كفن السيد المسيح الرحلة من القدس إلى تورينو

كفن السيد المسيح الرحلة من القدس إلى تورينو

  • هل من شواهد مادية ملموسة على وجود ذلك الكفن؟!
  • إذا كان أول وجود لكفن المسيح في القدس، فما قصة ظهوره في تورينو؟!

 ___

 

تقديم للمقال

في كلمته في ندوة عُقدت خصيصا حول كفن السيد المسيح، قال “برونو بربيريس” الرئيس السابق للجنة العلمية للمركز الدولي لعلم الآثار في تورينو، إيطاليا ونائب رئيس جمعية الكفن المقدس بها: «هذه لحظة تاريخية؛ نعيش الآن في عصر لا يميل فيه الناس إلى الدين، فمن واجبنا إذن أن نقنعهم بأهمية هذه القطعة المقدسة وقيمتها»(1). و”برونو باربيريس” هو الباحث الذي يرجع إليه الفضل في تطوير أكبر شبكة من المراكز البحثية حول الكفن والمتاحف المتنقلة لعرضه وكذلك أرشيف الكفن المقدس، وقد سنحت «لبرونو» فرصة تنظيم الندوات الدولية ونشر الكتب وتعزيز الأبحاث حول قضية الكفن المقدس. وبدأ “بربيريس” رحلة البحث العلمي في الكفن من عام 1975م، وفي عام 1977، أصبح عضوًا في جمعية أخوية الكفن المقدس بالإضافة إلى المركز الدولي لعلم الآثار في «تورينو»، بإيطاليا. وهو عضو في اللجنة العلمية لحماية الكفن منذ عام 1991. قام بتأليف 20 كتابًا وأكثر من 150 بحثًا حول الكفن، تم نشره في المجلات المحلية الإيطالية والدولية. وقد تم تداول خبرته في المحافل العلمية للكفن في جميع المجالات، وقد ألقى أكثر من 2900 محاضرة حول الكفن دوليًا(2)، منها ما استضافته الجماعة الإسلامية الأحمدية بشكل رسمي عام 2010م في إطار الاحتفال بالجلسة السنوية ـ0102 للجماعة في المملكة المتحدة. (إعداد: قسم المتابعة بالتقوى)


البداية نحو عام 33م

من أكثر الشخصيات المقدسة إثارة للجدل بعد رحيله، السيد المسيح الناصري ، وقد انقضى على ذلك الرحيل نحو ألفيتين، وما زال الجدل دائرا والنقاشات حامية الوطيس بين وجهتي نظر المؤمنين بالسيد المسيح، ناهيك عن وجهة نظر ثالثة تبدو بعيدة عن التقديس، والتي تسلك مسلكا تاريخيا ماديا وحسب. وعلى أية حال فإن قضية رحيل المسيح الناصري من صنف تلك القضايا التي شكلت لغزا محيرا في حينها، وإلى الآن لدى طائفة كبيرة من الناس. وكان البحث في تلك القضية منحصرا بشكل ما في دائرتي المجال العقائدي والتاريخي فيما مضى، إلى أن ظهر على مسرح البحث ما قيل أنه هو كفن السيد المسيح، والذي بات يعرف في المحافل الكنسية والعلمية بـ «كفن تورين»، من هنا بدأ البحث في قضية رحيل السيد المسيح يدخل شيئا فشيئا مجال العلم التجريبي.

إن أول ظهور تاريخي لكفن السيد المسيح كان في اللحظة استعمل فيها لهذا الغرض المحدد، أي تكفين جسد السيد المسيح بعدما شوهد وقد أسلم الروح جراء الصلب، بحسب الروايات الإنجيلية، ومنها رواية إنجيل يوحنا التي تقول:

«ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَلكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، سَأَلَ بِيلاَطُسَ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ، فَأَذِنَ بِيلاَطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ يَسُوعَ. وَجَاءَ أَيْضًا نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَنًا. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ، كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا. وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ، وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيبًا. (3)

