رحلة النبي ﷺ إلى الطائف.. من أجلك أنت يا عداس!

رحلة النبي ﷺ إلى الطائف.. من أجلك أنت يا عداس!

د. منى محمد

  • من هو عداس النينوي؟
  • وماذا فعل عداسٌ ليستحق عناء رحلة النبي (ص) سيرا على قدميه الشريفتين إلى الطائف؟!
  • وما موقف عداس من الهجرة النبوية المباركة؟

____

ما أعجَبَ صروف القدر! تلك التي تسوق الهدايةَ أو العلم أو الرزق إلى رجل مِن دون الناس أجمعين، تتعرَّض له في أبهى وأجمل صورة، فلا يمضي غيرُ قليل من الزمن حتى يكون من أهلها، والمتمتِّعين بها.

بينما يُحرَم منها آخرون، فلا يزدادون منها مع مرور الأوقات إلا بُعدًا.

كان النبي في أهل مكة، وُلد بينهم وشهِدوا صباه وشبابه، فما عرَفوا منه إلا خيرًا، وما جرَّبوا عليه إلا كلَّ جميل، فلمَّا نُبِّئ من الله تعالى، ودعاهم إلى ما نُبئ به يرجو لهم النجاة والخلاص والخير بكلِّ إخلاص، رفضوا دعوته، بل وعادَوه كأشد ما يكون العداء!

وحين فكَّر في دعوة الناس من أهل القرى والقبائل حول مكة، لعله يجد تربة خصبة تقبل البذر الإلهي فتنبت وتثمر، اختار الطائف؛ لعلها تكون المكان الذي يُسمَع فيه صوت الحق، ويعينه أبناؤه على أعدائه.

لماذا الطائف؟

لا مجال للشك أبدا في أن قرار الرحلة التبليغية إلى الطائف لم يكن عشوائيًّا، فكل حركة قام بها النبي كانت بتدبير من العليم الخبير، والطائف أعظمُ قرية في بلاد العرب بعد مكة من حيث المساحة والسكان، والتجارة، والمكانة الدينية والقبلية، إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة.

كان خروج النبي للدعوةِ في الطائف إذن خروجًا هادفًا إلى قريب من أهداف الدعوة في مكة، لكن أهل الطائف قابَلوا دعوته بسخرية وتهكُّم وعناد، بل زادوا في الاعتداء النفسي والبدني عليه بما لم يفعل أهلُ مكة إطلاقًا.

وحرَمَت أفعال أهل الطائف أصحابها من الهداية كما حرَمت منها أهل مكة من قبل!

وعاد النبي يشقُّ طريق العودة شقًّا، ويحمل كربه وهمومه من جرَّاء أثقال الاعتداء الذي جرى عليه في الطائف، وخشية الاعتداء الذي ينتظره في مكة حين يعلم أهلُها بما حدث له مع ثَقِيف.

والمسافة بين مكة والطائف تختلف باختلاف الطرق، والسابقون يقدرون المسافة بينهما بستين ميلا، قال الإدريسي في نزهة المشتاق: وفي شرقي مكة الطائف وبينهما ستون ميلا.. والميل يساوي 1848 مترا، وعلى هذا، فتكون المسافة بين مكة والطائف 110 كيلو مترا تقريبا. زِدْ على ذلك الوعورة الطبيعية للطرق قبل 14 قرنا، حيث لم تكن الطرق حينها معبدة، وأقدام السائر تغوص في الرمال التي لا يقوى على السير فيها سوى الجمال. ونعلم أن النبي لم تكن معه في ذلك اليوم راحلة.

أما الآن فقد شُق طريق مختصر بين مكة والطائف، يبلغ طوله ستة وثمانين كيلومترا، وبإمكان السيارة المسرعة قطعه خلال ساعة.

 

أنى يُغني النسب؟!

