
- ما هو المعنى الذي يقدمه المصلح الموعود لتكليم الناس السيدَ المسيح صبيًّا في المهد؟
___
التفسير:
وجدير بالذكر أيضًا أن قوله تعالى وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ لو فُسّر بأن المسيح قد تكلم بهذا الكلام وهو طفل رضيع، لأصبحت كل الأمور المذكورة في هذه الآيات كذبًا وزورًا. فلو كان قد تكلم بهذا الكلام وهو صبي عمره شهرانِ فتدبروا في ما يقول؟ يقول إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ . ولا يراد بقوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنه مجرد مخلوق من خلق الله تعالى، لأن جميع الخلق متساوون معه في هذه الصفة، في حين أن المسيح يذكر هنا خصوصياته التي يتميز بها على الآخرين. إنما المراد من قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنه مطيع لله تعالى طاعة كاملة، وكاشفٌ للصفات الإلهية والأخلاق الربانية للعالم. فلو سلّمنا الآن أن المسيح الطفل الرضيع قد قال هذا الكلام فلا شك أنه قد كذب، ولم يأت بأي معجزة؛ إذ كان عندها لا يزال بحاجة إلى أمه لتطهره من النجاسة، وتُرضعه. فكيف يمكن أن يقول إني عبد الله وهو يمتص ثدي أمه. لقد كان مشهدًا مثيرًا بالفعل! إذ كان يقول للناس إني عبد الله، ثم يدير وجهه إلى أمه ويرضَع ثديها. فهذا يعني أنه كان يتصرف تصرُّفَ المواليد الرُّضَّع، ومع ذلك كان يدعي أنه من المقربين الأطهار الكبار!
ثم يقول إني عبد الله، وأؤدي الصلاة، مع أنه لم يكن يقوم عندئذ بأي عبادة، بل لو أنه بدأ الصلاة وفق ادعائه هذا، لرمَتْه أُمُّه بعيدًا وذهبت، ليظل ملطخًا بنجاساته طوال النهار.
ثم يقول آتَاني الكِتابَ . وأي كتاب أعطاه الله في ذلك الوقت، يا ترى؟
ثم يقول وجَعَلني نبيًّا[، وهذا أيضا كذب، لأنه لم يكن قد بُعث نبيًّا في ذلك الوقت.
ثم يقول وجَعَلني مُباركًا أينَما كُنتُ . كان لا يستطيع المشي أيضًا، بل كانت أمه تحتضنه هنا وهناك، ومع ذلك يقول إن بركة الله معي أينما ذهبتُ!
ثم يقول وأوصاني بالصلاة[، مع أنه كان لا يقدر على أن يتطهر من نجاسته، بل كان الآخرون يقومون بتنظيفه وتطهيره. ثم إنه كان لا يعرف عندها كيف يصلي؟
ثم قال وأوصاني الله بِـ الزكاة . كانت أمه هي التي تصنع لـه الخِرَق والأسمال، ومع ذلك يقول إن الله تعالى أمرني بأداء الزكاة.
ثم قال وبَرًّا بوالدتي .. أي جعلني الله مطيعًا لأمي. متى كان بوسعه عندها أن يطيع أُمَّه؟ بل بالعكس كانت تسقيه لبنها، وتحمله هنا وهناك؛ وتبيت ساهرةً على راحته.
ثم قال ولم يجعَلْني جبّارًا شقيًّا . كان يبكي لو قرصه أحد قرصة بيده، فأنَّى لـه أن يكون عندئذ جبارًا شقيًّا.
إذًا فلو سلّمنا بأنه قد تكلم بهذا الكلام في صغره لعُدَّ كلامه هذا كله كذبًا وزورًا.
يقول الناس إن هذا الكلام الذي جرى على لسانه في الصغر كان في الواقع أنباء لتتحقق في المستقبل. وأنا أقول: إذا كانوا يعتبرون كل هذه الأمور أخبارًا مستقبلية، فلماذا لا يعتبرون «كلامه في المهد» أيضًا من الأنباء المستقبلية، لتنحل المشكلة كلها؟
ثم علينا أن نفكر: ماذا أراد الله بهذا؟ يقول أصحاب الرأي الأول: كان الهدف من كلامه بهذا الأسلوب أن يري الله تعالى معجزة لليهود.
ولكنا نرى أن اليهود لم ينتفعوا من هذه المعجزة شيئًا، إنما ازدادوا كفرًا وإنكارًا، وقالوا إن كل ما يقول المسيح كذب وافتراء. إنه يقول: لقد آتاني الله الكتاب، مع أنه ليس معه أي كتاب. ويقول: لقد جعلني الله نبيًّا، مع أنه لا يستطيع بنفسه أن يطهر نفسه من النجاسة، بل إن أمه هي التي تقوم بتنظيفه وتطهيره. ويقول: إن الله أمرني بالزكاة، مع أنه لا يملك قرشًا واحدًا.
