا يوقفه أحد!!

لقد سمعتم كثيرا عن مشروع قرار واحد. يقولون: ما دام العراق لا ينفذ هذا القرار فسنواصل ضربه وتخريبه. وبالرغم من طرد العراق من الكويت فلن نتوقف عن تتبعه ولو عشرات السنين ما دام هناك احتمال أن يرفع أحد رأسه من هذه الأرض مرة ثانية.

وعلى النقيض من ذلك، وعلى أثر العداون الإسرائيلي، كلما طُرح في مجلس الأمن قرار لوضع الحد للاعتداءات الإسرائيلية أو تغيير مسارها، استخدمت أمريكا حق الاعتراض عليها (الفيتو) ولقد حدث هذا 27 مرة، فكلما أدان مجلس الأمن إسرائيل بالعدوان، اعترض ممثل أمريكا على القرار. وفي معظم الحالات في الفيتو صادرا من أمريكا وحدها، في حين أنه في الحالات الأخرى التي درستها كان مع أمريكا هناك معارض آخر أو اثنان. ولكن أمريكا كانت غالبا ما تقف في وجه الجميع، وتساند وحدها إسرائيل، وتستخدم الفيتو ضد كل مشروع.

وبحثت عدد القرارات التي وجه فيها شيء من اللوم بكلمات لينة إلى إسرائيل، وطُلب منها التوقف عن عدوانها، فوجدتها أيضا 27 قرارًا، وفي معظمها امتنعت أمريكا عن التصويت ولم تصوت لصالحها. أما القرارات التي أدانت إسرائيل بشدة.. فما كانت أمريكا لتسمح بمرورها من مجلس الأمن. والقرار رقم 242 الذي سمعتم عنه كثيرا، والذي طالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد عدوان 1967.. إنما مر من المجلس وأقره، لأن صياغة القرار أعطت الدول المساندة لإسرائيل سلاحا كي تفسره بالطريقة التي تروقها. إنه القرار الوحيد الذي أيدته أمريكا.

لماذا يحدث كل ذلك؟ يذهل العقل، لأن ذلك كله غير معقول؟! ما غرض أمريكا من مؤازرة إسرائيل بهذه القوة؟

ومن دراسة تلك القرارات التي وافق عليها مجلس الأمن ضد إسرائيل ظهر أمامي شيء مثير للاهتمام. لقد كان هناك بون شاسع بين مسلكهم إزاء تلك القرارات ومسلكهم إزاء القرار ضد العراق. إنهم لم يَدَعوا للعراق فرصة التقاط الأنفاس. فمن ناحية وافقوا على قرار المقاطعة الذي يمنع الطعام بل والدواء، فلا يدخل شيء إلى العراق حتى ولا ورقة. ثم كادت تبدأ المقاطعة حتى قرروا بدء الهجوم قبل المقاطعة بوقت طويل، وكان الهدف من المقاطعة تجويع العراق وتعذيبهم بندرة المواد الأساسية.. حتى إنهم قصفوا مصنع ألبان الأطفال أيضا. هناك فرق واسع بين مسلكهم هذا ومسلك مجلس الأمن مع إسرائيل. عندما تمتنع هي عن التعاون معه، تكون صياغة قرارهم هكذا: يا إسرائيل.. لقد أخبرناك وقت كذا وكذا أن تعيدي الأراضي العربية، ولكنك لا تزالين تحتلينها. إننا ننظر إلى هذا التصرف نظرة استياء شديد، ولا نحب ذلك منك! ثم يصدرون بعد قرارا ثانيا يقول: يا إسرائيل.. ألم نخبرك بأننا سنستاء؟ ها نحن مستاءون! ثم يصدرون قرارا ثالثا: لقد أخبرناك من قبل مرتين أننا غير راضين، ونقول الآن: أننا غاضبون جدا! ثم قرارًا آخر: أننا ساخطون للغاية، وسنضطر لاتخاذ خطوات أخرى تكشف عن سخطنا! وهلم جرا. ولم يفعلوا أكثر من هذا.

هذا الموقف يشبه نكتة تقال في بلدنا عن سكان ولاية (أتر برديش) الهندية يقولون عنهم أنهم يخشون العراك. فإذا ضرب شخص أحدهم قال: أتحداك أن تكرر الضربة! فإذا ما ضربه مرة ثانية قال: أتحداك أن تعيد الضربة! فإذا ما ضربه مرة أخرى كرر التحدي، وهكذا يتكرر التحدي مع كل ضربة! لا بد أنها نكتة مختلفة، لأن القوم هناك شجعان حقا وحاربوا أعداء أشداء. ولكن النكتة تنطبق بالفعل على الأمم المتحدة. تصفعهم إسرائيل مرة بعد مرة، وتتمرد على قراراتهم علنا، وتقول: ما قيمة قراراتكم هذه، إنها ورق مهمل سنمزقها ونرمي بها في سلة المهملات، وندوسها بقدمنا، وفي كل مرة ترد الأمم المتحدة: نتحداك أن تضربينا مرة أخرى! لو تكرر هذا الفعل منك سنغضب كثيرًا!!!

لماذا يستمر هذا الجنون؟ لا بد وأن يكون هناك حد لذلك. فهذه أمور غير مفهومة! لا يستطيع المرء أن يصدق حدوث مثلها في العالم.. ولكنها تحدث. عجبا! ما فائدة الأمم المتحدة هذه؟ لو كانت بلاد العرب والمسلمين ذكية لتفكروا في مدى منفعتها.

وكذلك ينبغي أن تفكر سائر بلاد العالم في هيئة الأمم هذه التي تصدر قراراتها فعلاً لصالح الدول القوية الذين يسيطرون عليها وعلى دستورها. فبوسعهم ظلم من يشاءون، وليس لسائر الدول حتى رفع الصوت ضدهم! وإذا حاولوا ذلك فحق الاعتراض أو الفيتو يوقفهم. وبإمكانهم تسليط أحد توابعهم ليرتكب من المظالم ما يشاءون، ويمسكون بمصائر بلاد العالم في قبضتهم. هذا هو حال الأمم المتحدة. إذ أريد منهم اتخاذ قرار ضد العرب والمسلمين أسرعوا واتخذوا أشد القرارات قسوة. ولكن إذا أثيرت مسألة لحماية حقوقهم فلا يفعلون سوى إثارة بعض الضجيج الذي لا يجدي فتيلا!

كنت في طفولتي أهتم بتربية الفراريج، ورأيت دجاجات تلقي بروثها وقذارتها في حديقة صاحبها، ولكنها عند البيض تذهب لتضع بيضتها في بيوت الجيران. والأمم المتحدة واحدة من هذه الدجاجات، فهي تثير الاضطراب في بيوت العرب، وتضع البيض في حدائق إسرائيل ودول الغرب. وإذا كان هذا هو مفهوم الأمم المتحدة فينبغي التفكر في أمرها. سوف أقدم للعالم نصيحة بهذا الصدد.

في النهاية يكون بوسعكم إدراك شيء واحد: عالم الغرب يضمر عداوة شديدة للإسلام، ووراء هذه الكراهية، كما ذكرت، هناك خلافات تاريخية ولهذه العداوة سبب آخر، هو الخوف من الإسلام.. ولّده جهلة المشائخ والملاَّت في عقول العالم الغربي. يقدم الشيخ المتعصب في جهالته مفهوما للإسلام يخشاه العالم، ويقولون: لو ينال هؤلاء الناس مقاليد القوة فسوف يستخدمون ضدنا العنف والظلم. وسأتناول هذه المسألة فيما بعد عندما أوجه نصحي للمسلمين.

ولكن ما أود قوله الآن للغرب: إذا حسبتم أنكم لو تركتم إسرائيل تلاحق المسلمين بعدوانها.. فستنسى إسرائيل فظائع الغرب ضد اليهود، وستمضي في الثأر من العرب بدلا من الثأر منكم.. فهذا سخف تماما. إن ذاكرة الانتقام لدى اليهود قوية للغاية ولا يمكن محوها، وإن ذاكرة اليهود نحو معروفٍ صنعَه أحد لديهم لهي كتابة على الماء! إذا درستم التاريخ الإسلامي فستندهشون إذا عرفتم أنه خلال الحكم الإسلامي في إسبانيا لمدة 800 عام لم تقع حادثة اعتداء واحدة ضد اليهود. وحيثما ألقيتَ النظر على أوقات حكم المسلمين ستجدهم يرتكبون المظالم ضد بعضهم فقط، و ذلك عندما يستحث المشائخ أتباع طائفة ضد طائفة أخرى، ولكنك لن تجد أي عدوان ضد اليهود أو النصارى.

هناك ثلاث قبائل من اليهود يتصلون ببداية تاريخ الإسلام في المدينة: هم بنو قريظة، وبنو النضير وبنو قينقاع. دأبت هذه القبائل على نقض عهودهم، واتبعوا أسلوب الخداع ضد النبي وضد المسلمين. كانوا ينضمون إلى المهاجمين عند الإغارة على المسلمين. وأخيرا اضطر المسلمون لاتخاذ التدابير الملائمة ضد هذه القبائل. وعندما كانت الأمم المتحدة تناقش مسألة إنشاء دولة إسرائيل عيَّر اليهود المسلمين بأن هذا من حقنا، ومن عادتكم طردنا من ديارنا، ولم ننس حتى الآن ما فعلتم بقبائل اليهود حول المدينة.

فهي ذاكرة عجيبة، يحفظون فيها فظائع خيالية تعود إلى 14 قرنا خلت، ويمحون منها الصنيع الحق الجميل! إنها أمة عجيبة تنسى أن إيزابللا وفرديناند أمرا عام 1490 م بطرد اليهود من أسبانيا. لقد لبثوا في العذاب قرنين من الزمان.. ولم يحاولوا مع ذلك مغادرة أسبانيا إلا حين أخرجهم النصارى منها جبرا. اضطر بسبب التعذيب عدد كبير من اليهود إلى التنصر. ولكن قامت حركة تقول: إنهم تنصروا في الظاهر ليخدعونا. عندهم ثروات كبيرة، ولا بد من سبب نتذرع به لتجريدهم من ممتلكاتهم وأموالهم؟ لذلك ناشد البابا الملكة إيزابللا والملك فرديناند بأن الحل الوحيد لعلاج الأزمة هو عدم الثقة في تنصرهم والتفتيش عليهم. وحركة التفتيش هذه (Inquisition) هي طريقة التعذيب التي كان النصارى يستخدمونها ضد معارضيهم، وفعلوا بواسطتها فظائع رهيبة ضد غير النصارى، وأيضا ضد النصارى المشكوك في عقيدتهم. واستمر هذا الجدال بينهما طويلا. ولما كانت الملكة إيزابللا ساخطة على البابا، ولعله يسكوستس الرابع، لأنه لم يعين كاردينالات رشحتهم من جانبها، لذلك لم توافق على أن تقوم لجنة عيّنها البابا للتفتيش. وأخيرا قال القس للملك فرديناند بأننا نعطيك كل ما نصادره من أموال اليهود في نظير الإذن لنا بالتفتيش. دعنا فقط نقوم بالفظائع.. أما الثروة فهي لك! فبدأوا حملة التفتيش عام 1480 م. وكان تاريخ التفتيش مؤلما حقا.. بحيث يندر أن نجد في تاريخ العالم مثيلا للفظائع المرعبة التي وقعت من النصارى ضد اليهود. وأخيرا لما لم يكتفوا بالتعذيب أمروا عام 1492 بنفيهم من أسبانيا.

لعلكم تذكرون أن (الموت الأسود) أو الطاعون الذي انتشر في أوروبا بين عامي 1347 و1352، وقضى على أعداد لا تحصى من الناس. أشاعوا أن ذلك من نحس اليهود. فكثر القتل في اليهود، ووقعت في فرنسا معظم هذه الفظائع. وبوسعكم تصور هذه الفظائع، فقد خرج اليهود من أسبانيا عساهم يجدون ملجأ في فرنسا ومنها إلى الدول الأوروبية الأخرى، ولكنهم لم يجدوا حماية هناك، واستمر التنكيل بهم. وإذا كان هناك من مَنَحَهم الحماية.. فهي الحكومة الإسلامية في فلسطين. وهذه حقيقة تاريخية. ومرة أخرى أثناء الاضطهاد النازي في ألمانيا، ذهبوا إلى فلسطين طلبا للحماية. وهكذا خلال التاريخ الإسلامي.. لقي اليهود منهم الجميل بعد الجميل، وتربت معارفهم وفضائلهم في حضن المسلمين. ثم لما وقعت بهم أعمال الوحشية على يد الأوروبيين النصارى.. إذا بهم يأخذون ثأرهم من المسلمين!

هذا ما يجول بذهن أمريكا وحلفائها.. فما أربحها من صفقه! فليكُن اليهود مشكلة للمسلمين. دعوهم يأخذوا من المسلمين ثأر وحشيتنا معهم، ويُقتل الاثنان بحجر واحد.. فما أبرع مكرنا! ولكنهم ينسون أن اليهود قوم لا ينسون. فهذا ضد طبيعتهم كما ذكرت، ومن المحال أن يتركوا ثأرهم من الغرب على ما ارتكبه في حقهم من فظائع. إنها مسألة وقت. فاليوم يحصلون على القوة بامتصاص دم المسلمين، وزادت قوتهم حتى صاروا خطرا إلى الحد التباهي علنا بقدرتهم على محاربة الاتحاد السوفييتي وهزيمته. فكل التكنولوجيا اللازمة لتطوير أسلحة الحرب.. تقدموا في كثير من فروعها على أمريكا، وصنعوا القنبلة الذرية، وأنتجوا أسلحة مهلكة أخرى. لماذا يحدث كل ذلك؟ لما تزداد قوتهم باطراد.

إنها لغباوة وحماقة كبرى لو ظنت أمريكا وحلفاؤها أن كل ذلك خوفا من المسلمين. فكلما اصطدم المسلمون المساكين بهم دمر اليهود كل قواتهم تماما، وألحقوا بهم هزيمة نكراء تنحني بسببها رؤوس المسلمين في خجل. فأي خوف عندهم من المسلمين؟ الواقع أن خطتهم في قهر العالم كله. أولاً يستولون على ثروات البترول، وبعدما تتلاشى ذكرى خطوة يخطون التي بعدها، ثم التالية لها وهكذا. وعندما أقول إن مكة والمدينة في خطر.. فلا شك في هذا، لأنهم في النهاية سوف يستولون على حقول النفط. أعني أن هذا هو هدفهم، إلا إذا قدر الله تعالى غير ذلك، واستجيبت دعواتنا في ساحة رب العالمين، وعندئذ تختلف النتائج، ولكن الخطة هكذا تماما. وبعد ذلك يثأرون من الغرب. وسيكون انتقاما مريعا لا يتخيله أهل الغرب. إن اليهود أمة تنفخ في نفير الحرب. ولقد أسمع دافيد بن غوريون صوت هذا النفير، صوتا يتردد في الآذان منذ 2000 عام: الحرب الحرب. ولا هدف لهم غير ذلك. فإذا كانت أمريكا وحلفاؤها يتوهمون بأنهم يخدعون اليهود والمسلمين، ويجعلونهم يتحاربون.. فهم إنما يرتكبون خطأ كبيرًا.

و فيما يتعلق بأمريكا فقد قلت إنه لديهم كثيرا من الأسباب السيكولوجية تدفع بهم للسعي في إهانة العراق وخزيه.. ذلك كي يتمكنوا من إزالة وصمة هزائمهم الماضية. وذكرت بهذا الصدد فيتنام. وسأخبركم باختصار عن فيتنام وكيف تحطم (الأنا الصلف الأمريكي) وتهشم كبرياء هذه القوة العظمى هناك.

بدأت حرب فيتنام في 4 أغسطس 1964. وكانت مصادفة عجيبة، أو قل: هو قدر الله تعالى.. أن الحرب بدأت بعاصفة، يطلق عليها المؤرخون الأمريكان العاصفة المدارية. فعندما كانت الحرب تجري بين فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية، ويحاول الشيوعيون الشماليون إسقاط حكومة الجنوب.. كانت أمريكا تتلمس ذريعة للتدخل في المنطقة وتساعد فيتنام الجنوبية لتهزم الشيوعيين في الشمال. دخلت إحدى سفن أمريكا وتسمى مادوكس Maddox)) في منطقة من البحر ضمن حدود فيتنام الشمالية، فأرسلت فيتنام الشمالية قوارب دورية لتعترض طريق السفينة، ولكن السفينة هاجمتهم وأغرقتهم، ثم عادت بصحبة إحدى المدمرات تدعى تيرنر جوي (Turner joy).

قال الأمريكان في أنفسهم: لو هاجمونا الآن فهذه حجة للهجوم عليهم. ولكن ما حدث أن العاصفة المدارية هبت، وهي عند هبوبها تكون رهيبة كعواصف الصحراء. قالوا: تعطلت معداتنا الالكترونية وظننا بالفعل أننا هوجمنا. وهذا رد فعل يشبه تصرف الجاهل، فهناك عاصفة واضحة، فكيف كان هناك هجوم؟ هل هيجت فيتنام العاصفة؟ على أي حال من يبحث عن ذريعة يجدها. وهكذا وجدوا سببًا كسيحا، وادّعوا بأنهم تعرضوا للهجوم. ولجّوا في إصرارهم على أنهم هوجموا أولا ولا بد من رد الهجوم! فقاموا بهجمات جوية. وفي خلال عام أي قبل نهاية عام 1964 أرسلوا هناك 200 ألف من جنودهم، وفي عام 1967 بلغت قواتهم 540 ألف جندي.

كان القصف الجوي شديدا لمدة ثماني سنوات ونصف من السنة . كانوا يضربون فيتنام ليلا ونهارا، حتى بلغ مجموع ما ألقوه مليونين ونصف مليون طن من القنابل، وهذا ما يعادل ما ألقيَ خلال ست سنواتٍ في الحرب العالمية الأخيرة في أنحاء العالم.. في أوروبا وآسيا وأفريقيا. علمًا بأن مساحة فيتنام تساوي مساحة ولاية فلوريدا الأمريكية.

وفيتنام بلد فقير، ليس به مصالح كثيرة أو قوة تجارية، ولكن بوسعكم مشاهدة عظمة شخصيتها.. إذ حاربت أمريكا برأس مرفوعة أكثر من ثماني سنوات. وبلغ مجموع القتلى من عسكرين ومدنيين في الشمال والجنوب مليونيين ونصف مليون، أي قدر سكان إسرائيل من اليهود، ومع ذلك لم يحنوا الرأس أبدا، بل قصموا ظهر الصلف الأمريكي، حتى اعترفت أمريكا بهزيمتها في مذلة ومعرّة.

وكان أسلوب الاعتراف الأمريكي مثيرا. ففي مؤتمر السلام بفرنسا. رفض وفد فيتنام الشمالية وقف إطلاق النار وقالوا: نعم نبحث عن السلام ولكن لا نتوقف عن القتال!! فالدرس الذي تمليه أمريكا اليوم على العراق.. تعلمته من قبل على يد فيتنام: نبحث السلام مع استمرار القتل. تهشم صلف هذه الدولة العظمى هناك.

وحاقت بهم هزيمة نفسية رهيبة، تدفعهم إلى الانتقام واستعادة كرامتهم. ولكن الواقع يقول: الظهر إذا انكسر لا ينصلح أبدا. الحق أن العالم قد تغير، والزمن لم يعد كما كان، ويستيقظ مفهوم الاعتماد على النفس ويتنامى في الإنسان، وموجات التحرر تعلو وترتفع. إن قدر الله تعالى يغير مستقبل العالم، فلم تعد الأيام للآلهة المزيفة. آن الأوان لمحو سلطانهم.. ولكنهم لا يستطيعون رؤية ذلك. إنهم لا ينفكون يرتكبون عدوانًا بعد عدوان، ولا يدركون صورتهم في عيون العالم، أو في عين التاريخ. يقدمون الرئيس صدام على أنه شبيه هتلر، الطاغية القاسي، ولو قبلنا بهذا الادعاء فما فظائعهم بالقياس إلى عدوان صدام إلا كالجبال إزاء حبة خردل! كل ما ينسبونه إلى صدام من فظائع، لو صدقنا بها.. فما هي بالنسبة لجرائم أمريكا في فيتنام، ولمدة تزيد على ثماني سنوات متواصلة؟ لم يكن لهم حق في الذهاب إلى فيتنام ليقصفوا بلدا ويناصروا فريقا منه لارتكاب أعمال وحشية ضد الفريق الآخر!! لو قرأتم تفاصيل أفعالهم هناك لاقشعرت جلودكم وارتعدت فرائصكم. كانت جرائم وحشية. والأدهى من ذلك محاولاتهم المستمرة إلى الآن لاغتيال الشخصية الفيتنامية. فهم لا يبرحون يتصايحون أن الفيتناميين قتلوا أعواننا في كل مدينة استردوها، وفعلوا الفظائع هناك حتى أصبحت المقابر الجماعية تضم مئات وألوف الجثث ينبغي أن يعامل الخائن هكذا في حرب عدوانية من طرف واحد. أيَ شريعة في العالم تحمي الخائن؟ إنهم يعترفون بلسانهم أن هؤلاء الناس أعوانهم. يذكرون هذا ويصورونه على أنه من الفظائع، وينسون جرائمهم التي اقترفوها في ثماني سنوات ونص سنة!

أخشى أن هذا المرض النفسي الرهيب الذي أصيبت به أمريكا هو أشد الأخطار على سلام العالم اليوم. وهنا أضافوا شيئا آخر رهيبا.. ذلك أنهم أقاموا مثالا للحرب لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم كله. ولعلكم سمعتم بحروب المرتزقة، ولكن هذه حرب مرتزقة على نطاق واسع.. لم يسبق حدوث مثله في العالم. إنهم في حرب فيتنام لم يحملوا على الأقل كيس الشحاذة ليتسولوا نفقات الحرب.. وتحملت أمريكا وحدها 120 بليون دولار على مدى السنوات الثماني لتمطر العدوان على فيتنام. وهذا قدر هائل من المال ولكنهم في حرب الخليج يعتمدون على المال الذي يشحذونه. أي ضمان يكون لسلام العالم إذا نُصب هذا المثال أمام العالم، وأمكن أن تحارب دول بأموال الآخرين؟ هذا يعني أن يبقى سلام البلاد الفقيرة في أيدي البلاد الغنية، فيطلقون المرتزقة ليعتدوا على الأمم الفقيرة وقتما يشاءون وكلما يريدون. هذه هي الرسالة التي يعطونها للعالم!

وهناك شعور آخر متصل بهذه الحرب.. عندما تظهر نتائجها بالتدريج.. فسوف تندهشون عندما ترون أمم الغرب الأخرى تتشجع وتقول في نفسها: إذا كانت الحرب هكذا.. فلم لا نشارك فيها؟ كل هذا الدمار الذي وقع بالعراق والكويت أخذوا الأموال لاقترافه، وسيأخذون أضعافه لإصلاح ما دمروه. فهم يجمعون المال من الوجهين: من التخريب وإعادة البناء! أنت تدفع مالا أقل لاستئجار القاتل، أما الجرّاح المعالج فتدفع له أكثر، وهم جمعوا المهنتين في أيديهم. هذا هو أشد الأخطار في وجه العالم. لقد ظهر تقليد جديد إذا لم يوقف فسيزداد ويتفاقم. إذا أرادوا تدمير بلد فقير فسوف يدمرونه لو دفع التكاليف بلد غني، ويتقاضون ثمن البناء من المجني عليه، وينتفعون من الجاني والضحية!

وفي الختام أود أن أخبركم.. طالما تعرضت العراق لأشد صنوف القمع والظلم. ووقعت بها مآسٍ قاسية رهيبة. أي اسم يا ترى نطلقه على هذه الأرض؟ يمكن أن نسميها (أرض الأبراج المشيدة من الجثث والجماجم) ففي أول الأمر احتل الأشوريون منطقة العراق، وأنزلوا بالناس فظائع استمروا في فزع منها 200 سنة. وفي عام 879 ق . م. أي في بداية الطغيان الأشوري.. شيَّد الملك الفاتح برجا أمام قصره نقش عليه: (أنا الملك الذي سلخ جلد من عارضني. وقد غطّيتُ هذا البرج الذي ترونه بجلود البشر. والهيكل الذي أقمته هيكل بشري. واستخدمتُ أجساد الأحياء بدلا من قوالب الطوب لبناء البرج. فأنا الملك الذي يسلخ الناس، وأنا ملك الموت) ومع ذلك مضى الملك يقول: (إني أفعل ذلك من أجل الفضيلة. وحربنا هي بين الخير والشر، فنحن نمثل الخير، وسائر العالم يمثل الشر؟؟ )

(Chronicle of the world, By Long man Group (UK) LTD. 1989, P 73)

لا أعرف إذا ما كان الرئيس بوش اطلع على هذا التاريخ أم لا، ولكنه يحاول بما يفعله بالعراق تشييد برج رمزي شبيه بذلك البرج، ويحاول أن ينقش عليه: نحن الملوك الذين هشموا الرؤوس، وحطموا رغبة احترام النفس لدى الآخرين، وسحقناها تحت أقدامنا. من يرفع صوته علينا.. أو يبدي جسارة أمامنا فسنقصم ظهره، ونبني أبراجا من الجماجم كتلك التي شيدت في تاريخ العراق من قبل!

أما البرج الثاني فقد بني في العراق عام 1258م. بناه هولاكو خان من الجماجم البشرية حقًا. ومنارة ثالثة عام 1401م بناها تيمورلنك من جماجم الناس أيضًا. (Cambridge History of Islam, Vol. I, p.170, Editors). فما أشد ما تعرضت له هذه الأرض من إرهاب وقمع، ليس مرة واحدة ولا اثنتين، بل ثلاث مرات بنى الأبراج من جماجمهم وجثثهم.. كي يخروا ساجدين أمام أحد الطغاة.

وما يجري اليوم في العراق هو تكرار لنفس الشيء، ولا أعلم متى يحطم القدر الإلهي كبرياءهم وغطرستهم؛ ولكن ما أعلمه يقينًا أن القدر سوف يحطم رأس غطرستهم. وأؤكد لأمريكا أن ظهركم الذي كسر في فيتنام لن يشفى أبدًا بعدوانكم وفظائعكم في العراق. إنكم حاولتم في الظاهر بناء برج من الجماجم، ولكن الحفر التي أحدثها تفجير مليونين ونصف مليون طن من القنابل، حفر الخزي هذه صارت مقبرة لسمعتكم، وسيبقى اسمكم مدفونًا فيها إلى الأبد. ولسوف تتضح هذه الأمور فيما سيرويه تاريخ المستقبل. وتلك البقع التي لطخت وجهكم، والتي لا يستطيع أحد عرضها على العالم خوفًا من فظائعكم ومظالمكم.. سوف يكشفها التاريخ في النهاية بمضي الوقت، وسوف تشتد الظلمات عليكم دكنة.

انظروا إلى أنفسكم بعيون الآخرين، وشاهدوا الصورة التي ترسم لكم في الخارج وتكون من نصيبكم في المستقبل. إنكم تعملون على النقيض من الغرض الذي من أجله قامت أمتكم، وبدلاً من السلام تدفعون الناس نحو الحرب إلى الأبد.