جميعنا يعلم أن «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.»(1) ولو كان لنسب المرء دور في هدايته لما هلك ولد نوح  ولما كان من المغرقين، فحتى بعد أن سأل نوح ربه سبحانه وتعالى النجاة لهذا الولد جاءه الرد الإلهي: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (2). وفي هذا المقال نموذج لمن لم تنفعهم الأنساب ولا الأحساب المادية، مقابل نموذج لم يكن له سوى النسب الروحاني، فتشبث به، فنجا وفاز!

يبدو أن الهداية لم تُصِب أهلَ الطائف، إلا أنه بحلول النبي ضيفا عليها، كان أحد سكان تلك القرية على موعد مع السعادة..

كان أن لجأ النبي إلى بستان لأخوين من أهل ثقيف، هما عُتْبة بن ربيعة وشَيْبة بن ربيعة، فلما دخله ‏النبي ، عمَد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه،‏‏ وكان ابنا ربيعةَ ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فتحرَّكت له رحمُهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا، يقال له: عدَّاس، فقالا له‏‏:‏‏ خُذْ قطفًا من هذا العنب، فضَعْه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقُلْ له يأكل منه‏‏.‏‏ ففعل عداس، ثم أقبَلَ به حتى وضعه بين يدَي رسول الله ، ثم قال له‏‏:‏‏ كُلْ، فلما وضع رسول الله فيه يده، قال‏‏:‏‏ «بسم الله»، ثم أكل(3)، فلما سمع البسملة، نظر عدَّاسٌ في وجه النبي، ثمَّ قال: «والله إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!». فسأله النبي ‏‏:‏‏ «ومِن أهل أيِّ البلاد أنت يا عداس، وما دينك‏‏؟»،‏‏ فأجاب قائلا‏‏:‏‏ نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوَى؛ فقال رسول الله ‏‏:‏‏ «مِن قرية الرجل الصالح يُونُس بن متَّى؟»، فقال له عداس‏‏:‏‏ وما يُدريك ما يونس بن متى‏‏؟‏‏ فقال رسول الله ‏‏:‏ «ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي»(4)، فأكَبَّ عدَّاس على رسول الله يُقبِّل رأسه ويدَيْه وقدمَيْه‏‏، وقال للنبي : أشهدُ أنك عبد الله ورسوله.(5)

لقد أتى الهدى إلى عداسٍ حيث هو في مكانه، لم يَسْعَ إليه، وكأن النبي قد أُلجئ إلى هذا البستان دون غيره حتى يُسلِم عدَّاس، حين أبى جميعُ الناس! ذلك على الرغم من أنه لم يسمع من النبي سوى بضع كلمات فقط حتى أكب على قدميه تقبيلا، وشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فكأنه بدوره كان ينتظر قدوم النبي إليه في الطائف!

إننا لا نعرف مِن نسب عدَّاس إلا اسمه هذا، وغاية ما نقول: «عداس النِّينَوي»، فننسبه إلى بلده التي انتسب إليها بين يدي رسول الله ، ولو شئنا لذكرنا لابني ربيعة هذين من نسبهما عشرة أسماء وعشرين، فهل ضرَّه أو نفَعَهما؟ فالحمد لله الذي جعل النسب عنده بالتقوى، وإن أبى الناس إلا قول: فلان بن فلان، فلو كانت العبرة بالنسب، لأفلح ابنا ربيعة صاحبا البستان! وتصمُتُ الروايةُ الإسلامية عن ذكر عداس من وقت هذا الحدث، ثم تعود إلى ذكرِه بعده بنحو من أربع سنوات، لما كانت غزوة بدر.

«مِن قرية الرجل الصالح يُونُس بن متَّى؟»، فقال له عداس‏‏:‏‏ وما يُدريك ما يونس بن متى‏‏؟‏‏ فقال رسول الله ‏‏:‏ «ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي»(4)، فأكَبَّ عدَّاس على رسول الله يُقبِّل رأسه ويدَيْه وقدمَيْه‏‏، وقال للنبي : أشهدُ أنك عبد الله ورسوله

ماذا فعل عداسٌ ليستحق؟!

