- فما هي الرياضات الهوائية؟
- وما هو المفهوم الصحيح للقوة؟
- وكيف تجلَّى الحدس العُمَري في إدراك الأبعاد الثلاثة للقوة؟!
____
الرجال لا يولدون، ولكن يُصنعون
«الرجل لا يُولد، بل يُصنع»، مقولة عميقة المعنى، طالما تطرق مسامعنا، تحمل دعوة للتأمل في جوهر الذكورة، إنها تعبير عن فكرة لا تنزع عن الرجل طبيعته البيولوجية كذكر، وإنما تنقل الجدل من حيز الوجود المادي إلى فضاء الكينونة المعنوية، لنجد أنفسنا أمام سؤال جوهري مفاده «أيكفي أن يحمل المرء صفاتٍ بيولوجية ذكورية ليكون رجلا بكل ما تحمله كلمة رجل من دلالات اجتماعية وثقافية وأخلاقية؟».
فالمقولة السالفة هي في الواقع، ليست إنكارًا للفطرة إذن، بل هي تأكيد لدور العوامل البيئية، والتربوية في تشكيل الهوية الذكورية، لنصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن الرجل الحقيقي ليس مجرد صاحب جسد قوي، بل هو بناء معقد من القيم والمبادئ، والالتزامات والمسؤوليات، وكذلك الخبرات المتراكمة. وتشكيل الهوية الرجولية هي عملية تشبه عملية نحت تمثال، حيث تُصقل شخصية المرء وتُحدَّد ملامحها عبر سلسلة من التحديات، والإخفاقات، والنجاحات.
الرجال ليسوا الذكور بالضرورة
إننا حين نروم استكناه دلالة تعبير «رجل» في نص التنزيل الحكيم، نجده تارة يدل على الذكر من نوع الإنسان، وتارة أخرى يشير إلى المشي على الرجلين، ثم يتسع نطاق الدلالة حين يرد لفظ «رجال» في سياق يُفهم منه التكليف الموجه إلى كلا الجنسين ذكورا أو إناثا.. فبتلاوة قول الله تعالى:
لن كون بمقدورنا هنا أن نفهم الرجال بمعنى الذكور حصرا، وإلا فما نصيب الإناث المؤمنات من هذا التكريم القرآني؟! لا بد إذن أن يكون هذا التكريم شاملا كلا الجنسين، بعيدا عن معنى التغليب الذي قال به بعض النحاة، فإنما يشترك كل من الذكور والإناث في معنى «الرجولة» إذا اتصف كل منهم بصفات محددة، بمعنى أن لفظة «رجل» هي اسم وصفي قد يطلق على الأنثى أيضا!(2)
ومن دواعي ثراء العربية وخصوبتها أنها لغة صوتية لا صورية، الأمر الذي أهلها في علم الله تعالى لأن تكون وعاء للوحي الخاتم الذي ينزله الله تعالى على النبي الخاتم ليبلغ به الأمة الخاتمة. واللغة الصوتية تكتسب هذا الوصف نظرا إلى أن لكل صوت من أصوات الأحرف العربية دلالة فيزيائية خاصة به. فلنطبق هذا المبدأ على المادة اللغوية «ر ج ل» ولننظر النتيجة، ماذا تخبرنا العربية؟! في مادة «ر ج ل» تجتمع ثلاثة أصوات سويا لتخبرنا عن معان خاصة قريبة من بعضها في الدلالة العقلية، فصوت الراء يشير دوما إلى التكرار، أي تكرار الحركة، والدأب عليها. وصوت الجيم يشير بدوره إلى الجهد والشدة المصاحبين لأكثر الممارسات العملية التي يؤديها الإنسان طلبا للرزق، أما صوت اللام فيشير إلى الحركة البطيئة المتصلة اللازمة بشكل يضفي الاستمرارية الرتيبة على دلالة الصوتين (الراء والجيم). وبفهم الدلالة الكلية الناتجة عن اجتماع الأصوات في مادة «ر ج ل» ترتسم في المخيلة صورة ذهنية لإنسان دائب الكد والتعب في طلب الرزق وبشكل مستمر ورتيب طوال أيام حياته. لقد انطبقت هذه الصورة الذهنية منذ عصور على الذكر من نوع الإنسان، كما انطبقت في بعض الأحيان على الأنثى في المجتمعات الأمومية، ذلك لأنها في بعض الأحيان، لا سيما في تلك المجتمعات الأمومية، تستحق الوصف فعلا بأنها «رَجُلَة»، وقد جاء في المعاجم اللغوية ما نقله صاحبا تاج العروس ولسان العرب عن ابن جني من قول الشاعر:
كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِـطا
غيرَ جِيرانِ بَنِي جَبـَلهْ
.