أما إذا لم تكن أمريكا مستعدة لفهم هذه الأمور، وهذا ما يبدو منها في الوقت الحاضر.. لأنهم مخمورون بغطرستهم، ويحلقون عاليًا، ويرقبون العالم من فوق قمة برج عدوانهم الخيالي، فماذا سيحدث في المستقبل، وماذا سيبدي لهم قدر الله تعالى، فهذا ما سوف أتحدث عنه في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى. وسوف أنصح اليهود، وأنصح المسلمين أيضًا وسائر بلاد العالم كذلك.

إن الوقت الحاضر هو أشد الأوقات حرجًا في التاريخ الحديث للإنسان. ولا يزال هناك فرصة نستطيع أن نغير فيها اتجاه تيار العدوان والطغيان. لم يفلت الأمر تمامًا من الأيدي، وإني على يقين من أنهم لو قبلوا نصحي الذي أقدمه لهم في نور التعاليم القرآنية.. فبمشيئة الله تعالى سيفلحون في تغيير مجرى تيار الطغيان.

إننا لا نملك سلطة، والحق أن موقفنا ليس إلا موقف المستضعفين من عباد الله، المتضرعين إليه في تواضع وخضوع. ودعاؤنا، بلا شك، يستطيع تحقيق تلك النتائج التي لا يستطيعها جهدنا الظاهري، بل يقينًا لا يستطيع تحقيقها. فجهودنا لا وزن لها، ولا يملك قولنا تحريك شعرة واحدة من أمريكا. ومع ذلك فإني أعرف، وأنتم جميعًا تعرفون.. أن تغيير مسار البشرية سيحدث بفضل دعاء جماعة سيدنا المهدي والمسيح الموعود ، وهو دعاء المحبين الوالهين لسيدنا محمد المصطفى . وهو الدعاء الحار لعباد الله المتواضعين.

يقول سيدنا المهدي والمسيح الموعود في خطبته الإلهامية: لقد قدر ذلك. لقد قدر ذلك. ولسوف يتم ذلك. يقول: عندما تذوب روح المسيح الموعود والمهدي المنتظر على العتبة الإلهية.. وتصعد في الليل أنات الألم من قبله.. فوالله، سوف تذوب قوى العالم العظمى كما يذوب الثلج في حرارة الشمس. وعندئذ سوف تشرق أيام دمار هذه القوى، وقصم ظهور كبرهم. لم يعد سيدنا المهدي المسيح الموعود يمشي بين ظهرانينا، ولكن روحه تعيش في الجماعة الإسلامية الأحمدية. فيا أيها الأحمديون.. يا من يحملون روح المهدي والمسيح في صدورهم، قوموا الليل بين يدي رب العزة، وذوبوا بصرخات الألم وشهقات الضراعة، ولتؤمنوا يقينًا أنه عندما تنصهر أرواحكم على عتبة ربكم.. فلتأتين الأيام التي تتلاشى فيها القوى العظمى الغاشمة. هذا قدر لا يستطيع تبديله أحد في هذه الدنيا.

خطبة 1 مارس 1991

عندما بدأت حرب الخليج خيل إلى الناس بسبب تأثير الدعاية الغربية كما لو أن عصر النازي الألماني قد عاد إلى الوجود، وتولى هتلر مقاليد السلطة مرة أخرى؛ وأعيدت الحياة لتشرشل وروزفلت وستالين وبعثوا للقضاء عليه. هكذا كانت الصورة مرعبة حتى كان المراقبون في أنحاء العالم يرتجفون. والآن وقد انتهت الحرب بقيت عناصر المشهد كما هي، ولكنها ظهرت في صورة جديدة. الموقف لم يتغير، والحقيقة لم تتبدل، ولكن يمكن أن ترى هذه الحقيقة بطريقة أخرى.

لقد ذكرني انتهاء الحرب بالشخصية الروائية الأسبانية المشهورة “دون كيشوت”، وهو فارس فكاهي، دأب على تخيل أشباح وعفاريت وعماليق وهمية وفرسان عظام، ثم يركض ببغلته نحوهم ليهاجمهم. وكان يحارب طواحين الهواء على أنها أشخاص. ولو أننا أدخلنا تغييرًا طفيفًا في الرواية، وطبقناها على الموقف الحالي لكانت مناسبة له تمامًا. كان دون كيشوت يركب بغلته مع جنراله سانشو بانزو فشاهد طاحون هواء. قال دون كيشوت لجنراله مشيرًا إلى الطاحون: هذا هو أقوى العمالقة وأشدهم بأسًا وأكثرهم خطورة في العالم.. هلم نكر عليه سويًا. ثم هاجماه صائحين راكضين. وتمضي القصة بعد إجراء تعديل بسيط فيها لتقول: وهزما الطاحون هزيمة شديدة ومزقاها شر ممزق، وبعدها أعلنا: اليوم قام أعظم فرسان الدنيا بالقضاء على أعظم عمالقتها.

وهكذا ترون الحقيقة باقية كما هي، ولكن المشاهد تتغير مع الزمن. وكذلك يتغير المشهد بتغير الزاوية. وإذا نظرنا من زاوية النظر الأمريكية بدا أن الصياد الأمريكي جعل كلاب الصيد تتبعه. فقد استتبعت أمريكا وراءها بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي وألمانيا، وجرى خلفهم غيرهم من حيوانات الغاب، في انتظار الفريسة ليسهموا في قتلها.. كل بحسب قدرته، ثم يحصلوا على أنصبتهم منها كل بحسب مركزه. يسير هذا الجيش في طريقه يضم الصيادين وحلفاءهم، ويتعالى هتافهم: الكويت الكويت، ويحدون أسنانهم ويتحينون الفرصة لاصطياد العراق باسم الكويت.

هذه زاوية نرى منها الموقف هكذا. ولكن هناك زاوية أخرى، فإذا نظرنا بعين إسرائيل وجدنا الإسرائيليين يحسبون، ولهم الحق في ذلك، أنهم استتبعوا أمريكا وكل حلفائها، ومن ورائهم كائنات الغاب الأخرى. وقليلاً ما يدرون أن هذا الصياد سوف يستدير إليهم فيما بعد، ويقضي على كل تلك الحيوانات التي تسير في كعبه، ثم يستمتع وحده بلحم الصيد كله. هذه زاوية أخرى للرؤية، والحقيقة واحدة. وسوف يكشف الزمن القادم عن حقيقة من كان يستتبع من؟

ومن جهة النظر الخاصة بالأصوات.. يفعل العقل البشري العجائب أيضًا. فالصوت الواحد يمكن أن تفسره العقول بمعان مختلفة. ومن الأصوات المسموعة في عالم اليوم صوت يقول: الغرض من تكسير أطراف العراق ألا يتجاسر مرة أخرى على مهاجمة الكويت.. وكأن الكويت هي غرض العالم كله، أو كأن كل بلد حر في مهاجمة أي بلد آخر فيما عدا الكويت.. لا يسمح لأحد بالهجوم عليها! هذا معنى من معاني هتاف “الكويت الكويت” الذي تسمعه الدنيا. ولكن لو سمعنا الصوت نفسه بأذن إسرائيل لكان معناه: مزقوا العراق كل ممزق حتى لا يدور بخلدها أبدًا حلم الهجوم على إسرائيل. وليس العراق وحده.. بل كل من ينظر إلى إسرائيل نظرة سوء في هذا العالم. وهكذا ترون الصوت الواحد يصل إلى شتى الآذان في صور مختلفة، وتفسره العقول تفسيرات مختلفة.

وثمة وجه آخر جدير بالذكر. فالمدينة والأدب واللطف والمودة ليست وقفًا على الإنسان وحده، بل إن الحيوانات الضارية المفترسة أيضًا تبدي نفس مظاهر المدنية والأدب. فما دامت لا تقفز على فريسة، ولا تقاتل عدوًا، فسترى أقدامها رخوة طرية كالمخمل، وأنيابها تختفي خلف شفاه رقيقة، وتعيش سويًا في محبة وألفة، ولا تنظر ناحية الحيوانات نظرة شر. أما عندما يحين وقت الصيد، ويأتي أوان القفز على العدو.. تظهر المخالب الرهيبة من وراء الأقدام المخملية، وتبرز الأنياب الحادة من تحت الشفاه الطرية، والتي لا تعرف الرحمة بأي حيوان!

ينبغي أيضًا تأمل هذا الموقف من هذه الناحية، ونرى ما هي الأوقات التي يعرف فيها حقيقة البشر؟ ونعم ما قال في هذا المعنى الشاعر بالأردية حيث أنشد:

يقول: أمر بسيط أفسد صداقة سنوات، ولكن هناك شيئًا واحدًا طيبًا: فلقد عرفنا حال الناس على حقيقته.

ولكن الأسف على هؤلاء العرب أصدقاء الغرب الذين لو نزلت الصواعق على الأمة الإسلامية ودعك من المشاكل البسيطة فستبقى صداقتهم القديمة للغرب على حالها لا تتأثر، ولن يستطيعوا معرفة حقيقة أصدقائهم! هذا هو ملخص تلك الخلفية، وعلى ضوئها سوف أضع أمامكم مزيدًا من الأمور التي تتصل في أغلبها ببذل النصح لشتى الأمم.

تتأسس معظم السياسات اللادينية على ثلاثة مبادئ مشتركة بين الشرق والغرب، فلا نستطيع القول بأنها مبادئ شرقية أو غربية؛ أو أنها مبادئ الأمس أو اليوم، فهي مبادئ الزمن كله.

إذا كانت سياسة بلا دين ولا إيمان فأول مبدأ لها أنه إذا تصادمت مصالح الأمة أو البلد أو الجماعة مع العدل فلا بد من أن تكون الأفضلية والأولية لمصالح الأمة والبلد والجماعة حتى ولو أدى الأمر إلى اغتيال العدالة.

أما المبدأ السياسي الذي يقدمه الإسلام بإزاء ذلك فهو مختلف تمامًا. يقول القرآن الكريم:

وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (المائدة: 9)..

أي أيها المسلمون، إن سياستكم تختلف عن غيركم. فهي سياسة تنبني على التعاليم الإلهية، ومبدأها الأساسي الثابت ألا تجنحوا إلى معاملة أحد بما يخالف العدل وإن كان من أشد أعداء الأمة. تمسكوا بالعدل دائمًا وفي كل الأحوال، فذلك أقرب للتقوى.

والمبدأ الثاني في السياسة اللادينية أنك إذا كنت تملك القوة فخذ مصالحك بالقوة، لأن القوة هي الحق، ولا معنى للحق خلاف ذلك. وفي المقابل يقدم القرآن مبدأً مختلفًا تمامًا فيقول:

لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (الأَنْفال: 43).

أي لا يهلك إلا من شهد الحق ضده بشهادة بينة، ولا يحيى إلا من كان الحق مؤيدًا له بشهادة بينة. وهذا المبدأ يناقض مبدأ القوة هي الحق، بل يقول: الحق هو القوة.

والمبدأ الثالث.. وهو أساسي أيضًا في السياسة اللادينية.. أن قم بدعاية مزيفة دون تردد، فهذا عمل شرعي، بل كلما زاد ما فيها من خداع وتزوير كانت أفضل وفي صالح الأمة. يجب أن تهزم عدوك؛ ليس في ميدان القتال وحده وإنما بالدعاية الزائفة أيضًا، وأن تصوره للناس بصورة المهزوم في عالم الفكر والمبادئ أيضًا.

وفي الجانب الآخر يقدم القرآن هذا المبدأ:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج: 31).

ويقول في موضع آخر: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (الأَنعام: 153). ففي حرب الكلمات.. في الجهاد بالكلمة.. لا تدع قبضتك على حبل الحق تفلت، لأن قول الزور مثل عبادة الأوثان.. مخالف للتقوى ومناقض للطهارة. يجب عليكم أن تقولوا الحق ولا تجرحوا الصدق، وإن أضر ذلك أقرب الناس وأعزهم لديكم.

منذ فجر التاريخ، ومنذ أن كان هناك سياسة.. هذه المبادئ تفعل فعلها في كل مكان، اللهم إلا في فترات استثنائية.. عندما كان الذين يديرون دفة السياسة أناسًا شرفاء، تتجلى على يدهم القيم الدينية والأخلاقية؛ أو عندما آتى الله أيضًا السلطة الدنيوية لأهل الدين.

وأشد ما يعذب النفس في عالم الإسلام اليوم أنهم يعلنون الجهاد باسم الله تعالى وباسم دين محمد ، ومع ذلك يتبنون شرائط السياسة اللادينية، وينبذون وراء ظهورهم سياسة الإسلام العالية التي جاءت في القرآن المجيد. وهذا هو السبب في أنه، باستثناء حالات نادرة، كلما اصطدم المسلمون في هذه الأيام بأعدائهم وأعداء الله تعالى.. لقي المسلمون هزيمة مخزية، في حين أن وعد الله تعالى في القرآن صريح ثابت:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج: 40).

فهو يحذر الأعداء من أولئك الذين خرجوا جهادًا في سبيله وباسمه: إذا كانوا ضعفاء فالله ليس ضعيفًا.. سوف يعينهم الله، ولسوف ينصرهم على أعدائهم.

ثمة سؤال يزلزل عقول المسلمين اليوم بسبب هزيمة العراق، ولذلك أوليه أهمية كبرى، لأشرح لقلوب المسلمين المعذبة في الشرق والغرب أن هذه الهزائم ليست هزائم الإسلام، وإنما هي هزائم لأولئك الذين هزموا مبادئ الإسلام في أنفسهم.. بأن نبذوها واتخذوا المبادئ المهزومة. فهذه الحرب لم تعد حرب الحق ضد الباطل، بل حرب القوة ضد الضعف، والله تعالى لا يؤيد جانبًا دون الآخر، عندما يكون الصراع بين القوة والضعف، فلا بد من انتصار القوة؛ وهذا هو معنى أن القوة هو الحق.

وفي واقعة الخليج الرهيبة دروس عميقة لنا. وأكبر هذه الدروس أنه لا بد من عودة المسلمين إلى المبادئ الإسلامية السامية التي لا تهتز ولا تنهزم. وإن لم يفعلوا فلن يتحقق لهم الوعد الإلهي: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: 106). والأرض قد تكون فلسطين، وقد تكون العالم كله. لن يقدر للمسلمين النصر الدنيوي ما غاب العباد الصالحون منهم، وما داموا لا يتبعون ويطبقون مبادئ القرآن وتعاليمه الطاهرة الدائمة الغالبة.

هذه الفظائع والمظالم تنزل على رؤوس المسلمين حتى ليقال بأن الحق في جانب الحلفاء، وأن الحق قد انتصر على الباطل. هذا القول قطعًا غير صحيح. وبهذا الخصوص ينبغي أن تعرفوا شيئًا آخر. كان جنرال أمريكي يردد قوله: “نحن جميعًا من ذوي القبعات البيضاء، أما العراق وحلفاؤه فهم ذوو قبعات سوداء”. هذا المفهوم الخاطئ يرد في روايات الغرب ومؤداه أبطال أن المهرة في استعمال المسدس يلبسون قبعات بيضاء، أما الأشرار فيلبسون قبعات سوداء. والواقع أن هذه الحرب لم تكن بين أبيض وأسود. ولكنهم لإثبات دعواهم يصفون صدام حسين بالطغيان والوحشية وقتل الأكراد بالغاز السام وتدمير قراهم بالقنابل. وإذا كان هذا الاتهام صحيحًا، وقد يكون بالفعل صحيحًا، فقد ارتكب جريمة شنعاء، وهو مسؤول أمام الله تعالى، ومسؤول أمام التاريخ. ولكن الصورة هكذا لا تكون كاملة، بل ينبغي أن نرى أين تعلم صدام حسين هذه الجريمة ومن علمها إياه. كانت سياسة الإنجليز في عام 1920 ترمي إلى جعل الأكراد عبيدًا للعراقيين. وعندما رفع الأكراد أصواتهم ضد هذا.. ألقى البريطان بقنابل الغاز السام على الأكراد الضعفاء العزل، وقتلوا منهم ألوفًا بلا رحمة. ولتأكيد استعبادهم دأبوا على قصف قراهم لعدة سنوات. وقد تأثر من فظاعة هذا القصف حتى الجند الذين كانوا يقومون به. ففي عام 1922 استقال ضابط طيار بريطاني كبير احتجاجًا على قسوة القصف وقال: إني لا أطيق هذا الظلم. إنهم يرتكبون الفظائع ضد الأكراد بما هو فوق الاحتمال.

ويقولون أيضًا بأن الرئيس صدام ارتكب نفس الجرائم ضد إيران، وقتل كثيرًا من الإيرانيين بعذاب الغاز السام، وضرب مدنهم بالقنابل. والحقيقة الواقعة أن بلاد الغرب هي ذاتها التي زودته بمعدات الغاز السام والمدافع بعيدة المدى، ومونته السعودية والكويت بمعظم العون المالي، وساندته أمريكا على طول الخط. الحق أن صدام حسين مسؤول عن كل جريمة ارتكبها ضد الإنسانية، ولكن ليس من الصواب أن تلقى المسؤولية عليه وحده.. فهناك غيره كثيرون شاركوا في هذه الجرائم. وأولئك الحلفاء الذين لبسوا اليوم مسوح البررة الأبرياء.. فيهم كثير من أشد القساة الغلاظ الطغاة.. وهم أنفسهم الذين ساندوا تلك الجرائم عندما كانوا في حاجة إليها، وشجعوا العدوان عندما كان يخدم أغراضهم. فهذه الحرب ليست حرب الحق والباطل أبدًا.

لقد فجع المسلمون أشد فجيعة، وشبابهم بصفة خاصة. وطبقًا للأخبار التي أتلقاها من أنحاء العالم.. ضرب الحزن الشباب ذكورًا وإناثًا لمرأى ومسمع تلك الفظاعات التي تحيق بالعراق، ويبكون بحرقة حتى صارت حياتهم لا تحتمل. حتى هنا في بريطانيا زارني بعض الشباب من الجنسين، وسألوني: ما هذا الذي يجري؟ لماذا لا يساعدهم ربنا؟ وأود أن أبين لهم أولاً: عندما يتخلى عباد الله عن تمسكهم بالتوحيد، ويتخذون لأنفسهم، بدلاً من مبادئ البر والتقوى الإسلامية، مبادئ أعداء الله المجردة من التقوى.. عندئذ لا يكون الله مع هؤلاء ولا مع هؤلاء؛ ولا تكون الحرب بين الحق والباطل.

ثانيًا: فيما يتعلق بالحروب الدنيوية لا يتوقف مجرى الزمن عند الهزيمة، ولكن التاريخ لا ينفك ماضيًا إلى الأمام.. يغير اتجاهه. والزمن يتغير دائمًا، والأيام دول. إذا حدث شيء اليوم فإنه يتغير غدًا. لقد قضت أمم حياتها تحت نير الطغيان والعدوان قرونًا عديدة، وفي النهاية أعطاها الله النصر على أعدائها. فينبغي عليكم أن توسعوا دائرة تفكيركم طبقًا لأوقات الله تعالى؛ فلا يفرغن صبركم بحسب وقتكم. ولتطمئن قلوبكم أرجع بكم إلى الوراء قليلاً في مجرى التاريخ؛ وأذكركم بما كان يجري في أوروبا.

في عام 1919، وفي مدينة فرساي (Versailles).. اجتمع حلفاء الحرب العالمية الأولى المنتصرون ليقرروا مصير ألمانيا. وكانت هذه السنة أيضًا سنة الانتخابات البرلمانية في بريطانيا. وقبل سفر لويد جورج رئيس الوزراء.. صرح للشعب البريطاني أنه سوف يعتصر الألمان كما يعصر الليمون حتى تئن البذور. وكتب أحد المراقبون عنه: عند وصوله إلى فرساي، علم لويد جورج بنوايا الفرنسيين، فوجد أن نواياه بالنسبة إلى نواياهم تعد مثالاً للصفح والغفران. كان لدى ممثل الفرنسيين شغف شديد بالقضاء على الألمان جميعًا فردًا فردًا. على أي حال، بعد المناقشات توصلوا إلى قرار أنه لن يسمح للألمان في قادم الأيام برفع السلاح ضد أي بلد. وهذه هي الصورة نفسها التي ترونها اليوم من أهدافهم نحو العراق. ثم بعد مدة، وبالتحديد في 1928، وتأكيدًا لهذا الغرض، طلب كل من فرانك كيلوج (Franck Kellogg)، وزير خارجية أمريكا، ورئيس الوزراء الفرنسي عقد مؤتمر من 15 دولة ليحرموا الحرب. وأعلنوا أنهم سوف يدفنون الحرب. وكان ممثلو الدول حاضرين في الحفل عندما كان ممثل ألمانيا يوقع الوثيقة بقلمه الذهبي، واهتزت القاعة من التصفيق. من كان يدري أن هذا الجسد الذي دفنوه قدر له أن تدب فيه الحياة. ولا تمضي عليه 11 عامًا حتى يقوم ويغادر قبره، ليس لتدمير قارة واحدة بل ترتعد من خشيته فرائص العالم شرقًا وغربًا، وكان دوي القنابل يحجب سائر الأصوات عن المسامع!

وهكذا ترون كيف تغير المشهد فجأة؛ ومن وجهة نظر التاريخ تعد هذه الفترة القصيرة فجأة! فالله تعالى حي وسيبقى حيًّا.. أما أجيال البشر فتأتي وتروح. ولست أقول لكم: اعتمدوا على فرص التاريخ، بل أقول: ضعوا نصب أعينكم أحوال التاريخ المتغيرة هذه، فلا تهنوا ولا تحزنوا، وضعوا ثقتكم في الله الحي الباقي.. الذي لا غالب له، القادر الذي يسيطر على قوى العالم جميعها، وقوى الكون قاطبة، بل كلها لا شيء بالنسبة إليه جل وعلا. فإذا كنتم اليوم مظلومين عاجزين، تئنون من الألم.. فحولوا هذه الآلام إلى تواضع وابتهال إلى الله مولاكم، وأؤكد لكم أنه بهذه الوسيلة سيبدل الله كل الهزائم إلى نصر.

ونصيحتي إلى القوى المتحالفة وإلى قادة الحلفاء: إذا كنتم ترغبون حقًا في الصالح العام وخير البشرية والسلام الدائم.. وقد رأيتم كيف فشلت مبادئكم السياسية مرارًا، وعجزت عن توطيد السلام في العالم.. فبالله عليكم تعلموا اليوم درسًا، واتخذوا مبادئ الإسلام السياسية التي ترتبط بالتقوى وجذورها في التقوى، وتنمو في ماء التقوى. وتزدهر وتنتعش بماء التقوى، لو أنكم اتبعتم تلك المبادئ الإسلامية الثلاثة التي ذكرتها.. فهي الوسيلة الوحيدة الأكيدة ليكون في العالم سلام دائم. وإن لم تفعلوا ذلك.. فإن قوى الطغيان والعدوان.. في الغرب كانت أو في الشرق، في أمريكا التي ألقت القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي.. أو في اليابان التي ضربت أمثلة مدهشة من القسوة الرهيبة في أندونيسيا؛ أؤكد لكم إذا بقيت مقاصدها كما كانت مقاصد الساسة في كل الأزمنة.. قائمة على الإثرة بدلاً من مكارم الأخلاق، فلن يكون بوسعها أبدًا تحقيق السلام للعالم. لا بد للدول العظمى أن يقتلوا الذئاب الكامنة في غابات نواياهم. إن لم تفعلوا ذلك فلن تستطيعوا بتدمير خير قوات صدام حسين ضمان توطيد السلام في العالم. وحتى لو مزقتم العراق إربًا إربا فلن يكون بوسعكم ضمان استقرار السلام في الدنيا.

إن الذئاب تكمن في نوايا الإنسان لتدميره. وما دام الإنسان لا يقتل هذه الذئاب ولا يعزم على البناء فوق أساس من العدالة.. فلا ضمان هناك للسلام العالمي.

وهنا يبرز أهم سؤال: إذا كان العالم الإسلامي نفسه لا يقبلون العدالة كما يقدمها القرآن ولا يطبقون بالعمل نظام العدالة الإسلامية في بلادهم.. وما داموا لا يُقيمون مفاهيمهم على العدالة.. فكيف يَدعون العالم إلى عدالة الإسلام؟ هذا مجال. فما دام العالم الإسلامي لا يقوم بنفسه على العدالة.. أي لا يقوم على مفهوم العدالة القرآني.. فلن يستطيع منح السلام للعالم، ولا يستطيع توقع السلام من العالم. هناك أمور بغيضة تجري في دنيا المسلمين تدل على عدم الإخلاص والوفاء للإسلام. وبدلا من فهم تعاليم العدل في الإسلام وتقبلها والعمل بمقتضاها.. فإنهم يعرضون الإسلام أمام العالم على أنه دين لا يمت إلى العدالة بصلة ما.

وإن أعظم اللوم في هذا يقع على عاتق المشائخ المتعصبين والساسة. ذلك لأن مكائد الفئتين تقضي على نظام العدل الإسلامي. إنهم يتصرفون طبقا لمفاهيم ثلاثة، وينسبونها إلى الإسلام بما يرسم للإسلام أمام العالم الخارجي صورة وحشية شوهاء، ويختفي بها السلام من كل بلد مسلم.

وأول هذه المفاهيم الثلاثة أن استخدام السيف في نشر الإسلام عمل شرعي، بل هو ضروري، وأن تغيير المعتقدات بقوة السيف يسمى جهادا إسلاميا. فلا يملك النصارى أو اليهود أو الهندوس أو البوذيون حق تغيير عقدية أي مسلم.. لأن الله تعالى أعطى هذا الحق للمسلمين وحدهم! ألا ما أظلم وما أجهل هذه الفكرة! ومع ذلك فهي منتشرة في أنحاء العالم باسم الإسلام!

والمفهوم الثاني أنه لو دخل أحد من غير المسلمين في الإسلام.. فليس لأحد حق عقابهم بالموت. كل إنسان في أي مكان من العالم.. يستطيع التخلي عن عقيدته والدخول في دين الإسلام، وليس لأتباع أي دين الحق في قتل من دخل منهم في الإسلام. أما إذا دخل مسلم في دين آخر.. فمن حق كل مسلم في العالم أن يقتله! هذا هو المبدأ الثاني “للعدالة الإسلامية” كما يصوره حملة لواء الإسلام هؤلاء أمام العالم.. باسم الله والقرآن!

والمفهوم الثالث أن من واجب الحكومة المسلمة أن تفرض الشريعة الإسلامية حتى على المواطنين الذين لا يؤمنون بالإسلام، ولكن لا يحق للديانات الأخرى فرض شريعتهم على المسلمين. وبناء على هذا المفهوم.. ليس لليهود حق في معاملة المسلمين بما هو وارد في التلمود، أو لا يجوز للهندوس معاملة المسلمين بالمبادئ المقررة في كتابهم. هذه هي فكرتهم الثالثة عن العدالة.

