استدارة الزمان ومبدأ الاستدراج الإلهي

استدارة الزمان ومبدأ الاستدراج الإلهي

التحرير

  • كيف بدأت الإنسانية تدرك مدى كرامتها أصلا؟
  • أية علاقة لحركة الفتوحات الإسلامية بالكرامة الإنسانية؟
  • إذا كانت الفتوحات الإسلامية وتوطيد مبادئ كرامة الإنسان أمران متلازمان، فهل يجوز القول بتوقف تلك الفتوحات في هذا الزمان؟

 ___

 لقد عانت الدنيا الشدة والضيق الروحاني آلافًا من السنين، كانت مفتقرة أثناءها إلى كل ما تتمتع به الآن وكأنه من قبيل البدهيَّات، إذ ما كان يخطر ببال فيلسوف عظيم من فلاسفة الأمم الغابرة المعتبَرين أن يأتي يوم تُقدَّس فيه حقوق الإنسان وقيم الإنسانية، ولو على سبيل إعلان القول باللسان لا أكثر. لقد كان اختراق كرامة الناس هو القانون السائد، ففي أوقات السلم إن لم تسترقَّ الخلقَ استرقُّوك، وفي الحرب إن لم تقتُل فلسوف تُقتل حتمًا، أو تُسترقَّ في أحسن الأحول، ولا تُحدِّثني حينئذ عن حقوق الأسرى، ناهيك عن حقوق الإنسان بوجه عام.

لقد ذَكَرَ النَّبيُّ في خطبة حجة الوَداعِ وَصايا جامِعةً لأُمَّتِه، فيها الكَثيرُ مِن الأوامِرِ، والنَّواهي، والتَّوْجيهاتِ، بدأها بإشارته إلى صيرورة الزمان فقال: «إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ»(1)، وفي موضع لاحق من نفس الخطبة، تطرَّق  النبي إلى الحديث عن حرية الإنسان وكرامته، وذلك أنَّ العرَبَ كانوا يتلاعبون بالتقويم ليبيحوا لأنفسهم القتال في الأشهر الحُرُم، منتهكين بذلك حُرمتها وقدسيتها، مع أنَّ تلك الحُرمة ما أُصِّلت إلا تحريما لدم الإنسان وكرامته! من هنا نفهم أن أوَّل معاني الإسلام المتبادرة إلى الذهن تصديرُ السلام والسلامة إلى الآخرين، ولندركَ معنى البنية اللفظية للفظة «الإسلام» نقيسُها على بنية لفظية أخرى متداوَلة، وهي «الإفهام»، والتي معناها تصدير الفهم إلى الغير.

وحرصًا على ألا تذهب الظنون كل مذهب بمشاهد غلاف العدد، حين ترمق عيناه سَرِيَّةَ فرسانٍ لا يبدو أنهم مسلمون، نحونا منحًى مختلفًا، إذ أبرزنا على غير المعتاد، وجهة نظر خصومنا من المستشرقين، إذ لا يرون في فتوحاتنا الإسلامية أكثر من جحافل خرجت من الصحراء لغزو مروج الأرض ونهب ثرواتها، (كما هو دأب شعوب المستشرقين من قديم الزمان إلى يومنا هذا) ونسبوا ما هم عليه عبر تاريخهم المظلم وإلى يومنا هذا من مظالم وانتهاكات إلى الفتوحات الإسلامية.

وبعد أن أعلن النبي مبدأ حقوق الإنسان، بصورة نظرية نوعًا ما، حلَّ عصر الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وجاء دور تطبيق وتنفيذ تلك الحقوق على مستوى الواقع، فكانت حركة الفتوحات الإسلامية ميدانًا طبق فيه المسلمون ذلك المبدأ الحقوقي على نحو واضح، فلم يُكرَه إنسان على اعتناق الإسلام، لا في مصر، ولا في فارس، ولا الشام، ولم تُتَّخذ أية إجراءات حكومية من أجل الأسلمة أو التعريب القسريين، وعلى الرغم من كثرة الشواهد التاريخية التي تؤكد أن حركة التوسعات الإسلامية المبكرة لم تكن احتلالا إمبرياليا، بل كانت خيرا عم أهل البلدان المفتوحة، إلا أن التعامل الاستشراقي مع هذه القضية التاريخية تناولها إما بسوء فهم أو سوء ظن، وكلا الأمرين أسفرا عن تشويه للحقيقة، ولعل المستشرقين معذورون في سوء تناولهم هذا، إذ لم يكادوا يقرأون عن حركة توسع عسكري إلا وكانت لأغراض دنيوية وأطماع سياسية واقتصادية، بينما لم يمر بخاطرهم نظيرٌ للفتوحات الإسلامية التي كانت خلاصًا لأهل البلدان المفتوحة ولو زعم بعكس ذلك المستشرقون. وتأكيدًا على هذه الحقيقة نستشهد بفقرة من كتاب سير القديسين المصريين، والمسمى «السنكسار»، والذى يتلى منه عادة فصل يناسب كل يوم في صلوات الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، ويُتلى منه وِردٌ محدد لكل يوم من أيام العام، نقتبس منه فقرة وَرَدَ فيها: “أما عمرو بن العاص فإذ علم باختفاء البابا بنيامين، أرسل كتابا إلى سائر البلاد المصرية يقول فيه: الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنا مطمئنا ليدبر شعبه وكنائسه، فحضر الأنبا بنيامين بعد أن قضى ثلاث عشرة سنة هاربا، وأكرمه عمرو بن العاص إكراما زائدًا، وأمر أن يتسلم كنائسه وأملاكها»(2).

