معيار خشية الله
- إصلاح الأقوال والأفعال ضرورة لنيل القرب من الله
- معنى الخشية الحقيقي وكسب الحسنات
- الفرق بين الخشية والخوف
- أين علماء اليوم من خشية الله؟
- إنما في الخشية من الله نرتقي وتزداد معرفتنا بالله
__
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)
لقد تحدثتُ في الخطبة الماضية عن شهر رمضان الفضيل وقلت بأن إصلاح الأقوال والأفعال ضروري للاستفادة منه حق الاستفادة، وعندها فقط يمكن أن يكون الصيام وسيلة لتقريبنا إلى الله تعالى، وقلتُ أيضا بأن الصومَ خشيةً لله تعالى فقط يأتي بالبركات الحقيقية من رمضان. ولما كان الحديث يدور حول رمضان فقد ربطتُ الصيام بخشية الله وذكرتُ العلاقة بين الصيام وخشية الله تعالى، وقلتُ بأن الحسنة تصبح حسنة حقيقية إذا كان قلب المرء ينطوي على خشية الله تعالى أيضا. وقلت أيضا في الخطبة الماضية بأنه بقي جزء من هذا الموضوع وسأتناوله فيما بعد. والآن أريد أن أوضّح كلمة “الخشية” قليلا، وقد أضفت إلى هذا الموضوع بعض الأشياء الأخرى أيضا التي سأبينها إلى جانب ذلك.
فإذا كان هذا هو معيار الخشية أنه لا يبلغ شأوها إلا العلماء فإننا نرى في هذه الأيام آلافا بل مئات الآلاف ممن يُدعَون علماء ولكنْ هناك تعارض بين قولهم وفعلهم، ولا يفقهون القرآن الكريم بصورة صحيحة، ولم يقتصروا على عدم الإيمان بإمام الزمن فقط بل بلَغوا المنتهى في انحطاط تصرفاتهم في معارضته، ومع ذلك يُسمَّون علماء!
نستخدم كلمة “الخشية” عموما ولكن لو اطّلعنا على حقيقتها لارتفع مستوانا لكسب الحسنات؛ لذا أودّ أن أذكر معانيها اللغوية أيضا. المعنى الذي يُستنبط من الخشية عموما صحيح أيضا بلا شك، وهو أن من كان يكنّ خشية الله وخوفه فستوجهه إلى كسب الحسنات. ولكن يجب أن يكون معلوما أن خشية الله وخوفه ليس كبقية أنواع الخشية والخوف، وهذا ما وضّحه أصحاب المعاجم؛ فمثلا جاء في أحدها أن الخشية أشد من الخوف. والفرق الثاني بين الخوف والخشية هو: “الخشية تكون من عظمة المخشيّ، والخوف من ضعف الخائف.” (الأقرب).
لقد شرح سيدنا المصلح الموعود هذا الموضوع بالتفصيل لغةً.
ويقول الإمام الراغب في “المفردات”: “الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خُصَّ العلماء بها في قوله تعالى:
من أسلوب الإمام الراغب أنه يبين معاني مختلفة للكلمات من خلال الآيات القرآنية، وقد ذكر هذه الآية في بيان معنى الخشية. ويقول أيضا: إنما يخشى عظمةَ الله أولئك الذين ورد عنهم في القرآن الكريم:
أي أن الخشية بالغيب إنما تتحقق عندما يكون في القلب خوف تقتضيه معرفة الله. فهذا هو معنى الخشية أي أن الخشيةَ خوفٌ ينشأ في القلب من عظمة أحد، ولا يكون نابعا عن ضعف. والمعلوم أن في خشية الله إظهارا لعظمة الله، وإظهارًا لضعف العبد أيضا من ناحية أخرى. ولكن ما المراد من عظمة الله؟ المراد منها هو اليقين بأن الله يملك القدرات كلها، ومحيط بكل شيء، وأن كل شيء خَلقُه وقائم بسببه وكل شيء مِلكه ولا يُنال إلا إذا شاء الله. فلما كان المرء مؤمنا بإله قادر ومقتدر مثله وكانت في قلبه خشيته عندها فقط يستطيع أن يستفيد من فيضه حق الاستفادة.
