نبوءات وكرامات على طريق الهجرة النبوية
- ما تلك الكرامات التي أظهرها الله تعالى على يد نبيه خلال رحلة الهجرة؟
_____
قبسات من خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام بتاريخ 14/1/2022م
في مسجد مبارك بإسلام آباد، بريطانيا
النبوءة بحق سراقة وسواري كسرى
كان الحديث جاريا عن سيدنا أبي بكر ، وذكرتُ في الخطبة قبل الماضية أن سُراقة كان ممن خرج في أثَر النبي بنية إلقاء القبض عليه، طمعًا في الجائزة، ولكن قدر الله وضع العراقيل أمامه، فسأل النبيَّ أن يكتب له عهد أمان عندما يصبح المــُلك له، ففعل .
وهناك روايات أخرى بهذا الشأن، منها أن النبي قال لسراقة عندما أراد أن يرجع: كيف بك يا سراقة إذا لبستَ سِواريْ كسرى؟ فالتفت إلى النبي وقال في دهشة: كسرى ابن هرمز؟! ثم في عهد خلافة سيدنا عمر جيءَ بسواريْ كسرى وتاجِه ونطاقه، فدعا سيدنا عمر سراقةَ وقال له: ارفعْ يديك، ثم ألبسه السوارين وقال: قُلْ: الحمد لله الذي سلَبهما كسرى بنَ هرمز وأَلْبَسَهما سراقةَ.
وورد أيضا أن سراقة بن مالك لم يُسْلِمْ في سفر الهجرة، بل أسلمَ عند الجِعْرانةِ عند عودة النبي من حنين والطائف. والجعرانة بئر قرب مكة ما بينها وبين الطائف. فقال له النبي يا سراقة، كيف بك حين تلبس سواري كسرى؟!
وقد كتب حضرة مرزا بشير أحمد بهذا الخصوص في سيرة خاتم النبيين: لم يذهب النبي وأبو بكر بعيدا حتى رأى أبو بكر فارسا يركض بحصانه وراءهما. فقال أبو بكر قلقا: يا رسول الله، هناك شخص يتعقبنا. فقال النبي : لا تحزن، إن الله معنا. وكان هذا المتعقب هو سراقة بن مالك الذي قد ذكر قصة مطاردته لهما كالآتي:
ثم ذكر حضرة المصلح الموعود باقي القصة من استقسامه بالأزلام وتعثر حصانه وسقوطه، ثم قال: قال سراقة: كان النبي ممتطيا ناقته بكل وقار، ولم يلتف إلي، أما أبو بكر فكان يكثر الالتفات والنظر خوفًا على النبي .
وبعد بيان تفاصيل واقعة تعقب سراقة للنبي قال حضرة المصلح الموعود: عندما أراد سراقة العودة كشف الله تعالى للنبي الغيب عن مستقبل سراقة، فقال بناء عليه: يا سُراقة، كيف بك وسِواريْ كسرى في يدك؟ فسأل في دهشة: كسرى بنِ هرمز، إمبراطورِ الفُرس؟! فقال : نعم».
مصاديق النبوءات ومسائل الشريعة
لقد تحققت هذه النبوءة النبوية، أي النبوءة بحق سراقة، تحققت حرفيًّا بعد ستة أو سبعة عشر عامًا. إذ أسلمَ سراقة وهاجر إلى المدينة، وبعد أن توفي الرسول وخلَفه أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، وبرؤية قوة الإسلام المتنامية بدأ الفُرس الهجوم على المسلمين، لكن بدلاً من أن يسحقوا المسلمين سُحقوا هم أنفسهم، وديست عاصمة كسرى تحت سنابك خيل المسلمين، ووقعت كنوز كسرى في أيديهم. وكان من بين غنائم الدولة الفارسية التي وقعت في أيدي الجنود المسلمين السوارانِ الذهبيان اللذان كان يلبسهما كسرى عندما كان يجلس على العرش كعادة ملوك الفرس. وكان سُراقة بعد إسلامه يحكي للمسلمين بكل فخر هذه القصة التي وقعت مع رسول الله أثناء الهجرة، وكان المسلمون يعرفون ما قاله النبي مخاطبا سراقةَ وهو: كيف بك يا سراقة وسوارا كسرى في يديك. وعندما وُضعت أموال الغنائم بين يدي عمر ولمح بينها سواري كسرى تمثَّلت القصة كلها أمام عينيه، وكيف أن رسول الله اضطُرّ إلى مغادرة وطنه إلى المدينة في ضعف وقلة حيلة، وكيف أن سراقة وغيره من الناس خرجوا بخيولهم وراءه لكي يظفروا به حيا أو ميتا فيقدموه إلى أهل مكة لينالوا مكافأة مئة ناقة، وكيف أن النبي قال لسراقة عندها: يا سراقة كيف بك وسوارا كسرى في يديك.