وهذه أمثلة ثلاثة فقط، ولكن في الواقع أنكم لو تفكرتم أكثر.. ستجدون أمورا كثيرة يعرض فيها مفهوم الإسلام.. على يد مشائخ اليوم.. عرضا يناقض مبادئ العدالة الناصعة الواضحة في القرآن الكريم.. التي ترفض فكرهم.. وإن أكثر الأسلحة استخداما ضد الإسلام في عالم اليوم.. هي تلك المبادئ الثلاثة التي تأسست مصانعها في بلاد المسلمين. وهذه المبادئ التي صاغها المشائخ.. يعرضها اليهود اليوم بنجاح عظيم.. في دنيا الغرب وفي سائر أنحاء العالم، ويقولون: كيف تتوقعون أو نتوقع السلام من هؤلاء الناس، إن أفكارهم هذه عن العدل أفكار المجانين، وليس بها أثر للعقل. يعطون كل الحقوق للمسلمين كي يتحكموا في العالم ويحرمون غير المسلمين من كل حق!

لو أن هذه المبادئ، معاذ الله، في القرآن لحُقَّ للعالم أن يكره هذه المبادئ، ويعتبر المسلمين خطرا على سلام العالم. لا يكفي إذن أن نشكو غير المسلمين بسبب التجاوزات التي ارتكبوها ضدنا، بل يجب أن ننظر في داخلنا أيضا.. ونرى لماذا تُرتكب التجاوزات، ولماذا يستخدم العدو الماكر ضدنا أسلحة صنعها المسلمون بأيديهم؟ الحق أنه أنشئت في بلاد المسلمين مصانع لأشد الأسلحة فتكا بالإسلام، يديرها المشائخ، وتصدر هذه الأسلحة بكميات كبيرة إلى البلاد المعارضة، ثم تستعمل نفس الأسلحة ضد عالم الإسلام.

أرى أن ساسة المسلمين يستحقون قسطا كبيرا من اللوم على هذا.. لأنهم لم يقوموا بأي محاولة من جانبهم لفهم الإسلام، وتخلوا عن هذه المسئولية للمشائخ، واعتقدوا أن أي صورة يرسمها المشائخ للإسلام صحيحة. ولقد رفضت ضمائرهم وعقولهم المتنيرة هذه الصورة، ولكن تنقصهم الشجاعة لمعارضة هذه المفاهيم.. بالرغم من اعتبارهم إياها غير إسلامية. هذا الخلط السيكولوجي جعل من السياسة الإسلامية مريضا منافقا ذا وجهين. لقد ترك الساسة عامة الناس في عهدة هؤلاء المشائخ.. الذين يرجع فكرهم إلى عصور الظلام في القرون الوسطى، ولا يستمدون فكرهم من أنوار العصر المشرق.. عصر النبي الكريم.. سيدنا محمد المصطفى ، ثم خوفا من نفوذهم، لا تواتيهم الشجاعة ليقولوا صراحة بأن هذه المفاهيم خاطئة، لأنهم أنفسهم يعتبرونها أمام الناس من مبادئ الإسلام. والآن حان الوقت لتفيق هذه الحكومات، ويصحو عالم الإسلام الذي انقسم إلى اثنين: عالم السياسة في ناحية، وعالم الفكر الديني في الناحية الأخرى، وهما في صراع مستمر. وهذا وجه ثان خطير، بسببه يواجه عالم الإسلام خطرا داخليا. ولا بد من اجتثاث هذا الخطر من جذوره.

هناك حاجة عاجلة لذلك وإلا لن يستطيع العالم الإسلامي أن يؤدي دورا في خلق النظام العالمي الجديد. يجب أن تعلن الحكومات الإسلامية، في كلمات واضحة مؤكدة، أولا، أن كل مفهوم يتعارض مع نظام العدالة القرآني لا يمكن أن يسمى إسلاميا. وأنتم لا تحتاجون دليلا أعظم من أنه معارض للقرآن. عليم أن تتحدوا المشائخ مرارا وتكرارا.. أن تعالوا ونافسوا هنا في هذا الميدان.. نحن نعلن بأن نظام العدالة في القرآن واضح بيّن لا خلط فيه، وهو نظام عالمي وليس قوميا. إذا لم يكن عالميا لا يصلح أن يكون نظاما للعدالة. إنه نظام عالمي مطلق. يجب أن تقرروا أولا إذا ما كان الأمر كذلك أم لا. فإن كان كذلك.. لزم الموافقة على أن كل مفهوم يتعارض مع القرآن الكريم غير إسلامي.

وثانيا يلزم إعلان أن كل من يعزو فكرة جائرة للإسلام متغطرس على القرآن الكريم، وأن كل من ينسب إلى الحديث النبوي الشريف معنى يتعارض مع مفهوم القرآن الكريم يرتكب إهانة للحديث النبوي الشريف. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تسوية التضارب الداخلي في عالم الإسلام. إذا كانت لديكم الشجاعة لقول الحق وقول العدل.. إذا كان بكم حب للإسلام ولأمته.. فمن الواجب عليكم أن تبدأوا الجهاد أولاً في هذه الميدان لمؤازرة الإسلام. وإذا فشلتم في كسب هذه المعركة فلن تفوزوا في أي ميدان آخر.

ومع أن المشاكل تزول بسبب سياسة النفاق لكن الكارثة لا تزال تحلق فوق رؤوسنا. نرى ذلك يحدث في الإسلام مرارا، فكلما تعرض عالم الإسلام لخطر من أي اتجاه.. تأخذ الملاوية أو كهنوت المشائخ في الازدهار ويشرع الملاّ (الشيخ المتعصب) في التغلغل داخل العقول. وعندئذ تبدأ أخطار ثورة التطرف في التحليق فوق الرؤوس. وتستمر هذه العملية وتزداد شدة. وإذا لم توقف هذه العملية بالحكمة وفي الوقت المناسب، وإذا لم يتوطد الانسجام بين تفكير عامة الناس وبين تفكير الساسة.. من وجهتي النظر الدينية والسياسية كليهما.. فإن بلاد المسلمين ستبقى دائما ضعيفة، ولن تزال تعاني من الزلازل بسبب الصراعات الداخلية ولن ينعموا بالاستقرار.

إنهم بحاجة إلى اتخاذ قرارات واضحة. إنهم بحاجة إلى هذه القرارات الواضحة اليوم، لأن الوقت ينفلت من أيدينا مسرعا، ولن يعاملنا بالعطف أكثر من ذلك. كم من مرة عاقبنا؟ وكم من مرة أخزانا وأذلنا؟ إذا لم تصحوا اليوم فلن تقوموا أبدا. لذلك هبوا وأفيقوا، واتخذوا القرار.. موقنين بأن الله تعالى يراقبكم، هل سترفعون صوت الحق لمناصرة الحق، وهل ستشرعون في جهاد الفكر.. الذي يسمح به القرآن بل ويوجبه عليكم؟

هذه هي المخاطر التي تمنع الديموقراطية الحقة أن تجد لها طريقا إلى أي بلد إسلامي.. يتحدثون عن الديمقراطية. وليس لديهم ترتيبات فعالة لتعليم العوام من أجل الديمقراطية، بل يبعدونهم من فكرهم السياسي وفكرهم الديني، ومع ذلك تبحث الفئة الحاكمة عن الأصوات الانتخابية باسم الجمهور، ثم تتلوَّن وتتخذ لنفسها شخصية أخرى.

إن البلاد التي ليس فيها انسجام بين التفكير السياسي والنظرة الدينية للحكام والجمهور.. لو تدخلها الديموقراطية، فلن تخلق فيها إلا حكاما استبداديين، ولن تستطيع أن تجد حكاما ديموقراطيين، بل وكثيرا ما يحدث في العالم من خلال الجهود الديموقراطية ولادة حكام دكتاتوريين. ومما هو أشد خطرًا خوف الحاكم المسلم، يخشى دائما من تحريض المشائخ للجمهور ضده باسم الإسلام، حتى لا يترتب عليه ثورة الجماهير عليه، مما يجعله يتجه إلى الدكتاتورية ويبالغ في استعمال القوة. ولما كان الذين يتعرضون للأعمال العدوانية بأيدي الحكام هم من الصادقين ومحبي الخير للإسلام في رأي الجماهير لذلك تنمو مشاعر الكراهية لديهم يوما بعد يوم.. فيُؤيدون الملات ويُعارضون الساسة باستمرار.

فهي إذن ليست مشكلة واحدة، ولكنها مشكلة ذات فروع عديدة. وثمة حل واحد لكل هذه المشاكل، ذلك الذي ذكرته آنفا.. من وجوب الاستمساك المحكم بنظام العدالة القرآني، كما يُمسَك بالعروة الوثقى.. وهي المتينة المأمونة، والتي لم يقدر لها أن تنحل أبدا. ذلك هو حبل الله جل وعلا.. الذي مده سيدنا محمد المصطفى لغرس السلام بين أمم العالم. ولو تخليتم عن هذ الحبل لن تجدوا سلاما في العالم. فاستمسكوا به بإحكام. وادعوا كل شعوب الدنيا التي تبحث عن السلام لتمسك معكم بنفس العروة الوثقى.

والشيء الثاني الغريب.. ادعاء السياسيين بأنهم يجاهدون جهادًا إسلاميًا، ويعلنون عن ذلك على رؤوس الأشهاد، ولكنهم في نفس الوقت لا يقبلون بالمبادئ الثلاثة التي يقدمها المشائخ. وهذه جريمة الساسة الثانية. فعلى الرغم من معرفتهم بأن نظام العدالة الإسلامي لا يقر مثل هذه الحروب التي يزعم المشائخ أنها جهاد.. فكلما يتعرض البلد للتهديد، وتوشك حرب سياسية أن تنشب، فإن الساسة يتبعون نداءاتهم، ويدعون الناس باسم الجهاد. ونتيجة لذلك تزداد الدنيا كراهة للمسلمين أكثر وأكثر، وتُوقن أن هؤلاء الساسة يقولون في الظاهر بأن الجهاد الإسلامي لا يعني أبدا نشر العقائد بحد السيف، ولا يعني أن يستعمل اسم الله في كل حرب.. ولكنهم عند الضرورة يستعينون دائما بهذا المفهوم الخاطئ. ويتكرر هذا في كل مكان. بعد العصر النبوي المبارك لسيدنا رسول الله .. لو أنكم نظرتم إلى حروب المسلمين لاندهشتم برؤية أنها جميعا كانت جهادا مقدسا! لم يحارب المسلمون معركة واحدة.. سواء أكانت مع غيرهم أو مع أنفسهم، وسواء أكانت بين أهل السنة والشيعة.. إلا كانت عند مشائخ ذلك العصر وساسته جهادا مقدسا. من العجيب حقا أن المسلمين لا يواجهون حربا إلا بالجهاد! كل الأمم في أنحاء الأرض يدخلون حروبا سياسية، ويواجهون كل أنواع الحروب.. ولكن المسلمين ليس لديهم إلا الجهاد! وفي تاريخ هذا الجهاد قاتل الجانب الأكبر من المسلمين بعضهم بعضا، وقتل كل منهما الآخر باسم الجهاد. ولقد اتخذت هذه الأضحوكة صورة محنة رهيبة يجب أن تتوقف الآن. إذا نظرتم إلى الأمر بعين الدنيا.. لوجدتم أن هذا المفهوم هو أشد ما يبعث على السخرية والاستهزاء في الوقت الحاضر، ولكنهم ينسبونه إلى الإسلام. ولو أنكم نظرتم إليه بنظرة نابعة من قلب مسلم لوجدتم أنه أشد العذاب إيلاما ورعبا، وأنه لم يزل يطاردنا منذ 13 قرنا.

فإذا أرادوا تبديل مصيرهم ونصيبهم فعليهم إحداث تغييرات صالحة في فكرهم واهتماماتهم وأفعالهم. وما لم تدخل التغيرات الثورية على النفوس والتفكير.. فلن تكون بهم قدرة على إحداث تغيرات ثورية في العالم.

والأدهى من ذلك أنهم رغم إيمانهم بفكرة الجهاد.. لا يعدون لها شيئا، في حين أن القرآن الكريم يقول:

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ (الأَنْفال: 61)..

أي يا أيها المسلمون، جهِّزوا أنفسكم واستعدوا في كل وقت بكل ما يلزم للدفاع ضد كل عدو يهاجمكم. وكونوا مستعدين من كافة الوجوه، وفي شتى الميادين.. حتى تثبتوا الرعب في قلوب أعدائكم القريبين والبعيدين، فلا يتجاسروا على مهاجمتكم مرة أخرى. إنهم ليسوا أعداء لكم وحدكم، وإنما هم أعداء الله أيضا. قد تجهلون أعداءكم، ولكن الله لا يتجاهل أعداءه أبدا. وحتى في مثل هذه الحالات التي تجهلون فيها أعداءكم، لو عملتم بأمره وجهزتم أنفسكم، وآمنتم من قلوبكم وأرواحكم.. فإن الله تعالى يبشركم بستر جهلكم، ويحميكم من هجمات أعدائكم.

هذه هي مسئوليات المسلمين بعد الإيمان بفكرة الجهاد الإسلامي، وبعد العزم على العمل طبقا له.. وبحسب تعاليم القرآن المجيد. فأين هم الذين يعملون بها؟ وإنما الموقف الآن في بلاد الإسلام.. أنهم يعتمدون في تسليحهم على البلاد الأخرى.. البلاد التي يعلنون الجهاد ضدها! يعتمدون على بلاد الغرب والشرق.. التي يرميها المسلمون بالوثنية وعبادة الأصنام، والبعد عن الله تعالى، والعداوة لله، والظلم والقسوة، كما يعلنون أنهم مأمورون بمحاربتهم.. ثم بعد ذلك يمدون إليهم يد الاستجداء ليزودوهم بالصواريخ والسفن الحربية والطائرات والمدافع والدبابات وغيرها من صنوف الذخائر والمعدات الحربية! هذا منتهى السذاجة، كما يقول الشاعر:

منذا الذي لا يضحي بروحه على سذاجة حبيبي، فهو يقاتل ولا سيف في يمينه..!

هذه البساطة التي يذكرها الشاعر يمكن تفهمها، ولكن سذاجتكم أشد الحماقة والغباء. أولئك الذين تعلنون أنهم أعداؤكم، وتتحدونهم، وتقولون إن تعاليم دينكم تأمركم أن تفعلوا كذا وكذا بهم حتى آخر قطرة من دمائكم.. تتوجهون إليهم بيد ممدودة وتقولون: ليس لدينا سلاح.. فأعطونا من فضكم سلاحا نقتلكم به! أي حماقة أسوأ من هذه؟ إذا عزمت أمة على أن تدمر مصالحها بأيديها.. فمن سيأتي إلى مساعدتها؟ وكيف يعينها أحد؟ حتى الله تبارك وتعالى أيضا لا ينصر مثل هذه الأمة. يقول جل من قائل:

إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: 12)

فالله لا يعين أمة، ولا يخلق تغييرا فيهم إلا إذا غيَّروا هم ما بأنفسهم. والآية تحمل المعنيين.. فالذي لا يبدلون النعم التي أنعم الله عليهم يحفظ الله لهم نعمهم من الضياع، أو أن الأمم التي لا تسعى لكي تصوغ قدرها ولا تحاول تغيير موقفها.. لن يبدل الله حالها.

هذه هي نصيحتي لعالم الإسلام: يجب أولا أن تعودوا إلى الإسلام. وتتجهوا إلى مبادئه الأبدية العالمية. وعندئذ ترون كيف تتنزل عليكم نعم الله تعالى من كل حدب وصوب.

ونصيحتي الثانية أن تهتموا بالعلوم والفنون. قضيتم في الهتاف بالشعارات قرونا، وطالما جعلتم في قصائدكم بغاث الطير تقاتل الصقور. في حين أن الصقور كانت دائما تنقض عليكم، ولم تستطيعوا عمل شيء، وأما غيركم من الأمم فلم تتوقف عن التقدم في العلوم والفنون، وتتغلب عليكم في ميادين العلم والتكنولوجيا، وتتفوق عليكم بكل سبيل. تفكرون في قتالهم.. ولا تحاولون اقتناء أسلحتهم التي يستخدمونها ضدكم بنجاح.. مع أن الالتفات إلى العلوم والفنون له أقصى درجات الأهمية. لا تلعبوا بعواطف الطلاب المسلمين وتدفعوا بهم إلى الطرقات ليتقاتلوا وليعتادوا على لغة الشتائم. لا تجهزوا لتدمير أخلاقياتهم، ولا تعملوا للقضاء على معارفهم. لا تجعلوهم يواجهون عصى الشرطة وقذائفهم.. فتتحطم أجسادهم، وتداس كرامتهم. إنكم تحرضون الشباب المسلم وتثيرونهم ليخرجوا إلى الشوارع باسم الإسلام، وهناك يتعرضون للمهانة والإذلال بالضرب وطلقات الرصاص.. وهم لا يعلمون لماذا يفعل بهم ذلك. بدلا من التلاعب بعواطفهم علِّموهم الاعتماد على النفس، وعلموهم الأخلاق، ودربوهم على ضبط النفس، وأخبروهم أنكم إذا أردتم تبوأ مكان بين الأمم.. فلا بد من أن يكون لكم مكان في دنيا المعارف والفضائل، وبدونها لن تستطيعوا اكتساب مكان مرموق.

أما عن حالهم من حيث الاستقرار الاقتصادي.. فباستثناء القلة من البلاد البترولية ذات الثروات الهائلة.. جميعهم، ومعهم بلاد العالم الثالث الأخرى.. يمدون أكف الاستجداء إلى البلاد الغنية، وهي نفس البلاد التي يشكون من تجاوزاتها، وينشرون تعاليم الكراهية ضدها، ويقولون للعامة بأن هذه الأمم جاءت لتستعبدنا، وينبغي الثأر منهم.. وبهذا أيضا يخلقون تعارضا. في السعودية أو الكويت يرى العامة أن من يؤيد بريطانيا يستحق القتل، وكلمة أمريكا يعتبرونها سبابا. ومع ذلك فالأمة كلها مباعة لهم، ودفعوا العربون ولا أحد يرى! فالبلاد الفقيرة منا تحولت إلى شحاذين، والبلاد الثرية منا تعتمد كلية على أعدائها. فما أشدها من حالة تثير الحزن! فالفقير والغني سواء في عدم القدرة على العيش إلا بالاستجداء، ولا يستطيع التنفس باحترام وحرية!

فإن أشد الأخطار التي تواجه العالم الإسلامي وبلاد العالم الثالث هو ما بهم من خزي نفسي. لماذا لا يدركون أن المتسول لا يمكن أن يعيش حرا؟ إذا قبلتم بحياة الاستجداء فسوف تقاسون دائما من العار والمذلة. قد لا تكون لدى الشعوب الأخرى تعاليم تحرم التسول، ولكن بم تجيبون الله تعالى ورسوله يوم الحساب؟ ماذا تقولون عندما تشهد عليكم آيات القرآن ومنها قول الله تعالى:

  كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (آل عمران: 111)

فأنتم يا أمة محمد خير أمة أقامها الله تعالى لخير البشرية جمعاء. ماذا تقولون وتوجيهات الرسول تشهد عليكم ومنها قوله: “الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى” فاليد التي تبذل وتعطي خير من اليد التي تستجدي. لقد تخليتم عن خصائصكم للأغيار، وأمسيتم شحاذين تتلقون الصدقات.. حتى يتباهى ساستكم أمام الناس بأن أمريكا وافقت على منحة كذا وكذا، وأن السعودية قدمت لنا كيت وكيت عوضا عما لم تؤت أمريكا. إذا كانت دماء الاستجداء تجري في عروقكم فكيف تسيرون أمام العالم برؤوس مرفوعة؟ لقد اعتدتم الحياة على قصائد الشعر، وتقدسون إقبال الذي يقول:

أيها الطير الذي قدر له الطيران إلى الله..

خير لك الموت من الطعام الذي يمنعك من الطيران.

وفي الإذاعات ينشد المغنون هذه الكلمات بصوت قوي، وتتملك المسلمين نشوة لسماع أن الموت خير من هذا العيش.. ولكنهم من الناحية العملية يفضلون هذا الطعام الذي يقيدهم بأصفاد العبودية على كل صنوف الموت. لا يقبلون موت التضحية من أجل أنفسهم. حديث الطيران هذا من أحاديث  الماضي، أما الآن فالانقضاض على كل حبة تحت فخ التسول هو التحليق في أجواز الفضاء! فمن أعظم قدرًا من السياسي الذي ذهب إلى أمريكا ومعه كيس الشحاذة، فجمع الإحسان منهم! ثم ذهب إلى الصين فنال منهم المال. ثم ذهب إلى روسيا وأخذ منهم الصدقات؟ هذا في نظرهم هو المحك الذي يدل على التمكن من السياسة العليا! وهذا هو  المقياس من السياسة ليس سياسة دينية، وليس سياسة إسلامية، بل وليس سياسة إنسانية! إنها سياسة عدم الحياء. ولقد صدق إقبال في قوله: إن الموت خير من هذا الطعام الذي يقيد الأيدي والسيقان. لقد أخزيتم وأذللتم أنفسكم، ولم تخلصوا للشعوب التي جعلت منكم قادة لها، وما زلتم تخونون أممكم، وأنتم المسئولون عن استرقاقهم على أيدي القوى العظمى.

أيها الساسة المسلمون.. أفيقوا وتوبوا.. وإلا دخلتم قفص المجرمين أمام محكمة التاريخ. وفوق ذلك كله سوف تقفون بين المجرمين أمام محكمة الله ورسوله يوم القيامة. وثمة ضرر عظيم آخر لذلك.. فالأمة التي تتعود على الاستجداء لا يمكن لها أن تحسن حالها الاقتصادي، لأن سيكولوجية الأمم كالأفراد. انظروا حولكم تجدوا الذين اعتادوا التسول يركنون إلى حياة الراحة والدعة، ولا يتوقفون عن الاستجداء، ولذلك شاهد النبي المتسولين في حال تلتصق جلودهم بعظامهم الخالية من لحم، ومعنى ذلك أنهم لا يستطيعون ملء بيوتهم عن طريق الاستجداء. الشحاذ يبقى دائما خاوي الوفاض، ولا يُؤتَى العزيمةَ والهمة لبناء اقتصاد ثابت. وما دامت الأمم لا تعقد العزم على الوقوف معتمدة على سيقانها فلا يمكن لها أن تحرز تقدما اقتصاديا أو تحقق استقرارًا.

لذلك أهيب لا بالمسلمين فقط، بل أيضًا ببلاد الشرق وأفريقيا وجنوب أمريكا.. لوجه الله الكريم.. أن يستعيدوا حواسهم ومداركهم، ويعزموا على تغيير مصائرهم بأنفسهم. لقد انقضى عليكم زمن طويل في المذلة والعار، فاخرجوا بالله عليكم من هذا الكابوس المزعج. إن النظام العالمي الجديد مفهوم عجيب، وهو لأعدائكم وللقوى العظمى، ولكنه أسوأ كابوس للبلاد الفقيرة من العالم الثالث. إذا كان عليكم أن تشيدوا نظاما عالميا جديدا.. فلتشرعوا فورا في صوغ أحلامكم وتفسيرها، وتعملوا على ترجمة الأحلام إلى أفعال.

لا يمكن لأمة في العالم أن تحقق حريتها بدون تقدم اقتصادي. وأول خطوة لذلك تكون في صون الكرامة الذاتية واحترام النفس. ولا يتحقق ذلك إلا إذا نصحوا شعوبهم في العالم الثالث بإنتاج حياة البساطة، وبدأوا حركة تدعوا للحياة البسيطة. المشكلة أن الفوارق بين الطبقات العليا والدنيا تتسع في بلاد العالم الثالث، ولكنها تضيق بين الطبقات في البلاد التي يسمونها رأسمالية، وتتجه مستويات الحياة فيها نحو التقارب. أما في البلاد الفقيرة في آسيا وأفريقيا وجنوب أمريكا فتتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

من الضرورة أن تزول هذه الفوارق الواسعة. وذلك عن طريق النصح والتوجيه أولاً، ثم بمساعدة التشريعات التي تقلل المسافة بينهما. ولفلاح هذه الدولة ينبغي أن تبدأ من القمة، وبدون ذلك لن تنجح أبدا. أولئك الذين بيدهم مقاليد السلطة.. عليهم أن يبدأوا حركة التقشف وحياة البساطة، وأن يمارسوها بأنفسهم، ويكونوا قدوة للشعوب.

وفيما يتعلق بالاستقرار والتقدم الاقتصادي ينبغي أن يضعوا نصب أعينهم مبدأ ثانيا هاما.. ذلك هو اتباع سياستين لذلك وليس سياسة واحدة؛ الأولى محاولة رفع مستوى حياة الفقراء وتوجيه الثروة بقدر الإمكان نحو هذا الهدف. والسياسة الثانية تخفيض مستوى حياة الأغنياء؟ تذكروا أن هذه النقطة تنطوي على حكمة عظيمة، لأن التوزيع الجائز للثروة لا يؤذي بقدر ما يؤذي الإنفاق المسرف الظالم. فالأثرياء الذين يستثمرون أموالهم في تشييد المصانع ويخدمون تقدم الاقتصاد، وفي نفس الوقت ينتهجون أسلوب البساطة في حياتهم.. لا يمكن أن تقوم ضدهم حركة كراهية، لأنهم في واقع الأمر يخدمون بلادهم. أما الذين دخلهم أقل ولكنهم يسرفوا في النفقة.. ينهار نظامهم الأخلاقي، ويكونون سببا لإثارة نار الكراهية في القلوب. هناك قلة من أصحاب المصانع والتجار الأغنياء، ولكن معظم أولئك الذين اعتادوا على حياة الترف والفخامة هم من السياسيين الذين تهرأت سياستهم كما لو أهلكها السوس. يستغلون السياسة لكسب المال، ولإحداث النزاعات، ولإرهاب الفقراء، والانتقام من الخصوم.. كما لو أن السياسة تتجه نحو تلك الأمور التي لم تخلق لها. ونتيجة لذلك باتوا جاهلين بالأمور الهامة للبلاد. لم يعد لديهم وقت للتفكير في ذلك، وإنما يتجه تيار تفكيرهم في مجموعة نحو اتجاه واحد.. هو توطيد نفوذهم والانتقام من خصومهم وكنز أكبر قدر من الثروة.. ولسان حالهم يقول: حياة السياسة قصيرة، ومن يدري ماذا يحدث غدًا، فلنكسب اليوم قدر ما نستطيع، ولا مانع من بيع شرفنا أو شراء الأصوات.

عندما يكون كل شيء في السياسة مشروعا.. كيف يمكن للسياسة المحافظة على مصالح الأمة؟ وفي مثل هذه المواقف يلعب مستوى الحياة الزائف أشد الأدوار ظلما. والأمم التي يميل الناس فيها إلى إنفاق أكثر من طاقتهم على الإنتاج يصبحون متسولين، وتتلوث أيضا سياستهم، ويتحطم اقتصادهم، ولا يبقى لديهم شيء.