لكأنما كانت خطواته من بلاد الرافدينِ إلى جزيرة العرب كافية لئلا يخطو خطوة بعدها، وأن يسعى الهدى بنفسه إليه، أو لعله رضي الله عنه سعى إلى الهُدى من أرض العراق إلى الجزيرة، وتقابَلَا في هذا الوقت وفي هذا المكان! فقد ذكر غير واحد من أهل السِّير ما يستأنس منه إلى أن عداسًا كان على علمٍ بالكتاب الأول، وأنه كان ينتظر ظهور النبي الخاتم ، كما كان يفعل وَرَقة بن نوفل، وقُسُّ بن ساعدة الإيادي، وإخوانُهما من الحنفاء.

 خديجة (رضي الله عنها) تحدث عداسا

يذكر بعض أهل السِّير أن السيدة خديجة استشارت عدَّاسًا في أمر المَلَك الذي رآه النبي في غار حراء أول مرة، أتاه ففزِع، كما استشارت ورقة، وأن عداسًا قال لها: إن جبرائيل رسولُ الله وأمينه إلى الرسل، وفي بعض الروايات أنه قال: هو أمين الله بينه وبين النبيِّين، وصاحب موسى وعيسى.(6)

وعدَّاس – قبل ذلك -‏ عبدٌ أو خادم في البستان، وبإذن سيِّدَيْه جاء بقطفِ العنب فوضعه بين يدي رسول الله ، وكان سيِّداه هذان يرقبانه من بعيد ذهابًا وإيابًا، ويريان ما يفعل مع النبي ، وبينما كان النبي وعداس يتحاوَران، كان حديث من نوع آخر يدور بين هذين السيِّدين، يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه‏‏:‏‏ أما غلامك، فقد أفسَده عليك‏‏.‏‏

موقف عداس من الهجرة

هل هاجر عداسٌ مع النبي إلى المدينة؟ أو منعه الرقُّ من الهجرة؟! لعل الأقرب إلى الصواب هو الثاني، فقد ذكر الواقدي في قصة بدر عن حكيم بن حزام أن عداسًا كان جالسًا على الثنية البيضاء والناس يمرُّون عليها، فلما رأى شيبة وعتبة ابني ربيعة خرَجا إلى ساحة الحرب، وثب فأخذ بأرجلهما يقول: بأبي وأمي أنتما، والله إنه لرسولُ الله، وما تُساقان إلا إلى مصارعكما.(7) لقد كان به أملٌ أن يصدِّق سيِّداه بالنبي ، ولم يُخيِّب أملَه في إسلامهما قولُهما الذي قالاه قبل ذلك، كما لم يَثنِه عملهما هذا، فحين لم يجد منهما أذنًا مُصغِية، جلس يبكي وهو يتحسَّر على موقفهما، وما عساه أن يؤول إليه أمرهما، ومرَّ به – وهو في هذه الأثناء – العاص بن شيبة، فوجده يبكي، فقال: ما لك؟ فقال: يُبكيني سيداي وسيدا هذا الوادي، فيخرُجان ويُقاتلان رسول الله ، فقال له العاص: إنه لرسول الله؟! فانتفض عداس انتفاضةً شديدة واقشعر جلده وبكى، وقال: إي والله، إنه لرسول الله إلى الناس كافة.(8)

تخليدا لذكرى عداس

وفي العصر الحديث بنى بعضُ المسلمين عند بستان الطائف هذا، وفي مكان استراحة النبي – حسب توقعاتهم – مسجدًا، وأسموه مسجد عدَّاس؛ إشارة منهم إلى حبِّ هذا الغلام الصحابي رضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في الجنة في رفقة خير خلق الله .(9)

الهوامش:

  1. (سنن الترمذي, كتاب القراءات عن رسول الله)
  2. (هود: 47)
  3. سيرة ابن هشام (2/ 266).
  4. المرجع السابق
  5. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 467)، والسيرة النبوية الصحيحة (1/ 185)؛ لأكرم ضياء العمري.
  6. المرجع السابق
  7. الإصابة (4/ 467).
  8. المرجع السابق
  9. انظر: في منزل الوحي (277) للدكتور محمد حسنين هيكل.
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via