هنا ينشأ سؤال أنه إذا كان العلماء يتحلون بخشية الله فهل كلُّ من يُعَدّ عالما أو الذي يزعم نفسه كذلك يتحلى بخشية الله في الحقيقة؟ وكذلك لعل غير العلماء لا يستطيعون أن يبلغوا من الخشية مرتبة يريدها الله تعالى. فإذا كان هذا هو معيار الخشية أنه لا يبلغ شأوها إلا العلماء فإننا نرى في هذه الأيام آلافا بل مئات الآلاف ممن يُدعَون علماء ولكنْ هناك تعارض بين قولهم وفعلهم، ولا يفقهون القرآن الكريم بصورة صحيحة، ولم يقتصروا على عدم الإيمان بإمام الزمن فقط بل بلَغوا المنتهى في انحطاط تصرفاتهم في معارضته، ومع ذلك يُسمَّون علماء!
فلا شك أن هذه الأمور تدفع المرء إلى التأمل في أنه قد يكون تعريف العلماء الذين يذكرهم الله تعالى هنا غير ذلك، والذين يسميهم الله تعالى علماء هنا هم غيرهم. فلا يمكن أن يُعدَّ عالما كل من تخرّج من مدرسة دينية بعد نيله تعليما بسيطا، كما يوجد كثير منهم في بلادنا، أو الذين يعُدّهم الناس الماديون أو من حولهم من أشياعهم علماء أو الذين حازوا تعليما دنيويا، لأن هناك نوعا آخر من العلماء أيضا الذين نالوا تعليما دنيويا فقط ولم ينالوا تعليما دينيا وقد بلغوا في الثقافة الدنيوية منتهاها. فمنهم علماء كبار يقومون بتجارب علمية عظيمة ولا يوجد من يعادلهم من حيث التعليم الدنيوي. فمن الخطأ أن نعُدّ عالما كلَّ مَن حاز ثقافة دنيوية؛ فمنهم من ينكر حتى وجود الله تعالى، دع عنك أن تكون في قلوبهم خشية الله تعالى. فلا بد من أن نبحث في تعريف العالِم لنعلم من هو العالم الحقيقي. إذًا، ليس المراد من العلماء هنا علماء الدين المزعومون والمنهمكون في الأطماع الدنيوية كما ليس المراد ذوي الثقافة الدنيوية.
هنا أريد أن أوضّح أيضا أنه مع أن الإسلام هو الدين الكامل، ويدّعي أصحاب الثقافة الدينية أنهم حازوا علم الدين، وبعضهم يبلّغون دعوة الإسلام أيضا إلى الآخرين، لكن ليس لهم من خشية الله نصيب. وإن انتشار الإسلام قدرٌ من أقدار الله تعالى إلا أنه لن يتم على أيدي العلماء الذين ينصَبُّ اهتمامهم على الدنيا فقط. لعلي ذكرت لكم سابقًا أيضا أنه أثناء جولتي في أميركا لما سألني مندوب من إحدى الفضائيات: ما هي إمكانيات انتشار الإسلام في أميركا؟ قلت له إن الإسلام سينتشر حتمًا في أميركا وفي غيرها من البلاد، ولكنه لن ينتشر من خلال هؤلاء العلماء المزعومين بل من خلال الجماعة الإسلامية الأحمدية، وبواسطة فتح القلوب، وعن طريق نشر تعليم الأمن والسلام والمحبة والوئام وليس بالإرهاب والتعصب والتشدد الذي كثيرًا ما يدعو إليه هؤلاء العلماء وهو مخالف للتعاليم القرآنية. إن الإسلام الحقيقي اليوم عند الجماعة الإسلامية الأحمدية فقط، لقد شرحه لنا المسيح الموعود والإمام المهدي وعلمنا إياه، وأعطانا فهمًا صحيحًا للتعاليم القرآنية، ووضّح لنا حقيقة خشية الله تعالى وأخبرنا بأن هذه الخشية الإلهية الحقيقية ليست حكرًا على أحد، وليس العلماء فئة محددة من الناس، وليست الخشية الإلهية مختصة ببعض الناس دون غيرهم، بل جاء النبي ليوصل الناس جميعًا بالله تعالى، بل جاء ليحول الناس إلى أناس ربانيين. ولا يسع أحدا أن يكون ربّانيا ما لم تتولد فيه خشية الله تعالى. لقد تحول اللصوص والسراق والنهاب الكبار إلى أولياء الله بقبولهم الإسلام وذلك عندما تولد فيهم الفهم الصحيح لخشية الله تعالى.