كم كانت هذه نبوءةً عظيمة! وكم كان هذا غيبا خالصا! ولما رأى سيدنا عمر سواريْ كسرى حاضراين بين يديه تجلت له قدرة الله العظيمة، فقال ادعوا سراقة. فدُعي فأمره أن يلبسهما.
فقال سُراقة: يا خليفة رسول الله، إن لبس الذهب حرام على رجال المسلمين. فقال عمر : نعمْ، ولكن ليس في مثل هذه المناسبة. كان الله تعالى قد أرى محمدا رسول الله سواريْ كسرى الذهبيتين في يديك، فالبسْهما وإلا سأعاقبك. لم يكن اعتراض سُراقة هذا إلا بسبب المسألة الشرعية، وإلا فكان هو أيضا يتمنى رؤية تحقق هذه النبوءة العظيمة لرسول الله . فلبسَ سراقةُ السواريْن في معصميه، ورأى المسلمون بأم أعينهم تحقُّقَ هذه النبوءة العظيمة لرسول الله .
ثم ورد بعد ذلك أن سراقة عندما كان عائدا إلى مكة لقيتْه جماعة أرسلتهم قريش بحثًا عن النبي فسألوا سراقة عن النبي ، ولكنه لم يخبرهم عنه ، وليس ذلك فحسب، بل حدثهم بما ضللهم وجعلهم يعدلون عن البحث والمطاردة ويعودون أدراجهم.
وبعد بيان تفاصيل واقعة تعقب سراقة للنبي قال حضرة المصلح الموعود: عندما أراد سراقة العودة كشف الله تعالى للنبي الغيب عن مستقبل سراقة، فقال بناء عليه: يا سُراقة، كيف بك وسِواريْ كسرى في يدك؟ فسأل في دهشة: كسرى بنِ هرمز، إمبراطورِ الفُرس؟! فقال : نعم».
شاةُ أمِّ معبد، وإسلامُ قومها
ومن بين أحداث الهجرة قصة أم معبد أيضا، حيث ورد أن النبي وصاحبه مرا في سفر الهجرة هذا بخيمة وتوقفوا عندها طلبًا للزاد، وكانت هذه خيمةَ أم معبد. واسمها عاتكة بنت خالد، وكانت من بني كعب من خزاعة. وهي أخت حبيش بن خالد الذي كان صحابيا نال شرف الرواية عن النبي . وزوجُها أبو معبد، ويقال أنه أيضا قد روى عن النبي ، وتوفي في حياته . واسم أبو معبد غير معلوم. كانت خيمة أم معبد في مكان يدعى قديد، وهي قرية على مقربة من مكة، وتقع على مسافة بضعة أميال من رابغ ناحية الجنوب، حيث الصنمُ الشهير مناة، الذي كان يُعبد.