فيمن سوف تؤثر هذه النصيحة؟ أي آذان تسمع؟ أي قلوب سوف تستثار وتتحرك لفعل شيء؟ إذا صارت المفاهيم ملتوية؛ إذا صارت النوايا شريرة، فلا يمكن لنصح أن يحدث تغييرا صالحا. ففي الوقت الذي أبذل فيه نصحي للدول الغنية أن بالله عليكم احفظوا نواياكم.. فإن الشياطين تكمن فيها، ومن نواياكم خرج قرار دمار العالم ولا يستطع فكركم السياسي أن يتغلب على نواياكم، بل يتجه إلى مساندتها، أنصح بالمثل المسلمين والعالم الثالث أن بالله عليكم افحصوا نواياكم واختبروها. فإذا درست الهندسة من الصغر بنية أكل الرشوة لبناء القصور كما فعل الجيران أو غيرهم.. فبهذه النية لن تبني شيئا. وإذا أردت أن تكون طبيبا بقصد تكديس الثروة وجمع المال وتشييد المستشفيات الفخمة، حتى تترك لأبنائك ثروة ضخمة.. فأنت بنفسك فريسة للمرض. أيها الطبيب عالج نفسك، وخير لك أن تموت من أن تعيش طبيبا بهذا الوصف. إن من يدرس الطب لا يقصد به خير الناس ومصلحتهم لن تبارك معارفه. وفي اللحظة التي تحلم بأن السياسي الفلاني أصبح ذا نفوذ وسلطة، وقد كان من قبل موظفا مسكينا، فاستقال من عمله واشتغل بالسياسة وصار مليونيرا ذا مركز وسلطان، فلنتأس به ولنكن مثله.. في نفس اللحظة تكون قد عزمت على تدمير السياسة. وإذ قدر لك أن تكون قائد دولة فلسوف ينطبق عليك قول الشاعر:

إذا كان الغراب دليل قوم       سيهديهم طريق الهالكينا

لذلك يجب عليك إصلاح نياتك؛ ما فات قد فات، وفي المستقبل تفي بحقوق الزعامة لأمتك، وتؤدي واجبات القيادة كما أهداها سيدنا محمد المصطفى للعالم كله. هذا هو السبيل الوحيد لأداء واجبات القيادة، ولا سبيل سواه. عندما كان سيدنا عمر على فراش الموت، وقد اقتربت اللحظة الأخيرة، وأوشك على لفظ أنفاسه.. أخذ يتضرع باكيا باضطراب وهيجان شديدين.. ليتني أخرج منها لا لي ولا عليّ، يعني: اللهم إن كنتُ فعلتُ خيرا في حياتي فلن أطالب بثوابه، ولكن لا تحاسبني يا ربِّ على أخطائي.. فلا طاقة لي بذلك.

هذه هي روح السياسة الإسلامية، وهذه هي الروح المطلوبة للمسلمين وغير المسلمين اليوم. إن حل المشاكل الراهنة كلها يتطلب إحياء هذه الروح السياسية، وعندئذ تدب الحياة في الإنسانية الميتة. إذا عاشت هذه الروح ماتت الحروب، وإن ماتت هذه الروح عاشت الحروب، ولن تستطيع قوة وقفها. أحاول إنهاء الموضوع كله اليوم، ولكن الوقت قد تأخر، وعندي مزيد من النصح يتطلب وقتا طويلا حتى وإنْ أوجزته. لذلك أتوقف هنا، وأملي كبير بأن ننهي الموضوع في الجمعة القادمة إنشاء الله تعالى، وبعدها نعود للجهاد الأكبر.. ألا وهو ذكر الله جل علاه. وسوف نحاول تفهم المعاني العليا للإيمان، والغوص إلى قرار المعرفة الدينية العميقة، كي نلج شهر رمضان بإيمان كامل، بعد أن نكون قد طهرنا قلوبنا وأرواحنا تماما، ونملأ جيوبنا بقدر ما نستطيع من نعم وبركات شهر رمضان. اللهم حقق لنا هذا . آمين!

خطبة 8 مارس 1991

بدأت حرب الخليج يوم 16 يناير 1991، وانتهت في ليلة رهيبة يوم 26 فبراير 91. كانت ليلة حزينة مرعبة لا نظير لها في الحروب الحديثة بين البشر. كان القصف شديدا على الجيوش العراقية العائدة من الكويت، وكان الضرب عنيفا طوال الليل على بغداد، بحيث لا أجد مطلقا فيما درسته من تاريخ الحروب مثيلا لهذا القصف.. من جانب واحد.. بهذه الدرجة من الفظاعة والوحشية في أي حرب من الحروب.

يقول المراقبون عن الجيوش المنسحبة من الكويت في اتجاه البصرة.. أنها كانت هدفا لقصف جوي شديد حتى تغطت الطريق من الكويت إلى البصرة بجثث القتلى المبعثرة، وحطام السيارات واللوريات وحاملات الجنود وغيرها من وسائل النقل المنتشرة في كل مكان الدمار مشهدا مفزعا يتعذر على الإنسان احتماله. هكذا كان تعليق المراقبين الغربيين . كان صوت المراقب يرتجف بين الحين والآخر وهو يصف مشاهد قصف بغداد؛ ويقول: لا يستطيع المرء تصور مدى القصف الرهيب الذي يجرى الليلة.

وقد سبق أن ذكرت لكم أمورا حول ذلك، منها أن ماجرى كان شبحا لمذلتهم في فيتنام الذي يسيطر على أمريكا كشعور بالنقص أو الدونية، ويريدون طرد هذا الشبح بطريقة أو أخرى. وبدت تلك الليلة بالنسبة لهم ليلة خمر، احتسوا فيها دماء العراقيين ليغرقوا فيها أحزانهم من عار فيتنام. ولقد ثبتت صحة انطباعي هذا لأن تعليقات المستر بوش كانت هكذا تماما عندما أعلن: لعمري قد تخلصنا من أعراض فيتنام إلى الأبد! (Harris. Urge Patriot News, 2.3.1991, USA) ولكن الحقيقة ليست كما يظن، بل الحقيقة أن شبح حكايات فظائعهم كان يطاردهم، فخلقوا غولا آخر من فظائع مشابهة، فلم تعد المسألة غولا واحدا… وإنما غولان. هناك الآن شبحان سوف يطاردان أمريكا: عفريت فظائعهم في العراق. ولكنهم لا يستطيعون رؤية هذا العفريت الآن.. لأنهم يفسرونه بطريقة تختلف عما يفسره به سائر العالم. إن العالم لا ينظر إلى مقتل54 ألف أمريكي في فيتنام شحنت جثثهم إلى وطنهم، ولكن العالم يرى مصرع مليونين ونصف مليون من أهل فيتنام، ومحو آلاف القرى والبلدان من على سطح البسيطة. عندما تتغير الزاوية تتغير الصور والمشاهد. فغول فيتنام حيث قتل من الأمريكان 54 ألفا، والذي كانوا يريدون الفرار منه، يحسبون أنهم قد تخلصوا منه في العراق حيث لم يخسروا هناك مقارنة بخسائرهم في فيتنام. لكن التاريخ لا ينظر إليه بهذه النظرة. وإنما نظر التاريخ إلى فيتنام وسيظل ناظر إليها من زاوية أن أمريكا التي كانت ترتدي رداء المدنية في العصر الحديث هاجمت دولةً فقيرة ضعيفة للغاية.. ظلما وعدوانا، وما برحت تمطر بشتى الفظاعات لمدة ثماني سنوات. رموهم بالقنابل بدرجة فظيعة حتى زالت من الوجود قرى بعد قرى، وأقفرت من السكان مناطق بعد أخرى. ومن ثم لن يمكنهم أبدا نسيان ذكرى فيتنام.. لأن العالم لن ينساه. ويضاف إليه اليوم فظائعهم في العراق.

ولقد لخص مستر توم كنج Tom King  وزير الدفاع البريطاني أمام البرلمان ما حدث من دمار فيقول: في هذا الوقت القصير.. حوّلنا 3 آلاف قرية عراقية إلى تراب. ويمكن بذلك تصور أولئك الذين كانوا يدعون بأنهم يحاربون لتحرير العراقيين المقهورين من براثن الطاغية القاسي. وكيف حولوا 3 آلاف من القرى والمدن العراقية إلى تراب! وليس من الضروري هنا ذكر التفاصيل الأخرى، كم قتل من جنود العراق، وكم حطموا من عتاد وسلاح. إن تحويل 3آلاف قرية إلى تراب في مثل هذا الوقت القصير حدث لم يقع مثله في التاريخ قط، ولم يمطر هذا القدر من الفظائع على أمة في مثل هذا الزمن القليل.. ومع ذلك فهم يبتهجون بنصرهم! إنه لأمر مذهل، وإنه بالغ الخزي والعار، وهو شبيه بترتيب مصارعة بين طفل أمريكي والمصارع ياباني من الوزن الثقيل “أنوكي”.. فيضرب المصارع الطفل ويفتك به، ثم تُرفع هتافات عريضة يقولون فيها: انظروا، لقد انتصرت اليابان على أمريكا! تتحد ثلاثون دولة، وتتكاتف كل قوى العالم ضد العراق، ومعهم تفوق ساحق بكل أنواع السلاح ولهم اليد العليا في كل مجال، ثم يبترون أيدي العراق وأقدامه، ويخلعون أسنانه، وكما يفعل بالذبيحة قطعوا، أوصالهم، ثم يتباهون بما حققوه من تنكيل؟!

على أي حال، لقد أصبح ذلك كله من أمور الماضي؛ أما فيما يتعلق بما لهذا الحادث من عواقب رهيبة في المستقبل، فسوف أقدم بعض المقترحات للعرب وللمسلمين ولسائر أمم العالم، وبلاد العالم الثالث بصفة خاصة.. مثلما فعلت من قبل.

يجب على العرب أن يسووا نزاعاتهم الداخلية على الفور، ويشركوا معهم في هذا المجال إيران أيضا، لأن هناك ثلاثة خلافات إذا لم تحسم حالا.. لن يتمكن العرب من توحيد الكلمة أبدا في مسألة فلسطين.

فأولا: لإيران خصومة تاريخية مع العرب، كانت سببًا دَفَعَ السعودية والكويت إلى مساعدة العراق في حربه ضدها وبالرغم مما بين العراق وبين السعودية والكويت من خلافات متبادلة.. إلا أنهما لم تطيقا أن تكون إيران لصيقة بهما.

وثانيا: هناك مشكلة ما بين السنة والشيعة. وللسعودية بإزاء هذه المشكلة حساسية شديدة؛ ولا يطيقون نهضة الشيعة وبروزها مهما كان الثمن.

وثالثا: هناك مشكلة الأكراد.

وفيما يتعلق بتكتيك العدو الإسرائيلي.. فإنه أشد ما يكون رغبة في تفجر هذه المشاكل. عندما قاربت الحرب نهايتها.. أثاروا تمردا شيعيا في جنوب العراق. وكان متوقعا أن يشب الخلاف بين إيران والعرب تلقائيا نتيجة هذا التمرد الشيعي. وفعلا لجأ مشايخ الشيعة إلى إيران ينشدون عونها. ولكن يبدو أن السعودية مارست ضغطا شديدا في هذا الصدد، وإن لم يَرد عنه شيء في الأخبار، ولكنه استنتاج منطقي، وأوقفت أمريكا عن أن تكون أداة لهذه المؤامرة الصهيونية؛ ولولا ذلك ما توقف الأمر عند هذا الحد. ومن الوارد أيضا أن تكون إيران قد استخدمت عقلها حتى لا يوضع الأساس لحروب رهيبة في المستقبل في المنطقة. ومع ذلك فإن هذا الجهد من جانب العدو ما زال مستمرا؛ وإن ينجح يحدد للعدو هدفين هامين:

الأول: زيادة التباغض بين إيران والعرب.

والثاني: اشتعال الخصومة بين السنة والشيعة.

ومن الممكن أن ينجم عن هذين العاملين مزيد من التنازعات التي قد تصل إلى الحروب. ثم في هذا الوقت ثار الكرد أيضا.

وإن من أشد الأمور أهمية بالنسبة للأمم الإسلامية المتصلة بهذه المشاكل أن تبادر إلى الاجتماع وحل هذه المشاكل فيما بينها حلا دائما، وإلا بقيت المشكلة سيفًا معلقا على أعناقهم بخيط تمسك أن تشتبك به أصابع القوى الغريبة.. يسقطونه على رؤوسهم وقتما يشاءون فيجرحونهم، أو إن شاءوا يجعلونه يخترق قلوبهم. وسيبقى احتمال استغلالهم المرعب لهذه المشاكل مصلتا كما هو الحال بالنسبة لسائر المشاكل في العالم. فالقوى الغربية تلجأ دائما إلى إثارة بعض المشاكل الكامنة عندما يشاءون استغلالها، وهكذا تتقاتل دول العالم الثالث فيما بينها، ويدمر بعضها بعضا.

وثمة نصيحة لهم. يقولون: إن أمريكا تضغط على إسرائيل كي تنسحب من الضفة  الغربية للأردن؛ ولكني على ثقة من أن هذا كلام غير صحيح. إنهم يلعبون مسرحية ليست إلا. لو كانت أمريكا مخلصة في مسألة انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية للأردن لقبلت عرض صدام حسين من أول يوم.. عندما حاول ربط المسألتين سويا، وقال لأمريكا: سأنسحب من الكويت، فاطلبي من إسرائيل أن تنسحب من الأرض المحتلة؛ لتنهي كل تلك المشاكل دون إسالة قطرة دم واحدة. ثم إن إسرائيل تسرع في إقامة المستوطنات، وتستخدم معظم ما يقدم لها من أموال الغرب في توطين المهاجرين اليهود من الاحتلال السوفيتي في الضفة الغربية. فلا يجد المرء سببا معقولا لمصداقية إخلاص أمريكا في ذلك، أو أن إسرائيل سوف تقبل به.

وهناك خطر آخر يوضع إلى جانب هذا؛ إنهم يضغطون على سوريا لتفعل ما فعلته مصر، فتعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل. ولو حدث هذا فلن يبقى بين العرب من يرعى الفلسطينيين ويساندهم إلا العراق والأردن. ولكنكم رأيتم الموقف في العراق. أما الأردن فلا تملك القدرة على مواجهة إسرائيل، بل ربما تقوم إسرائيل باستفزاز الأردن باستمرار بحجة أن الأردن تصرف حيالها تصرفا عدوانيا ووقف في صفوف أعدائها فلا بد من احتلاله اليوم. ومن وجهة النظر هذه.. فإنه لمن الضروري جدا اتحاد ثلاثة دول من بلاد الشرق الأوسط هي إيران والعراق والأردن؛ ومن الضروري لهم أيضا أن يصلوا إلى اتفاق مع سائر البلاد العربية، حتى لا يبقوا منفصلين عن الآخرين وحتى تساندهم الدول العربية الأخرى إلى حد ما.

وهناك مسألة أخرى سوف تثار.. ألا وهي إعطاء الصدقات من ثروات البترول من السعودية والكويت إلى البلاد الغربية التي تعوزها الثروة. لو أن هذه البلاد قبلت معونة السعودية والكويت على أساس المنحة والصدقة، وأنهم لا حق لهم في هذه الثروة.. فسيكون ذلك انتحارا مخيفا جدًا. ونتيجة لذلك سوف يختفي إلى الأبد كل ماتبقى من فرص لمعالجة المشكلة الفلسطينية. ولذلك يجب على العرب أن يتخذوا تجاه هذه المسألة موقفًا بأن ما آتاهم الله من ثروة بترولية هو شركةٌ بين الجميع، كما عليهم أن يتفقوا على صيغة فيما بينهم بحيث يشارك في حراستها الجميع، وأن يكون اشتراكهم فيها بالعدل. وبطبيعة الحال، تنال البلاد البترولية خُمسَ الثروة كما تقضي بذلك الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالكنوز. قد تكون هناك فروق بسيطة بين الفقهاء ترفع نصيبهم قليلا، ولكن المهم اللازم أن يصلوا إلى اتفاق على مبدأ الثروة المشتركة. ومن الضروري أن يستقروا ويثبتوا على هذا المبدأ. وعندئذ لا يكون ما يحصلوا عليه ثمرة تضحيتهم باحترام النفس، بل يكون حقا لهم.. وهو الواقع. فكل الأمصار العربية كانت بلدا واحدا، مزقته الأيدي الاستعمارية الغربية، مناقضين بذلك كل وعودهم. لقد أعلنت الحكومة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى وعدا مؤكدا بأن تترك وراءها عربا أحرار متحدين. وحتى اليوم.. لم ير هذا الوعد نور الوفاء لصالح العرب أبدا. وهذا يعني أنهم كانوا قد اعترفوا بأن ثروة العرب ثروة مشتركة. فعليهم أن يتبعوا هذا المبدأ ويستمسكوا به ويتقدموا في مباحثاتهم على طول هذا الخط.

وهناك مسألة هامة أخرى.. يجب أن تكون هذه المنطقة بكاملها مجموعة اقتصادية متكاملة (كومون وِلث Common Wealth) وكان مفهوم الاتحاد العربي الذي قدمه الرئيس المصري جمال عبد الناصر اتحادا سياسيا؛ ولكن ليس من اللازم أن يأتي الاتحاد السياسي أولا قبل الاتحاد الاقتصادي، بل إذا تقدم الاتحاد السياسي تضررت جوانب الاتحادات الأخرى بشدة.

ولذلك عندما كان القادة الحكماء الغربيون يشكلون السوق المشتركة.. بدأوا أول ما بدأوا بمناقشة الوحدة الاقتصادية. وبعدما تحققت لهم الأهداف الاقتصادية شرعوا بالتدريج يخطون نحو الوحدة السياسية.

وحركة توحيد العرب التي أشرت إليها بدأها في الواقع السيد جمال الدين الأفغاني قبل الرئيس جمال عبد الناصر، ثم تبنت فلسفتها الحركات الأخرى التي ظهرت فيما بعد. ففكرة الأفغاني عن وجوب اتحاد العالم العربي، أو بالأحرى اتحاد العالم الإسلامي.. فكرة لا يمكن للبلاد الإسلامية ألبتة قبولها بهذه الصورة، كما لم يقدم القرآن الكريم أبدًا فكرة اتحاد المسلمين جميعهم تحت حكومة واحدة، بل بهذه الصورة لا يمكن حتى للبلاد العربية أن تحقق اتحادا إلا إذا سعوا إليه خطوة بعد خطوة، وعلى مراحل متدرجة. فأعظم الخطوات أهمية هي الوحدة الاقتصادية التي ينبغي أن يكون لها برنامج مشترك، ويُعد لها خطط مشتركة.. وعلى الخصوص خطط تحويل المنطقة إلى الاكتفاء الذاتي في انتاج الغذاء، وفي الصناعات. وعندئذ فقط.. يمكن أن يتوافر بعض الأمان لتحرر هذه البلاد.

وبهذا الصدد هناك مسألة هامة أخرى. فالحرية الاقتصادية لا تخص هذه المنطقة وحدها، بل تخص جميع بلاد العالم الثالث. وهم يواجهون خطرا شديدا ينبغي فهمه فهما صائبا تاما منذ الآن؛ ومن الضروري أن تُتَّخذ له الخطوات الوقائية. إنه خطر الاستعمار الجديد. بعد الوفاق مع الاتحاد السوفييتي تخلت بلاد الكتلة الشرقية التي كانت تتبع الفكر الشيوعي عن فكرها هذا، وأسرعت الخطى نحو الأيام الخوالي؛ والآن ستكون المنافسة الجديدة بينهم في ميدان الامبرالية الجديدة. عندما يسترد الاتحاد السوفييتي عافيته من مشاكله الحالية ويتغلب عليها، سيكون أهم الأمور في سبيل المنافسة الاقتصادية أن يخطف الأسواق من بلاد العالم الأول. وستنهض ألمانيا كقوة اقتصادية جديدة، وستنضم كثير من بلاد شرق أوروبا إلى ألمانيا، وسوف يتطلب ناتج اقتصادهم المتحد أسواقا جديدة. وهكذا سوف تواجه كل دول العالم الثالث أخطارا رهيبة. وزيادة على ذلك.. فأوروبا يقظة، وأمريكا يقظة.. وهدفهم المشترك أن يسيطروا على اقتصاد بلاد العالم الثالث، فلا يبقى لهم سوى الحسرة والتنهد، ولن يجدوا أمامهم سبيلا ليحيوا حياة محترمة. بل هناك بعض البلاد الأفريقية التي وصلت إلى حال يشق عليهم فيه أن يتنفسوا.

لذلك ينبغي على هذه الدول أن يقيموا أسواقا اقتصادية مشتركة متنوعة. فمثلا هناك باكستان والهند وبنجلاديش وسريلانكا.. بها إمكانية طبيعية لخلق سوق اقتصادي مشترك، ولكن هذا ممكن فقط إذا سووا نزاعاتهم المشتركة فيما بينهم. وإذا لم يتمكنوا من تسويتها فلن يستطيعوا إقامة سوق مشتركة، ولن يكون لديهم القدرة للتوصل إلى أي حل آخر لموقفهم الحاضر السيء. وأعني بموقفهم الحاضر السيء مالم فكرتم فيه لأذهلكم أن سبيل خلاص كل هذه البلاد من مشاكلهم مسدود نهائيا بعيون مغلقة لا ينفكون مستمسكين متصلبين بخط تفكيرهم ذاته، ويبذلون نفس الجهود التي لا تقدر على حل مشاكلهم. إنهم عند نهايات مسدودة لا يمكن المرور خلالها.

ومن مشاكلهم مثلا مشكلة كشمير. إن المنازعات التي خلقتها هذه المشكلة بين الهند وباكستان.. اضطرتها إلى الاحتفاظ بجيوش كبيرة ينفقون عليها 60 بالمائة من دخولهم القومية. فكيف يمكن لبلد ينفق 60 بالمائة من دخله أن يعيش بحرية اقتصادية؟ لن يقدر مثل هذا البلد أن يعيش بكرامة. إن البلد الذي ينفق أكثر مما يطيق اقتصاده مضطر للاستجداء كي يعيش، ولا بد له من التسول كي يحتفظ بقوته العسكرية. وهكذا تحت لعنة الشحاذة تعيش الهند وباكستان؛ وحيثما يستطيعون الذهاب راحوا بأكف ممدودة لينالوا الإحسان. والسبب الرئيسي لذلك هو نزاعاتهم المستمرة المتبادلة. هذا هو التحليل النهائي لموقفهم وليس هناك سبب آخر. فلو تسوى مشكلة كشمير، والمشاكل الأخرى المشابهة يمكن إحداث تغيير ثوري في هذه المناطق.

وبالإضافة إلى ذلك هناك أمور أخرى يجب وضعها في الحسبان، ليس في الهند وباكستان وحدهما ولكن في جميع بلاد العالم الشرقي، سواء في آسيا أو أفريقيا. وثمة مشاكل مشابهة في جنوب أمريكا.. في كل مكان يواجهون نفس المشاكل. بسبب الخلافات الإقليمية هناك الاضطراب وعدم الثقة وفي كل بلاد العالم الثالث الفقيرة ينفقون على شؤون الدفاع قدرًا كبيرًا من المال لا تنفق البلاد الغنية مثله ولا معشاره. في البلاد الغنية يتحدثون عن 3 إلى 5% من الدخل للدفاع، فإن زاد إلى 7 بالمائة قامت المناقشات منذرة بأن الإنفاق كثير ولا نتحمل هذا القدر. ولكن تخيلوا ترف البلاد الفقيرة إذ ينفقون 60 أو 70% من دخلهم على الدفاع! ومع ذلك يحسبونه غير كافٍ، فيستجدون المعونة العسكرية! لقد جعلت منهم المعونة الاقتصادية متسولين؛ وبعد أن صاروا كذلك فلا يمكن لأحوالهم الاقتصادية أن تتحسن أبدًا. وهذا هو حال كل بلد. فمن ولع بالعيش في مستوى حياة زائف، واعتاد الاستجداء للاحتفاظ بهذا المستوى الكاذب.. لن يكون لائقًا من الناحية النفسية ليجد الاعتماد على النفس في الناحية الاقتصادية ويسعى لتحسين ظروفه، وهكذا حال الشعوب. لا يمكن أن ترى الشحاذين يصلون إلى مستوى الازدهار والثراء. فالذين يتسولون لا ينفكون يستجدون، ويأكلون ولكنهم دائمًا في حال سيء وتمضي حياتهم في عذابات الأماني الكاذبة. أما القانعون .. مقارنة بالسائلين.. فأحيانا يتقدمون من ظروف الفقر المدقع، ويصيرون إلى ثراء عريض.

وللأسف إن بلاد العالم الثالث مبتلون بلعنة أخرى، فهم محرومون أيضًا من القناعة واحترام النفس. إنهم مصابون بتلك العادة القبيحة.. عادة مد أكف الاستجداء، التي جعلت مستوى حياتهم زائفًا. ولعلكم لاحظتم في بعض الأحيان أن الغني لا ينفق على طعامه في مطعم مثلما ينفق المتسول. فهذا لا يقدر للمال قيمته، لأنه يتسوله، فيشبع معدته ويملأها تماما، ثم يمد يده للوجبة التالية. ويدعو الله أن يحفظ له تلك الأيدي البارعة في التسول، وفي هذا كفايته!

هكذا سيكلوجية الأمم تماما، يعيشون في مستوى حياة زائف.. لا علاقة له بالحقيقة والواقع. يبدون في بحبوحة من العيش ولكنها قائمة على التسول؛ وبسببها يمكثون دائمًا في الخديعة. كانت مشقة الفقر كفيلة بأن تجبرهم على ضرورة الوقوف اقتصاديًا على أقدامهم، وتوجب عليهم العمل والسعي الجاد. ولكن هذا الضيق لا يشعر به سوى طائفة ممن لا حول لهم؛ أما أصحاب النفوذ فلا يشعرون به. فهذه الأمم منقسمة إلى فئتين: فئة قليلة العدد جدًا، تسمى الطبقة العليا، لا تكترث بحياة الفئة الثانية.. فئة الفقراء، ولا تعرف كيف يمضي الفقير أيامه في ظروف كئيبة تحت سمعهم وبصرهم. فالذين يستشعرون الألم لا يملكون سيطرة عليه.. فهم لا يصوغون السياسة القومية؛ وأما العقول التي ترسم السياسات وتقررها فلا يملكون المشاعر التي تحس الألم. هذا مرض عضوي عضال، فعندما ينكسر العمود الفقري ينعدم الاتصال بين الجزء العلوي والجزء السفلي، حتى لو احترقت القدم بقي الرأس لا يَدري. نعم، مرض التسول مرض رهيب، منيت به دول العالم الثالث.