إلى تلك اللحظة كانت الأمور تجري بشكل اعتيادي كما هو متوقع في مثل هذا الظرف المأساوي، حيث يخيم الحزن على قلوب الأتباع المخلصين، ثم حدث أن وقع الأمر الذي أخذ الكفن معه يكتسب وجودا مستقلا عن الجسد المُكفَّن فيه، حين رأى التلاميذ القبر خاليا والكفن منزوعا، بينما الجسد غير موجود، فيتابع إنجيل يوحنا روايته للحادث فيقول:

«وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِرًا، وَالظَّلاَمُ بَاق. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعًا عَنِ الْقَبْرِ. فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا:«أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!». فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. وَكَانَ الاثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعًا. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعًا مَعَ الأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفًا فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضًا التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ. (4)

بطبيعة الحال كانت السرِّية تكتنف الأحداث، وليس سوى الخاصة من الأتباع المخلصين على علم بما يجري، هنا وجدت روايات العوام طريقها إلى الظهور والانتشار، ويبدو أنها لاقت آذانا مصغية، فمن تلك اللحظة على وجه التحديد ألقيت في الأرض بذرة فكرة قيامة المسيح الناصري من الأموات، وهي الفكرة الرائجة لدى أغلب المسيحيين المعاصرين اليوم بشتى مذاهبهم.

على أية حال فليست مناقشة فكرة قيامة المسيح الناصري شاغلنا الشاغل حاليا، إنما محور الحديث مرتكز الآن على الكفن الذي وجده تلميذا السيد المسيح ملقى وحده في القبر دون الجسد.

رحلة الكفن من أورشليم إلى تورينو

بالعودة إلى قماش الكفن، فلا شك أن تلاميذ السيد المسيح من الطبيعي أن يحتفظوا بتلك القطعة من القماش التي لامست جسد سيدهم وتخضبت بدمه المُطهَّر، ولو على سبيل التذكار أو التبرُّك، الأمر الذي يفسر كون كفن تورينو هو أحد القطع الأثرية الأكثر شهرة وقداسة في الإيمان المسيحي، أو لدى المقتنعين بقصته على الأقل. كما أن هذه القطعة من القماش التي بأبعاد 4.42 م طولا × 1.13 م عرضا، تعد واحدة من أكثر التذكارات إثارة للجدل والارتباك. إن أول ما يتبادر إلى الذهن حال التفكير في نسبة هذا الكفن للسيد المسيح هو كيف انتقل هذا الكفن من موطنه الأصلي في أورشليم القدس حتى استقر به المقام في الكنيسة الملكية بتورين بإيطاليا؟!

كان أول ظهور عام للكفن ففي Lirey ، فرنسا حيث أقيمت معارض الكفن. كانت تفاصيل صحة الكفن موضع تساؤل، لذلك توقفت المعارض. تم إخفاءه لمدة 34 عامًا. ثم قامت برحلتها من Lirey ، فرنسا لتصبح ملكًا لدوق Savoy في النمسا، ثم انتقلوا بدورهم إلى شامبيري، إنجلترا حتى عام 1578. وهناك نجت من حريق كبير. يقال أنه ربما تم استهلاكه في النار، ومع ذلك، نكتشف لاحقًا أن الكفن تم نقله إلى تورينو بإيطاليا. هذا هو المكان الذي يوجد فيه الآن، وحيث نجى أيضًا من حريق في عام 1997. ولأسباب واضحة ، يُشار إلى القماش الآن باسم ” كفن تورين”.

شكل المصدر الأصلي للقطعة القماشية المقدسة حالة من الغموض منذ أن تم الاعتراف بوجودها لأول مرة عام 1354. يبدو أنه ظهر في فرنسا خلال العصور الوسطى، ينتمي إلى Knight Geoffroi de Charnay وورثته، قبل أن يتم تقديمه في النهاية إلى البيت الملكي في سافوي عام 1453. منذ عام 1578 ، شكل الجزء الأكثر أهمية من مجموعة القطع الأثرية المقدسة الموجودة في الكنيسة الملكية بكاتدرائية سان جيوفاني باتيستا في تورينو.