ذكر المسيح الموعود في كتبه واقعات من كتاب تذكرة الأولياء، وأذكر هنا مثالا من هذا الكتاب. لقد ورد في تذكرة الأولياء عن الفضيل بن عِياض أنه حدث في إحدى المرات أن جاءت قافلة وحطّت رحالها وكان فيها رجل يتلو القرآن ولا سيما هذه الآية:
فلما سمعها الفضيل بن عياض تأثر بها وكأنها أصابتْ قلبه بسهم، فتأسّف على حاله وقال في نفسه إلى متى سأواصل هذه الأعمال الإجرامية؟ لقد آن الأوان أن أسلك في سبل الوصول إلى الله. قال هذا وبكى بكاء مريرًا ثم انشغل بعد ذلك في المجاهدات، فتوجه إلى صحراء حيث وجد قافلة وسمع أحدًا يقول فيها: يجب أن نغيّر طريقنا لأن الفضيل بن عياض يسرق وينهب في هذا الطريق. فلما سمع ذلك قال: يجب ألا تخافوا الآن لأنني تبت من هذه الأفعال، ثم اعتذر إلى كل من آذاه. ثم حدث أن اشتُهر هذا الشخص – الذي كان يسرق وينهب- بالورع والتقوى بحيث يقال عند ذكر اسمه “رحمة الله عليه”.
هذا هو إعجاز الخشية الإلهية بحيث عندما يدركها الإنسان العادي – بل حتى ولو كان أسوأ شخص في عصره ويكرهه الناس- فإنها توقفه في صف العلماء في لمح البصر. ولكن نرى أحيانًا بعض المتكبرين واللابسين جبَبًا طويلة من العلماء المزعومين الذي يحسبهم الناس صلحاء إلا أنه لا خشية لله فيهم، بل يتكبرون على الناس وليس في قلبهم شيء من خشية الله.
فالمراد من خشية العلماء لله شيء آخر. فما المراد من العالِم وما هي الخشية؟ المراد الحقيقي من الخشية شيء آخر غير الذي يفهمه عامة الناس. نحن سعداء بحيث أدركنا التعريف الحقيقي لها بعد إيماننا بالمسيح الموعود . وأقدم لكم هذا التعريف الوارد في مواضع عديدة من كتبه. كنت أظن أنني سأذكر مقتبسًا أو اثنين ولكن المقتبسات التي انتخبتها هامة كلها ويجب أن تُذكر هنا جميعها.
يقول المسيح الموعود :
أي ذُكرتْ هذه الوسيلة في الآية القرآنية، فمن حظي بعلم ذات الله تعالى وصفاته فهو عالِم. فلا بد من إدراك عظمة الله وصفاته لمن يريد أن يصير مسلما حقيقيًا، ولا يتأتى ذلك بدون خشية الله التي لا تخص بفئة دون أخرى، بل لابد لكل مؤمن أن يسعى للحصول عليها وفق استعداده لها، وبذلك يزداد إيمانًا وعلاقةً بالله تعالى. لقد جعل المسيح الموعود – بعدّه الخشية والإسلام شيئًا واحدًا- المسلم الحقيقي والعالِم في صف واحد. كما ألقى هذه المسؤولية على عاتقنا أيضا إذ قال يجب أن تحصلوا على علم صفات الله تعالى أولا ثم اصطبغوا بصبغة هذه الصفات وفق أمر الله تعالى. وإذا وصلتم إلى هذه الحالة فسيفتح لكم مزيد من أبواب فضله.