والآن عن العون العسكري؛ إنهم عندما يشترون أسلحة باهظة الثمن يزداد اقتصادهم سوءًا على سوء. ولما كانوا لا يستطيعون الشراء يضطرون إلى استجداء السلاح من البلاد الأخرى. فيأتي مع السلاح خبراء التدريب أو يذهب جنودهم للتدريب هناك، وهكذا تمتد شبكات التجسس إلى بلاد العالم الثالث. والسبب الرئيسي لانتشار شبكات التجسس للأمم المتقدمة لديهم هو هذا العامل نفسه. ونتيجة لتسول السلاح يخلقون فرصة انزلاق جيوشهم تحت سيطرة البلاد الأخرى. بقدر ما تفحصتُ موقف الأمم التي تقدم المعونة العسكرية بإزاء الأمم التي تتلقاها وجدت بحسب اعترافات كتَّابهم صراحةً وعلانيةً، أنهم كلما أعطوا معونة عسكرية جعلوا من ضباط جيش الدول المتلقية للمعونة عبيدًا لهم. وهذا ما يحدث كثيرًا في البلاد التي تتلقى المعونة. وأشد ما في ذلك من خطورة اليوم أن أمريكا ليست وحدها التي تسترقُّ الآخرين بمعونتها العسكرية، ولكن إسرائيل هي الذراع اليمني لها الآن، وتفعل نفس الشيء، وتصل مساعداتها إلى حيث لا تستطيع معونة أمريكا أن تصل مباشرة أو علانية. وهناك أماكن نجح الاثنان معًا في جرهم تحت أغلال العبودية.

ينبغي أن تتذكروا بأن العالم الثالث لا يزال سوقًا جاهزة للأسلحة العتيقة، وكلما ينتج الغرب طرازات من الأسلحة أكثر تقدمًا.. يقتضي الأمر فتح أسواق للسلاح القديم. وهنا يكون لزامًا أن تتساقط الرؤوس في بعض البلاد الفقيرة .. لأن النزاعات التي تقع فيما بينها تخلق سوقًا نافقة لهذه الأسلحة. وحتى الآن لم يُصدَّر من السلاح الأمريكي الفائض سوى تل صغير فقط.. كما لا تزال هناك جبال من السلاح السوفييتي بحاجة للبيع، وليس بعيدا أن تدخل دول الغرب الأخرى في هذه التجارة.

إذاً فعندما أشبّه العونَ العسكري (Aid)، بمرض الإيدز (aids) فلا فكاهة في ذلك، وإنما هو حقيقة عميقة. فمرض الإيدز الذي يثير الرعب في عالم اليوم، والذي تخبرنا بعض التنبؤات أنه سيقتل من الناس في بلاد الغرب النصراني أعدادًا كبيرة حوالي عامي 1997و1998، ولا حاجة لنا الآن في تفصيل ذلك، فقد سبق وتحدثت إليكم عنه وحده في مناسبة أخرى، فإن بكتريا هذا المرض تدخل دم المصاب وتستقر داخل نظام المناعة الدموي وتسيطر عليه. وهكذا ينقلب جهاز المناعة هذا الذي جعله الله للحماية والتغلب على المرض، فيصير نفسه مركزًا للمرض، ومن ثم لا يستطيع التحرك والتصدي ضد نفسه. وهكذا العون العسكري هو إيدز الدول الفقيرة .. لأن البلاد الغنية التي تعطي السلاح تسيطر على النظام الدفاعي للبلاد الفقيرة. والأدهى أنهم لا يدركون ذلك تماما.. كما لا تدرك الأجزاء السليمة حقيقة المرض. في بلادنا، ولا أعني باكستان وحدها، بل أعني بلاد العالم الثالث جميعًا.. تتابع أعين المخابرات الأخطارَ الداخلية وحدها؛ ويتخذون ضدها إجراءات مضادة للثورة، وينشئون الأجهزة التي تبقى يقظة فعالة ضد التمرد الداخلي؛ ولكي يتعلموا كل الحيل لمحاربة التمرد يتجهون في معظم الأحوال إلى أمريكا، وفي كثير من المرات إلى إسرائيل!.. بل إن سريلانكا تعلمت الأساليب المضادة للتمرد من إسرائيل؛ أما المتمردون فقد درسوا أساليب الثورة أيضًا في إسرائيل! وفي ليبيريا يقول المراقبون بأن إسرائيل قامت على حراسة رئيس الجمهورية وأحاطوا به تمامًا حتى إنهم منعوا أخبار التمرد من الوصول إليه! هناك قائمة طويلة بأسماء بلاد أفريقية أسيوية تأتي أمريكا وإسرائيل في مقدمة من يعلمونهم تلك الوسائل.. في حين أن الخطر الحقيقي الذي يواجهونه إنما هو مِنْ أولئك المعلمين! إنهم يسيطرون على هذه البلاد من خلال جيوشها. إذًا فالحاجة ماسّة لتأسيس منظمة للتجسس في كل بلد من بلاد العالم الثالث لتفحص الجيش وتراقب علاقاته مع القوي أيًّا كانت، وتتعرف على ما دخله من أفكار مسمومة وما أُقيمَ من صلات، وتضع الضباط تحت المراقبة.

إن الأخطار تأتي من الخارج، وهناك أخطار أقل تنبع من الداخل.. فإذا استطعتم محاربة الأخطار الخارجية كانت الأخطار الداخلية غير ذات شأن. نعم، تنشأ الأخطار الداخلية فعلاً، ولكنها تكون دائمًا وليدة الاضطهاد، وإلا فمن المحال أن يواجه جيش الأمة خطرًا من مواطنيها أنفسهم.. وهذا هو الجانب الثاني الذي يحتاج إلى انتباه. فالأمم المتقدمة يثيرون ضجة شديدة حول ضرورة إنهاء الدكتاتورية، في حين أن الدكتاتورية وحدها هي المناخ الأمثل الذي يناسبهم لاسترقاق شعوب العالم الثالث؛ ذلك لأنه حيثما تكون الدكتاتورية تتولد المخاطر الداخلية، ولحماية الدولة منها لا بد من حليف خارجي. ويجدون الحليف الخارجي بالطريقة التي شرحتها آنفًا. وما دامت الدولة تمتثل لأوامر الحليف الخارجي فسوف يمدها بالمساعدة، ولكن لو حدث وفعلت أي شيء لا يناسبه رفع عنها تأييده على الفور. هذه هي اللعنة التي تعاني منها بلاد العالم الثالث. والآن.. حان الوقت ليستعملوا عقولهم. لقد بدأت مرحلة جديدة من الاستعمار، وبرزت أخطار شديدة. فلحماية حريتكم الشخصية، وللمحافظة على احترامكم لأنفسكم، ولخلق احتمالات الحياة الكريمة مع الأخُوَّة بين الأوطان.. لا بد من أن تتفكروا بجدية وعمق في كل هذه الأمور، وتتخذوا الخطوات السريعة التي تكفل تحققها.

وأوجز لكم الأضرار التي تترتب على قبول المعونة من البلاد الغنية:

أولاً: البلد المُعطي يعطي المعونة بعد أن يجعل البلد المتلقي لها يعاني الخزي والإذلال؛ ويتعامل معه باستعلاء، ويهدد بقطع المعونة لو حاول المتلقي استعمال حقه في حرية الفكر والضمير، كما فعل الرئيس بوش بالملك حسين مؤخرًا.

ثانيًا: يضع البلد المعطي قيودا على معونته تضر الحرية الوطنية.

ثالثًا: تحتوي المعونة على قدر كبير من القروض ذات الفائدة الربوية، وتضاف عليها أعباء ثقيلة كتكاليف الخبراء المستشارين. يدخل ذلك كله في قيمة القرض مما يستهلك مقدارًا كبيرًا من المعونة. وهناك حالات عديدة ومريرة في أفريقيا وآسيا حيث بيعت للدول الفقيرة تحت اسم المعونة معدات وآلات بدائية بأسعار مرتفعة، ولا تستطيع معظم الصناعات منافسة منتجات التكنولوجيا الحديثة. وبالإضافة إلى هذا.. هناك كثير من العيوب تعاني منها صناعات العالم الثالث باستمرار.. مما يقلل من قدرتهم على سداد القروض، ويستمر عبء الديون في ازدياد. ولقد أصبحت كل بلاد أمريكا الجنوبية تقريبًا مقيدة بأغلال القروض؛ ولم أر دولة قط تتلقى المعونة من أمريكا أو غيرها من الدول الغنية وخفَّ عنها عبء الديون. إنه وزر يزداد يومًا بعد يوم حتى يستنفذ شطرًا كبيرًا من الدخل القومي في سداد الفوائد؛ لذلك لم نر أبدًا البلاد التي تتلقى المعونات أو التي تستجديها واقفة على ساقيها مرة أخرى. ومع المعونة هناك المعاملة المخزية، والتهديد بوقفها عند الخلاف؛ وهذا إلى جانب تخريب الاقتصاد وتدمير الشخصية القومية أيضًا. لذلك، وليس حفاظًا على الكرامة فقط. وإنما لمصالح بعيدة المدى، يستلزم الأمر رفض المساعدات المقدمة من القوى العظمى مع الشكر.

والبلاد الإسلامية التي حباها الله تعالى بالثروة البترولية.. عليها واجب إقامة نظام جديد للمعونة تحت ظل مبادئ الإسلام، بالتعاون مع البلاد غير الإسلامية المستعدة للتعاون على البر. وفي مثل هذا النظام تُعطَى الأفضلية فورًا للتحول إلى الاكتفاء الذاتي في إنتاج الطعام بالبلاد الفقيرة التي يُعلَّق سيف المجاعات على رقابها، أو لتقوية اقتصادهم ليقدروا على شراء طعامهم من الخارج.

إن مسلك العالم تجاه المجاعات التي تضرب بلاد أفريقيا حاليا مسلك مخزٍ وغير مُجدٍ. إن المجاعات لا تحدث فجأة كالزلازل أو البراكين، بل بوسع الاقتصاديين معرفة أين ستكون المجاعة قبلها بسنوات. إنهم بتجرد عن الرحمة ينتظرون حتى تقع المجاعة، ويضعف الناس من الجوع.. ليقدموا لهم الطعام مصحوبًا بالمساومات السياسية والعقائدية، وليربطوا الجوعى بقيود العبودية.

فعلى ضوء الشروط التي وضعها الإسلام، ينبغي أن يصوغوا نظامًا للمساعدات يحرر الناس ولا يستعبدهم. ولهذه الغاية لو أن بلاد البترول الثرية أعطت لوجه الله تعالى ورحمةً لبنى الإنسان 2.5% من دخلهم زكاةً.. لأمكن أن تزول لعنة الجوع من معظم البلاد الفقيرة. وينبغي أن يضموا معهم اليابان في هذا المجال؛ ويجب أن تتفق بلاد العالم الثالث مع اليابان صراحة حول ما إذا كانت اليابان تريد العيش مع بلاد العالم الثالث، أم تحسب نفسها في عداد بلاد الغرب. إذا أرادت أن تعيش مع بلاد العالم الثالث فينبغي أن تقدم تعاونًا كاملاً لحل مشاكل العالم الثالث، وخصوصًا مشاكلهم الاقتصادية. والأحرى بها أن تقودهم وتلعب دورًا قياديًا.. وبدون ذلك لن تبقى مع العالم الثالث، كما لن تُعَدَّ من بين الأمم ذوي البشرة البيضاء.

ولنتحول ناحية المشاكل الداخلية وندرسها. أعتقد أن هناك ثلاثة حلول بالنسبة لقضية كشمير تستحق النظر، لأن الموقف الحالي قطعا غير مقبول؛ ولو استمر هذا الوضع فسينتهي بتدمير البلدين. وأول هذه الحلول هو استفتاء الأقاليم الثلاثة التي تتكون منها كشمير: أزادكشمير، وجامو، ووادي كشمير؛ هل يرغبون في البقاء سويًا، أم تنضم أزادكشمير إلى باكستان، وتنضم جامو إلى الهند، ويبقى وادي كشمير مستقلاً؟ وأما الحل الثاني أن يستقل وادي كشمير وحده، ويستقل القسمان الآخران جامو وأزادكشمير كل على حدة. والحل الثالث أن تتحد الأقسام الثلاثة في دولة واحدة.

إن القرار متروك لتلك البلاد لتتخذه بنفسها وهذا حقهم. أما بقدر ما أرى فالحل الأول هو أكثرها ملائمة وقدرة على الاستمرار، وأفضل لتوطيد السلام في المنطقة.. فشعب أزادكشمير لهم طباعهم المشتركة، ولكنهم مختلفون عن شعب وادي كشمير بطباعهم وشخصيتهم المنفصلة؛ كما أن أهل جامو لهم شخصية منفصلة تمامًا، وهم أقرب دينًا إلى الهند. فإذا أرادوا الاستقرار والثبات فلعل هذا الحل أفضلها. ولكن ينبغي أن يعطوا حرية مشروطة بعدم الدخول في محالفات مستقلة مع بلاد أخرى، حتى لا يتهدد سلام الهند وباكستان. ويمكن تقرير هذا وتسويته باتفاقية مشتركة. وإذا لم يتم ذلك، ولم يصلوا إلى سلام مع السيخ أيضًا، ولم يسووا بعض المسائل الداخلية الأخرى.. فلن يستقر السلام في المنطقة.

وهناك اختلال في التوازن داخل باكستان يتطلب تصحيحًا.. مثلاً ما بين السندي والبنجابي والبلوتشي والباتاني. ثم هناك فوارق دينية. كل هذه الأمور تشبه المفرقعات أو البراكين، يمكن أن تتفجر في أي وقت. وهذه هي نفس المشاكل التي تستغلها الأمم الأخرى. لذلك، وقبل أن تجد دولة أخرى فرصة لاستغلالها… يجب أن تصححوا الظروف الداخلية عندكم، وتصححوا أيضًا العلاقات مع جيرانكم. وأعظم الفوائد التي تجنونها بذلك أن يتوجه انتباهكم نحو تحسين مركزكم الاقتصادي. وبالتعاون المتبادل.. وبروح

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ..

بدون إقحام الدين في ذلك.. تزداد احتمالات التعاون في كل شيء طيب، وينخفض الإنفاق العسكري. وكلما نقص الإنفاق العسكري تقدم وازدهر الاقتصاد، وزادت احتمالات التحسن في موقف الفقير. قلت (احتمالات)، لأن كل هذه الأشياء ليست وحدها كافية لتحسين حال الفقير.. ما دام تفكير الحكام غير سليم. إذا كان فكر الحكام سقيمًا.. لا يبالون ولا يحسون، ولا يستحون، ولا ينفكون يبنون الفنادق الفخمة والمطاعم الفاخرة، ويؤمها جماعات الناس من بعد غروب الشمس وحتى ساعات متأخرة من الليل. ويسهرون في الفنادق وينغمسون في حياة اللهو والترف. ومدينة لاهور مضيئة، وكراتشي تتوهج بالأنوار. إذا استمر هذا الميل، ولم يلتفت أحد بنظره إلى حقيقة ما تحت هذه الأضواء من ظلمات الظلم، ولو تختلس نظرة داخل هذا الظلام فسترى صورًا مؤلمة لإنسانية مضطربة، تقشعر منها الجلود، فلن تتحسن حال الفقير. أضع أمامكم مثلاً صغيرًا:

ذهبت ابنتي (فائزة) إلى قاديان لحضور الاجتماع السنوي. وفي طريق عودتها كانت تنتظر القطار مع طفليها في محطة (أتارى). فأخرجت شيئًا من حقيبتها ليأكلوا، وإذا بحشد من الأطفال الصغار الجوعى يلتف حولهم فجأة. كان من الواضح أنهم جوعى وليسوا متسولين. فوزّعت عليهم الطعام، ثم وزعت عليهم ما أُهدي لها من صديقاتها في قاديان مما يصلح للطعام. أما الذي أريد بيانه لكم فليس توزيعها للطعام.. فكل شخص له قلب إنساني ينبض سوف يفعل مثلما فعلت، لكنما يستحق الملاحظة بصفة خاصة أن في هؤلاء القوم الفقراء أخلاقيات عالية راسخة. إنك تجد من الإنسانية في الطبقات الدنيا أكثر مما في الطبقات العليا. قالت ابنتي: بعدما وزعتُ عليهم كل ما كان معي بقيت علبة صغيرة من “الكوكا”، فناولتها لبنت كبيرة منهم. فأخذت منها رشفة، ثم أعطت لكل طفلٍ منهم رشفة، وفي كل مرة كان ينعكس من وجهها شعور بالرضا والارتياح مثل شعور الأم وهي تطعم أطفالها. ثم نظرت إلى ابنتي مبتسمة كأنها تقول: انظري كم استمتعت بها! كان هناك صف من الأطفال، واحد بعد الآخر، كلما أخذ أحدهم رشفة أحس كأنما أُعطيَ ماء الحياة. وفيما بعد.. تحرك القطار، فجرى الأطفال يدفعهم شعور الامتنان يلوحون بأيديهم، والشرطة تحاول منعهم، ولكنهم استمروا على ذلك حتى اختفوا عن ناظرها.

عندما كانت ابنتي تروي لي هذه الحادثة لم أكن أدري: هل كانت نظرتي لها أشد حبًا أم نظرات الأطفال الذين رمقوها بنظرات الحب بسبب حنانها؟

ثم تفكرت أن مثل هذه الأحداث تقع في الحياة عندما تسُود القيم الإنسانية على روابط الدم؛ وإن أعظم العصور التي تحقق فيها غلبة القيم الإنسانية على روابط القربى كان عصر سيدنا محمد المصطفى . لا شك أنه عصر أخذت فيه روابط القرابة الأسرية مقامًا ثانويًا، ورفعت عظَمةُ سيدنا محمد القيمَ الإنسانية عالية حتى أقامها على مكارم الأخلاق. هذه القيم الإنسانية الأخلاقية هي التي سوف تنقذ العالم الثالث. وهذه هي القيم التي تداس اليوم تحت الأقدام. وقدر الله تعالى يدعكم تداسون تحت أقدام الأمم القوية. لم لا تدركون هذه العلامة من قدر الله؟ إنه لمما يدعو للرثاء أن هذين البلدين.. في جشعهم لامتلاك جنة كشمير، دفعوا ببلادهم إلى نار الجحيم! مهما اتخذتم من حلول لمشاكل العالم الثالث.. فما دمتم لا تحيون فيهم احترام النفس، ولا تجددون مشاعر العطف، ولا تعزمون على حماية القيم الإنسانية، ولا تتخذون الخطوات لتحقيق هذا العزم.. فإن مصير العالم الثالث لا يمكن أن يتغير، ولن يستطيع العالم الثالث أن يتحرر.

وبلاد العالم الأول، البلاد المتقدمة.. لا ينعمون بالحرية بل ويزدادون نشاطًا وفعالية لاستعبادكم أكثر من ذي قبل. وكما قلت آنفًا.. تتحرك خطواتهم الاقتصادية في اتجاه يضطرهم فيما بعد، أرادوا أو لم يريدوا، إلى سحق أمم العالم الثالث تحت أقدامهم أكثر وأكثر، لأنهم لن يخفضوا مستوى حياتهم، لأن سلطاتهم الإدارية غير قادرة على نصح الناس بالنزول عن شيء من مستوى حياتهم المرتفع، وأي حزب سياسي سوف يقدم على ذلك يخسر معركة الانتخاب. فهم مقيدون بإحكام في فخ شرير.. بحيث تجدونهم مضطرين لارتكاب الفظائع تلو الفظائع. فعلى أمم العالم الثالث أن تنهض بنفسها للدفاع عن نفسها، وبدون ذلك لا يمكنهم التحرر لا من جيوشهم، ولا من شرورهم ومفاسدهم، ولا من كل تلك اللعنات التي ذكرتها.

عندما تصير الأمم فريسة لمثل هذه الشرور والأمراض.. فما فائدة شكواهم من أنهم يموتون والنسور تقبع بجوارهم تنتظر هلاكهم؟ إن المرض يتطور بداخلكم للقضاء عليكم، وهذا المرض نفسه يدعو البكتريا لتدخل في أجسادكم. لا شك أن البكتريا تسبب المرض، ولكن البكتيريا لا تستطيع إيذاء الجسد الصحيح. المرض ينشأ بداخلكم ولا يأتيكم من الخارج. عندما تضعف القوة الدفاعية للجسم تنمو البكتيريا وتتغلب على الجسد وعندما تكتمل لها السيطرة.. يكون الجسم عند فم الموت، وتحتشد النسور لتلتهم اللحم وتنهش العظم. إنها عمليات طبيعية تأتي حتما واحدة إثر أخرى. والواقع أنها قدر لا تستطيع قوة في العالم إنقاذكم منه.. ما لم تعزموا أنتم على ذلك. فقبل أن تصلوا إلى هذه النهاية حيث تُلقى أجسادكم في العراء عبرة للآخرين، أو تصيرون من أهل القبور.. اعزموا من الآن أن تجعلوا من القيم الأخلاقية وتعاليم سيدنا محمد المصطفى قانون عملكم، فتحفظوا هذه القيم الأخلاقية السامية، وتعيدوا إلى الحياة ما فقدتم من القيم الإنسانية.. فهذه السبيل، لا غيرها، هي الوسيلة الوحيدة لتحريركم من عار العبودية.

وثمة أمر هام آخر.. فقد لقّنت حرب الخليج وما جرى خلالها من أحداث، درسًا آخر لدول العالم الثالث، هو أن منظمة الأمم المتحدة صارت عتيقة مهملة فيما يتعلق بمصالح العالم الثالث، وتستحق النبذ في سلة المهملات. وما دامت أمريكا في نزاع مع الاتحاد السوفيتي، وكان هذا منافسًا لها. لم تكن الأمم المتحدة بقادرة على تدمير الدول الفقيرة. ذلك لأن كلا من أمريكا وروسيا تملك حق استعمال الفيتو والوقوف إلى جانب البلاد الفقيرة، وكان القرار يتوقف على ما إذا كانت البلد صديقة لأمريكا أم للاتحاد السوفيتي. والآن لم يعد في العالم سند للدول الفقيرة. لقد اتحدت القوتان الكبيرتان.. لا على هدف صالح، وإنما لغرض شرير. ولذلك لما قال القرآن الكريم:

وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (المائدة: 3)

لم يُرد مجرد التعاون.. وإنما التعاون فيما هو خير وليس في الشر. ولكن سياسة العالم تتحد بلا اعتبار لخير أو شر. يتعاونون فقط فيما لهم فيه مصالح مشتركة. هذه هي القرارات التي اتخذت في هذا العالم، والاتفاقيات التي تمت بين الاتحاد السوفييتى وأمريكا؛ وألقوا بالصين جانبا حتى الآن بطريقة تجعلها بلا حول للتدخل، وتزداد ضعفا اقتصاديا حتى تضطر للركوع أمامهم. وإذا استمر الحال هكذا، فسيقتصر عمل الأمم المتحدة وما يلحق بها من منظمات كمجلس الأمن مثلا.. على قهر البلاد الضعيفة، ولن تكون وسيلةً تحقق صالح البلاد الضعيفة، بل سوف تستخدم لصالح أولئك الذين يقبلون بالعبودية للقوى العظمى ويلعقون أقدامها. لهؤلاء تكون هذه المنظمة الدولية مصدر ثراء، وتهيّىءُ لهم التسهيلات، وتسبغ عليهم ألقاب الشرف، وتمد لهم يد الصداقة والمودة. ستحصل بلاد العالم الثالث على كل المصالح، ولكن بالاستجداء في خزي ومذلة. وأما إذا أرادت أمة في هذا العالم أن تعيش على صلة بالأمم المتحدة، رافعة رأسها على أساس من الكرامة والاحترام، فلن يتاح لها ذلك.

ويمكن حل هذه المسألة أنه كما أنشئت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919، وتأسست الامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، يجب الآن بعد هذه الحرب الخليجية المريعة التي أشعلها جانب واحد أن تتأسس أمم متحدة لدول العالم الثالث، لا تضم سوى الأمم الفقيرة العاجزة. إن حركة عدم الانحياز، أو مجموعة الأمم المحايدة، قد أصبحت اليوم عتيقة بلا معنى ولا حياة. يجب الآن أن تبدأ حركة جديدة، يمكن أن تلعب فيها الهند وباكستان والعراق وغيرها دورا هاما. ولكن ينبغي عليهم أولا إزالة التحيزات الدينية. لذلك فنصحي للبلاد الإسلامية بأنه، وإن كان من الواجب أن يكونوا على علاقات المحبة فيما بينهم، والوفاء بمسئولياتهم في جو من الأخوة الإسلامية الخاصة، ولكن عليهم ألا يدَعُوا الهوية الإسلامية تتصارع مع الهوية غير الإسلامية. لو استمر استقطاب المسلمين في جانب وغير المسلمين في جانب آخر، وفي اعتباركم أن قوى الغرب وحدها غير إسلامية.. فلا تنسوا أن اليابان غير مسلمة، وكذلك كوريا وفيتنام والهند. فكل هذه القوى العظيمة في العالم يرون ان رسالتكم قد وصلتهم أيضا. ولذلك لو جعلتم الهوية الإسلامية في قتال مع غير الإسلامية لوقعتم في سياسة انتحارية غاية في الحماقة، فلن تجنوا شيئا، بل ستفقدون ما عندكم.

وإذن فلا يستطيع العالم الثالث أن يتحد ما داموا لا يعملون وفقا لتعليم القرآن الكريم: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وهو تعليم لا يشير إلى الفوارق الدينية، وطبقا له يمكن التحالف مع الوثني أو اليهودي أو النصراني أو حتى مع الملحد. فقط ينبغي أن تتعاملوا بالبر والتقوى، وتتعاونوا على ما هو خير فقط.

على هذا المبدأ من التعاون ينبغي أن تبسطوا يد التحالف إلى هذه الأمم. ولذلك فمن الضروري جدا إنشاء مجلس أمم متحدة للأمم الفقيرة.

ومن الضروري بالمثل أن تنشيء البلاد المنتجة للبترول منظمة (أوبك) جديدة، أعني ألا يضم هذا المجلس عبيدا مخلصين لأمريكا من مصدري البترول ولا مانع أن تشترك فيه الدول التي تتعامل مع أمريكا، إذ ليس مبدؤنا أن تؤسس التحالفات من أجل العداوة، فالقرآن الكريم لا يذكر ذلك في أي موضع. ينبغي أن يقوم التعاون على الفضيلة. أما لو تحالف أحد مع القوى الكبرى بهدف انتهاك المبادئ فيعرض بذلك مصالح البلاد الفقيرة للخطر، فعندئذ يجب أن تتحالف الدول الفقيرة للدفاع عن نفسها. لذلك ينبغي أن تلتقي معا الدول البترولية في العالم الثالث.. مثل نيجيريا وإندونيسيا وإيران والعراق وماليزيا وسبا، وغيرها من الدول المنتجة الأخرى.. في منظمة أوبك جديدة خاصة لهم. وإذا صاغوا سياستهم معا فلن تستطيع قوى الغرب أن تفرض عليهم عدوانا بمثل ما فعلت مع العراق وأكرهته على تصرف غير حكيم. من الممكن أن تضغط عليهم السعودية والكويت لفترة لما لثروتهم البترولية العالية من قوة، ولكن لو أنهم صمدوا وثبتوا على مبادئهم وأهدافهم فسيرون بعد فترة من الزمن أن الدول المنتجة للبترول تجني منافع أكثر.

أما دول العالم الثالث غير البترولية.. فعليهم أن يشكلوا اتحادا للدول غير المنتجة للبترول؛ ذلك لأنه عندما يحدث في العالم نزاع من أي نوع تحدث اضطرابات وحروب، فتعاني الدول الفقيرة أشد الخسارة. فعليهم إذن أن يتحدوا لحماية مصالحهم، ويعقدوا اتفاقيات طويلة الأمد مع البلاد البترولية، وذلك كي يتمكنوا على ضوء خبراتهم الماضية من حماية أنفسهم من أخطار المستقبل المحتملة.

