
- أيتنافى قلق سيدنا محمد وخشيته يوم تلقى وحي النبوة مع كونه الأصلح لهذا المقام الرفيع؟
- ما دلالة شد زوجته السيدة خديجة من أزره في تلك الحال؟
____
كمسلمين، كثيرا ما نردد أن نبيَّنا محمدا ﷺ بلغ أعلى مدارج الكمال، وكان من الطبيعي أن يتبادر إلى الأذهان سؤال هام: هل نال محمدٌ ﷺ الكمال فجعله الله نبياً، أم أنه لما قرر سبحانه وتعالى أن يجعله نبياً هداه إلى الكمال؟ بمعنى آخر: هل رِضا اللهِ عن العبد ينشأ من صلاحه، أم أن صلاح العبد ينشأ من رضا الله عليه؟ وبعيدا عن المزاح، فهذا التساؤل شبيه إلى حد ما بالمعضلة الفلسفية المتمثلة في أيهما أسبق ظهورا، البيضة أم الدجاجة؟! وبتعبير آخر، أيهما كان سببا وأيهما نتيجة؟!
النبوة بين الكسب والاكتساب
لا شك أن النبوة هبة ربانية محضة، ولا يكتسبها العبد اكتساباً، بمعنى أنه ليس بمقدور كل واحد أن يجتهد في أعمال معينة أو عبادات خاصة من شأنهما أن يصبح نبياً بعد أن يجتازها، ينال شهادة من الله على نبوته، كطالب علم في جامعة. كلا، بل إن النبوة عطاء إلهيٌّ محض نتيجة طهارة قلبٍ فطريةٍ ورغبة عارمة في مواساة الخلق وخلْقِ عوالم جديدة يكون لله حضور جارف فيها، بحيث لا يسكن متحرك ولا يتحرك ساكن إلا إذا كان سكونه وحركته تبلغان به إلى الله، ولا يصطفي الله نبياً إلا بعد أن يُثبت هذا النبيُّ ـ قبل أن يعرف شيئاً عن أدنى علاقة له بالنبوة ـ أنه يملك قوة النبوة في قلبه وجوارحه، ويتوق توقاً شديداً إلى إصلاح كل ما فسد، ويعرف معرفة يقينية أن لهذا الكون إلهاً قيوما لا يتركه ليهلك، ولابد أنه مدركه في المواعيد، وقد بلغ حبه لبني جنسه ومواساته لهم درجة عالية، بحيث يتولد لديه شعور كاسح برغبته الشديدة في التضحية بحياته وبذل روحه لو كانت ثمنا يصلح ليجذبهم من الظلمات إلى النور، هو لا يعرف لحياته معنى وهؤلاء يعمهون فيما يعمهون، وتأبى عليه كمالاته التي ملأت كل ذرة من كيانه أن يهتم بصلاح نفسه، ولا عليه إن فسد العالم كله، بل إن ما بداخله من طاقة نورانية وقوة قدسية تتقافز من أعماق قلبه لتخرج إلى النور في صورة تبليغ ودعوة وإرشاد وإصلاح، لكنه لا يعرف لإصلاح هذا العالم الذي هو على شفا جُرفٍ هارٍ سبيلا، ويجد في هذا الضجيج الناشئ عن صراعات دنيوية وثوائر نفسانية ومطامع فارغة معوقاً له عن إمكانية الهمس الناعم في آذان هذا الكون مناجياً ربه الذي هو على يقين أنه منه قريب، وله مجيب، فيتخلى عن العالم في رمزية مُعرِبة عن كونه قد نفض منه يديه، وتخلى عن كل ما يملك فيه، إلا من بضع لقيمات يقمن صلبه، تعينه على التضرع ورفع يديه إلى السماء مناجيا في تذلل وبكاء أنْ: يا سميع يا مجيب اسمع دعائي وأجب سؤلي، ولما تخلَّى تحلَّى، ولم يكن له من أدعيته نصيب، فقد نال الكمالات، ولا من سؤله غاية، فليس له من غايات إلا أن يبخع نفسه في آثار العالمين ليتأففوا من نتن الشرك كما يتأفف، وليشرحوا صدورهم بطيب شذا التوحيد كما انشرح صدره، وليعرفوا ربهم كما عرفه.
