___
من معاني الإصلاح
طالما سمعنا بطائفة من الإصلاحيين السياسيين والاجتماعيين والدينيين ممن اشتهروا بصفة الإصلاح اسما، وحين سبر سيرهم وُجِد أنهم لم يكتسبوا من الإصلاح إلا اسمه فقط، وبينهم وبين حقيقته بون شاسع. ونحن لا نرمي أمثال هؤلاء بالفساد، وإنما نقول إنهم لم يتصفوا بالإصلاح الكامل كما هو حقه، ذلك أنهم، وإن اضطلعوا بخطوات وأعمال إصلاحية معينة، إلا أن تلك الأعمال كانت في نطاق محدود. “الإصلاح” في العربية إزالة الفساد، وصَلُحَ الشيء أي زال فساده. أما المعنى الاجتماعي للإصلاح فإلى جانب معناه اللغوي، فهو يشمل أيضا التغيير إلى الأحسن، وتحقيق التقدم وتحديث المجتمع. وينبع هذا التغيير من احتياجات الناس، ولا تمليه الصفوة ولا تفرضه فرضًا.
الأقربون أولى بالمعروف
لأن التقوى وصلاح الأعمال يكون منشؤهما صفاء القلب وسلامته، لزم أن يكون لدينا علامات ظاهرة يمكننا من خلالها معرفة المتقين وأولياء الله الصالحين، فمثلا، قد يدعي شخص ما الصلاح، ويلبس رداء الاتقاء، وينفق الأموال الطائلة لخدمة الخلق ومواساتهم في الظاهر، ولكن هذا كله لا يكفي للتيقن من خيريته وصلاحه، اللهم إلا إذا شهد له الأقربون، فأولئك الأقربون هم الأولى بالمعروف كما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم يصنع المرء المعروف مع الأقربين، فلا يتوقع منه أن يصنعه مع من سواهم. ومن أبرز تلك العلامات التي بها يُعرف الأخيار والمتقون ما قدمته لنا التعاليم النبوية فيما روته أمنا عائشة (رضي الله عنها) عن رسول الله : «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(1).
وفي أوساط الجماعة الإسلامية الأحمدية، يرى المسلمون الأحمديون في خليفتهم الثاني سيدنا بشير الدين محمود أحمد خير تطبيق لهذا التوجيه النبوي، وذلك من خلال أسلوب تعامل حضرته مع ذويه من عشيرته الأقربين.
فلم تتوقف بركات حياة حضرته وخلافته على بركات القيادة الروحية كإمام ورأس للجماعة وحسب، بل ومصدر نور وإلهام في الحياة الأسرية على المستوى الاجتماعي، فكان بحق مصداقا للدعاء القرآني: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا. (2). ويسعى هذا المقال إلى الكشف عن أحداث خاصة مستقاة من حياة المصلح الموعود تقدم رؤى عميقة في حيوية العلاقات الأسرية.
وفي عالم يطرأ على تركيبته الاجتماعية تغير كبير وسريع، يكون استلهام النموذج الطيب من حياة المتقين الأخيار أمرًا من الضرورة بمكان، بحيث لا يمكن الاستهانة به.
“الإصلاح” في العربية إزالة الفساد، وصَلُحَ الشيء أي زال فساده. أما المعنى الاجتماعي للإصلاح فإلى جانب معناه اللغوي، فهو يشمل أيضا التغيير إلى الأحسن، وتحقيق التقدم وتحديث المجتمع. وينبع هذا التغيير من احتياجات الناس، ولا تمليه الصفوة ولا تفرضه فرضًا.
علاقته بوالدته أم المؤمنين (رضي الله عنها)
إن بر الوالدين مكرمة وفضيلة لا يمكن إلا أن يتخلق بها المؤمن، والأم على نحو خاص تحوز الحظ الأوفر من هذا البر، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ»(3). لقد بلغ بر الوالدة من قلب سيدنا المصلح الموعود مبلغا بعيدا بحيث حمله يوما على البكاء رقة. وتروي السيدة مريم الصديقة أمة المتين لقد شهدت شخصياً الاحترام الكبير الممنوح لأم المؤمنين. وفي إحدى المناسبات، اقتربت امرأة من المصلح الموعود وأعربت عن حزنها من إهمال ابنها وعقوقه لها، وناشدته أن يقدم إليه النصيحة. فأجاب حضرته بتأثر، واغرورقت عيناه بالدمع قائلا: «لا أفهم كيف يسيء ابن معاملة أمه!”.