وحرصًا على ألا تذهب الظنون كل مذهب بمشاهد غلاف العدد، حين ترمق عيناه سَرِيَّةَ فرسانٍ لا يبدو أنهم مسلمون، نحونا منحًى مختلفًا، إذ أبرزنا على غير المعتاد، وجهة نظر خصومنا من المستشرقين، إذ لا يرون في فتوحاتنا الإسلامية أكثر من جحافل خرجت من الصحراء لغزو مروج الأرض ونهب ثرواتها، (كما هو دأب شعوب المستشرقين من قديم الزمان إلى يومنا هذا) ونسبوا ما هم عليه عبر تاريخهم المظلم وإلى يومنا هذا من مظالم وانتهاكات إلى الفتوحات الإسلامية.

وفي هذا المقام نود أن نوضح أننا لا نعمم قولنا على حميع المستشرقين حيث ظهر منهم بعض المنصفين الصادقين. وإذ نحن في القرن الخامس عشر الهجري، نرى التطوُّر العظيم لمنظومة القيم الإنسانية، التي غُرِست بذرتها الأولى في عصر نبوة سيدنا محمد وتنَزُّل القرآن، فنلمس ذلك التطور في ازدياد الوعي بحقوق الإنسان، طفلا وامرأة وأسيرًا ومواطنا ولاجئا، وهو ما لم يكن قدامى الفلاسفة والمفكرون يحلمون به قبلا كما أسلفنا. فلا نستبعد إذن أن تتنامى معرفة الإنسانية بخالقها بنفس الكيفية التي عَرَفَتْ بها كرامتها، فالمسألة ليست أكثر من مسألة وقت، وكما استُدرجت الإنسانية عبر التاريخ لتُقرَّ بحقوقها وكرامتها، كذلك فإنها تُستدرَجُ لتقرَّ بحق خالقها وإلهها الواحد الأحد، وهو القائل في محكم التنزيل:

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. (3).

قراء التقوى، إنما سمي العيد عيدًا لأنه يعود في موسمه من جديد، ومع عيد الفطر المبارك، الذي يطلع فجره في آخر يوم من مارس هذا العام، لتتزامن بذلك فرحتان، فرحة بالفطر السعيد، وفرحة بالربيع بعد البرد الشديد، ومع هذه الفرحة وتلك، نذكر ربيع الفتوحات الإسلامية، والذي عاد كذلك للحلول في هذا العصر، لكن بتجلٍّ جديد، لا دخل للسيف فيه ولا السلاح، ولكن بالسلم والصلح والإصلاح، بحيث لم نعد بحاجة إلى مواصلة حركة الفتوحات الأولى على مساحات الأرض، ذلك لأن خلافتنا منشغلة في فتح أعماق القلوب. وفي عدد مجلة التقوى لهذا الشهر، أبريل 2025، يتخيَّر فريق التحرير من أرشيف خطب سيدنا أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) خطبته خلال جَوْلَة حَضْرَته المُبَارَكَة فِي الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّة، والتي قام خلالها بتَوَسُّعَاتٍ عظيمة فِي قلوب أهالي مُدُنٍ كدالاس، وصهيون، وما أدراك ما صهيون! هي عقر دار ومُنشأة أحد ألد أعداء الإسلام زمن المسيح الموعود ، إنه ألكسندر دوئي، والذي كان هلاكه تصديقا لنبوءة المسيح الموعود ، ولا زال تيار التصديق مستمرا، ففي عام 2022 تسلَّم خليفة المسيح الخامسُ مفتاح مدينة صهيون من عمدتها، في إشارة رمزية لا يدركها إلا المتبصِّرون. فذلك المشهد، حسبما نراه، ترجمة واقعية لقول حضرة الربوبية:

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (4).

الهوامش:

1. سنن أبي داود، الصفحة أو الرقم: 1947

2. الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، كتاب «سير القديسين (كتاب السنكسار القبطي)” نياحة البطريرك بنيامين الأول الـ 38 (يوم 8 طوبة)

3. (القلم: 45)

4. (مريم: 41)

Share via
تابعونا على الفايس بوك