كانت أم معبد امرأة شجاعة وقوية، وكانت تجلس في فناء خيمتها وتطعم وتسقي المارة. فسألها النبي وأصحابه لحمًا وتمرا ليشتروهما منها، فلم يكن عندها شيء من ذلك، وكان قومها عندها مُرْمِلين مسنتين (أي مضروبين بالقحط والفاقة)، فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم. فنظر رسول الله إلى شاة في كِسْرِ الخيمة فقال: «ما هذه الشاة يا أمَّ معبد»؟ قالت: شاة خلّفها الجهدُ عن الغنم. (أي لم تخرج من شدة ضعفها للرعي مع باقي القطيع). قال: «هل بها مِن لبن»؟ قالت: هي أجهدُ من ذلك. (أي لن يكون بها لبن). قال : أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي نعم إن رأيت بها حليبا فاحلبها …فشأنك بها. فدعا بها رسول الله فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط(2) فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شربا. ثم حلب فيه ثانية حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها. فبايعها، (3) وارتحلوا عنها.(4)
ورد أيضا أن النبي مع صاحبه المخلص أبي بكر واصل سفره بتأييد من الله ونصرته وكأنه في رعاية الملائكة. على الجانب الآخر لم يكن أهل مكة ليتقبلوا الهزيمة بل كانوا يجدُّون في البحث عنه. فجاء جماعة من قريش باحثين عنه حتى بلغوا دار أم معبد، فنزل الرجال عن مطاياهم فانطلقوا إلى أم معبد وسألوها عن رسول الله فخافت عليه منهم فقالت: تسألوني عن أمر ما سمعت به قبل عامي هذا. ما أدري ما تقولون. وأثقلوا عليها في السؤال فقالت: لئن لم تنصرفوا عني لأصرخن في قومي عليكم. كانوا يعلمون أنها في عز من قومها فآثروا أن ينقلبوا إلى أهلهم. (5)
ومن جملة الأحداث في طريق الهجرة أيضا لقاء النبي وصاحبه أبي بكر بالزبير بن العوام ، حيث كان النبي في طريقه إذ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ.(6)
كتب مرزا بشير أحمد عن هذا اللقاء: التقى النبي بالزبير بن العوام، الذي كان عائدًا إلى مكة مع مجموعة صغيرة من المسلمين بعد رحلة تجارية إلى الشام، فقدم الزبير ثوبًا أبيض إلى النبي وآخر لأبي بكر، وقال أنه سوف يعود قريبًا من مكة وينضم إليهم في المدينة. ….
ومن طرائف الأحداث ما رواه مرزا بشير أحمد نقلا عن صحيح البخاري أن كثيرا من الناس لقوافل أخرى كانوا يعرفون أبا بكر لأسفاره التجارية في تلك الطرق، فكانوا يسألونه: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ. قَالَ: فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ(7)…
وورد عن وصوله منزله أنه بعد ثمانية أيام بفضل الله تعالى وصل قباء في الطريق إلى المدينة، وجاء في رواية أن النبي ولد يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين. (8)
قباء (اسم بئر هناك عُرفت القرية بها) وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وهي كانت على بعد ميلين عن المدينة.(9) وعند البعض تبعد عن المدينة بثلاثة أميال وتسمى العالية. (10) سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله من مكة فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ (المدينة واقعة بين الحرتَين، والحرة أرض ذات حجارة سود نخرة، وفي شرق المدينة حرة واقم وتسمى حرة بني قريظة أيضا. والأخرى حرة الوَبرة وهي على ثلاثة أميال من المدينة.) (11)
وبحسب رواية أخرى للبخاري لبث أربع عشر ليلة وأسس المسجد الذي أُسس على التقوى وصلى فيه. وبحسب هذه الرواية للبخاري لبث في قباء بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وبحسب رواية لَبِثَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أي في قباء أربعة أيام، يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج إلى المدينة يوم الجمعة. وفي رواية أخرى ورد أنه نزل بقباء اثنتين وعشرين ليلة. (13)