وهناك اتفاقيات صغيرة أخرى لازمة، إذ ينبغي على الشعوب المصدرة للعمالة إلى بلاد البترول ألا يتركوا عمالهم يُذَلُّون ويُهانون ويُعاملون معاملة ظالمة، ليس لهم من يرعى حقوقهم؛ إذ تتضرر بذلك كرامتهم القومية، ويتولد فيهم نوع من عدم الحياء. لم تكن عندي فرصة لزيارة هذه البلاد، ولكن حكايات المعاملة التي تبدأ منذ الوصول إلى المطار.. يرويها السياح والعاملون في بلاد الخليج بما يبين أنها معاملة غير كريمة، لا يتحمل سماعها من لديه إحساس بالشرف. يقولون مثلا بأنه عند وصول الطائرات الباكستانية إلى المطارات الخليجية.. يضرب رجل الشرطة المحلي كعوبهم بهراوته آمرا: قف هنا! تعال هنا! كل ذلك بطريقة مخزية كما تساق الأنعام في بعض البلاد المتوحشة؛ لأنهم في البلاد المتقدمة يبدون احتراما أكثر للماشية والحيوانات. فكم سيطول بهم احتمال ذلك؟ يعاملونهم كالعبيد، ولا حماية لحقوقهم؟ ما أفظعه من جور أن يعمل هؤلاء الفقراء عملا شاقا يستحقون عليه أجرا يبلغ مائة ألف أو مائتي ألف.. ثم يكون بوسع صاحب العمل الامتناع عن الوفاء بحق العامل إذا شاء! وإن ذهبا إلى المحكمة فلا يسمع أحد للعمال. وإذا كان صاحب العمل ظالما قاسيا، مطمئنا إلى حريته في أن يفعل ما يشاء بالعامل.. فإن ذلك يزيد في إذلال العامل بما هو أشد من ذل العبيد.

يجب على هذه البلاد: الهند وباكستان والفليبيين وغيرها من البلاد المصدرة للأيدي العالمة.. أن يتفقوا سويا على حماية شرف وكرامة عمالهم. فإذا لم يجدوا استجابة فليتحدوا ويلقنوهم درسا بكل ما لديهم من إمكانيات. وبهذه الطريقة، وعلى هدي  نصيحتي لهم، سيصلون إلى شيء من التوازن يؤدي إلى تحقيق السلام. والتوازن اسم ثان للعدل.. الذي يسميه القرآن الكريم باسم (الميزان). لا يتوطد السلام بأوامر من ملوك القوى العظمى والرؤساء والمستبدين؛ ولكن السلام يتوطد ولا ريب، نتيجة للتوازن. والتوازن يحقق العدل، بل الواقع أنهما اسمان لمسمى واحد.  هناك حاجة لإقامة توازن جديد في سياسة العالم، وهناك حاجة للتصميم على أن تكون كل منظمة وكل تحالف بيننا مؤسسًا على سيادة العدل. وكل المؤسسات التي أشرت إليها تقوم على شريطة أن تعزم كل دولة مشاركة على القبول سيادة العدل وليس على سيادة المصلحة الفردية. ثم عليهم أن يضعوا الترتيبات التي تخلق وسائل إقامة العدل. وينبغي استبعاد أي بلد لا يقبل بهذا المبدأ خارج المنظمة على الفور.

إن لهيئة الأمم المتحدة الحالية تناقضات متأصلة، وينبغي أن نتعلم منها حتى لا تنطوى مؤسساتنا على تناقضات. وكما قلت.. إنها قاعدة قهرية ظالمة.. أن أية دولة من الدول القوية الدائمة العضوية، مثل أمريكا أو الاتحاد السوفيتي أو فرنسا أو بريطانيا أو الصين، لو أرادت أن تعتدي على دولة وتهاجمها بنفسها أو عن طريق دولة عميلة تابعة لها، فلا يملك أحد حق الانتقام من المعتدي.. مادامت واحدة من الدول الدائمة في مجلس الأمن مصرة على حمايتها من العقاب، اعتمادا على حق الفيتو أي الاعتراض على قرارات المجلس. إنهم لم يقرروا حتى اليوم الصفات الأساسية لهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالضبط.. هل هي محكمة؟ وإذا كانت محكمة فما فائدة محكمة العدل الدولية؟ وإذا لم تكن محكمة.. فما نوع القرار الذي يمكنهم اتخاذه بصدد النزاعات؟ وإذا لم تكن محكمة فلا سلطان لها على وضع قراراتها موضع التنفيذ. وإن كانت محكمة فإلى أي مدى يمتد تأثير قراراتها؟ وهل تؤثر على الدول الغير الأعضاء فيها؟ أما إذا كانت هيئة استشارية فلا مجال لتنفيذ قراراتها بالقوة، اللهم إلا إذا كانت القواعد أخلاقية فقط، متفقا عليها للتطبيق على كل الأمم على السواء. وإذا كانت منظمة ليتعاون أعضاؤها فيما بينهم فكيف ينشد هذا التعاون؟ وأي الوسائل يتخذ لذلك؟ وإذا لم تحصل دولة على معونة فماذا تفعل؟ هذه هي المسائل التي يجب اتخاذ قرارات بشأنها.

وإذا كانت منظمة لمساعدة الأمم الفقيرة فيما هو للصالح العام.. فيجب في هذا الحال أيضا بسط موقفها بوضوح، ويجب أن تعلو عن اعتبارات السياسة واللون والجنس، ويضعوا برنامجا لمساعدة البلاد الفقيرة أو المنكوبة بالكوارث الطبيعية.. بحيث تكون إدارة المنظمة قادرة على اتخاذ قرارات حرة مستقلة، كما تطلق يدها في تنفيذ ما تصل إليه من قرارات.

وهناك مسألة يجب حسمها.. تلك هي كيفية تنفيذ أحكام محكمة العدل الدولية للأمم المتحدة بحيث تلتزم بقبولها الدول جميعا بما فيها القوى العظمى. وما لم يكن هناك جواب كاف لهذه لمسائل يضمن حماية حقوق الدول الفقيرة والضعيفة.. ستبقى هذه المنظمة أداة خديعة تحتكرها الأمم القوية لصالحها وحدها.

وأهم النقاط هي أنه إذا كانت هيئة الأمم محكمة فيبرز هنا سؤال: إذا صدر قرار بالأغلبية في صالح دولة مسكينة لا تحظى بمساندة من أمريكا أو روسيا أو الصين أو فرنسا أو بريطانيا، وقرر المجلس بأغلبية الثلثين أن هذه الدولة معتدى عليها وينبغي مساعدتها.. فكيف ينفذ هذا القرار؟ أي نوع من المحاكم هذه التي لا تحظى بتعاون القوى القادرة على تنفيذ قراراتها، وليس لها وسائل معينة لنشدان هذا التعاون؟

هذا يماثل تماما ما حدث عندما تقاضى الهنود الحمر الأمريكان ذات مرة أمام المحكمة العليا الأمريكية ضد الحكومة الأمريكية. قالوا: لقد وقّعت معنا الحكومة معاهدات مرات عديدة، ونقضت هذه المعاهدات مرارا و تكرارا ؛ ومنحونا الحماية الكاذبة مرات ومرات، وأعطونا المواثيق المسجلة بأن أرض كذا وكذا تخصنا.. ومع ذلك دخلوها وطردونا منها عنوة، وما برحوا يدفعوننا حتى أوصلونا إلى حال لا نستطيع معه البقاء بين الأحياء، ووصل الموقف الآن إلى حد إما الحياة وإما الموت. فأصدرت المحكمة الأمريكية العليا حكمها في صالح الهنود الحمر، وقالوا: إن شكواكم صحيحة، ومن حقكم إلغاء تلك القرارات الحكومية السابقة وتنالون حقوقكم. ولما عُرض حكم المحكمة هذا على الرئيس الأمريكي قال: إننا بالفعل نعلن إعجابنا بحكم المحكمة، وعلى المحكمة أن تنفذ الحكم!

هذا بالضبط هو موقف هيئة الأمم المتحدة اليوم. إذا قررت، ولو دولة واحدة فقط من الدول الأعضاء الدائمة الخمس، عدمَ  تنفيذ قرارات الأمم المتحدة فلا يمكن تنفيذه. إنها منظمة للعدل غريبة حقا؛ فلو اتحدت الأمم القوية واتفقوا على العدوان.. فسوف يتم تنفيذ كل شيء؛ أما إذا قرروا أن يسدوا الطريق أمام أي قرار فلن تستطيع تنفيذه دول العالم منفردة أو مجتمعة.. ذلك لأن إحدى الدول الدائمة العضوية تقف ضد القرار وترفض تنفيذه! وإن كانوا جميعا يوافقون عليه، كما هو الحال في قضية فلسطين.. التي وافقت القوى العظمى الخمس على الحلول القاضية بانسحاب إسرائيل من الأرض العربية المحتلة، فلن يمكن تنفيذ القرار. فعجيب أمر هذه المنظمة لسلام العالم ، وغريب شأن هيئة الأمم المتحدة هذه إذ لها القدرة على اتخاذ القرارات ولا قدرة لها على تنفيذها. وإنما القدرة على التنفيذ في يد القوى العظمى التي تجبر جميع بلاد العالم على الشعور بأنها مدينة لها. إن مثل هذه المنظمة لا تصلح للبقاء.. لأنها منظمة لاستمرار العبودية، وهي منظمة لحماية الاستعباد، وليست منظمة لحماية الأحرار! فإذا لم تنهض دول العالم الثالث ضد هذه المنظمة، أو نقول: إذا لم تدفعوها إلى التعاون باسم العدل وتغيير قوانينها الجائرة.. فلن تتحرر أمم الأرض، بل وستبقى هذه المنظمة لتخلق لهم مزيدًا من الأخطار، وتُستخدم لأهداف رهيبة مرات ومرات، ولا داعي الآن للدخول في تفصيل أكثر.

والمسألة الأخيرة التي أود ذكرها لكم موجهة إلى إسرائيل، وتتضمن نصيحتي لها. هناك انطباع عام بين المسلمين بأن قيام إسرائيل كان نتيجة لمؤامرة الغرب ودهاء اليهود. ولهذا الانطباع مبرراته. ولكن إذا لم يشأ القدر الإلهي ذلك ما أمكن حدوثه أبدًا. من الضروري أن نتفهم هذا القدر الإلهي، الذي أثار موضوع إسرائيل، لنجد حلا للمشكلة.

أود أن أفسر لكم الموضوع استنادا إلى القرآن الكريم وحديث الرسول ، وأقترح شيئا على إسرائيل، لأن السلام العالمي يتوقف اليوم على إسرائيل وقرارها. وهذا ما نتعلمه من القرآن أيضا. في سورة الإسراء، وتسمّى أيضا سور بني إسرائيل.. هناك آيات تتعلق بهذا الموضوع الذي سأعرضه عليكم. تقول السورة:

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (الإسراء: 5)،

أي قدَّر الله تعالى في الكتاب.. وهو سفر مزامير داود، أو كتاب القدر والمصير.. أن تعكر إسرائيل صفو السلام في الأرض، وتقوم بتمرد كبير.

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (الإسراء: 6).

عندما يأتي وقت إنجاز الوعد الأول نرسل عليكم محاربين أشداء يخترقون إلى داخل بيوتكم. وسيتم هذا الوعد حتما، ولا يملك أحد إرجاءه. ستقومون بثورتكم الأولى وتنالون العقاب المقدر لها.

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (الإسراء: 7)

بعدها نعيد إليكم القدرة عليهم، ونساعدكم بوسائل شتى من مال وبنين، فتكثرون وتصيرون قوة عظيمة.

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ،

فإذا كنتم طيبين عطوفين، وأقلعتم عن مساوئكم ومعاصيكم السابقة.. فسيكون عطفكم في الواقع لأنفسكم. أما إذا انتهجتم سبيل الشرور التي كنتم ترتكبونها من قبل فسيرتد عليكم هذا الشر، والواقع أن ما تفعلون من شر تفعلونه بأنفسكم.

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (الإسراء: 8).

وعندما يأتي موعد تحقق العهد الثاني، وترتكبون الشرور مرة أخرى، فسوف تذوقون تبعات سوء فعالكم، وتلقى وجوهكم الخزي والكآبة.. فيدخلون عليكم ويدمرون معبد سليمان.

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (الإسراء: 9)

عسى تعني أن ذلك ممكن، أو ممكن تماما، فإذا شاء الله تعالى بعد ذلك رحمكم. ولكن تذكروا، وأنتم تنعمون برحمة الله، أنكم إذا عدتم إلى ارتكاب الشرور والإصرار عليها.. فلسوف نعود عليكم بالعقاب الذي ذقتموه من قبل مرتين. ويبدو من ذكر عقاب جهنم في آخر الآية أنهم لن يقعوا في خطأ رابع في هذه الدنيا.. وبعد ذلك تنتهي أمور الدنيا وسيكون القرار الأخير يوم الحساب حيث ينالون عقاب الجحيم.

دعوني أولا أخبركم بإيجاز عن العهدين السابقين وكيف تحققا. بدأ العهد الأول عام 721ق.م. عندما قضى الأشوريون على المملكة الشمالية من المملكتين اليهوديتين واحتلوها. وكانت هذه المملكة ترتبط بمدينة ساماريا وتدعى مملكة إسرائيل. بدأ العهد الأول بهذه الواقعة عام 721، ثم اكتمل ابتداءَ من عام 597 ق.م. أي أن عملية التدمير التي استهلها الأشوريون بدأت مرحلتها الثانية بعد 124 عاما. وفي هذه المرحلة هاجم نبوخذنصَّر ملك بابل المملكة الثانية وكانت تسمى يهوذا أو اليهودية، وعاصمتها أورشليم.

فاذكروا أن الهجوم الأول وفقا لهذا الوعد لتحطيم الإمبراطورية اليهودية في أرض كنعان المقدسة كان عام 721ق.م. على يد الأشوريون وتمت مرحلته الثانية على يد نبوخذنصر البابلي من عام 597 إلى 587 ق.م. وفي كلتا المناسبتين تلقت السلطة اليهودية ضربات شديدة، ولكنها في الثانية تحطمت وتدمرت تماما. وساق نبوخذنصر عددا كبيرا من اليهود أسرى إلى بابل، وكان من بينهم سيدنا حزقيال النبي. ونعلم من كتاب حزقيال في أسفار العهد القديم.. أن العقاب الذي نزل باليهود كان بحسب القول الإلهي الوارد بالكتاب في مَثَل المدينتين اللتين كانتا كعاهرتين تَاجَرتا بجسديهما وتجاوزتا كل الحدود بلا حياء، ولم تتورعا عن عمل علاقات مع الأغراب، فقَطَعَتَا علاقتهما بالله. هكذا يصورهما المثل في أبشع صورة، ويقول بأن العقاب المقدر لفعلهما هذا هو أن قَطَعَ الله صلته بهما، وقال: أيتها المرأتان العاهرتان.. أنتما لمن تبيعان جسديكما لهم. وبالفعل أقصى الله هؤلاء العاهرات من الأرض كلها، ونقض كل حجر في معبد سليمان.

وفي عام 551أو عام 553ق./، وبجهود النبي حزقيال، بدأت عملية اتصالهم مع أهل فارس. ويشير القرآن الكريم إلى هذه الفترة ومحاولة حزقيال الاستعانة بهم فيما ورد بسورة البقرة عن هاروت وماروت. ومع أن الثورة وقعت فيما بعد إلا أنها بدأت في زمن سيدنا حزقيال. وبعد 48 عاما من الهجوم الذي دمر فيه نبوخذنصر أورشليم وفلسطين تماما.. تغلب اليهود على الأرض المقدسة مرة ثانية بمساعدة من شعب فارس عام 539ق.م، حيث عادوا بمعونة من الملك (قورش) الذي أخذهم ليستقروا مرة ثانية في أورشليم، وتمكنوا من العيش فيها قرونا طويلة. كما وردت نبوءات في كتب أخرى أن هاتين المدينتين ستكونان كعاهرتين، وتصيران شريرتين مرة أخرى، وتعاقبان على شرورهما مرة ثانية كذلك. فالصورة التي رسمها القرآن الكريم من أنكم ستفعلون الشرور في فلسطين مرتين، وترتكبون التمرد والعصيان مرتين.. كل ذلك تحقق تماما. فهم أولا ارتكبوا الشرور ثم جاءت الأمم لعقابهم، ثم ثاروا، ثم تم سحقهم.

في المرة الثانية بدأ العقاب عندما احتل الإمبرطور (بومبيي) (Pompey) مملكة يهوذا عام 63 ق.م ، ومن وقتها بدأ دمارهم الثاني الذي اكتمل عام 132م. وذلك في زمن الإمبراطور (هادريان) (Hadrian) العظيم ذو المكانة الكبرى بين الأباطرة الرومان، والذي امتد ملكه من بريطانيا شمالا إلى أفريقية جنوبا ونهر الفرات شرقا، وجاء إلى بريطانيا حيث بنى في شمالها سورا مثل سور الصين، قيل إن طوله يبلغ70 او 80 ميلا، ولا يزال موجودا حتى اليوم. لما بلغه تمرد اليهود استدعى قائده الذي كان حاكما على بريطانيا وقتئذ، وكان معروفا بكفاءته، وكلفه بسحق الثورة اليهودية. كان ذلك عام 132 أو 134م على خلاف بين المؤرخين أنه قتل نصف مليون من اليهود. كنت أحسب هذا الرقم مبالغا فيه او خطأ ولكن بعد قراءة الوعد القرآني بزيادة عددهم وأولادهم تأكدت عندي السجلات التاريخية عن قتل نصف مليون يهودي وهدم المسجد مرة أخرى. هكذا بُني معبد سليمان مرتين وهُدم مرتين.

بعد تحقيق كل ذلك يقول الله تعالى:

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا .

لقد تحققت النبوءتان السابقتان في موعدهما المعين، ولكن متى يتحقق قوله تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ؟ وكيف سيتحقق؟

وفيما يتعلق بهذا جاء في أواخر السورة نفسها آية تشير إلى زمن سيدنا محمد ، وتشكل جزءا من هذا الموضوع عينه.. بما يعني أن موضوع الرحمة هذه سوف يتحقق في الأيام الآخرة من أمة سيدنا محمد المصطفى . يقول الله تعالى:

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (الإسراء: 105).

أي عندما يأتي العهد الأخير نجمعكم من كل أجزاء الأرض ونأتي بكم إلى هنا. فقدر الله تعالى أن تجتمعوا كلكم سويا. وقد حدث ذلك اليوم لأول مرة. لقد عاش اليهود بأرض فلسطين مرة بعد مرة.. ولكن لم يحدث قط ولا مرة واحدة، أنهم اجتمعوا وتجمعوا سويا من الشتات (Diaspora).. أي من جميع البقاع التي تشتتوا فيها. هذه هي الواقعة الأولى في تاريخ العالم. وهكذا ترون.. كما تحققت النبوءات القرآنية تحققًا مدهشا مجيدًا، فلسوف تتحقق في المستقبل أيضا.

لذلك أود أن أخبر اليهود في ضوء النبوءة السماوية في قول الله تعالى عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أنه بعدما نزل بكم فظائع لا مثيل لها على يد النازي في ألمانيا، لقد قدَّر الله بأنكم قد عانيتم كثيرا، ولعلكم تعلمتم درسًا، لذلك صفح عنكم وأعاد لكم الفوز مرة أخرى.. ولن يكون لدى الدول الإسلامية طاقة على كسر حكمكم. لأننا نعلم من أقوال رسول الإسلام أن مؤامرة شريرة سوف تطل برأسها من هذا السبيل.. في هذا البحر الصغير الواقع بين سوريا والعراق.. وهو في سبيل إسرائيل، وسوف تستهلك كل ماء البحر. أما البحر الصغير الذي ورد في الحديث النبوي الشريف فهو بحيرة طبرية التي يمر منها نهر الأردن. قال النبي إن جيشا كبيرا سوف يحتشد هناك، ثم يرتحل، ويقوم بهجوم مفاجيء.

فإذا إذا كانت إسرائيل لم تتعلم درسا من الدمارين التاريخيين الماضيين، ولم تتعلم من تجاربها المريرة.. فسوف تنشأ فتنة من إسرائيل تعكر صفو السلام العالمي. هذا قضاء الله لا تستطيع قوة في الأرض تبديله. يقول الله تعالى أنه سوف يدمر تلك الفتنة، وسيرتب لكسرها وتحطيمها مع كل القوى التي معها وتساندها، وسيجعلها عبرة لمن يعتبر.

والرسالة النهائية في حديث الرسول .. أن الله تعالى سوف يصيب رقابهم بالأورام التي تقضي عليهم بميتة مريعة وعلى نطاق واسع. إنه مرض الإيدز الذي سبق أن ذكرته. وفهمي هذا بناء على قول النبي الكريم :

عن النواس بن سمعان، ، قال: “ذكر رسول الله الدجال ذات غداة، فخفَّضَ فيه ورفَّع”.. أي تحدث عنه بتفصيل أكثر، والحديث طويل جاء فيه:

* إنه خارج خَلَّة (أي منطقة) بين الشام والعراق.

* فعاث يمينا وعاث شمالا( أي نشر الخراب والفتك حيثما اتجه).

* قلنا: يا رسول الله ما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استَدبَرَتْه الريحُ (أي دفعته، كما تسير الطائر النفاثة اليوم)..

* فبينما هو كذلك.. إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجتُ عبادا لا يدان لأحد بقتالهم ( أي لا يقدر أحد على قتالهم).

* ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (أي يأتون مسرعين من كل مرتفع من الأرض).

* فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذا مرةً ماءً.( يعني أين ذهب الماء؟) وفي مثل هذا الموقف الرهيب:

* يرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى (أي يبتهلون إليه بالدعاء). فيرسل الله عليهم النغَفَ في رقابهم.. فيصبحون فَرْسَى كموتِ نفسٍ واحدةٍ. (والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم، وفرسى يعني قتلى. أي أن الله يخلق في رقاب يأجوج ومأجوج الجراثيم التي تقضي على أكثرهم في سرعة كبيرة).

(صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكرى الدجال، وأبو داوود، والترمذي وأحمد والحاكم وابن ماجه).

وفي حديث آخر يقول النبي :

“لم تظهر الفاحشة في قوم قط يُعلنوا بها إلا فَشَا فيهم الطاعونُ والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا”.(سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات).

أي إذا أصيبت أمة بعدم الاحتشام الجنسي، وجهروا به علنا.. فسوف ينتشر فيهم نوع من الطاعون لم يظهر فيمن قبلهم من الناس.

ويشير هذا الحديث بوضوح إلى مرض الإيدز، وهو يوصف بكونه نوعًا من الطاعون، ويقولون إنه لم ينتشر من قبل في العالم.

ومما هو جدير بالذكر أن الله تعالى أخبر سيدنا المهدي والمسيح الموعود مرزا غلام أحمد مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، عن نوع جديد من الطاعون.. حيث تلقى إلهاما يوم 13 مارس 1907 بأن نوعا شديدا للغاية من الطاعون سوف ينتشر في أوروبا وغيرها من بلاد النصارى.( مجموعة إلهامات المهدي والمسيح، التذكرة ص 705). فهذا نوع من الدمار المقدر.. إن لم يكن اليوم فغدا. وإذا لم تصلح هذه الأمم من نفسها، فلسوف يكون لأفعالها الشريرة عواقب وخيمة.

وهنا ينبغي تفسير النبوءات الإنذارية أو الوعيد بلغة القرآن المجيد. إنها نبوءات شرطية دائمة، سواء أفصحت عنها الشروط أم لا. والمثال الواضح لذلك نجده في واقعة سيدنا يونس التي نُسخت فيها نبوءة قاطعة بعقاب قومه.. ذلك بسبب بكائهم وتوبتهم.

وهكذا.. ومع أن قرار استمرار إسرائيل أو هلاكها يتقرر في السماء.. لكن لو استطاعت العناصر الطيبة والمحبة للسلام منهم أن تتغلب على الصهاينة، فقلَّموا براثن شهوتهم إلى الانتقام الوحشي الذي حُفر في طبيعتهم، وقام اليهود كأمة بهذا العزم الثوري على معاملة المسلمين والنصارى وسائر الأمم معاملة عطوفةً.. فإني أؤكد لهم، وفقًا للوعد القرآني، أن الله جل وعلا سوف يعاملهم بالحسنى؛ وأن المسلمين بدورهم يعاملونهم بالعدل والعطف. وعليهم ألا ينسوا بأن طبيعة الملالي والشيوخ المتعصبين ليست هي طبيعة الإسلام السمحة. بل أن الطبيعة التي أضافها القرآن الكريم وسنة المصطفى على المسلم ليس بها مشاعر الانتقام؛ وإنما تتسم وتتميز بالعفو والصفح والرحمة.

وأود أن أوضح للأمم الغربية النصرانية، بمشاعر مخلصة، أننا نجد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي نبوءات بشأنكم.. تشير إلى عقوبات رادعة. ويجب عليكم ألا تنظروا إليها بعين الكراهة أو السخرية. إن كتابات السماء لا يمكن أن تُلغى بالمكر الدنيوي؛ ولكن إذا أمكن وفقها فذلك بالتوبة وطلب المغفرة والصفح من الله تعالى، والتوجه إلى الصلاح والتقوى. إذا فعلتم ذلك.. فعفو الله تعالى، الذي يسع غضبه، له القدرة على أن يلغي كل عقاب قد قدر.

لذلك ينبغي عليكم أن تحدثوا تغييرا أساسيا في طريقة تفكيركم السياسي والاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي. وفي كل مجال بلا استثناء.. يجب أن تسود متطلبات العدل على متطلبات المصالح القومية والعنصرية. يجب أن تعاملوا الدول الضعيفة والفقيرة بالعطف. إذا لم تستطيعوا قبول الإسلام.. فعودوا على الأقل إلى التعاليم الصالحة في التوراة والإنجيل، وطهروا مجتمعكم بصفة خاصة من عدم الحياء الذي يتزايد باستمرار. لو فعلتم ذلك فلسوف يتبدل قدركم السيء إلى خير. وبتعاونكم مع أهل الإسلام وسائر البشر تتمكنون من بناء نظام عالمي جديد، ويتحول السلام العالمي من فراغ الأحلام إلى حيز الحقائق الواقعة.

وإن لم تفعلوا ذلك، فلسوف ينهدم النظام القديم ويتحطم على أي حال.. ولكن في نفس الوقت سوف تتحطم عظمة كثير من الأمم، ويزول شرفها ومجدها للأبد. ولكن رغبتي ودعائي أن يشيد النظام العالمي الجديد.. ليس على أنقاض الأمم التي عانت من الدمار، وإنما بمادة الأمم التي تبدلت وتحسنت.