ولو قيل: إن كلامه في ذلك العمر الصغير كان حجة على المعارضين.. أي لم تكمن المعجزة في أي شيء سوى أنه تكلم في ذلك العمر الصغير، فالجواب: ما الداعي إذن لأن يتفوه بكل تلك الأمور التي كانت كذبًا في كذب؟ كان يكفيه أن يقول مثلا: «كيف حالك يا عمّ. ما هذا الذي تقوله، يا عمّ؟ ألا تخاف الله تعالى.» فلو أنه تفوه بهذه الكلمات فقط لهرب على الفور كل الفقهاء والفريسيين الكبار ذوي العمائم والعباءات، دون أن يتكلم بكل هذه الأكاذيب.
الحقيقة أن السيدة مريم ظلت مقيمة في مكان خارج مدينتها بعد ولادة المسيح لمدة طويلة، ولما بلغ الثلاثين من عمره (لوقا 3: 23) وشرفه الله تعالى بالنبوة رجعت معه إلى قومها. ويبدو أن أقاربها المشاكسين ظلوا متربصين بها، فلم ينفعها غيابها عن المدينة، واطلع هؤلاء على السر الذي حاولت كتمانه، أو أن الله تعالى نفسه أراد أن يفشو سرها لتزداد المعجزة جلاء وعيانًا….. فلما رجعت ورأوا معها مولودها المشهور الخبر عيّروها به. فما استطاعت الرد عليهم خجلاً، بل أشارت إليه . ولكن الولد أصبح الآن شابًّا، وقد صار نبيًّا، فرد عليهم وقال: ما هذا الهراء الذي تهذون به. إني عبد الله آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيًّا .. أي أنني إنسان متخلق بأخلاق الله، وإن صفاته تعالى تنعكس في أعمالي وتصرفاتي. وقد أعطاني الله الكتاب، وبعثني نبيًّا. فهل مثلي يكون من أولاد الحرام؟
ثم قال وجعلني مباركًا أينما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمتُ حيًّا . فلو قلنا أنه قد نطق بهذا الكلام وهو طفل رضيع، فهذا يعني أنه كان في أيام رضاعته يتجول في المدينة هنا وهناك، ويؤدي الصلوات، ويؤتي الزكاة، مع أنه أمر لا يعتقد به أي من المسلمين ولا النصارى.
أما إذا قالوا أنها كانت أنباء تتعلق بالمستقبل، قلنا: لقد تكلم المسيح بهذا الكلام في تلك السنّ الصغيرة لكي يصدقه الناس، بيد أن الذي حصل فعلاً هو أن هذا الكلام زادهم نفورًا وإعراضًا، حيث قالوا: إنه شخص كذاب، انظروا إلى حالته وإلى أكاذيبه. لا شك أنه حين قال لهم آتاني الكتاب ردوا عليه بأنك تكذب كذبًا صريحًا. أرِنا، أين هذا الكتاب؟ ولو افترضنا أنه أراهم الكتاب فأيضًا ما كان بوسعه أن يعمل بذلك الكتاب في تلك السن.
ثم إنه لما قال وجعلني نبيًّا فلا بد أنهم قد ردوا عليه: كيف جعلك الله تعالى نبيًّا وأنت لا تزال ترضع من أمك.
ولما قال لهم وجعلني مباركًا أينما كنت فلا بد أنهم قالوا لـه: إنك لا تترك حضن أمك، ومع ذلك تقول إني مبارك من عند الله تعالى أينما ذهبت!
ولما قال لهم وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيًّا فلا بد أنهم يكونون قد ردوا عليه قائلين: حسنًا، أخبِرْنا كم صلاة أدّيتَها حتى اليوم؟ ثم كيف تزعم أن الله تعالى قد أمرك بأداء الزكاة وليس عندك قرش واحد؟
ولما قال لهم وبَرًّا بوالدتي فلا بد أنهم قالوا لـه: كيف تزعم أنك جدُّ محسنٍ إلى أمك، ومطيع لها تمامًا، مع أنك تنجس ثيابها بالبول، وتمتص دمها أي لبنها.
ولما قال لهم ولم يجعَلْني جبّارًا شقيًّا .. أي لستُ ممن يظلِم الناسَ ويهضم حقوقهم، فلا بد أنهم أجابوه: أَنَّى لك أن تظلم الناس وأنت لا تزال بحاجة إلى مساعدة الآخرين في كل شيء.
ولكن المسيح لو لم يتفوه بكل «هذه الأباطيل»، وإنما اكتفى بقوله: يا عم، لِمَ تظلم أُمّي، وما هذا الهراء الذي تهذي به ضدها، لهرب عنه أحبار اليهود ورهبانهم. إذًا فإن هذه الدعاوى العريضة لا تترك هذا الحدث معجزة أبدًا، وإنما تجعله كذبًا صريحًا لا يمكن أن يقتنع منه العدو أبدًا.