قال المصلح الموعود وهو يتحدث عن قدوم النبي قباء: بعد أن صرف سُراقة وصل النبي إلى المدينة بعد قطع بضعة منازل من السفر، حيث كان الناس ينتظرونه بشوق عظيم وصبر بالغ، فلا يمكن أن يطلع عليهم فجر يومٍ أسعد من هذا اليوم؛ فإن الشمس التي كانت تشرق بنورها على مكة قد جاءت لتشرق على المدينة. حين وصلتهم الأخبار بأن الرسول قد غادر مكة، منذ ذلك كانوا يترقبون وصوله. ظلت مجموعات منهم يخرجون من المدينة في الصباح، وينتظرونه على مبعدة أميال منها، ثم يعودون في المساء كاسفي البال. وعندما بلغ الرسول المدينة أخيرًا، قرر التوقف عند قباء برهة، وقباء قرية قرب المدينة. ورأى أحد اليهود البعير، وحدَس أنه ركب محمد رسول الله ، فارتقى ربوَة ونادَى عاليًا: «يا بني قيلة، (قيلة كانت واديا لأهل المدينة، وكان أهلها يُسمون بني قيلة أيضا) ها قد جاء الذي أنتم تنتظرون». فهرع إلى قباء كل من سمع النداء، بينما ملأت الفرحة أهل قباء بوجود الرسول بينهم، وفي تلك المناسبة وقع بقباء ما يدل على البساطة المطلقة للرسول ، إذ لم يكن أغلب أهل المدينة قد رأوا رسول الله من قبل، ولما كان جالسا تحت شجرة خارج قباء أسرع أهل المدينة إليه، ولأن النبي كان جالسا بكل بساطة لذا ظن الذين لا يعرفونه أن أبا بكر هو الرسول، لأنه وإن كان أصغر من رسول الله عمرا ولكن لحيته كانت أكثر شيبة من لحية رسول الله، كما كانت ملابسه أفضل من ملابس الرسول ، ولذلك تحوّلوا إلى أبي بكر وجلسوا أمامه بكل احترام، فلما رأى أبو بكر أنهم أخطأوا، نهض وخلع عباءته وحجب بها أشعة الشمس عن الرسول وقال: «يا رسول الله، إنك تجلس في الشمس فدعني أظلّلك». وبهذه البراعة واللطف، بيّن أبو بكر لأهل المدينة ما أخطأوا فيه.(14)
بعد أن صرف سُراقة وصل النبي إلى المدينة بعد قطع بضعة منازل من السفر، حيث كان الناس ينتظرونه بشوق عظيم وصبر بالغ، فلا يمكن أن يطلع عليهم فجر يومٍ أسعد من هذا اليوم؛ فإن الشمس التي كانت تشرق بنورها على مكة قد جاءت لتشرق على المدينة. حين وصلتهم الأخبار بأن الرسول قد غادر مكة، منذ ذلك كانوا يترقبون وصوله. ظلت مجموعات منهم يخرجون من المدينة في الصباح، وينتظرونه على مبعدة أميال منها، ثم يعودون في المساء كاسفي البال
قصة الْمَسْجِد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
بيَّن مرزا بشير أحمد تفصيل هذه الواقعة فقال نقلا عن رواية صحيح البخاري: قد ورد في صحيح البخاري عن البراء بن عازب: مَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللهِ .(15) وجاء في سنن الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك قال: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ. (16) وبعد لقاء النبي المستقبلين -لسبب ما لم يَرِدْ ذكرُه في التاريخ- لم يدخل المدينة مباشرة بل انحرف نحو اليمين ونزل بضاحية من ضواحي المدينة وهي أكثر ارتفاعا من المدينة وتبعد عنها بأكثر من ميلَين وتسمى قباء، وكانت بعض عائلات الأنصار، ومن أشهرهم بنو عمرو بن عوف، يسكنون في قباء. وكان زعيمهم في ذلك الوقت، كلثوم بن الهدم، وقد رحب الأنصار في قباء بالنبي بابتهاج كبير واختار أن ينـزل عند كلثوم بن الهدم. والمهاجرون الذين وصلوا إلى المدينة قبل حضرته كان معظمهم مازالوا مقيمين في بيت كلثوم بن الهدم وبعضِ الأنصار الكرام الآخرين، وربما لهذا السبب أراد النبي أن يقيم في قباء أولا، فانتشر خبر وصوله في المدينة كلها فورا، وبدأ المسلمون كلهم يتوافدون إلى مقر حضرته متلهفين بسرور. وعن بناء مسجد قباء ورد أن رسول الله أسس مسجدا أيضا أثناء إقامته في قباء، يسمى مسجد قباء.