معنى أحداث الغار
ولما نزل الوحيُ عليه ﷺ في غار حراء لأول مرة، رجع إلى خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وهو يرتجف قائلاً: «لقد خشيتُ على نفسي» فقالت له رضي الله عنها: «كلَّا، أبشر فوالله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»؛ أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، وقال ابن حجر: «وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة: وتؤدِّي الأمانة».
الآن تكشَّفتِ الحقائق، وعثرنا على إجابة سؤالنا الأول: هل نال محمد ﷺ الكمال فجعله الله نبياً، أم أنه لما قرر أن يجعله نبياً هداه إلى الكمال؟ وفي رد أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يكمن الجواب في أبهى صورة، حيث ارتجت نفسه وكاد أن ينخلع قلبه من هول ما رأى وسمع من ذلك الكيان المهول الذي لم يكن له به سابق عهد.
لماذا خشي النبي ﷺ على نفسه؟!
ولم تكن خشيته على نفسه من قبيل خشية الناس على أنفسهم، بل كانت خليطاً من الفرحة الغامرة لتجسد تضرعاته ورجائه في صورة ملك حقيقيٍّ نزل عليه ليؤكد له أنه على الصراط المستقيم، وأنه هو الوحيد الذي أدرك الطريق الصحيح الذي يصل به إلى ربه، وها هو قد وصل، يا ربي! لقد صدق ظني، فقد كان ظني فيك أنك أنت وحدك من تجيب المضطر إذا دعاك، فتركتُ الجميع وجئتك.
ولم تكن خشيته ﷺ على نفسه من قبيل خشية الناس على أنفسهم، فربما شك الناس في سلامة قواهم العقلية إذا رأوا وسمعوا ما رأى وسمع، أما هو، فلا، لأنه كان كمن يبحث عن كنز أُخبِر من صَدوق عن موضعه، ومنحه خارطة دقيقة تدله عليه، وما عليه إلا بذل الجهد والبحث والتنقيب حتى يجده، ءإذا وجده يرتعب ويرتعد؟! أم تهنأ روحه وتسعد، وتسقر نفسه وتهدأ؟! ويجد لطول عنائه راحة، ولغرسه ثمر؟ لا شك أن الفلّاح الذي يظل موسما كاملا على مدى أشهر يحرث ويزرع ويسقي ويكافح الآفات لا يصاب بالجنون يوم حصاده، ولا يذهب عقل من ظل أعواما مديدة يربي ويعلم يوم أن يتخرج ابنه من أعرق الجامعات حاملا أعلى الشهادات متقلدا أعلى الوظائف والجميع يشير إليه بالبنان، مثل تلك الأقوال لا تكون إلا من البُله الجهلة، لماذا يشك أنه يمكن أن يكون قد أًصيب بالجنون وقد وجد من أنفق عمرَه كله باحثاً عنه مضحيا في سبيله!؟ أكان مجنوناً يوم قرر أن يبحث، أم كان موجوداً يوم عثر على ما كان يبحث عنه؟