خَرَّقُوا جَيْبَ فَتاتِهِمُ
لَمْ يُبالُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ(3)
فأنث لفظ «رجُل» فكان «رجُلة» في بيان واضح بأن العرب أجازت وصف الأنثى بالرجولة أحيانا ما دعت الحاجة وجمعت تلك الأنثى صفات مميزة. بل إن الحديث النبوي يؤكد صحة هذا الاستعمال، كوصف النبي ﷺ لأمنا عائشة (رضي الله عنها) بقوله: «كانت عائشة رَجُلَةَ الرّأي»(4)، أي لها رأي الرجال حصافة وسدادا، فالأنثى توصف بالرجلة أيضا إذا ما تحققت لديها تلك الصفات المؤهِّلة للرجولة (لا الذكورة) والصفات المؤهلة للرجولة هي ما قدمته الدلالة الصوتية لمادة «ر ج ل» اللغوية.
المفهوم الإسلامي للقوة
لم تقتصر الرؤية الإسلامية للقوة على مجرد الحالة البدنية، بل تعدتها لتعني كذلك القدرة على ضبط النفس والسيطرة على ثوائرها، ولمن قد لا يعلم، فالقدرة على التحكم في النفس مقدمة على كل مظاهر القوة المادية قاطبة. فليس كل عظيم البنية قويًّا، كما ليس المتهور شجاعًا بحال من الأحوال، فوصف بالقوة وفق المنظور الإسلامي، يتطلب أن يجمع الموصوف في نفسه كلا أمرين، أولهما اللياقة البدنية المناسبة، لقول النبي ﷺ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»(5). والأمر الآخر ضبط النفس وكبح جماحها، لقول النبي ﷺ: «ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ.»(6) فاللياقة البدنية المناسبة تضمن للمرء القدرة على الفعل، أيا كان هذا الفعل، حسنا أم سيئا، وهنا يبرز دور ضبط النفس وملك زمامها في توجيه ذلك الفعل إلى الاتجاه الحسن حصرًا. وهنا، وهنا فقط، تكون القوة خُلُقًا حميدا يتحلى به المؤمن، وأي انفصال يحدث بين شقي القوة السالفين، فإنه يخرج بها من حيز الخُلُق إلى حيز الطبع الأعمى. فليس المقصود من الحديث الشريف مجرد قوة الجسد، بل هو رمز إلى الصلابة النفسية، والانضباط الذاتي، والقدرة على الاعتماد عليه. فالقوة في الإسلام ليست ترفًا ولا مباهاة، بل هي أمانة ومسؤولية. كما قد أكّد المسيح الموعود على أهمية اجتماع القوتين كلتيهما، الخَلْقيَّة والخُلُقيَّة، لتكونا عونًا للمؤمن على خدمة الإنسانية، واحتمال المشاق، وإقامة العدل. ولإدراك تفصيل هذه الفلسفة يخبرنا المسيح الموعود فيقول:
والمرء حين يمارس الرياضة البدنية، وعلى رأسها رياضات مباريات المصارعة والقتال، كالمصارعة بأنواعها، والملاكمة، والكاراتيه، والكونغ فو، والتايكوندو، وما إلى ذلك، فإنه في الحقيقة لا يتدرّب على مجرد فنون القتال، ولا يتعلم كيف يقاتل فحسب، بل الأهم من ذلك أن يتعلم متى لا يقاتل، وكيف يظل ضابطا انفعالاته إزاء الضغوط، وكيف يقود بحكمة وثقة(8). وهذه الضوابط من أبرز عوامل الفوز، بل هي مقدَّمة على القوة البدنية حتى! وأية جدوى من القوة البدنية ما لم تكن ثمة قوة نفسية توجّهها؟!
الحدس العُمَري في إدراك الأبعاد الثلاثة للقوة!