ثم يقول المسيح الموعود :
مِن خواص الإنسان أنه -غالبًا- ينال الهدى بتيسُّر المعرفة الكاملة بالله تعالى، كما قال الله تعالى
غير أن ذوي الطبائع الشيطانية مستثنَوْن من هذه القاعدة.
أي أن الذين قد فسدتْ فطرتهم بتأثير الشيطان فلا شك أنهم لا يهتدون. فالذين يدّعون العلم ومع ذلك لا يهتدون فهم ليسوا علماء مهما كانوا حائزين على العلم في الظاهر. ولو قيل إنهم قد تعلّمَوا القرآن، فنقول إن القرآن لا يكون خطأ، ولكن ادعاؤهم بمعرفة القرآن باطل، إذ لم يسعوا لمعرفة روح القرآن. لا جرم أن القرآن يهب العلمَ والعرفان لمن كان عنده قلبٌ يخشى، ولكن الظالمين الذين قلوبهم لا تخشى بل هي مصابة بالكبرياء فلا يسبّب لهم القرآن إلا الخسران.
والعلم هنا عندي علمُ القرآن الكريم، لا علم الفلسفة وغيرها من العلوم المادية، لأن تحصيلها ليس مشروطا بالتقوى، بل يمكن أن يحصل عليها المؤمن كما يحصل عليها الفاسق والفاجر، أما علم القرآن فلا يعطى إلا للمتقين الصالحين.
ثم يقول المسيح الموعود :
ليس المراد من العلم علم المنطق أو الفلسفة، إنما العلم الحقيقي ما يهَبه الله بفضله، ومثل هذا العلم يزيد صاحبَه معرفةً بالله وخشية منه، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم:
فإذا كان العلم لا يزيد في قلبك خشية الله فاعلمْ أنه لن يزيدك معرفةً. وعليه فالمشايخ الذين لا يتكلمون إلا كذبًا وزورا، ولا تخلو أعمالهم من المطامع المادية، ولا تخرج من ألسنتهم إلا البذاءة- كما تجدون المشايخ في باكستان بل في معظم المساجد هنا أيضًا لا يتكلمون في خطبهم ضد الجماعة والمسيح الموعود إلا بكلام ببذيء- فهل هؤلاء علماء يخشون الله تعالى؟ الجواب: كلا ثم كلا.
ثم يقول المسيح الموعود :
اعلموا أنه لا يتعثر إلا الجاهل. الزلّة التي أصابت الشيطان لم تكن عن علم بل كانت عن جهل. لو كان كاملا في علمه لما زلّ. القرآن الكريم لا يذمّ العلم، وإنما يقول إنما يخشى الله من عباده العلماء . والشيخ ذو العلم الناقص خطرٌ على الإيمان. فالذين عارضوني لم يهلكوا بسبب العلم، إنما أهلكهم جهلُهم.
ثم يقول المسيح الموعود :
ليس العالِم الرباني مَن لا يوجد له مثيل في علم الصرف والنحو والمنطق وغيرها، إنما العالم الرباني من يخشى الله دائما، ولا يهذي لسانه ولا يهذر. أما اليوم فحتى غسّالو جثثِ الموتى يُسمُّون أنفسهم علماءَ.