وقد ورد عن مسجد قباء أنه هو المسجد الذي أُسس على التقوى، وفي بعض الروايات عُدَّ المسجد النبوي الذي أُسس على التقوى. وجاء في السيرة الحلبية أنه لا تعارض بين هذين القولين، لأن كل واحد منهما قد أُسس على التقوى حصرا. وهذا الرأي يؤيده قول ابن عباس أيضا، فكان يرى أن جميع مساجد المدينة بما فيها مسجد قباء أيضا قد أُسست على التقوى. أما الذي نزلت عنه آيةٌ، فهو مسجد قباء حصرا. وبعد المكوث عشرة أيام أو أربعة عشر يوما، انطلق النبي من قباء إلى المدينة يوم الجمعة، وحين وصل إلى حي بني سالم بن عوف حانت صلاة الجمعة، فصلى صلاة الجمعة مع المسلمين في مسجد وادي رانونة وكان عددهم مئة نفر.
وادي رانونة يقع جنوب المدينة، وبعد أن صلى النبي في هذا المسجد صلاة الجمعة، سمي مسجد الجمعة، وكانت أول جمعة صلاها النبي في المدينة. ومن المحتمل أن ذلك المسجد بُني هناك لاحقا، وسُمي مسجد الجمعة لأن النبي صلى فيه الجمعة. ثم ورد أن النبي بعد الفراغ من صلاة الجمعة ركب راحلته وانطلق إلى المدينة، وكان قد أردف أبا بكر .
إسلام بني سهم طوعا
كان الكثيرون عند خروجه قد خرجوا ملاحقين له طمعا في الجائزة، وهناك قصة في كتب التاريخ كالتالي:
يقول بريدة بن الحصيب : حين أعلنت قريش مائة بعير لمن يأتي بالنبي حيا أو ميتا، طمعتُ أنا الآخر في هذه الجائزة فخرجت مع سبعين رجلا من بني سهم، فوصلت إليه. فسألني : من أنت؟ قلت: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر وقال له برد أمرنا وصلح. ثم سألني: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من أسلم من بني سهم، فقال النبي سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر. ثم قلت للنبي من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، لقد أسلم بنو سهم طائعين غير مكرَهين.
فلما أصبح بريدة قال: يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحلّ عمامته، ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه حتى دخل المسلمون المدينة.(17)
كان أهل مكة مذهولين بسبب مفاجأة هجرة النبيّ وأتباعه. ولبعض الوقت لم يفعلوا شيئًا يثير غضبه، وعندما غادرت أسرة الرسول مكة مع أسرة أبي بكر لم يثيروا لهم أية متاعب، ووصلت الأسرتان المدينة دون صعوبات.وفي ذلك الوقت، وضع الرسول أساس المسجد في المكان الذي اشتراه لهذا الغرض، وبعد ذلك بنى بيوتًا له ولصحبه ورفقائه.
دخول المدينة ومشهد احتفاء أهلها
وعن ذلك يقول سيدنا مرزا بشير أحمد : بعد الإقامة في قباء بضعة عشر يوما انطلق النبي إلى المدينة في يوم الجمعة، وكانت معه جماعة كبيرة من الأنصار والمهاجرين، وكان يركب ناقة، وأبو بكر ردفه. بدأ هذا الركب يتقدم إلى المدينة رويدا. في الطريق حان وقت صلاة الجمعة، فتوقف النبي في حي بني سالم بن عوف فألقى خطبة وصلى الجمعة.