وفيما يتعلق بنا.. فقد أخبرنا ربنا من قبل أننا ضعفاء. لقد وعظنا سيدتا ونبينا محمد منذ 14 قرنا بأن الله تعالى سوف يرفع في المستقبل أمما عظيمة قوية، لا قبل لأحد بقتالهم، فينبغي ألا يدور بخلدكم قتالهم بأسلحة الدنيا. ذلك مسطور في كتب الحديث. ارجعوا إلى أحاديث المصطفى في صحيح مسلم كتاب الفتن، وبوسع كل إنسان أن يطَّلع عليها. لقد أخبرنا النبي أن كل ما نتوصل إليه سيكون من خلال الدعاء. إن قدر الله تعالى هو الذي سوف يدمر القوى العظمى إذا ما عزمت على فعل الشر في العالم. أما وقد جعل الله سائر العالم بلا سلاح ولا حيلة من ناحية، وأعطي القوى العظمى فرصة لعمل الشر من ناحية أخرى، فإن مسؤولية حماية الضعفاء تكون في يد الله يقينا.

هناك إذَنْ وسيلة وحيدة للحصول على التأييد السماوي.. ذلك أن تقيموا علاقات مع الله تعالى، ويصلح المرء نفسه بقدر ما بوسعه. يجب أن لا ترتكبوا أي شر باسم الإسلام. يجب أن تمحوا فكرة الإرهاب من قاموس المسلمين. إن فعل الفوضى والشر وتخزين المشاكل لإيذاء الآخرين هي أفعال الحمقى.. ولا علاقة لها بالإسلام بتاتا. ينبغي عليكم أن تدخلوا في السلم وتصلحوا أعمالكم ومعاملاتكم فيما بينكم وعلاقاتكم مع الأمم الأخرى، وتنتظروا بصبر.. وسترون كيف يتغلب قدر الله تعالى على خداع الماكرين الأشرار.

خطبة 15 مارس 1991

في رمضان القادم ينبغي أن تدعوا بصفة خاصة لعالم الإسلام. لقد وضعت أمامكم كثيرًا من الأمور ووضحتها لكم في خطبي السابقة. وبوسعي رؤية الكثير من المخاطر.. لا وقت لتفصيلها الآن، وكان هناك أخطار لم أذكرها وإن كنت قد ألمحت إليها. ولما كنت قد انتهيت من هذا الموضوع.. فلا أرى أن نتناوله مرة أخرى، ولكن ينبغي أن أخبركم بإيجاز أنه في الشهور القلائل القادمة يمكن أن تُتخذ قرارات رهيبة، ليس ضد المسلمين فحسب، بل ضد الإنسانية كلها؛ على إثرها قد يبتلى القرن كله بكثير من الأسى، وتمر الإنسانية بفترة شديدة من الآلام. وقد تتخذ قرارات تتمكن الإنسانية بها، وخاصة المسلمون، من الدفاع ضد الهجمة الشرسة الشيطانية الأخيرة.. لأنه لو ينجح المسلمون في هذا الدفاع.. يجد الجنس البشري كله حماية من مظلة الدفاع الإسلامي. وتقع المسؤولية الكبرى لحماية المسلمين على الأحمديين. وقولي هذا بناء على حديث الرسول القائل بأنه في الأيام الأخيرة عندما تكون البلايا والمحن على أشدها فإنما هي دعوات المسيح الموعود مجيئه في الأمة الإسلامية التي سوف تحمي الإسلام والعالم من الهجمة الضارية للأعداء.

وفي هذه الزاوية يجيء رمضان هذا في الوقت المناسب.. عندما أصبحت الكوارث بينة أمامنا، ولهم أغراض خفية أسوأ مما يبدون.. قدَّرناها وتوقعناها، وبعد هذه الكارثة ستكون كوارث أخرى. وفي هذا الوقت الذي ندخل فيه الشهر المبارك ستكون لدينا فرصة خاصة للدعاء. فلتجعلوا من شهر رمضان هذا شهرًا خاصا للذود عن الإسلام والمسلمين، وللذَبِّ على الإنسانية. أدعوا الله: يا ربنا.. مع كل جهودنا لا نستطيع القتال ضد هذه القوى العظمى التي خلقتها بيدك، وأخبرنا عنها الصادق الأمين سيدنا محمد منذ 14 قرنا، ونحن ضعفاء بلا سلاح ولا حول لنا.. وقد آتيت تلك القوى التي نواجهها تفوقًا دنيويا فلا حيلة لنا إزاءهم. فيا ربنا نسجد لك، ونتوجه إليك وحدك، ونتبهل لك وحدك، بكل خشوع وتواضع، ونسألك أن تحقق الوجه الثاني لتلك النبوءات ببركة دعاء المسيح الموعود. هذه القوى العظمى تملك من كنوز الدنيا مانبدو بالنسبة لهم مفلسين. إنهم يشترون إيمان الناس في هذا العالم. أنت وحدك يا ربنا قادر على إنقاذ الناس من أضرار ثرائهم. إنهم يكدسون من السلاح جبالاً ضخمةً، ويملكون من قوى الدمار.. كما يقول العلماء عن مخزون القنابل الذرية وحدها لدى الأمريكان والسوفييت.. ما يكفي لتدمير العالم مرات كثيرة. بل إن أسلحتهم لا تقتل كل سكان الأرض فحسب، وإنما تقضي أيضا على كل مظاهر الحياة فوق سطحها. فنتبهل إليك يا ربنا.. أنت الذي آتيت هذه الأمم المشئومة ثراء عظيما لا تُقارن به ثروة العالم الإسلامي كله؛ والجماعة الأحمدية فقيرة للغالية. لقد أعطيتهم سلاحا يكفي جزء منه لتدمير أمم كبيرة، ومحوهم من فوق الأرض. كلفتنا ياربنا بقتالهم ونحن لا نملك شيئًا. ولقد بشّرتنا يا ربنا وقلت: أنني سوف أستجيب دعاءكم، وببركة دعائكم سوف أقصم ظهور هذه الأمم نهائيًا. إن الملح يذيب الجليد، وقد رسم لنا المصطفى هذه الصورة عندما قال إن قوى الدجال سوف تذوب كما يذوب الثلج. هذه القوى المعادية للإنسانية والحق.. سوف تنصهر وتختفي كأن لم تكن من قبل.

إن لديكم قوة الدعاء، وينبغي عليكم معرفة عظمة هذه القوة. وهذه العظمة في التواضع.. فلا تنسوا هذه الحقيقة أبدا. هذا هو الفرق الأساسي بين قوى الدنيا وقوى الدين. تقوم قوى الدنيا على الغطرسة، وقوى الدين تقوم على التواضع. ويكتسب الدعاء قوة أعظم عندما تَستشعرون قلة الحيلة. وانطلاقا من فهم هذه الموضوع ينبغي عليكم الانتفاع من رمضان بقدر استطاعتكم. سوف تسجدون لله تعالى مع شعوركم بقلة الحيلة والتواضع والخشوع، وتدعون قائلين: اللهم ربنا دمِّر الأهداف الضارة لهذه القوى العظمى، ولا تُبقِ منها سوى الطيب الصالح.

ليس مسموحًا لنا بكراهية أي قوم بوصفهم أمة. لم تُوضع البغضاء في طباعنا، ومن ثم لا نستطيع فعل ما يفعله الجهال.. فندعو على أمم الغرب. ولا يمكن أن تنطوي صدورنا على مشاعر الكراهية للناس، وإنما نكره الشر. فوجهوا دعاءكم ضد ماهو شر. فلا تدعوا أبدا بمشاعر قومية أو عنصرية ضد قوم ما. ادعوا وقولوا: ياربنا امح ماهو شر في عبادك الأذلال من أهل الشرق، ودمِّر اللهم الشر في القوى العظمى من بلاد الغرب المسيطرة على العالم. فشرور القوي تكون دائما أشد خطرًا.. لأن فيه قدرة أكبر على الانتشار، وله القدرة على تدمير الخير في العالم.

ولا نقول بأن بلاد العالم الثالث خالية من الشرور، ولا نقول بأن بلاد الشرق أكرمُ وأن بلاد الغرب أَخَس، وإنما نقول: إن قدرة الغرب على نشر الشر لم تُعط من قبل لأية أمة في تاريخ العالم. وقد صرح بذلك سيدنا المصطفى فقال بأن الدجال سوف ينشر الشر بالعالم في آخر الزمان وستكون له من القوة على شره بحيث حذر أنبياء الله جميعا منذ خلق الدنيا من شرور الدجال. فعليكم إذن بالدعاء دون أي مشاعر عنصرية أو فوارق قومية..

وهذه النبوءات موضع اعتباركم.. كيما تصيبوا الهدف الصحيح.. وإلا فإن هذه المقاصد السيئة التي تشوب الدعاء.. كمشاعر التعصب والنعرة القومية، وكغيرها من الشرور التي تتسرب في الخفاء إلى الدعاء وتسمم مقاصد الإنسان.. قد يترتب عليها ألا يقبل هذا الدعاء. وقد ظهرت الحاجة إلى توضيح هذا الموضوع بالتفصيل.. لأن الدعاء لا يُقبل بمجرد البكاء والعويل، بل إن قبول الدعاء يتطلب تطهرًا خاصًّا وخشية خاصة. يجب أن تتبعوا نفس الأسلوب الذي كان سيدنا المصطفى يتبعه وعلَّمنا إياه. يجب أن تطهروا نفوسكم من شرورها الداخلية، وكذلك طهروها من سائر الشرور الخارجية. واجعلوا دعواتكم خاصة لوجه الله ، وليس بسبب مشاعر الكراهية لبعض الأمم. لو فعلتم ذلك فإنني على ثقة بأن الله تعالى سوف يقبل دعواتكم بواسع فضله، وسوف يجعل كفّة الإسلام نافذة لا محالة في أي حال، فهو قدر لا يتبدل، ولكن ينبغي أن ندعو ونسعى كي نشهد هذا القضاء الإلهي يتحقق أمام أعيننا.

خطبة 25 يناير 1991

هذه الخطبة تأخر وصولها إلينا فلم تُنشر من قبل حسب الترتيب في مكانها.. ووضعناها هنا في الأخير حتى لا يجد القارئ ارتباكًا في تسلسل الخطب. [تحرير]

ليس للإسلام وطن قومي، فكل وطن هو للإسلام. ولكم في وقت الابتلاءات والمحن الدنيوية.. غالبا ما ينسى المسلمون في بعض الأقطار هذه القاعدة الأساسية الثابتة المضيئة.. ويرتكبون الأخطاء، فيقاسون ويصيرون سببا في تشويه سمعة الإسلام.

ونتيجة لذلك يطالَبون بتحديد انتماءاتهم. ففي كثير من البلاد ذات الأغلبية غير الإسلامية يطرحون هذا التساؤل على الأقليات الإسلامية: خبِّرونا بصراحة، هل إخلاصكم للإسلام أم لوطنكم في المقام الأول؟ والحقيقة هي كما قلت: ليس للإسلام وطن قومي، فكل وطن هو للإسلام. وتحتوي هذه الحقيقة على أسرار من الحكمة البالغة.

فمن الأشياء التي تبرز جلية أمام الإنسان أن التصادم بين الإسلام والقومية غير ممكن في أي مكان من العالم. أعني أن مبادئ الإسلام الحقيقة عالمية في جوهرها، وهذا أمر منطقي، فالتصادم بين الكل والجزء محال تماما. وإذا كان الإسلام يتصادم مع وطنية قوم يعيشون في مكان ما من العالم.. فمعنى ذلك أن الإسلام لا يصلح لهم دينا، ولا يحمل لهم رسالة رحمة، ولا يستطيع أن يدعوهم إلى حياة الأمن والسلام في كنفه. ويحق للمواطنين في هذه المنطقة القول: نعم.. يمكن للإسلام أن يكون رسالة رحمة للعرب أو لأهل أندونيسيا أو ماليزيا أو باكستان.. ولكن ليس في الإسلام سلام لنا.. لأنه يتعارض مع هويتنا الوطنية!

هذه حقيقة أساسية واضحة، ولسوء الحظ، ينساها المسلمون أحيانا ويثيرون موضوع القومية الإسلامية.وهذا يوقع المسلمين في صدام مع غيرهم. والحق أن واجبنا هو الفوز بالقلوب في العالم كله، ولا يمكن الفوز بالقلوب عن طريق القتال، وإنما تُحارَب معركة الرسالة الإسلامية في مناخ مختلف، وفي موقف مختلف. في معركة الرسالة الإسلامية تعمل مبادىء لا علاقة لها بمعارك الدنيا. وفي مناسبات عديدة.. علّم الله تلك المبادىء لأنبياء كثيرين، وهي مبادىء لا يمكن اتباعها في حروب الدنيا. وعلى سبيل المثال، كان السلاح الذي وضعه سيدنا المسيح ابن مريم (عليهما السلام) في يد النصارى: من ضربك على خدك فأدِرْ له خدك الآخر! والمعركة التي كان هذا سلاحها، والحرب التي وصف لها هذا السلاح.. حرب روحانية. ولقد أخطأ بعض النصارى وأخذوا بها على أنها تعليم دنيوي. ولما كان هذا التعليم لا يصلح في المواقف الدنيوية فلم يعمل في صالحهم؛ لذلك فإنهم من الناحية العملية نبذوه تماما. ومن ثم لا تجد بلدا واحدا في العالم يعمل اليوم طبقا لهذا التعليم العيسوي الروحاني العظيم. إنه تعليم روحاني، ولكنهم أخذوه بالتعليم الدنيوي.. فكانت النتيجة أنهم رفضوه عند التطبيق العملي ونبذوه عند كل اختبار. واليوم هذا هو نفس الحال في كل العالم المسيحي.

فالدين مرتبط بالعالم الروحاني، ومعركة تعاليمه تحارب بالمفهوم الروحاني. فإذا قيل إن الإسلام جاء ليظهر على الدين كله، فذلك يعني لا يرفع المسلمون سيوفهم لقتل من رفض الإسلام، أو يسالموا إلا من خضع وأحنى رأسه، فيكون الإسلام بذلك لغير المسلمين رسالة حرب وعنف. هذا ليس من العقل في شيْ، ولا يمكن تطبيقه في العالم، ولم يحدث أنه طبق من قبل. وعلى الجماعة الإسلامية الأحمدية جعل هذا المبدأ دائما نصب عينها. عندما نتحدث عن معركة الجهاد أو نصر الإسلام على الدين كله.. فإنما نتحدث بحسب مسميات القرآن ونبي الإسلام ، وهذا لا علاقة له بمسميات العالم الدنيوي.

هذا هو السبب أنه في محنة اليوم.. فشل المسلمون في فهم تلك الأمور، لأن قادتهم قدموا لهم تعاليم خاطئة.. فوجدوا أنفسهم غارقين بالمشاكل من كل ناحية، ويزداد موقفهم سوءا يوما بعد يوم. إنهم أقليات في بلاد شتى، وبسبب التعاليم الخاطئة لا يستطيعون حفظ علاقاتهم على الصراط السوي، ولا يمكنهم توجيهها الوجهة الصيحة. فيقاسون أشد الأضرار، ويكونون سببا في الإضرار بسمعة الإسلام أكثر وأكثر.

هذا سؤال يثار في كل مكان من العالم غير الإسلامي. وفي بريطانيا مثلا حيث لا يتلقى المسلمون الجواب الصحيح، ولجهل بعضهم.. تأتي استجابتهم في طرقات المملكة المتحدة كرد فعل لذلك، بما يعرض المسلمين كل يوم لمخاطر كثيرة. فتشعل الحرائق في مساجدهم، وتوجه إليهم التهديدات، ويتعرضون للأخطار وهم يسيرون إلى أعمالهم اليومية. جاءتنا الأخبار اليوم أنهم أمسكوا بسائقَين من سائقي سيارات الأخرة وضربوهما ضربا مبرحا، لأنهم ممن يؤيدون صدام حسين. هذه كلها من الجهل الذي لا صلة بينه وبين الإسلام . فتعاليم الإسلام عالمية، ولها سمات العالمية، وهي تعاليم غالبة بسبب قوتها الداخلية، ولا يمكن لأحد في العالم أن يهزمها، أو أن يقيم ضدها اعتراضا واحدا صحيحا.. لأنها قائمة على الحق.

فعند كل محنة وفي كل مناسبة، ينبغي على الجماعة الإسلامية الأحمدية دراسة ردود فعلهم العفوية بنظرة عميقة. كلما يثور اضطراب فيما حول الإنسان يضطرب أيضا قلبه وتتولد فيه الكراهية، وهذا هو الوقت الذي تختبر فيه نفسك لتعرف هل أنت في طريق الإسلام أم في طريق غيره؟ تتولد الحسرة والمرارة في القلب، سواء بسبب خلافات شخصية أو بسبب خلافات قومية، في معمعة هذه الإثارات يستطيع المؤمن أن يتعرف على عقيدته في مرآة قلبه، ويستطيع أن يرى صلته بالله Y. فعلى الجماعة الإسلامية الأحمدية في أنحاء العالم.. أن تبدو استجاباتهم بحيث لا يتردد الأحمدي الإنجليزي في أن يقول: هذه تعاليم الحق، ولا مجال لأن تتعارض أبدا مع ولائي لوطني.. ويشارك الأحمدي الأفريقي أيضا في الاستجابة قائلا: إنها التعاليم العالمية الحقة، ولا شك أنها لا تتعارض أبدا مع إخلاصي لوطني. وعلى الإجمال إذا كان كل بني البشر في الشرق والغرب يستطيعون الاتحاد على تعليم واحد فإنما هو تعليم الإسلام وحده، لأنه فوق القومية ولا يتعارض معها؛ فالحق لا يتعارض مع القومية. وإذا كان في القومية مفهوم خاطىء أمكن كشف هذا الخطأ في مرآة الحق. وعندما أقول إن تعاليم الإسلام لا تتعارض مع القومية ولا تتصادم معها.. فلا يعني ذلك أن مفهوم الوطنية في كل بلد لا يمكن أن يتصادم مع الإسلام. إن مفاهيم القومية في بعض البلاد تتصف بالالتواء، وتعريفهم للوطنية مختلف تماما. فمثلا في معظم بلاد العالم اليوم تغير مفهوم العدل، وتغير مفهوم الإخلاص. فتعني الوطنية عندهم أن تبقى مخلصا لوطنك سواء كان موقفك في جانب الصواب أم في جانب الخطأ، ولا يهم أن تكون غير مخلص مع القيم الإنسانية العليا، أو مع التعاليم الإلهية المتأصلة في فطرة الإنسان! إذا كان هذا تعريف الوطنية.. فلا شك أن الإسلام يتعارض معها؛ بمعنى أنه سوف يصحح هذه التعاليم مهما كانت التضحيات التي تبذل في سبيل ذلك. فما دام بنو الإنسان لم يستقيموا بحسب الفطرة ولم يتطهروا بعد، ولا تستجيب فطرتهم لله تعالى.. يمضي الإسلام في تصادمه مع هذه التعاليم الخاطئة. وهذا هو الصدام الذي سوف يسمع الإسلام بسببه صيحات التأييد في كل بلد.

في الظروف العالمية الراهنة يتلقى موقف الجماعة الإسلامية الأحمدية تأييدًا في كل مكان وترتفع الأصوات في حقه. منذ يومين أخبرني أحمدي من دولة كبرى أن معلقا مشهورا واسع التأثير علَّق حول الموقف الراهن كما لو أنه يقرأ خطبك، ويتبنَّى كل النقاط التي عرضتها. وسألني صاحب الرسالة قائلاً: أخبرني، هل اتصلت به أو هل اتصل به أحد الأحمديين؟ لقد وصلتني رسائل من أماكن أخرى، ليست رسالة واحدة بل عدد منها، حول هذا المعنى. وواضح أن هذا تقريظ لخطبتي، ولكني لست من الجهل بحيث أتقبل هذا الثناء، فهو لا يتعلق بي، وإنما يتعلق بالإسلام. كل الثناء لله Y، وللدين الذي أوحاه. وهذا شهادة على صدق وامتياز تعاليمه. ومع ذلك فهي فعلا معيار لي أختبر به الحقيقة. وكان هذا سببا لرضاي، بمعنى أن ثقتي تزداد في تعليقاتي التي سقتها حول هذا الموقف طبقا لتعاليم الله تعالى. ولولا ذلك ما أمكن أن تؤيد الفطرة الإنسانية تلك التعاليم هكذا .. بالكلمة المسموعة والمقروءة في مختلف البلاد .. وبصوت واحد.

فهو إذن وقت عصيب على المسلمين، وينبغي عليكم في أوقات الخطوب أن تحفظوا مشاعركم واستجاباتكم وأفكاركم، ولا تَدَعوها تفلت خارج دائرة الإسلام المُحبّة للسلام، لأنكم إذا خرجتم منها تعرضتم للأخطار.

هل هذه الحرب جهاد ؟

و عن مسألة الجهاد التي تُثار هذه الأيام.. سألني عدد من الإخوة الأحمديين: ماذا نجيب عن هذا الموضوع.. هل هذه الحرب جهاد طبقا لتعاليم الإسلام؟ سأجيب على هذا التساؤل في هذه الخطبة، لأنكم لا تستطيعون تبين كل التفاصيل من خلال المراسلات.

جاء أكمل التعاريف لمفهوم الجهاد الإسلامي في سورة الحج من القرآن الكريم، في الآية التي تلوتها عليكم مرارا، وبينت لكم تفسيرها، حيث يقول الله تبارك وتعالى:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40-41).

فالإذن الإلهي برفع السيف في وجه من يرفعون السيف ضد المؤمنين بغير وجه حق، وإنما ظلما وعدوانا واضطهادا. تُصوِّر هذه الآية مفهوم الجهاد بحيث لا يمكن تعريف الجهاد بأعظم أو أكمل منها، ولو طبقنا هذا التعريف لم يكن الموقف الحالي جهادا بالمفهوم الإسلامي، وإنما هو حرب سياسية. وكل حرب سياسية، سواء أكانت بين المسلمين وغير المسلمين، أو بين المسلمين أنفسهم.. لا تكون جهادا، ولما كان كل فريق يحسب نفسه محقا.. فإنه يشن الحرب باسم الله وفي سبيل الحق ويكون جهادا! ربما يكون هذا تعريفا ثانويا للجهاد، ولكن ما يسمى جهادا بحسب التسمية الإسلامية لا ينطبق على الموقف الراهن، لأنه تعريف يخالف المنطق الأساسي بأن من كان مِن الفريقين على الحق فحربه ستكون جهادا طبقا للتعريف القرآني. يتحارب الوثنيون ويتقاتل أتباع الديانات، ويتعارك البيض والسود.. وهناك أنواع شتى من الحروب تشتعل في العالم، ولسوف تشتعل في المستقبل، وكلما تحارب فريقان فمن الواضح أنه إذا لم يكن أحد الفريقين على الحق مائة بالمائة فإنه يكون على الحق بنسبة كبيرة، ولا يمكن، أو من النادر جدا، أن يكون الجانبان متساويين في اللوم أو في الحق، وعلى العموم يكون أحد الفريقين ظالما والثاني مظلوم . وحرب كل مظلوم ليس جهادا.. وإنما حرب المظلومين الذين مُنعوا من إعلان إيمانهم بالله تعالى، والذين عوقبوا وأوذوا بسبب عقيدتهم الدينية. يبين القرآن الكريم أنهم لم يرتكبوا جريمة ما (إلا أن يقولوا ربنا الله). فإذا فُرض القتال لهذا السبب فقط، وابتدأ العدو القتال ورفع السيف.. ولم يكن المسلمون هم البادئون بالقتال، ولا تتعدى (جريمتهم) قول، (ربنا الله)، وإنكار كل الآلهة سوى الله تعالى.. فمثل هذه الحرب هي الجهاد.

فليس الجهاد هو الحرب في سبيل الحق، وإنما هو الحرب في سبيل الحق بالمعنى الذي أوضحته آنفا. وهذا لا ينطبق على الحرب بين العراق والبلاد الأخرى. لقد ضايقت الكويت العراق لسبب ما، ونتيجة لهذا الضيق والاعتقاد بأن هذا بلد صغير.. كان جزءا من بلدنا، بتره البريطانيون وفصلوه منا.. لذلك فعلنا ما هو من حقنا الأساسي، وتحت تأثير غرور قوتهم إلى حد ما قالوا: أي تناسب لهذا البلد الصغير أمامنا.. نحن الذين حاربنا إيران لثماني سنوات وتحديناها حتى إنها خشيت على نفسها الفناء منا. تغلغلنا في عمق أراضيها، ثم تراجعنا. ومالت كفة الميزان إلى من أكتسب مزيدا من الوزن، واستمر الصعود والهبوط.. قد يكون مثل هذا التفكير ما شجع العراق بأنهم قادرون على تحطيم هذه الدولة الصغيرة في لمح البصر، ولذلك قاموا باجتياحها. ما هي الأسباب التي حدت بالعراق ليحتل الكويت؟ وما هي الخلفية وراء ذلك؟ ومن هو في الواقع قائم على الحق؟ وهل هذه الطريقة لأخذ الحق شرعية أم لا؟ كل هذه تساؤلات كان لا بد من التفكير فيها. وكان على العالم الإسلامي أن يتفكروا سويا في هذه المسائل .

على أي حال.. ليس بوسعنا أن نطلق على هذه الحرب التي قامت بسبب الهجوم على الكويت اسمَ الجهاد، ولا أن نسمي جهادا أيضا تلك الحرب التي قامت كرد فعل لها ضد العراق. ولكن المسلمين يندفعون في جهالة لا لزوم لها، ويستخدمون المسميات الإسلامية استخداما خاطئا في ما لا يناسبها، وبذلك يسيئون إلى سمعة الإسلام. إن الإٍسلام يتعرض للسخرية والاستهزاء في كل أنحاء العالم، وتضحك منه الأمم، ولا يدرك ذلك هؤلاء المسلمون الغارقون في غبائهم!

الغرب هو المسئول:

ولكن لا بد لنا من التفكير.. لماذا لا ينفك القادة هكذا سادرين في خداع الجماهير، ويجعلونهم يقدمون تضحيات هائلة في حروب ليست من الجهاد في شيء وإن أسموها جهادا؟ هناك سبب عميق لهذه الظاهرة يجب أن نكشفه. إذا فهمنا هذا السر أمكننا فهم كيف أن أمم الغرب مسئولة إلى حد كبير عن هذا التطبيق الخاطئ للجهاد. ولو حللنا هذا الموقف تحليلا صحيحا لتبين لنا أن هؤلاء الذين يسخرون من الإسلام ويهزأون  به.. هم المسئولون مسئولية كبيرة عن هذا الاستعمال الخاطئ لمفهوم الجهاد.