فالواقع أن هذه الأقوال ترجع إلى الزمن الذي كان المسيح فيه فتى يافعًا عمره ثلاثون سنة، وجاء إلى أورشليم. كانت أمه أيضًا في رفقته، وكانت تدرك أن أقاربها سيطيلون عليها لسان الطعن بسبب ولدها. فلما قالوا لها يا مريم لقد جئتِ شيئًا فريًّا قالت لِمَ تعيّرونني؟ اسألوه هو؟ فقال لهم المسيح : ما هذه الأقاويل التي تهذون بها. إن الله تعالى قد جعلني نبيًّا، ومنَحني الورع والطهر، ووهَب لي علمًا وأخلاقًا فاضلة. لو كانت أمي امرأة فاحشة لما جعلني الله بَرًّا بها. إنه لبِرُّ أُمّي وتقواها الذي بسببه قد اختارها الله تعالى ورزقها ابنًا بارًّا مثلي.
فليس المراد من المهد هنا زمن الطفولة والصغر، وإنما قد تكلم المسيح بهذا الكلام فيما بعد حين بلغ ثلاثين سنة أي قبل الكهولة التي هي ما بين الثلاثين إلى الخمسين حيث تبدأ بعده الشيخوخة. لقد بُعث المسيح نبيًّا في سن الثلاثين، وبقي في وطنه حتى الثالثة والثلاثين من عمره. فتكلم مع أهل وطنه في المهد والكهولة، أما في الشيخوخة فتكلم مع أهل البلاد الأخرى.
لقد بيّنتُ في تفسير هذه الآيات حتى الآن نظرية القرآن الكريم حول كلام المسيح .. أي هل تكلم بهذا الكلام حين كان طفلاً رضيعًا في حضن أمه، أم حين شرفه الله تعالى بالنبوة. ولكن هذه الآيات، كما هو واضح للجميع، لا تخص المسلمين وحدهم، بل المسيحيين أيضًا، الذين قد يقولون إن بيان القرآن عن زعيمهم غلط؛ لذا أبين الآن ما إذا كان المسيحيون يصدّقون بأن المسيح قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا أم لا؟
إن الكُتّاب والمفسرين المسيحيين الذين قاموا بتفسير القرآن وألفوا كتبًا عن الإسلام قد استشاطوا غضبًا عند قراءة هذه الآية، وشنّوا هجومًا شرسًا على رسول الله ، وقالوا إنه – والعياذ بالله – قد عزا إلى المسيح هذه المفتريات دعمًا لدعواه (تفسير القرآن لِـ «ويري» مجلد 3).
وهذا يعني أن علماء المسلمين قد نسبوا بأقوالهم معجزةً إلى المسيح، ولكن ما حصل هو أنهم أتاحوا بذلك للمسيحيين الفرصة لكي يسبّوا ويكذّبوا سيدهم ومولاهم محمدًا رسول الله ! يقول المسيحيون إن المسيح إله، فأنى لـه أن يقول إني عبد الله آتاني الكتاب وجعَلني نبيًّا . ويقولون في غضب وكره شديدينِ أن محمدًا – والعياذ بالله – قد أراد أن يثبت دعواه، فعزا إلى المسيح هذه الكلمات والدعاوى كذبًا وافتراء. إن المسيح لم يقل هذا الكلام قط، فلا يمكن أن يعزى إلى المسيح بحال من الأحوال.
إذًا فلا يمكننا، والحال هذه، أن نتجاوز هذه الآيات بدون أن نبرهن بما لا يدع مجالا للشك على أن ما ذكره القرآن هنا هو الحق، وأن الأناجيل أيضًا تؤكد ما جاء في القرآن الكريم. فالأمر لا يخص تعليم الإسلام أو تاريخه فحسب حتى نمر به صامتين وظانين أنه أمر لا علاقة لـه بالأغيار. كلا، بل إنها أمور تخص زعيم أمة، وقد أعلن القرآن أن زعيمهم قد قالها فعلاً؛ لذا يحق لأتباع هذا الزعيم أن يقولوا لنا فأتوا برهانكم من الإنجيل إن كنتم صادقين، وإلا فقد ثبت أن القرآن – والعياذ بالله – من افتراء البشر، وأنه قد حاول خداع الناس. أما إذا ثبت أن ما قاله القرآن الكريم هو الحق، وأن هذا ما يؤكده الإنجيل أيضًا، حُلّت لنا قضيتان، أعني أن هذا سيكون دليلاً على أن المسيح لم يتكلم بذلك الكلام في طفولته، كما أنه سيشكل برهانًا على أن المسيح لم يدّع الألوهية قط، بل كان إنسانًا كغيره من البشر الموجودين في الدنيا.
إن من الأمور التي يعزوها القرآن إلى المسيح قوله إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا . وإذا ثبتت هذه الأمور لم يبق هناك شك ولا شبهة في أن المسيح لم يكن إلهًا ولا ابن إله، بل كان مجرد نبيّ من عند الله تعالى.
بيد أنه مما لا شك فيه أن من حق المسيحيين أن يغضبوا هنا ويقولوا أن القرآن قد نسب إلى المسيح دعاوى لا حقيقة لها، ولكن ليس من حقهم أن يلجأوا إلى البذاءة والسباب.