ولم تكن خشيته ﷺ على نفسه من قبيل خشية الناس على أنفسهم، فمن الناس من يظل عمره كله يسعى وراء غايات حتى إذا تحققت غاياته وضعها بين عينيه ونظر إليها متعجبا، وقال لها متأسفاً: ءأنتِ من أنفقت عمري في سبيلك!؟ ليتني ما فعلت، الآن أدركت أنني كنت أسابق في الاتجاه الخطأ، ويندم حيث لا جدوى من الندم، كلا ثم كلا، لم تكن خشية النبيِّ ﷺ من هذا القبيل أبداً، حيث كان يعلم علم اليقين أنه يبحث عن إله واحد ويشعر أنه قريب مجيب وحتماً سوف يسمعه ويكلمه وكان ينتظر كلامه بكل شوق، ولما جاءه رسوله خشي على نفسه، فقد كنتَ قد أعلنتَ مراراً أنك تقدم نفسك ذبيحةً من أجل إنقاذ العالم، وقد أعلنتَ مراراً أنك على استعدادٍ تامٍّ أن تكون لله كجارحةٍ من الجوارح للإنسان، فلا تقوم إلا بإذنه ولا تسكن إلا بإذنه، لقد كنت تتوق لمعرفة أيِّ سبيلٍ تسلك لهداية القوم، الآن أرسلنا إليك من يضعك على أول السبيل، ويعطيك خارطة الطريق، وليس مطلوب منك إلا أن تتبع النهج، وتقفو الأثر، لتكون عابدا وتجعل مَن دونك عُبّاداً، وتلك أمانتي، هل بوسعك أن تحملها؟ لقد كانت خشيته ﷺ ناشئة من يقينه أنْ قد تبيَّن له أنَّ ربه كان عند ظنه فيه، فهل سيتمكن هو من أن يكون عند ظن ربه فيه؟ كان أصل خشيته نابعاً من رغبته الجارفة في الوصول إلى أعلى درجات التفاني والانصياع والفناء في ربه، وخدمة الخلق ومواساتهم، وها هي رحلته قد بدأت، فهل هو أهلٌ لها؟ وهل هو من أربابها؟ وهل سيتمكن من أداء هذه الآمانة حق أدائها يا إلهيَ الحبيب الرفيق، لابد أنك اخترتني تعطفاً منك، أما أنا فلست بشيءٍ في المخلوقين، وإن كنتَ ترى فيَّ من ميزة فمن تفضلك عليَّ وإحسانك بيَّ، أما أنا فلست بشيء مذكور على الإطلاق، وإن كنتَ قد اصطفيتني لرسالتك فلن تقوم لرسالتك قائمة بدون عونك، كما لم تقم لي قائمة بدونك، فكن لي ظهيراً وعوناً لأتمكن من إنجاز ما وعدت.
هكذا كانت خشية الرسول ﷺ على نفسه، وهكذا أظهرت تلك الخشية كم هو منكِر لذاته، متفانٍ في ربه، يُرجع كل فضل إليه، ويُعلن أنه لن يكون شيئاً بدونه أبداً، وكأنه كان يُدرك جيداً معنى قوله تعالى: «إنا لله»، بمعنى أننا مخلوقون في الأساس لنكون لله كما تكون الجوارح للإنسان، ليس لنا إرادة منفصلة عن إرادته، «وإنا إليه راجعون»، بمعنى أننا ولو كنا نبدو منفصلين عنه في الظاهر، ونملك إرادة حرة خالية من أي إكراهٍ أو إجبار على القيام بأمر أو تركه إلا أننا راجعون إليه في النهاية كأننا منه كالجوارح للإنسان، ولكن هل نقدر أن نكون عند حسن ظنه فينا حقاً؟ هكذا كانت خشيته ﷺ على نفسه نظراً لإحساسه الطبيعيّ بقصوره البشريّ، وشعوره بالضعف أمام هذه المهمة الجليلة العاتية التي اختاره الله لها.