ورغم جدول أعماله المزدحم، كان شديد الاعتناء بوالدته أم المؤمنين (رضي الله عنها) وتوقع التفاني ذاته من زوجاته تجاهها. فكان يقضي معها أوقات راحته، ويتجاذب معها أطراف الحديث. وكان في كثير من الأحيان يدعوها لتصطحبه في رحلاته ويحرص على أن تستقل معه السيارة نفسها. وعندما كان يعود من أي رحلة كانت والدته أم المؤمنين (رضي الله عنها) أول من يتوجه إليها حاملا إليها الهدايا.
كان يلجأ إليها حتى في أبسط المواقف فيجد لديها الحب والراحة والدعم والنصيحة، وظل هذا دأبه، وفي المقابل كانت أم المؤمنين (رضي الله عنها) على دراية بكافة احتياجاته فتحاول تلبيتها على خير ما يُرام. وفيما يلي مشهد من سيرة أم المؤمنين (رضي الله عنها)، وهو وإن كان مشهدا يبدو عاديًّا وبسيطا، إلا أنه يُترجِم مدى حبها له. إذ تحكي أخت سيدنا المصلح الموعود الصغرى السيدة نواب مباركة بيغم أن شقيقها مرزا بشير الدين محمود (رضي الله عنه) كان يحب الحلوى المسمَّاة «غزل البنات» في سنيِ صباه، واتفق ذات مرة أن رأتْ أم المؤمنين تلك الحلوى، وكان مرزا بشير الدين محمود قد صار رجلاً وقتئذ، فسارعت بإرسال شيء منها وقالت: «إن ميان يحبها»، كانت تدعوه بـ «ميان» توددًا.
لكن ما رآه في منامه سهَّد أجفانه، فبقي مستيقظا طول الليل يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بالدعاء لأخيه مرزا شريف أحمد . لقد حدث لاحقا ما كان تأويلا لرؤيا المصلح الموعود ، إذ توفي مرزا شريف أحمد بعد تلك الليلة بحول واحد بالتمام والكمال.
حبه لأشقائه
كان المصلح الموعود يُكن حبا عظيما لأشقائه جميعهم، وكان كل منهم يحظى بمكانة خاصة لدى حضرته. تروي السيدة مريم الصديقة أمة المتين (رضي الله عنها) أن المصلح الموعود استيقظ من نومه ذات ليلة في 26 ديسمبر من عام 1961 وكان ملهوفا على أخيه مرزا شريف أحمد إذ رأى في منامه أن ميان شريف أحمد قد توفي، وتقول السيدة مريم الصديقة أنها حاولت طمأنة المصلح الموعود بقولها: «بفضل الله هو بخير»، غير أن طمأنتها لم تُهدئ من روع حضرته، وأمرها أن تسارع بالاتصال والتحقق من أن مرزا شريف أحمد بخير، ففعلت وطمأنت حضرته وعندها فقط هدأ روع المصلح الموعود ، لكن ما رآه في منامه سهَّد أجفانه، فبقي مستيقظا طول الليل يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بالدعاء لأخيه مرزا شريف أحمد . لقد حدث لاحقا ما كان تأويلا لرؤيا المصلح الموعود ، إذ توفي مرزا شريف أحمد بعد تلك الليلة بحول واحد بالتمام والكمال.
ومع أن كلتا شقيقتيه كانتا عزيزتين على قلبه، إلا أن نواب مباركة بيغم (رضي الله عنها) احتلت مكانة أثيرة لديه، فحظيت بحب واهتمام كبيرين. فقد كانا كثيرا ما يتجاذبان أطراف الحديث عن وقائع من أيام طفولته وصباه زمن المسيح الموعود . وكان كلما ألف قصيدة جديدة يُرسل في طلبها ليلقي على مسامعها ما نظمه ويسمع رأيها.