في أبريل من عام 1349م كانت حرب المائة عام مستعرة بين فرنسا وإنكلترا، وقد بلغت في ذلك التاريخ عامها الحادي عشر، وكان الطاعون قد انتهى لتوه من صولته المدمرة في أرجاء أوروبا، عندما كتب الفارس الفرنسي جيفري دي شارني إلى البابا كليمنت السادس، معربا عن نيته بناء كنيسة القديسة مريم في ليري بفرنسا، على شرف الثالوث الأقدس الذي استجاب دعواته ويسَّر له هروبا إعجازيا من سجن الإنكليز، كما أنه يمتلك بالفعل الكفن، الذي يعتقد البعض أنه حصل عليه في القسطنطينية (إسطنبول)، ويمكن ببساطة تفسير انتقال الكفن من بيت المقدس إلى القسطنطينية بُعيد الفتح الإسلامي أو خلال الحروب الصليبية، حيث كانت الأخيرة على وجه التحديد مصدر اضطراب للمنطقة، بحيث وُجِد أن من الأنسب نقل الكفن إلى إحدى الحواضر المسيحية في ذلك الوقت، فكانت القسطنطينية الحاضرة الأقرب..

ألبوم صور الكفن

بدأ الجدل حول الكفن في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت شرارة ذلك الجدل صورة التقطها المصور الإيطالي الهاوي سيكوندو بيا، في إطار الاحتفال بالمئوية الرابعة لكاتدرائية تورينو، وتم تنظيم معرض في المدينة لعرض مقتنيات الكاتدرائية التذكارية، والتي كان الكفن من بينها، غير أنه لم يكن قد اكتسب تلك القيمة والشهرة بعد. وكان «بيا» قد مُنِح إذنا بتصوير تلك المقتنيات، وفي مايو 1898، وخصصت له مساحة للتصوير وغرفة مظلمة لتحميض الصور داخل الكاتدرائية، استعمل المصابيح الكهربائية القوية، للحصول على أوضح صورة. وعند التقاط أولى الصور للكفن، دهش بيا لرؤية صورة على الكفن لم تكن مرئية للعين المجردة وبالتالي في الصورة الإيجابية، وإنما في الصورة السلبية ذات اللونين الأبيض والأسود (النيجاتيف)، كانت صورة لوجه اُعتُقد أنه وجه السيد المسيح، والتي ظلت حتى ذلك الحين غير مكتشفة. أدى الكشف عن الوجه المخفي إلى تضخيم الغموض المحيط بالكفن على الفور، والذي لم يتمكن أحد من إماطة اللثام عنه حتى الآن، وفي البداية اتهم «بيا» بتلفيق الصورة، وعاد الكفن بسرعة إلى القبو في الكنيسة الملكية، مخافة إحداث بلبلة بين الخواص والعوام على حد سواء.

لقد التقط «بيا» صورته الفوتوغرافية الأولى للكفن عام 1898 بكاميرات بدائية بطبيعة الحال، ومن خلف لوح زجاجي، المثير للدهشة أن الصورة السلبية (النيجاتيف) ظهر أكثر وضوحا، وكان وضوحها ذاك من أهم عوامل إحداث تلك الضجة الإعلامية التي ما زالت مستمرة إلى وقتنا هذا. بعد الالتقاطة الأولى بثلاثة عقود قام المصور «أندي» بالتقاط اثنتي عشرة صورة للكفن بكاميرات أحدث عام 1931م، وجاءت الصور الاثنتا عشرة أكثر دقة ووضوحا، وكان الكفن غير مغطى بالزجاج. تبعت صور أندي محاولة ثالثة عام 1969 قام بها كل من د/ جوديكا – كوديجيليا فى حضور مجموعة من العلماء اشتركوا فى عمل الأبحاث الخاصة بالكفن.

الهوامش

1. برونو بربريس، في كلمته عن «كفن تورين» بمعرض مجلة مقارنة الأديان الناطقة بالانجيليزية بحديقة المهدي بلندن عام 2010م

2. (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 19 : 38-42)

3. (إِنْجِيلُ يُوحَنَّا 20 : 2-8)

4. تشكلت الصورة المزدوجة على كفن السيد المسيح بـ”تورينو” من أشعة الشمس التي انعكست على جسد يسوع المدهون بمرهم تضميد الجروح المعروف “بمرهم عيسى” وتم ختمها على الفور على القماش الرطب (الكفن) الذي كان ملفوفًا بعيسى المسيح عليه السلام.

Share via
تابعونا على الفايس بوك