يُعد ثاني الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر بن الخطاب نموذجًا تاريخيًّا للمسلم القادر على استشفاف الحكمة الكائنة في التعليم القرآني والسنة النبوية، فمما أُثِر عن عمر بن الخطاب أنه قال: «علّموا أولادكم السباحة والرمي وركوب الخيل»(9). لقد توصل العلم الحديث إلى جوهر الحكمة العمرية الكامنة في المقولة السالفة، فممارسة الرياضات الثلاث، أي السباحة، والرماية، والفروسية، يسير بالصحة في ثلاثة مراقي متوازية، فركوب الخيل لا يمكن أن يتحقق للمرء ما لم يتحكم في الدابة، وهذا التحكم يُعد أمرًا بعيد المنال في الواقع، اللهم إلا إذا تمكن المرء من التحكم في نفسه بادئ ذي بدء. وثانيا، الرمي ينمي لدى الرامي ملكة التركيز الذهني. وثالثا، تأتي السباحة بوصفها تمرينا هوائيا عظيم الفائدة للجسم. وفي النهاية نحصل على إنسان تحققت فيه القوة بأبعادها الثلاثة (الجسدية، والعقلية، والنفسية).
التداوي بالتمارين الهوائية
تعريجا على مصطلح «التمارين الهوائية» الوارد في الفقرة السابقة، فهي تُعرف بأنها كل نشاط بدني يزيد من معدل نبضات القلب والتنفس إلى مدة زمنية مستمرة، بما يفضي إلى تحسين صحة القلب والرئتين. وقد اكتسب هذا القسم من التمارين اسمًا شائعا، هو تمارين “الكارديو”. ومن أمثلة تلك التمارين: المشي السريع، والهرولة أو الجري، والسباحة، وركوب الدراجات الهوائية، والجمباز، كما ويدخل تحت تلك التمارين استعمال أجهزة الحركة الثابتة، كالمِمْشاة والدراجة الثابتة داخل الصالات الرياضية.
والتمارين الهوائية قد تعادل في تأثيرها بعض الأدوية المضادة للاكتئاب هي فكرة شائعة ومدعومة بشكل كبير في الأبحاث العلمية. وقد تثبتت دراسات حديثة من هذه الفكرة، على سبيل المثال، توصلت دراسة نشرتها مجلة هارفارد للعلوم الصحية إلى أن التمارين الهوائية فعالة في علاج الاكتئاب، وأنها قد تكون بنفس فعالية الأدوية المضادة للاكتئاب في بعض الأحوال، حتى بالنسبة لأولئك الذين لديهم استعداد وراثي للمرض. (10)
وعلاوة على ذلك، ثمة العديد من الدراسات الأخرى الداعمة لفكرة العلاقة الوثيقة بين ممارسة الرياضة وتحسين المزاج عموما، بما في ذلك علاج الاكتئاب، ومنها ما يُعرف بتحليل تلوي المنشور عام 2021، والذي أظهر أن التمارين الهوائية وتمارين المقاومة مفيدة لتحسين أعراض الاكتئاب والقلق(11).. إذن، فبشكل عام، يوجد ما يشبه الإجماع العلمي على فكرة أن التمارين الرياضية، لا سيما التمارين الهوائية، ذات تأثير إيجابي على الصحة العقلية، بما في ذلك تحسين المزاج، وتقليل أعراض الاكتئاب والقلق.
الهوامش:
- (الأحزاب: 24)
- س. م. دويدار، يأْتوك رِجالا، مجلة التقوى، عدد سبتمبر 2017م.
- ابن منظور، لسان العرب، تحت «ر ج ل»
- رواه أبو داود.
- الملا علي القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
- أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609)
- مرزا غلام أحمد القادياني، فلسفة تعاليم الإسلام، الترجمة العربية
- Masood Khan, Built, not born: An Islamic blueprint for strong men, Al Hakam Magazine
- إسحاق بن أبي إسحاق القَرّاب، فضل الرمي في سبيل الله، رقم 15
- Choi, The Role of Exercise in the Prevention of Depression: Results of the HUNT Cohort Study. Depression and Anxiety
- Gordon, The effects of aerobic and resistance exercise on depression and anxiety : a systematic review with meta-analysis. International Journal of Mental Health