أما السيدة أمة الحفيظ بيغم (رضي الله عنها) فكانت منه بمنزلة الابنة، وكان يفرح لفرحها ويسخط لغضبها.
حسن تربيته لأولاده
يتحدث الدكتور مرزا منور أحمد وهو أحد أبناء المصلح الموعود أن والده كان له أسلوب خاص في تربية أولاده ودعم شخصيتهم، وذلك أنه ما كان أولاده يبلغون سن الرشد حتى يعطي كلا منهم مبلغًا من المال قدره خمس روبيات، كانوا ينفقون منها على كسوتهم. يقول الدكتور:.
كنت في الصف السابع أو الثامن واحتجت إلى خياطة بعض القمصان ورغبت أن يكون من بينها قميصان بأكمام قصيرة. وذات ليلة وُضع الطعام على الطاولة وجلست بقميصي قصير الكُمَّيْن.
كانت عينا المصلح الموعود دائماً نصف مفتوحتين ومع ذلك كان يرى كل شيء بلمحة عين وعندما رآني قال: لا يحسن بالمرء أن يشمر عن ساعديه أمام من يكبرونه سنًّا. لقد وقعت كلمات حضرته عليَّ وقع الصاعقة، وتمنيت لو أن الأرض تنشق وتبلعني.
وبعدما فرغ حضرته من تناول العشاء، قمت فأعطيت القميصين المذكورين إلى أحد الخُدَّام ومنذ ذلك الحين لم أكشف عن ساعدي أمام حضرته.
لقد كان سيدنا عمر بن الخطاب يحث الناس على تنشئة أولادهم تنئشة صحية سليمة فيقول: «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل»، وبصفته فضل عمر، كان المصلح الموعود يحب أن يشب أولاده شجعانَا أقوياء، فاقتنى لهم خيولاً وحثهم على ركوبها كل صباح. كما عزم حضرته على تعليمهم السباحة أيضا. بل كان حضرته هو نفسه سباحًا ماهرًا لا يُشق له غبار، وطالما فاز بالمرتبة الأولى في سباقات السباحة للرجال، حيث كان عليهم قطع المسافة سباحةً بين جسرين معروفين هنالك.
ويحكي الدكتور مرزا منور أحمد أنه عندما كان في سن صباه اشترى له والده سترة نجاة من الغرق وألبسه إياها ثم ألقاه في النهر. لقد أجهش الصبي بالبكاء والصراخ، وأخذ يمشي في المياه الضحلة بمحاذاة ضفة النهر مندفعا بقوة تيار الماء، وحضرة المصلح الموعود يتبعه ضاحكا، لأنه كان يدرك أنه لن يغرق بفضل سترة النجاة، وكانت والدة الصبي تسير بمحاذاته على اليابسة وتقول بصوت عال أن حاوِل الخروج من الماء لتنجو من الغرق فتتخلص من خوفك من الماء.. لم يكن هذا دأب المصلح الموعود مع أبنائه فقط، بل ومع بناته كذلك، فكان حضرته يعلمهن السباحة في سن مبكرة.
وخلال نزهاته إلى النهر كان حضرته يصطحب السيدات من أهل بيته للسباحة، وكن يرتدين بدلات سميكة بأكمام طويلة على الطراز الماليزي، بحيث تستر سائر الجسد، فكن يحققن شرط ستر الجسد، والاستمتاع بالسباحة في ذات الوقت.
تلك كانت لقطات شتى من وقائع وأحداث من حياة المصلح الموعود الأسرية، بما يؤكد انتهاجه الأسلوب النبوي المبارك، وأنه كان عظيم الإحسان في معاملة أهله. وبهذا يثبت ما أسلفناه في الفقرة الثانية من هذا المقال، من أن المصلح الموعود حقق معيار الخيرية من طراز رفيع، بإثباته أنه خير الناس لأهله، اقتداء بسنة نبيه ومطاعه محمد المصطفى .
الهوامش:
- (سنن الترمذي، الحديث 3895)
- (الفرقان: 75)
- (صحيح البخاري, كتاب الأدب)