لم تكن خشية النبيِّ ﷺ من هذا القبيل أبداً، حيث كان يعلم علم اليقين أنه يبحث عن إله واحد ويشعر أنه قريب مجيب وحتماً سوف يسمعه ويكلمه وكان ينتظر كلامه بكل شوق، ولما جاءه رسوله خشي على نفسه، فقد كنتَ قد أعلنتَ مراراً أنك تقدم نفسك ذبيحةً من أجل إنقاذ العالم، وقد أعلنتَ مراراً أنك على استعدادٍ تامٍّ أن تكون لله كجارحةٍ من الجوارح للإنسان، فلا تقوم إلا بإذنه ولا تسكن إلا بإذنه، لقد كنت تتوق لمعرفة أيِّ سبيلٍ تسلك لهداية القوم، الآن أرسلنا إليك من يضعك على أول السبيل، ويعطيك خارطة الطريق، وليس مطلوب منك إلا أن تتبع النهج، وتقفو الأثر، لتكون عابدا وتجعل مَن دونك عُبّاداً، وتلك أمانتي، هل بوسعك أن تحملها؟ لقد كانت خشيته ﷺ ناشئة من يقينه أنْ قد تبيَّن له أنَّ ربه كان عند ظنه فيه
فضل حكيمة قريش
كان هذا هو تعليقه ﷺ على ما رأى في الغار وسمع، «لقد خشيتُ على نفسي» ولكن، ماذا كان رد أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها على كلماته تلك؟ لقد كان رداً عميقا مليئاً بالوعي، وحُقَّ لها أن تُسمّى: حكيمة قريش، حيث قالت بكل يقين وثبات: «كلا، واللهِ لا يخزيك الله أبداً» وقولها رضي الله عنها: «كلا» يفيد بكل يقين أن تلك الفرضية ليست ذات محل هنا أبداً، إنما أنت لا تعرف قدر نفسك جيداً، وتقول هذا ـ فقط ـ من منطلق رمي النفس بالضعف والقصور، إنما الحقيقة مختلفة عن ذلك تماما بعيداً عن الإحساس بنكران الذات ونفي أيّ موهبة ذاتية، وما الخزي؟ هو أن يكون عند الإنسان رجاء في عونٍ فيتخلَّى عنه من كان يرجو عونَه لأنه لا يراه أهلا للقيام بهذا الأمر، ولا فائدة من معونته نظراً لقصوره وضعفه وعدم قدرته على التمكن من القيام بواجباته ومقتضيات وظيفته، فكأنها كانت تطمئنه على نفسه، وتهبه دفعة معنوية قوية لمزيدٍ من بث الثقة فيه، لأن الله ما دام هو الذي اختاره فهو الأعلم يقيناً أنه قادر كل القدرة على القيام بما سيكلفه به وينجح فيه إلى أقصى الدرجات، ويبلغ فيه إلى أسمى الغايات، لا يخزيك وقد اصطفاك بعدما ابتلاك واجتباك.
انظر إلى كلمات أم المؤمنين خديجة بعينيْ قلبك، وتأملها لعلك تزداد يقيناً، فإنها تقول: «واللهِ» إذن هي تعرف الله، وتؤمن بوجوده، وأنه هو الإله الواحد الذي تتوجب له العبادة، ثم تقول: «لا يخزيك» فمن المعروف عنه سبحانه أنه يهرول إلى من جاءه يمشي، ليس من صفاته الخزيُ أبداً، و«أبداً» هذه التي قالتها رضي الله عنها تصرح بكل يقين أنها طالما جربت من الله الوفاء، ولم تجرب عليه خزياً ولو لمرة واحدة، فهي تنفي احتمال كون الله مخزي الساعين إليه بصدق، والباحثين عنه بحق، بحيث تبدو تلك الصفة أزليةً أبديةً فيه سبحانه، وأن هذا الحكم لا يكون إلا من مجربٍ كم كانت له من التجارب حتى يُصدر هذا الحكم بهذا اليقين، هل لظانٍّ أن يظن أن اختيار خديجة لتكون زوجاً للرسول ﷺ في تلك الفترة الدقيقة من حياته كان أمراً عشوائيا أتت به الصدفة أو وضعتها في طريقه الظروف؟ كلا ثم كلا، إنه تدبير المهيمن القيوم، ليكشف الله عن وجه وجوده، وكمال تدبيره وحكمته، لتكون له خير معين.