(علمًا أن أهل الميت لا يقومون بغسله في القارة الهندية عادةً، بل هناك قوم حِرفتهم غسل الميت قبل دفنه، فبهم يستعين أقارب الميت، فيقول المسيح الموعود إن غسّالي الموتى هؤلاء أيضًا بدأوا يُسمُّون أنفسهم علماء، ثم يواصل قائلا)
وهكذا فقد استغلّ الناس لفظ العلماء لحرفتهم أيضًا، وهكذا قد حُقّرت هذه الكلمة أيما تحقير، حيث استعملوها خلاف المراد الرباني، ذلك أن القرآن الكريم قد وصف العلماء بقوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ، أي العلماء هم عباد الله الذين يخشونه. فالذين لا يتصفون بخوف الله وخشيته وتقواه لا يستحقون أن يُسَمَّوْا علماءَ أبدًا.
ثم يقول المسيح الموعود :
العلماء جمعُ العالِم، والعلم ما هو يقيني وقطعي، والعلم الحق إنما يُنال من القرآن الكريم. إنه لا يُنال من الفلسفة اليونانية ولا من الفلسفة الإنجليزية الحالية، وإنما يُنال من الفلسفة الإيمانية الحقة. إن كمال المؤمن ومعراجه يكمن في وصوله إلى درجة العلماء. وهنا لم يخصص الله المؤمنَ، بل قال إنما كمال المؤمن أن يصل إلى درجة العلماء، ويحرز مقام حق اليقين الذي هو منتهى درجات العلم.
(علمًا أن كل مؤمن ومسلم يرتقي في إيمانه يسمى مؤمنًا، وليس ضروريا أن تكون عنده شهادة بأنه عالم. ثم يواصل ويقول):
ولكن الذين لا علم لهم بالعلوم الحقة، ولم تنكشف عليه سبل المعرفة والبصيرة، فهم في خسران مبين، ويملأون آخرتهم دخانًا وظلامًا.
يعني: أن الذين يسمّون أنفسهم علماء ولكنهم خِلْوٌ من صفات العلم الحقيقي ومزاياه، فلا يوجد فيهم النور الذي يُنال بالعلم الحقيقي. أما الذين يُعطَون المعرفة الحقيقية والبصيرة الصادقة ويوهبون خشية الله نتيجة العلم، فقد شُبّهوا في الحديث الشريف بأنبياء بني إسرائيل، وهم العلماء الحقيقيون. أما علماء هذا العصر الذين يزعمون أنهم علماء بينما تناقض أعمالهم زعمَهم هذا، فقد جاء وصفهم في الحديث الشريف كالآتي: “علماؤهم شرُّ مَن تحتَ أديم السماء، مِن عندهم تخرُج الفتنة وفيهم تعود”. أي أن علماءهم، يعني علماء هذا الزمن، يكونون أسوأَ مخلوق تحت السماء، لأنهم يتسببون في الفتن وإليهم ترجع هذه الفتن. وهذا ما تجدونه على أرض الواقع اليوم، فإن النزاعات والفتن كلها إنما نتجتْ بسبب هؤلاء العلماء المزعومين.
فثبت بهذا الحديث أيضًا أن كل من يسمى عالما لا يخشى الله بالضرورة، فهذا ما نراه اليوم، كما قلتُ، إذ يتسبب أكثرية هؤلاء العلماء المزعومين في نشوب الفتن والمفاسد.
ويقول المسيح الموعود :
إن تقوى الله وخشيته تتأتى بالعلم والمعرفة كما قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ، أي لا يخشى الله تعالى إلا العلماء. لقد تبين من هنا بجلاء أن العلم الحقيقي إنما يتولد بخشية الله تعالى، وقد ربط الله العلمَ بالتقوى مبيّنًا أن العالم الكامل لا بد أن يخشى الله تعالى. والعلم هنا عندي علمُ القرآن الكريم، لا علم الفلسفة وغيرها من العلوم المادية، لأن تحصيلها ليس مشروطا بالتقوى، بل يمكن أن يحصل عليها المؤمن كما يحصل عليها الفاسق والفاجر، أما علم القرآن فلا يعطى إلا للمتقين الصالحين. فثبت أن المراد من العلم هنا هو علم القرآن الذي يزوّد صاحبه بتقوى الله وخشيته.