يقول المؤرخون إن الجمعة كانت قد بدأت قبل ذلك إلا أنه في هذا اليوم صلى أول جمعة بنفسه، وبعده راجت صلاة الجمعة بانتظام. (ومن هنا أيضا يتبين أن ذلك المسجد بُني لاحقا). وبعد صلاة الجمعة بدأ الركب يتقدم رويدا رويدا من جديد. وفي الطريق عندما كان يمر من بيوت المسلمين كانوا يعرضون عليه بكل سرور بيوتهم وأموالهم وأنفسهم ويتسابقون في ذلك، ويقولون أن لهم منعة أيضا، فليمكث عندهم. لكنه كان يدعو لهم بالخير والسلام ويتقدم إلى المدينة، وصعدتْ نساء المسلمين وبناتُهم سطوح بيوتهن وينشدن فرحة وسرورا أناشيد، منها:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
.
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
كما كان الأولاد المسلمون يتغنون في الشوارع والأزقة فرحين مستبشرين، بورود محمد رسول الله مدينتهم، كما كان العبيد الأحباش من المدينة يعرضون الألعاب بالسيوف ترحيبا به . فلما دخل النبي المدينة تمنى كل إنسان أن يقيم عنده، وكان كل واحد يعرض خدمته أكثر من غيره، لكنه كان يكلِّمهم كلَّهم بحب ولطف ويتقدم، حتى وصلت ناقته حيَّ بني النجار، حيث كان رجال بني النجار يقفون في الصفوف مسلحين لاستقباله وكانت بنات القبيلة يضربن الدفوف ويتغنين:
نحن جوار من بني نجار
يا حبذا محمدا من جار
لحاق أهل النبي وأهل أبي بكر بهما
يقول سيدنا المصلح الموعود عن إحضار النبي أهله وأهل أبي بكر إلى المدينة: بعد مدة قصيرة من وروده المدينة أرسل الرسول عتيقه زيدًا إلى مكة ليُحضر أسرته وأقاربه. كان أهل مكة مذهولين بسبب مفاجأة هجرة النبيّ وأتباعه. ولبعض الوقت لم يفعلوا شيئًا يثير غضبه، وعندما غادرت أسرة الرسول مكة مع أسرة أبي بكر لم يثيروا لهم أية متاعب، ووصلت الأسرتان المدينة دون صعوبات.
وفي ذلك الوقت، وضع الرسول أساس المسجد في المكان الذي اشتراه لهذا الغرض، وبعد ذلك بنى بيوتًا له ولصحبه ورفقائه.
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ الْخَزْرَجَ بِالسّنْحِ. (وهو على بعد ميلين من المسجد النبوي تقريبا في ضواحي المدينة) وَيَقُولُ قَائِلٌ كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ. وفي بعض الروايات أن سيدنا أبا بكر بني له بيتا في السنح ومصنعا للقماش أيضا وبدأ به التجارة.
الهوامش:
- طبقات ابن سعد، الطبقة الرابعة من الصحابة ممن أسلم عند فتح مكة وما بعد ذلك.
- يربض الرهط: أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض، من ربض في المكان يربض إذا لصق به وأقام ملازما له.
- بايعها: أي ابتاع منها لبن الشاة.
- انظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد.
- محمد رسول الله والذين معه لعبد الحميد جودة السحار ج3 الهجرة
- صحيح البخاري، كتاب المناقب
- مرزا بشير أحمد، سيرة خاتم النبيين ﷺ ص242
- سبل الهدى والرشاد ج3، جماع أبواب الهجرة
- معجم البلدان لشهاب الدين ياقوت الحموي ج4 ص377 تحت لفظ «قبا”
- معجم السيرة ص230
- معجم السيرة ص101
- صحيح البخاري، كتاب المناقب
- السيرة الحلبية ج2، باب الهجرة
- مرزا بشير الدين محمود أحمد، مقدمة تفسير القرآن
- صحيح البخاري، كتاب المناقب
- سنن الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله
- انظر: السيرة الحلبية
- صحيح البخاري