أفعالٌ راسخة، وليست أقوالاً زائفة
ولربما كان لبعضهم رأيٌ آخر فيما افتتحت به خديجة رضي الله عنها كلامها معه ﷺ، ولربما رأوا كلامها ضرباً من التأييد الأجوف والمواساة اللفظية الفارغة من أي سند حقيقيّ، لكنها رضي الله عنها أثبتت فساد تلك الظنون كلها، فأرادت أن تثبتها فنقلتها من حيّز الأقوال إلى حيّز الأفعال، وكأنها تقول: لماذا أُقسم أن الله لن يخزيك أبداً؟ لأنك قدَّمتَ أسباب التأييد والنصرة، ولم تكن يوما ممن يُخزُون الناسَ فيُخزَون، فلأي سببٍ يخزيك؟ ولأي عمل عملتَه في حياتك يخزيك؟ «إنك لتصل الرحم» ومن واقع التجربة أن الله يصل من يصل الرحم، فكيف يقطعك ويُخزيك؟ «وتصدُقُ الحديثَ» فكيف لا يَصدُقك ويعطيك الطاقة والقدرة على ما سوف يكلفك به من مهام؟ إنه صادق مع الصادقين، بمعنى أنه يمنح الصادقين القدرة التامة على أن يصدُقوا في تنفيذ ما وعدوا، ولا يُخزيهم أبداً، «وتَحمِل الكَلَّ» أي أنك تعين الضعيف لدرجة أنك تتكفل بحاجياته كلها، وكم من بيوت تفتحها، وكم من ضعفاء أنت نصيرهم، وكم من معدَمين أنت كفيلهم، فكيف يتخلى الله عمن لا يتخلى عن عباده؟ «وتَكسِبُ المعدومَ» بمعنى أن الأخلاق الحميدة التي انعدمت من الناس جميعا أنت وحدك تتحلى بها، وإن كان أحدٌ من الناس يمكن أن تتنزل عليه بركات الله لطهارة قلبه وتحليه بمكارم الأخلاق التي تخلى عنها الجميع فليس في البشرية خيرٌ منك، «وتَقري الضيف»، وإقراء الضيف إكرامه وتقديم الطعام والشراب وتهيئة أسباب الراحة له حتى يرحل، ومن يُكرم الناس حقَّ على الله إكرامُه، ولا سيما أننا له سبحانه كالضيوف، استضافنا مدة أعمارنا في مُلكه، وأكرمنا فوهبنا حياتنا وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وخلق فينا أجهزة مُبهرة تمكننا من القيام بأعمالنا بكل دقة وكفاءة، وأرسل لنا أنبياءه وكتبه ورسالاته دون أن يكون لنا أدنى أعمال سابقة نؤجر عليها، وأنك يا محمد ما زدتَ على أنْ كنتَ صورة مصغرة من ربك فأكرمت ضيفك كما يكرم هو ضيوفه، فكيف يخزيك؟ «وتعين على نوائب الحق» فمن كان يحمل رسالة حق تعرَّضَ للنوائب لا محالة، وقد كنتَ دوما معينا لهؤلاء نصيرا لهم، فكيف يُخزيك الله وأنت من يحمل أسمى رسالة للحق عرفتها البشرية؟ والجزاء من جنس العمل، ولابد أن يكون جزاؤك أن يعينك الله على حمل رسالة الحق كما كنتَ تعين الناس من أجل أداء واجباتهم، «وتؤدي الأمانة» فكم هو مشهورٌ بين الناس تسمية أهل مكة جميعاً لك ﷺ بالصادق الأمين، وائتمنوك وحدك دوناً عما سواك على أماناتهم، وكان هذا اعترافا ضمنيا منهم أنك لا تخون أبداً، وكأن شهاداتهم لك ـ جميعاً ـ على جدارتك لحمل أمانات الأرض كانت تهيئة ربانية على اعترافهم أنك ـ وحدك ـ الأجدر على حمل أمانات السماء أيضاً، وأن الله تعالى جعل اختيار الناس لك لحمل أماناتهم علامة على اختيار الله لك لحمل أمانته، كن مطمئنا تماماً، فلن يخزيك الله أبداً، وكأنها رضي الله عنها قالت له ﷺ بعدما سمعت منه ما سمعت: كن نبيَّ هذه الأمة، فليس أجدر منك بها، وليس أقدر منك عليها، فقد حُزتَ من الكمالات ما لم يكن لسواك أن يحوز.