ثم يقول المسيح الموعود :
يجب عدم الانخداع من لفظ العلماء ، لأن العالم هو من يخاف الله حيث قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ، أي: أن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء. إن عبوديتهم وخشيتهم لله تعالى تبلغ من الكمال بحيث إنهم يتلقون علمًا ومعرفة من الله تعالى ومنه ينالون فيوضًا، وهذا المقام والدرجة إنما يُنال باتّباع المرء الكامل للنبي وتفانيه في حبه بحيث ينصبغ بصبغته .
فهذه هي حقيقة العالِم وهذا هو المراد من كون العلماء يخشون الله تعالى. إن هذه الأقوال كما تكشف لنا الفرق بين العلماء الحقيقيين والمزعومين الزائفين، فإنها تنبّهنا إلى ضرورة التحلي بتقوى الله وخشيته، إذ لا بد منه لكي نكون مؤمنين مسلمين. فهذه هي المسؤولية الملقاة علينا، وهذا الحكم ليس خاصًا بفئة معينة، بل كل مؤمن مأمورٌ بالسلوك على سبل التقوى، كما لا بد له من التأسي بأسوة الرسول ، إذ لا يتيسر حب الله بدون ذلك. لقد فتح الله تعالى في شهر رمضان هذا أبواب قربه لنا، وهيأ جوًّا يعيننا على التحلي بتقوى الله ويحثنا على التأسي بأسوة رسول الله ، حيث تُلقَى دروس القرآن وكذلك دروس حديث الرسول ، ونحن نستمع إليها، وعلينا أن ننتفع بها أيضًا حق الانتفاع. علينا البحث عن الطرق التي تزيدنا في تقوى الله وخشيته من خلال تلاوة القرآن والاستماع له.
وأود الآن أن أتحدث قليلاً عن تفسير الآيات التي استهللتُ بها خطبتي. وكما قلتُ إن الآيات الخمس الأُولى هي من سورة “المؤمنون” حيث بيّن الله فيها خصائص المسلم الحقيقي. لقد ذكر الله تعالى في الآية الأولى منها أن المؤمنين الحقيقيين يصابون برجفة ورعدة من خشية الله. فعلى المؤمن الحقيقي أن تستولي خشية الله عليه هكذا، أي أن يقرّ بعظمة الله ويرتجف منه نتيجة إيمانه بأنه تعالى يملك القوة والقدرة كلها. ثم إن الذين يؤمنون بآيات الله هم المؤمنون حقًا. وما هي تلك الآيات؟ إن أوامر الله كلها والآيات والمعجزات المذكورة كلها وكافة آيات القرآن الكريم بمنـزلة الآيات، والعملُ بها ضروري للمؤمن. والحق أن الإيمان لا يكتمل إلا إذا عمل المرء بتلك الأحكام والأوامر كلها، وهذا العمل يؤدي إلى تقوية إيمانه ويزيده خشيةً لله تعالى. ثم قال بأن المؤمن الحقيقي لا يُشرك بربه أحدا، أي الذي يخشى الله تعالى ويؤمن بآياته لا يرتكب الشرك. ولكن في بعض الأحيان يصدر من الإنسان شركٌ خفيّ إن لم يكن بالمعنى الحرفي، لذا هناك حاجة إلى أن يراقب الإنسان نفسه بدقة متناهية دائما، عندها فقط يكون مؤمنا حقيقيا. إذًا، لا بد للإنسان من أن يجعل قوله وفعله ثابتا على الصدق والحق كل حين وآن. فقد ذكر الله تعالى الأمر الرابع ضمن الآيات والأحكام المذكورة أن المؤمنين الحقيقيين يخدمون الدين، وينفقون الأموال ويبذلون أوقاتهم أيضا في هذا السبيل، بل يحاولون أن يعملوا بالأوامر كلها ومع ذلك تبقى قلوبهم خائفة من إمكانية عدم قبول أعمالهم عند الله تعالى، أو من أن يصدر منهم خطأ خفيّ من شأنه أن يُبعدهم عن الله تعالى، ويخشون أن يرتكبوا شركا خفيّا يعود وبالا عليهم، وقد يصبح عدم العمل بأمر من أوامر الله أو الضعف في الإنسان سببا للضعف في الإيمان أو قد تكون الخشية رياء فقط.
هناك رواية عن عائشة رضي الله عنها تفيد أنها سألت النبي عن الآية:
هل تعني الآية أن الإنسان يمكن أن يفعل ما يحلو له وهو يخشى الله تعالى؟ فقال: كلا، الآية لا تعني ذلك بل المراد منها أن يبقى المرء خائفا حتى وهو يكسب الحسنات، بمعنى أنه يجب أن يتذكر دائما أن الله غني أيضا فهو يقبل بعض الحسنات ولا يقبل بعضها الآخر، فهذا الأمر بيد الله تعالى سواء أقبل عملا معينا أم لم يقبل. لذا على الإنسان أن يكون خائفا دائما من ألا يغفر له ربه عندما يمتثل أمامه، وينبغي ألا يعتزّ أحد بحسنة من حسناته. فكان من عادة النبي أن يدعو كما ورد في الرواية
لقد جاء النبي ليهدينا، وبالتأسي بأسوته نطّلع على التقوى الحقيقة والخشية الحقيقية. فإذا كان التأسي بأسوته يجعل المرءَ حبيب الله تعالى وكان مستوى خشيته أنه كان يخاف الله تعالى دائما، فكم نحن بحاجة للانتباه إلى هذا الأمر؟
يقول الله تعالى بأن من يبلغون هذه الحالة من الخشية فهم الذين يسبقون الآخرين في الخيرات والحسنات. فلا ينتبه الإنسان إلى كسب الحسنات وفعل الخيرات ولا يسعى لها إلا إذا كان يحاسب نفسه مرة بعد أخرى. فمن يتحلَّوْن بهذه الحالة تتقدم خطاهم نحو كسب الحسنات وهم الذين يسعون لفعل جميع أنواع الخيرات والازدهار في التقوى، ولكنهم لا يتفاخرون بذلك، بل تخضع قلوبهم إلى الله تعالى في كل حالة وفي كل آن، وهذه الحالة تؤدي إلى الفوز بقرب الله تعالى.
الخشية الإلهية الحقيقية ليست حكرًا على أحد، وليس العلماء فئة محددة من الناس، وليست الخشية الإلهية مختصة ببعض الناس دون غيرهم، بل جاء النبي ليوصل الناس جميعًا بالله تعالى، بل جاء ليحول الناس إلى أناس ربانيين.
ومن أكبر أيادي النبي على الأمة أنه علّمنا طرق الدعاء. ورد في الحديث دعاء، وفي الحقيقة هذا الدعاء لنا فينبغي علينا جميعًا أن نواظب عليه:
وفقنا الله تعالى لفهم معاني هذا الدعاء.
أقدم لكم دعاءً آخرَ للنبي وهو يحتوي على نموذج لسمو مكانة النبي في التواضع وخشيته لله. وكان ذلك ما دَعَا بِهِ رَسُولُ اللهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
هذا هو النبي العظيم الذي قدم للأمة أسوة سامية في خشية الله تعالى. إن كل قول وعمل للنبي ينبئ عن خشيته لله. ومع أن الذين انتسبوا إلى النبي تلقوا بشارة “رضي الله عنهم” إلا أن النبي كان أشد الناس خشوعا لله تعالى بسبب مخافته له .
فهذه هي الأسوة الحسنة للنبي وهذه هي خشيته لله، فلو اتبعنا هذا النبي وسعينا لنصطبغ بصبغته ونولّد هذه الصفات في أنفسنا فسنوفق لنيل أفضال الله تعالى. نسأل الله تعالى لنا التوفيق في رمضان لندرك روح الخشية الإلهية ونقضي حياتنا مراعين لها، كما ندعو الله تعالى أن يوفقنا في شهر رمضان الحالي لإحداث انقلاب روحاني في أنفسنا. آمين.