السبب وراء ذلك أن لدى المسلمين منذ قرون عديدة انطباعا بأن الأمم الغربية لا تطيق رؤية ازدهارهم وتقدمهم. وهذا الانطباع مبهم فلا يستطيع كل واحدِ التعرف على كنهه حقًا. أحيانا تعتري المرء مخاوف لا يعرف كيف ولم نشأت، ولكنه يحس بالخوف. وفي أوقات يشعر المرء بالألم ولا يدري سببه. وفي أوقات تكون انطباعات المرء دفينة في أعماق فطرته، وتمتد دوافع هذه الانطباعات على مدى تاريخ طويل. أيا كانت طريقة تعاملات الغرب مع المسلمين خلال القرون الماضية.. فقد أكد تاريخ هذه التعاملات للمسلمين أن كراهية الغرب لهم مبنية على التفرقة الدينية. وسواء صرحوا باسم الإسلام أم كتموه فإنهم لا يطيقون تقدم الأمم المسلمة، فيتخذون دائما التدابير الكفيلة بتمزيق قوتهم وتقطيعها إربا إربا. هذا هو الانطباع العميق الذي يكمن في قلوب عامة المسلمين ممن قرأوا التاريخ أم لم يقرأوه. في الواقع تمتزج بعض انطباعات التاريخ في تفكير ومشاعر الإنسان كما يمتزج شيء بالماء. وإذا لم تر اليد الذي مزجته، فبوسعك التعرف على أثره إذا ذقت الماء. وهكذا فالمسلمون العاديون متيقنون في قرارة نفوسهم ثمرةً  لتجربة تاريخية طويلة.. أنه في أوقات الشدة تقف أمم الغرب ضدنا، وتقوم بكافة الأعمال التي تؤذي عالم الإسلام.

وفي النزاع الحالي، بل وقبله.. كان هذا الانطباع أشد ما يكون بسبب المعاملة الأمريكية. فيقع النصيب الأكبر من المسئولية في تقوية هذا الانطباع على عاتق أمريكا. وعلى سبيل المثال فإن النفوذ الأمريكي لعب الدور الاعظم في إقامة دولة إسرائيل في قلب المنطقة المسلمة.. هذا الشر الذي بدأ على يد البريطانيين كثمرة لأفكارهم. كلما تنشب الحروب فإنهم يعقدون اتفاقيات وتحالفات سرية مع بعض الناس. ولقد فعلوا ذلك مع اليهود، ووعدوهم أننا سوف نمنحكم أرضا في قلب بلاد العرب، ونقيم لكم عليها دولتكم الحرة، وهناك باسم مملكة داود تقيمون، وتمارسون نفوذكم على كل بلاد العرب، ومن ثم تسيطرون على العالم كله. ربما لم يكن الاتفاق بنص هذه الكلمات تماما.. ولكن عندما جرى الاتفاق كان هذا هو فحوى الرسالة التي تلقاها اليهود، وكان هذا حلمهم الذي تحقق بالفعل. ولقد حققوا هذا الحلم باسم الأمم المتحدة، ولعب الأمريكان الدور الأعظم في هذه العملية.

إن الشيء الذي لم يزل يدهشني حتى اليوم أنهم لِمَ لم يطرحوا بعد هذا التساؤل الأساسي: هل لمنظمة الأمم المتحدة الحق في خلق دولة جديدة في العالم؟ إن إنشاء الدول ميراث تاريخي يأتي إلينا بنفسه. وإن سلطة الأمم المتحدة محصورة في الأمم التي كانت قائمة وانضمت إليها برغبتها. لم يكن ثمة ميثاق اتخذته الأمم المتحدة بأن الانضمام أو عدم الانضمام إلى الأمم المتحدة يؤثر على أي بلد، أو بأن هذا المجتمع الدولي له الحق في خلق دولة ما، أو إن شاء فبوسعه تدمير دولة ما. فالحق الذي لم يمنحه للأمم المتحدة مارسته وخلقت دولة بغير حق. ولقد لعبت أمريكا أسوأ الأدوار وأشدها عدوانية في هذا الظلم.

هذه هي الذكريات التي لا يمكن لأي مسلم في الأرض أن ينساها. ومع أن العرب دأبوا لفترة طويلة على تسميتها (المشكلة العربية)، ولم يدخلوا معهم فيها سائر العالم الإسلامي، إلا أن المسلمين ضموا أنفسهم تلقائيا إلى هذه المشكلة.. لأنها ما برحت قائمة محفورة في قلوبهم.. أنها ليست عداوة للعرب.. وإنما هي عداوة للإسلام. لقد عبروا عن هذه العداوة مرة بعد أخرى، وفي مناسبات شتى. مثلا عندما كانت إسرائيل تطلق العنان لفظائعها ضد الفلسطينيين بما تقشعر لذكره الأبدان وتدمى القلوب.. عندما قتلوا النساء والأطفال والعجائز، حتى قضوا على أهل معسكر كامل فلم يتركوا فيه حيًّا يتنفس بما فيهم الأطفال الرضع.. لم يتحرك العالم، ولم تبد أمريكا اهتماما. بل كلما حاولت الأمم المتحدة إصدار قرار يشجب هذا العدوان كانت أمريكا تقف حائلا و سدا منيعا في سبيل ذلك. وهذا تاريخ حالك طويل.

والآن يطل هذا السؤال برأسه: هل تستحق الأمم المتحدة حقا هذا الاسم الذي تحمله، حيث يتمتع فيها خمس دول بحق تقرير مصير العالم.. أعني الدول التي تُسمى الأعضاء الدائمة التي لها حق الاعتراض على القرارات أو (حق الفيتو).. لو اتحدت كلمة العالم كله على رأي واحد.. فبوسع دولة واحدة منها أن تعترض فيرفض هذا الرأي؟ هذا هو الإجراء الذي يجعل دولة واحدة هي العالم كله!

الواقع أن قاعدة القرار الحالي للأمم المتحدة هو نفس الشيء الذي لا يزال ساريا نافذا. عندما أعلن الرئيس بوش مهددا: بأي سلطان يحارب العراق الرأي العالمي؟.. أدرك كل إنسان أن هذا الرأي العالمي ما هو إلا رأي أمريكا أو رأي الرئيس بوش نفسه. ثم إن في لهجة التهديد هذه غطرسة تولد النفور. عندما يلقي المسلم بنظره على علاقتهم باليهود وإسرائيل.. فلا مناص له من استنتاج أنه سواء أخطأ العراق أو لا.. فإن الإجراء الانتقامي الذي يتخذ الآن ضد العراق إنما هو لصالح إسرائيل فحسب. هناك أشياء لا تقال، ولكنها علامات ثابتة في القلوب بلا تحليل.. بسببها يعتقد المسلم العادي أن كل ما يجري إنما هو ثمرة العداء للإسلام. فإسرائيل لها الحق أن ترسل طائراتها عبر البلاد العربية وتهاجم المفاعل النووي العراقي وتدمره! مَن ذا الذي أصدر هذا القرار وأكد أن المفاعل النووي مؤسس لصنع القنابل،  وأنه لم يكن للاستخدام السلمي؟ أي منظمة أمم متحدة تلك التي فوضت إسرائيل وأعطتها سلطة اتخاذ القرار والقيام بتدمير المفاعل؟ عندما حدث هذا.. لم يعلن أحد عن حق العراق في القيام بما يشاء من أعمال انتقامية ضد إسرائيل! ولم يقل إن حق العراق في الانتقام قائم يومها أو اليوم أو غدا؟! هل قبلت الأمم المتحدة بهذا الحق للعراق؟ لو سمع أحد هذا الصوت فإني لم أسمعه. لو بلغ أحدا هذا الخبر فإنه لم يبلغني، بل لم تقع عليه عين مسلم!

وإذن تفكير العالم الإسلامي بأن أعمال العداء الراهنة قائمة أيضا على بغضاء عميقة للإسلام.. لتفكير له ما يبرره، وينهض على أساس من الحقائق. هذه الأعمال العدائية البينة والمظالم الواضحة معروفة لكل الدنيا. العيون تنظر ثم تنسى، ولكن الانطباعات تبقى.. وهي انطباعات حقيقية.

ثم العجيب أنه عندما يُهاجم العراق إسرائيل ببعض القذائف، فتتهدم بعض المباني السكنية.. يثير العالم ضجة هوجاء! ألا يذكرون الغارة الإسرائيلية على المفاعل العراقي؟ إنهم بذلك يضعون الأساس للفظائع والاعتداءات التي سوف يلدها المستقبل! هذه هي الأمور التي لا تزال تجرح مشاعر المسلمين في أعماقهم وتدميها، وعندما يعبرون عن أحاسيسهم تنبري لهم الأمم و تسأل: أعطُونا اليوم قراركم.. هل ستبقون على وفائكم للإسلام أم تخلصون لوطننا؟ أي عدل هذا؟! لأنه عند التعبير عن الحقائق.. يكون من الظلم الخطير طرح مسألة القومية. إذا كانت هذه الأمور حقائق صادقة.. فللمسلم كل الحق في التعبير عنها.

إن هذا الشيء البغيض الذي صار واضحا، سوف تتلوه أشياء بغيضة أخرى. إن أمريكا أجرت مباحثات سرية مع إسرائيل عندما بعثت إليها بشخصية هامة ممثلة لحكومتها المركزية. ومن بين أمور سرية أخرى، وستبقى في طي الكتمان لبعض الوقت، ولكنها سوف تنكشف للعالم عندما تأخذ دور التنفيذ.. أنهم منحوهم أكثر من ستة مليارات من الدولارات كي لا تقوم بعمل انتقامي ضد العراق، مع الاحتفاظ لها بحقها في أن تفعل ذلك فيما بعد! قالت لهم أمريكا: بعد أن نعاقب العراق بأيدينا يمكن لكم الانتقام من القليل الذي يتبقى لكم! كانت العادة في الأيام الغابرة أنه عندما يهلك الطاغية أو من حسبوه كذلك.. ويراد الانتقام والتشفي منه.. كانوا ينبشون قبره ويستخرجون جثته، ويعلقونها في المشنقة. واتفاق أمريكا مع إسرائيل لا يخرج في الواقع عن ذلك. قالوا: دعُونا أولا نَقُم لكم بهذه الخدمة. نقتل العراق، ثم نعطيكم الجثة لتمثِّلوا بها أو تفعلوا بها ما تشاؤون؟

والسؤال الآن: هل كل هذه الأفعال من العدالة؟ هل هي من الإنسانية؟

ثم هناك شيء آخر لا تراه الدنيا، فهم يمطرون العراق بأشد القنابل فتكا لتنزل على السكان المدنيين، ومعظم من تأثر بالقصف هم سكان غرب العراق. ولقد أمطروه بها بعد حادثة إرسال الصاروخ العراقي على إسرائيل. وإذا كانت واقعة إرسال الصاروخ ظلما من جانب العراق.. فلقد ارتكبوا ضد العراق مظالم أفدح وأشد ألف مرة. في مقابل كل بيت انهدم في إسرائيل سووا بالأرض ألف بيت عراقي، وفي مقابل كل إسرائيلي جريح جرحوا وقتلوا ألوف العراقيين. لقد روى القادمون من هناك أن روائح الجثث المتعفنة المحترقة في بعض المناطق تمنع الناس من المرور فيها، وكثيرا من المناطق خلا من السكان. هذا هو انتقام أمريكا تقوم به نيابة عن إسرائيل. وهذا بلا شك جانب من الاتفاق الذي لم تنكشف بعد كل تفاصيله.. ولكن البيان العملي والتطبيق الفعلي جعل الأمور واضح . ومع ذلك فهم لا يزالون يدعون بأنهم حملة لواء الإنسانية، وأنهم يتحدثون من منطلق أخلاقي سام! ويقولون لسائر العالم: الخزي للعراق، لأنهم لا يعرفون ما هي الإنسانية. يرمون الإسرائيليين الأبرياء العزل من السلاح! إن هذا لشيء مغرق في الخطأ!

إن الإسلام، بلا شك، لا يسمح بإلحاق الضرر بأي صورة كانت بالمواطنين المسالمين العزل من السلاح. إن دين سيدنا محمد لا يبيح ذلك أبدا. وكلما كان هناك جهاد بالسيف كانت تعاليمه الصريحة الجازمة للجيوش قبل تحركها ألا يقتلوا جماهير الناس، ولا يؤذوا النساء والمسنين والأطفال. هذه التعاليم الإسلامية الصحيحة معروفة من أقواله و سنته . ولذلك لا أقول إن ما فعله العراق صواب، ولكن أقول: وإن أخطأ العراق، فالقواعد والقوانين العالمية التي تزعمون أنكم حَمَلتُها العظام.. تقول باعتبار هذا ردا ثأريا من جانب العراق. فالمسلمون الذين يعيشون في إسرائيل يُضربون كل يوم، ويقتل العزل ويقذفون بالنار. إذا اتخذ العراق إجراء انتقاميا بالنيابة عنهم فلا تقولون بأنه ظلم وعدوان وحشي، وأنه استفزاز يعطي الحق لإسرائيل في الانتقام.. بل تعقدون معها اتفاقات سرية.. وتقولون لها: سوف نعطيكم الأموال، ونقوم ضدهم بأشد الفظائع كي ترضى خواطركم، ومن يكتب له الحياة من هؤلاء الأبرياء نسلمه لكم، فتدمرون ما يبقى منهم، أو تعلقون جثثهم انتقاما يشفي غليلكم!

كل هذه الأفعال شديدة التناقض مع القيم الأخلاقية التي يدّعون بها على دقات الطبول. هذه الأعمال تبطل كل الدعايات التي يقومون بها في كافة أرجاء العالم. يدعون بأن الرئيس صدام دكتاتور خطر.. وأننا نعاقبه لأنه يُكره رعاياه على العبودية.. نعاقبه لأنه يضطهد أهل بلده ويطلق عنان الطغيان عليهم. نحن ضد الرئيس صدام من أجل حريتهم ولسنا ضدهم. ولكنهم مع قولهم هذا يصبُّون نقمتهم على الشعب البريء الذي تقول تصريحاتهم بأن صدام يرتكب ضدهم الفظائع!.. فما هي جريمة النساء والأطفال البريئين.. الذين هم حسب تصريحاتكم مضطهدون من قبل، وباسم تحريرهم تشنون أنتم هذه الحرب الضروس!؟ أتعاقبونهم على جريمة ارتكبها صدام ضد إسرائيل، عقابًا هو أنكى من عقاب اليهود؟!

أي حق لكم في تلويث التعاليم المسيحية الطاهرة، وتلطيخ تاريخ النصرانية بالدماء فتكونوا في ذلك سواء مع تاريخ اليهود الدموي؟ إن كل هذه أعمال ظلم، وكلها تتناقض مع العدالة، وتتعارض مع التقوى.. وهي التي تفجر ردود فعل في قلوب المسلمين. إنهم مواطنون مسالمون في البلاد التي يعيشون فيها، ولكنهم عندما رفعوا الصوت عاليا ليحتجوا على المظالم، دون خروج على قانون أوطانهم، وصفتموهم بالخيانة واتخذتم ضدهم الإجراءات.. فأي نوع من العدالة هذا الذي تفعلون؟

لقد اتصل بي أحد الأحمديين هاتفيا وسألني: إنني ذاهب إلى مقابلة بالتلفزيون البريطاني B.B.C  ويسألونني: ما موقفكم، وما تعليقكم على الموقف الراهن؟ أخبِرْني عما يكون عليه جوابي. قلت له: قل لهم: إن تعليقي هو تماما كتعليق (توني بِن Tony Benn) إذا كان هذا الرجل ذو التفكير المنصف يرفع صوته بما هو في قلبي.. فما الداعي لتكرار نفس القول بلساني؟ لو أني قلته لرميتموني بالخيانة، ولكن إذا قاله (توني بن) فلن تكون بكم الشجاعة لاتهامه بالخيانة. كل ما يحدث إذَنْ يناقض العدالة ويخالف التقوى. ليس هناك قانون، ولا مبدأ، ولا موقف أخلاقي رفيع.. بل إنهم قد سقطوا إلى أسفل دركات الانحطاط الأخلاقي.. !

هذا هو الموقف الحق، القائم على التقوى.. ومع ذلك لا يحق لعالم دين مسلم أو حاكم مسلم أن يطلق على هذه الحروب اسم الجهاد الإسلامي. عندما يُدعى جماهير المسلمين باسم الجهاد.. فإنهم يلبون الداعي، لأنهم يعرفون في أعماق قلوبهم، وقد أثبت سلوك بلاد الغرب مرارا وتكرارا صدق ما يرون، أنه ليس وراء تلك الحروب إلا البغضاء للإسلام. ولذلك عندما يقتل أولئك الأبرياء.. فإني على يقين راسخ من أن الله الرحيم سوف يتعامل معهم بواسع رحمته، وأنهم وإن كان لا يمكن اعتبارهم من الشهداء على ضوء تعاليم الإسلام الصحيحة.. إلا أنهم قد ظلموا بيد أعداء الإسلام، فسوف يعاملهم الله تعالى برحمته وغفرانه. ولكني ما زلت أكرر: ليس من حق شيوخ الدين ولا الحكام المسلمين أن يسموا هذه الحروب السياسية جهادا إسلاميا.. حتى وإن كانت حروب المظلومين!

الواقع أن عداوتهم للإسلام أضحت بينة واضحة، ولا تزال تزداد وضوحا مهما أنكروا ذلك.. فصوت القلب يرتفع بطريق أو آخر ويترجم إلى كلمات. أما ممارستهم العملية فكما أسلفت.. إن الصور البغيضة المطلية بالدماء وبفرشاة الكراهية للإسلام تكثر يوما بعد يوم، ولا تفتأ ملامحها تزداد وضوحًا أمام العالم. ونتيجةً لذلك، فمهما يحدث، لن يوطد السلام في المنطقة. لأنه لم يفلح أحد بعد في تبديل المبدأ الأساسي بأن الكراهية لا تنجب إلا البغضاء. إنهم يجلسون من الآن ليدبروا الخطط كيف يوطدون السلام في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب، ولكن هذه أمور غير واقعية.. ومن أحلام الجاهلين! إذا بذرت بذور الكراهية إلى هذا العمق فلن تنبت إلا الكراهية، وحيثما نثرت بذور الحرب فلن تثمر سوى الحرب، لأنه من المستحيل أن يحصدوا السلام من الحروب. إذا لم يكن اليوم فسيرون غدا أن الخطوات التي يتخذونها اليوم سوف يخربون بها السلام في العالم إلى الأبد. وأيا كان المجرمون الجانون فلسوف ينزل بهم عقابه، لأن الإنسان لا حول له ولا قوة.

إن الجماعة الإسلامية الأحمدية لا تعبر مطلقا عن رأي وليد التعصب، بل لا يمكن ذلك، لأن التوحيد قوّم قلوبنا على الاستقامة، فلم يُبق بها أثرا للاعوجاج. إن إيماننا ووفاءنا مع التوحيد، ومن استقر توحيد الله تعالى وتوطد في قلبه من المحال أن يجد التعصب إليه سبيلاً. فهذا ضدان لا يجتمعان في القلب أبدا. إن توحيد الله قوة توحد العالم كله. ولن يدخل الهوى فيمن عمر قلبه بالتوحيد. فهذا قانون جوهري لا يتبدل.. ولهذا السبب.. أُعلن باسم الجماعة الإسلامية الأحمدية، أنه مهما كان في تعليقاتنا من مرارة ظاهرية.. فإنها مبنية على الحق. وإذا لم يكن اليوم فغدًا سوف تؤيدنا الدنيا، وتقول لنا: نعم، لقد رفعتم صوت الحق، ولم يكن بكم أثر من التعصب والهوى.

ثمة أشياء أخرى تثقل على قلوب المسلمين وتقلقهم أشد القلق.. ذلك هو مسلكهم المتعجرف، ولهجتهم المتعالية، وخصوصا عندما يتحدث رئيس أمريكا عن العراق أو الدول الأخرى التي لا تتعاون معهم، فإنه يبدو في حديثه كما لو أن إلها نزل إلى الأرض يتحدث. ومن كان مؤمنا بتوحيد الله تعالى لا يمكن أن يحني رأسه أمام هذا الكبر البغيض. هناك أنواع شتى من الشرك والوثنية، ولكن الكبر والغطرسة هي أشدها مقتا. ولذلك فمن أول واجبات المؤمن بوحدانية الله تعالى أن يرفع صوته ضد الكبر والغطرسة. وإن الجماعة الإسلامية الأحمدية هي في المرتبة الأولى من الموحدين، بل الأحرى أن نقول بأنهم حملة لواء التوحيد اليوم. ولذلك سنرفع صوتنا ضد كل أنواع الوثنية، وسنرفع صوتنا ضد كل أشكال الكبر. ليس هناك خوف من أهل الدنيا يستطيع خنق هذا الصوت، لأن كل تلك الآلهة الباطلة التي تحاول السيطرة على مقدرات العالم.. لا يمكن لمؤمن موحدٍ أن يحني الرأس لها ويبقى موحدا بالله في ذات الوقت.

عندما أسوق هذه التعليقات.. يكتب إليَّ بعض الأحمديين: إننا نشعر عليك بقلق عميق، لماذا تقوم بمثل هذه التعليقات؟

دَعُوني أذكرّهم بأني أقولها، لأن سيدي ومولاي محمدًا المصطفى كان يقول بمثلها. عندما رفع صوته الكريم مناديا وشاهدا على وحدانية الله تعالى، عارضه العالم كله، ناهيك من أهل مكة. لقد توسلوا إليه، ثم حذروه.. لماذا تعرض حياتك للخطر؟ ألا تدري كم من القوى تتجمع ضدك وتنذرك؟ ولكنه أجابهم دائما بنفس الجواب: إنني مستعد لكل تضحية في سبيل توحيد الله تعالى. فهذا هو هدف حياتي، وهذا هو روح رسالتي، وهذا هو جوهر ديني. يمكنكم أن تحولوا بيني وبين كل شيء آخر، ولكنكم لن تستطيعوا منعي عن التوحيد، وتبليغ رسالة التوحيد. ما هذا الذي تقولون؟! (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري.. على أن أترك هذا ما تركته حتى يظهره الله أو أهلَكَ دونه)

فمِمَ تخافون عليًّ؟ أمِنْ سلطان أمريكا أو مكر اليهود، أو قوة البريطانيين أو بأس القوات المتحالفة؟ إذا كان رفع صوتي بالتوحيد يجعلهم يمزقونني إربا إربا، فو الله الذي لا إله إلا هو.. إن كل ذرة من جسدي سوف تصرخ: فزتُ ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة. وهذا هو الصوت الذي يجب أن ينطلق اليوم من قلوب الأحمديين كافة ومن كل ذرة في كيانهم في شتى أنحاء الأرض.

ما هي برامجهم؟ وما هي القوى التي يعتمدون عليها؟ هم يتحدثون عن (عاصفة الصحراء). ألا يعلم هؤلاء أن أمر العواصف بيد الله تعالى؟ أنا لا أعرف كيف يكون قضاء الله تعالى.. ولكني أعرف حقا أن قضاء الله Y سوف يدمر المتكبرين في النهاية. إذا لم يكن اليوم فغدا يكون دمار الكبر والغطرسة، لأن مملكة الله في السماء.. ومملكته أيضا في الأرض، ولسوف تتوطد فيها. اليوم أو غدا أو بعد غد.. سوف تزول مملكة الكبر من الدنيا، وعليهم تنقلب العواصف المهلكة، فتقضي على قواها المتجمعة، ويتحطم هذا النظام القديم.

تذكروا دائما، واثبتوا دائما على هذا، فلا تنسوا أبدا.. أن هذه التي تسمى اليوم (الأمم المتحدة) لا يستحق أسلوبها البقاء. ستصبح هذه الأمم المتحدة ذكرى وعبرة ودرسا من دروس الغضب الإلهي. وعلى أنقاضها سوف تشيدون.. أنتم، أنتم يا عباد الله وخدام وحدانيته.. ستشيدون البناء الجديد. أنتم الذين سوف تقيمون الصروح الرائعة الشامخة للأمم المتحدة الجديدة، تلك الصروح العالية التي تلمس السماء.

يا خدام المسيح المحمدي! يا من كُلَّفتم بهذه المهمة الغالية.. سوف ترون هذا اليوم أو غدا.. أنتم أو جيلكم القادم، أو الجيل الذي بعده سوف يشهدونه. هذه كلمات الله تعالى وهذه كتابات قدرها التي لا يمكن لأحد محوها. أنتم العمال الذين عليهم بناء تلك الصروح. لقد وُضعت في السماء الأسس لتلك الأمم المتحدة الجديدة، وعليكم أنتم رفع البناء. فلا تنسوا أبدا هذين العاملين الكريمين، ولا تمحوا اسميهما من قلوبكم.. إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.. وذكِّروا بهما أبناءكم وأحفادكم وكل أجيالكم، بأن يا أيها العاملون في سبيل الله.. بذات التقوى والصدق والإخلاص والارتباط بتوحيد الله، حتى يسري توحيده في كل عرق منكم، وتغمر كل ذرة في أجسادكم.. سوف تمضون في هذا العمل البنائي العظيم، وسوف تتمونه في القرن القادم وفي القرن الذي يليه، حتى يصل البناء إلى كماله، إن شرف اكتمال هذا البناء.. الذي وضع أساسه سيدنا إبراهيم وشاركه العمل فيه ابنه سيدنا اسماعيل عليهما السلام. قدر الله تعالى أن يكون لسيدنا ومولانا محمد المصطفى . لا يقدر مخلوق على تبديل هذا التقدير. إنما نحن عمّال وأبسط الخدام المتواضعين لسيدنا محمد . فلا تبرحوا أن تكونوا أوفياء، ولا تملوا من تذكير أبنائكم وذراريكم.. كي يَدأبوا على العمل كالعمال في سبيل الله تعالى، ويُواظبوا على بذل الدم وبذل العرق، ولا يَكلوا أبدا، ولا يَنصرفوا عن العمل حتى يحقق قدر الله تعالى وعده (ليُظهره على الدين كله). فيفوز الدين الذي أرسل به سيدنا محمد المصطفى على الدين كله، ويكون هناك لواء واحد هو لواء محمد المصطفى ، ودين واحد هو دين الله تعالى، ومملكة واحدة هي مملكة الله الواحد الأحد.. تتوطد أركانها في هذه الدنيا.

اللهم قدِّر لنا أن نرى هذا بأم أعيننا! وإلا فليشهده، يا ربنا، أولادنا، وليذكرونا. أو إذا شئت، يارب، فليكن لأحفادنا أن يشهدوه بعيونهم! ولكني أؤكد لكم أنه سواء شهدتموه بعيون رؤوسكم أم لا.. فإن عيون روحي ترى هذه الأحداث. إنها ترى تلك التغيرات العظيمة كما لو أنها تقع أمامي اليوم. وبعد أن نموت.. ستكون أرواحنا مطلعة عليها، وسوف تبلغها الأنباء.. أن يا عباد الله الذين تحبون الله حبا جمًّا، هنيئا لكم جنة المأوى وسلام لا ينقطع. فإن السبل التي ضحيتم من أجلها صارت طرقا رئيسية واسعة، وإن البنايات التي وضعتم لبناتها وأحجارها وحصبائها.. قد بلغت تمامها، وصارت صروحا رائعة لتوحيد الله تعالى. لسوف يتم ذلك، إن شاء الله تعالى!

اهتموا وركَّزوا على الدعاء، فروح قوتنا هي الدعاء. وما من ثورة روحية تقع في العالم إلا بالدعاء وحده.

اللهم قدِّر لنا أن نقوم بأكثر ما يمكن في هذا السبيل! اللهم آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك