الطرقة المثلى لأداء حق عبودية الله تعالى
التاريخ: 2011-08-19

الطرقة المثلى لأداء حق عبودية الله تعالى

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • الدعاء من أجل التوفيق للدعاء الحقيقي
  • الفرق بين الصلاة والدعاء
  • عبادة الله حق العبادة لا تكون إلا بعون من الله

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

يقول سيدنا المسيح الموعود : لا بد من الدعاء من أجل التوفيق للدعاء الحقيقي.

ويقول أيضًا: فكّرتُ ذات مرة ما الفرق بين الصلاة والدعاء، فتذكرت الحديث النبوي: الصلاة هي الدعاء، وأن الصلاة مخ العبادة.

ويقول : اعلموا أن الصلاة تجنّب المرء الأعمالَ السيئة والفواحش، ولكن أداء مثل هذه الصلاة – أي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر- ليس بخيار الإنسان، إنما يتأتي ذلك بالاستعانة من الله تعالى. يعني : بدون معونة الله تعالى لا يوفّق المرء لأداء الصلاة والعبادة التي تحمي صاحبها من الفواحش والمنكرات وترشده إلى الصراط المستقيم.

كل هذه الأقوال تبين لنا كيف يجب أن تكون عباداتنا وأدعيتنا، وما هي الطرق التي ينبغي علينا اتّباعها في الدعاء، وما هو التأثير الذي يجب أن يُرى في أنفسنا نتيجة عباداتنا وأدعيتنا، وكيف يمكن أن تحظى عباداتنا وأدعيتنا بالقبول عند الله تعالى. لو استوعبنا هذه الأمور وأدركنا أن العبادة وحدها هي غاية خلقنا، وأننا لن تكون عاقبتنا الحسنى في الدنيا والآخرة إلا بتحقيق هذه الغاية فقط، فلا بد أن نسعى لتحقيق هذا الهدف جاهدين ومعرضين عن كل شيء سواه. لكن، وكما بين المسيح الموعود ، لا بد لنا أن نسأل الله التوفيق للدعاء الحقيقي، وأن كل هذه الأمور لا تتأتى بدون الاستعانة من الله تعالى، وأن تحقيق غاية خلقنا محال بجهودنا وحدها.

إن الله اللطيف بعباده قد علّمنا في أول سورة في القرآن الكريم دعاءً، وفرَض علينا ترديده في كل ركعة من الصلاة سواء الفرائض والسنن والنوافل، أعني دعاء: إياك نعبد وإياك نستعين ، ومعناه: ربنا إننا نريد أن نعبدك، ولكننا لا نستطيع أن نعبدك حق العبادة إلا إذا شملتْنا معونتك ونصرتك. فالمؤمن عندما يستغيث الله تعالى بحماس شديد ويبتهل إليه بصرخة متواضعة نابعة من الأعماق، يحالفه التوفيق في العبادة.

ثم إن من منن الله على عباده أنه يأتي لهم بشهر رمضان في كل سنة معلنًا ها قد هيّأت لكم فرصة أخرى للتقرب إليّ، وصفّدتُ فيه الشيطان، وأنني مستعدّ لإعانة كل عبد، بل إني أعينه بالفعل حين يأتيني بقلب سليم وإيمان كامل، عامِلاً بأحكامي، ومعاهِدًا أنه سيعبدني وحدي ويكون عبدًا مخلصًا لي، فمَن فعل ذلك منكم سأستجيب دعاءه.

فالحق أنه إذا كان هناك تقصير فإنما هو مِن جانبنا نحن العباد، أما الله تعالى فلا يألو في الإحسان إلينا وإعانتنا.

ثم في هذا الزمن قد أرسل الله لإصلاحنا رسوله الذي جاء خادمًا لعبده الكامل ، فعلّمَنا كيف نتقرب إلى الله تعالى، ونكون عباده حقًا، ونرفع مستوى عباداتنا، وكيف نستعين به. لذا فسأقوم الآن بتفسير قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين على ضوء أقوال المسيح الموعود وتصريحاته. لو استوعبنا المفهوم الدقيق العميق الذي بيّنه حضرته لهذه الآية، ثم جعلناه بتوفيق الله تعالى جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، لصرنا من الذين يسعون لأداء حق عبودية الله تعالى. ولكن هذا لن يتأتى إلا إذا سعينا جاهدين لبلوغ المستوى المطلوب في عباداتنا، ثم استعنّا بالله تعالى منيبين إليه محرزين هذا المستوى في عباداتنا بتواضع، وعندها فقط سنُعَدّ من الذين يُسمّون عباد الرحمن، ونتحلى بتلك القوة الإيمانية التي يأمرنا الله بها، أو التي تُتوقع من المؤمن.

فالمرء حين يصبح عبدًا شاكرًا لله تعالى، متذكرًا نعمه التي أنعمها عليه بفيض رحمانيته ، فإنه يخطو أول خطوة  ليعبد الله تعالى ويكون عبدًا حقيقيًا له. فبعد بلوغ هذا المقام يسعى العبد للعبادة….

أقدم لكم الآن نزرًا من الجواهر الغالية من كنز العرفان الذي وهبه الله للمسيح الموعود ، فقدّمه لنا في صورة كتبه ومنشوراته. يقول ما نصُّه:

“قدّم اللهُ – عزّ وجلّ – قولَه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ على قوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إشارةً إلى تفضّلاته الرحمانية مِن قَبْلِ الاستعانة، فكأنّ العبد يشكر ربَّه ويقول: يا رب إني أشكرك على نعمائك التي أعطيتني، مِن قبْل دعائي ومسألتي وعملي وجهدي واستعانتي، بالربوبية والرحمانية التي سبقت سُؤْلَ السائلين، ثم أطلبُ منك قوةً وصلاحًا وفلاحًا وفوزًا ومقاصد التي لا تُعطَى إلا بعد الطلب والاستعانة والدعاء وأنت خير المعطين.”

فالمرء حين يصبح عبدًا شاكرًا لله تعالى، متذكرًا نعمه التي أنعمها عليه بفيض رحمانيته ، فإنه يخطو أول خطوة  ليعبد الله تعالى ويكون عبدًا حقيقيًا له. فبعد بلوغ هذا المقام يسعى العبد للعبادة، ويقول ربّ إني أريد أن أبلغ أعلى المستويات التي حدّدتها للناس ليصيروا عبادًا لك حقًا، وأرغب أن آخذ من جميع نعمائك، وأحرز المزيد من الرقي المادي والروحاني، ولكن كل هذا لا يتأتى بدون معونتك، فأَعِنّي، فإذا فعل ذلك انفتحت عليه أبواب نصرة الله أيضًا وقطع المزيد من أشواط الرقي والتطور. فسيدنا المسيح الموعود يوضح لنا أنكم إذا شكرتم الله على نعمه التي منحها إياكم بفيض رحمانيته، انتبهتم إلى ضرورة عبادته والاستعانة به أيضًا. هذا هو الأمر الأساس والروح الحقيقية التي يجب أن نضعها في الحسبان عند دعائنا إياك نعبد وإياك نستعين .

ثم يقول حضرته وهو يبين لك لماذا حثّك الله على هذا الدعاء:

“وفي هذه الآيات حثٌّ على شكرِ ما تُعطى، والدعاءِ بالصبر فيما تتمنى، وفرطِ اللَهَجِ إلى ما هو أتمّ وأعلى، لتكون من الشاكرين الصابرين. وفيها حثٌّ على نفي الحَول والقوة، والاستطراح بين يديه سبحانه مترقبًا منتظرًا مُديمًا للسؤال والدعاء والتضرع والثناء، والافتقار مع الخوفِ والرجاء، كالطفل الرضيع في يد الظئر، والموتِ عن الخَلْق وعن كل ما هو في الأرضين.”

فحضرته يوضح هنا أن الله تعالى قد حثّنا على أن نكون عباده الشاكرين، وذلك من خلال الدعاء بالصبر كي ندخل، بسبب مثابرتنا على الدعاء بالصبر، في عباده الشاكرين الصابرين الذين يمن عليهم بمننه.

«يا عبادِ، احسَبوا أنفسكم كالميتين، وبالله اعتضِدوا كل حين، فلا يَزْدَهِ الشابُّ منكم بقوّته، ولا يتخصّر الشيخ بهراوته، ولا يفرح الكَيِّسُ بدهائه، ولا يثق الفقيه بصحة علمه وجودةِ فهمه وذكائه، ولا يتّكئ الملهَم على إلهامه وكشْفِه وخلوصِ دعائه، فإن الله يفعل ما يشاء، ويطرد مَن يشاء، ويُدخل مَن يشاء في المخصوصين.»

ثم يوضح أن الله تعالى قد حثّ العبد على ألا يزهو بجهده ولا قوته، وإنما عليه أن يلقي نفسه على عتبة الله راجيًا فضله، حامداً سائلاً داعيًا في تواضع وخشوع، أي: على العبد أن ينفي عن نفسه كل قوة وفضل، موقنًا أن الله تعالى هو خالق كل قوة ومالكها، لذا فعليه بطرح نفسه بين يدي الله تعالى، متبتلاً ومنقطعًا إليه تعالى كليةً عن كل وسيلة وقرابة مادية، فإذا فاز بهذا المقام ولم يعتمد على قوة يده، ولا على نفسه، ولا على وسائله، عندها نبع من أعماقه دعاء إياك نعبد وإياك نستعين .

ثم يضيف حضرته وهو يذكّرنا أن على الداعي أن يعترف بكامل ضعفه وعجزه، وعندها فقط يمكنه أن يؤدي حق دعاء إياك نعبد وإياك نستعين ، فيقول:

“وفيها حثٌّ على إقرارٍ واعتراف بأننا الضعفاء، لا نعبدك إلا بك، ولا نتحسس منك إلا بعونك، بك نعمل، وبك نتحرك، وإليك نسعى كالثواكل متحرقين وكالعشاق متلظّين.”

أي: يجب أن يكون في قلب الداعي حرقة وألم واضطراب للفوز بوصال الله تعالى شأن الأم التي يحترق قلبها ويذوب على موت ولدها، وشأن العاشق الوَلَهانِ الذي يلتاع قلبه على فراق حبيبه.

ثم يقول حضرته :

 “وفيها حثٌّ على الخروج من الاختيال والزَّهْو، والاعتصامِ بقوة الله تعالى وحولِه عند اعتياص الأمور وهجوم المشكلات، والدخولِ في المنكسرين. كأنه – تعالى شأنه – يقول: يا عبادِ، احسَبوا أنفسكم كالميتين، وبالله اعتضِدوا كل حين، فلا يَزْدَهِ الشابُّ منكم بقوّته، ولا يتخصّر الشيخ بهراوته، ولا يفرح الكَيِّسُ بدهائه، ولا يثق الفقيه بصحة علمه وجودةِ فهمه وذكائه، ولا يتّكئ الملهَم على إلهامه وكشْفِه وخلوصِ دعائه، فإن الله يفعل ما يشاء، ويطرد مَن يشاء، ويُدخل مَن يشاء في المخصوصين.”

ثم قال :

وفي جملة إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إشارةٌ إلى عظمة شرّ النفس الأمّارة التي تسعى كالعَسّارة، فكأنها أفعى شرُّها قد طَمَّ، فجعَل كلَّ سليمٍ كعظمٍ إذا رَمَّ، وتراها تنفُث السّمَّ، أو هي ضِرْغامٌ ما ينكُل إنْ هَمَّ، ولا حولَ ولا قوةَ ولا كسْبَ ولا لَمَّ، إلا بالله الذي هو يرجم الشياطين.” (كرامات الصادقين)

فيبين هنا حضرته أن على الداعي أن يفكر خلال الدعاء أن نفسه الأمّارة تريد أن تدفعه إلى السيئات ومِن واجبه أن يتجنبها، ولكنه لا يقدر على ذلك بجهده وقوته، إنما الله تعالى وحده القادر على  حماية الإنسان من صولة الشيطان وتوفيقه للصالحات. فعلى العبد أن يقوم أمام الله تعالى متواضعًا ويدعوه: إلهي، اليوم لن ينقذني من الشيطان إلا أنت.

فما دام عباد الله المقربون أنفسهم لا يفتأون يدعون الله تعالى بتواضع شديد أنهم لا يستطيعون العيش بدون معونته تعالى، فما بالك بالإنسان العادي؟ فهو بأمسّ حاجة إلى الاستعانة بالله . لقد ضرب الله في القرآن الكريم مثال سيدنا يوسف بأنه تضرّع إلى الله تعالى ليحميه من شر النفس الأمارة قائلا: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (يوسف: 54)، أي: أني لا أبرّئ نفسي من الأخطاء، لأن نفس الإنسان جريئة جدًا على دفعه إلى السيئات، إلا الذي رحمه ربي، إن ربي كثير المغفرة والرحمة. فإذا دعا الداعي بهذا التفكير نال نصيبه من فيوض دعاء إياك نعبد وإياك نستعين . عندما يفكّر الإنسان أنه ما دام عباد الله المقربون يدعونه بهذا الدعاء، فما أحوجَني إلى الأدعية، وعندها يصبح عبدًا حقيقيًا لله تعالى.

ثم يقول المسيح الموعود :

“وفي تقديم نَعْبُدُ على نَسْتَعِينُ نِكاتٌ أخرى، فنكتب للذين هم مشغوفون بآيات المثاني، لا برَنّاتِ المثاني، ويسعون إليها شائقين، وهي أن الله – عز وجل – يعلّم عباده دعاءً فيه سعادتُهم، فيقول يا عبادِ سَلُوني بالانكسار والعبودية، وقولوا: ربنا إياك نعبد، ولكن بالمعاناة والتكلف والتجشم وتَفْرقةِ الخاطر وتمويهاتِ الخنّاس وبالرويّة الناضبة والأوهام الناصبة والخيالات المظلمة كماءٍ مُكدَّرٍ مِن سَيْلٍ أو كحاطبِ ليلٍ، وإنْ نتّبعُ إلا ظنًّا وما نحن بمستيقنين.”

إذًا لقد علّمنا الله تعالى لخيرنا هذا الدعاء الذي حثّنا فيه على الابتهال إليه مؤدين حق العبودية، وإنه تعالى قد وعدنا باستجابته أيضًا إذ أردفه بقوله وإياك نستعين ، ذلك أن العبد حين يدرك أنه يقول إياك نعبد إلا أنه لا يقدر على عبادة الله حقًا، فيشعر بالندم والعجز، فيستغيث الله تعالى قائلا: وإياك نستعين ، فيغيثه الله تعالى.

ثم يقول المسيح الموعود :

وإياك نستعين يعني: نستعينك للذوق والشوق والحضور والإيمان الموفور، والتلبية الروحانية والسرور والنور، ولتوشيح القلب بحُلي المعارف وحُلل الحبور، لنكون بفضلك من سبّاقين في عرصات اليقين، وإلى منتهى المآرب واصلين، وفي بحار الحقائق متوردين.”

فهذا الدعاء يزيد العبد روحانيةً، وشوقًا للعبادة وحلاوةً منها، وإنابةً إلى الله تعالى خالصةً.

ثم يقول المسيح الموعود وهو يبين أن دعاء إياك نعبد وإياك نستعين هو معراج المؤمن:

“وفي قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تنبيه آخر، وهو أنه يرغّب فيه عبادَه إلى أن يبذلوا في مطاوعته جُهْدَ المستطيع، ويقوموا مُلبّين في كل حين تلبيةَ المطيع. فكأن العباد يقولون: ربنا إنّا لا نألو في المجاهدات، وفي امتثالك وابتغاء المرضاة، ولكن نستعينك ونستكفي بك الافتنانَ بالعُجب والرياء، ونستوهب منك توفيقًا قائدًا إلى الرشد والرضاء، وإنّا ثابتون على طاعتك وعبادتك، فاكتُبْنا في المطاوعين.”

أقول: لو فكّرنا ودعونا للمثابرة على الطاعة والعبادة، لسعينا جاهدين للعمل بأحكام الله تعالى ورفعِ مستوى عباداتنا وانتظارِ صلاة بعد أداء صلاة، كما ورد في الحديث الشريف أن المؤمن يفكر في الصلاة التالية بعد أداء صلاة، والجمعة الآتية بعد أداء جمعة، ورمضان القادم بعد انصرام رمضان، لكي يؤدي حق عبادة الله. ثم إنه سيسعى للتحلي بمكارم الأخلاق. وهذا هو معراج العبودية.

ثم إن سيدنا المسيح الموعود يذكّرنا أن دعاءنا هذا يجب أن يتّسع فيشمل أجيالنا وأسرنا وجماعتنا أيضًا، لكي يتوجه الجميع إلى وجهة واحدة، ويرثوا أفضال الله تعالى، ويؤدي بعضهم حقوق بعض. فيقول :

“وهنا إشارة أخرى وهي أن العبد يقول يا ربّ إنّا خصصناك بمعبوديّتك، وآثرْناك على كل ما سواك، فلا نعبد شيئا إلا وجهك، وإنّا من الموحِّدين.  واختار – عز وجل – لفظَ المتكلّم مع الغير إشارةً إلى أن الدعاء لجميع الإخوان لا لنفس الداعي، وحثَّ فيه على مسالمة المسلمين واتحادهم وودادهم، وعلى أن يعنو الداعي نفسَه لنصح أخيه كما يعنو لنصح ذاته، ويهتمّ ويقلق لحاجاته كما يهتم ويقلق لنفسه، ولا يفرّق بينه وبين أخيه، ويكون له بكل القلب من الناصحين. فكأنه تعالى يوصي ويقول يا عِبادِ تَهادوا بالدعاء تَهادِي الإخوانِ والمحبّين، وتَناثَثوا دعواتِكم وتَباثَثوا نيّاتِكم، وكونوا في المحبّة كالإخوان والآباء والبنين.”

فالمرء عندما يدعو بصيغة الجميع قائلا: إياك نعبد وإياك نستعين فيجب أن يفكر في أداء حقوق الآخرين، ويقول ما دمتُ أدعو الله تعالى بهذا الدعاء حتى أودي حقوق الله وأتطور روحانيًا، فعلي أن أحب الخير لأخي أيضًا، فمثل هذا التفكير سيساعد حتمًا على خلق مجتمع جميل. لذا يقول المسيح الموعود ينبغي على الإنسان أن يشق على نفسه من أجل أخيه كما يشق عليها لنفسه، ولو فعل ذلك وقام بدعاء إياك نعبد وإياك نستعين بهذا التفكير لم يهضم حقوق الآخرين.

ثم يقول :

لقد جمع الله هنا الدعاء والتدبير معًا، لأن المؤمن يقوم بالاثنين، ذلك أن التدبير بدون الدعاء ليس بشيء، والدعاء بلا التدبير ليس بشيء، فقال : إن الجمع بين التدبير والدعاء هو الإسلام، ومن أجل ذلك قلت إن على المرء أن يتخذ التدبير كما ينبغي ويقوم بالدعاء كما ينبغي من أجل تجنُّب الإثم والغفلة، حيث نجد القرآن الكريم قد راعى هذين الأمرين في أول سوره فقال إياك نعبد وإياك نستعين ، فقوله تعالى إياك نعبد يشير إلى التدبير، وقد ذكَره أولاً للإشارة إلى أن أول ما يجب على الإنسان هو أن يتخذ الأسباب والتدبير كما ينبغي، ولكن عليه ألا ينسى الدعاء، بل يجب أن يدعو مع التدبير. والمؤمن عندما يدعو الله تعالى قائلا: إياك نعبد يفكّر فورًا أنه لا يقدر على عبادة الله ما لم يشمله فضله ورحمته، فلا يلبث أن يقول وإياك نستعين . وهذا المسألة التي هي بالغة الأهمية لم يذكرها أي دين سوى الإسلام.

ليس هناك نعمة أعظم من أن يكره الإنسان الإثم وأن يحفظه الله بنفسه من المعاصي، ولكن هذه النعمة لا تتيسر لأحد بالتدبير فقط أو بالدعاء فقط، بل لا بد له من الاثنين، كما علّمنا الله تعالى في قوله إياك نعبد وإياك نستعين

فحضرته يوضح أن على المؤمن أن يعمل الاثنين: التدبير والدعاء. عليه أن يتخذ التدبير كما هو حقه، ثم يتكل على الله تعالى ويدعوه، وهذا ما عُلِّمنا في أول سورة من القرآن الكريم حيث قيل إياك نعبد وإياك نستعين . إن الذي لا يستخدم ما أعطاه الله من قوى وقدرات فإنه يضيعها ولا يقدرها حق قدرها، بل يرتكب إثما.

فحضرته  يوضح أنك إذا لم تأخذ الأسباب والتدابير كما ينبغي وظننت أن الدعاء الذي تقوم به هو وحده سيحل مشكلتك، فهذا إثم. ثم قال :

إن الإنسان يتمنى حتمًا أن يكون صالحًا، ولكن تحقيق ذلك يحتّم عليه الاستعانة بالله تعالى، ومن أجل ذلك أمره الله تعالى بقراءة الفاتحة في صلواته الخمس، فعلّمه أن يقول إياك نعبد وإياك نستعين ، وفيه إشارة إلى أمرين: فقوله إياك نعبد إشارة إلى وجوب استخدام القدرات وبذل الجهود واتخاذ التدابير لكل عمل صالح، ذلك أن الذي يكتفي بالدعاء ولا يبذل جهدًا فإنه يفشل في مقصده، إذ كيف يمكن للفلاح الذي يبذر البذرة ثم لا يبذل جهدًا بعده أن يرجو ثمرًا، بل إن من سنة الله أن الفلاح إذا اكتفى ببذر البذرة والدعاء، فلا بد أن يُحرَم الثمر.

إن الفلاحين يعرفون جيدًا أنه لا بد لهم بعد بذر البذور من سقي الزرع وتسميده واقتلاع الطفيليات منه، وحمايته من الحيوانات. وهذا القانون ساري المفعول في كل مجال وحتى في الأمور الروحانية أيضًا. وهذا أمرٌ قد تناوله الإسلام بشكل رائع جدًا ولم تذكره أية ديانة سواه، كما وضح حضرته .

ثم يقول حضرته وهو يحث على المثابرة على هذا الدعاء إذ لا يدري الإنسان متى يستجاب دعاؤه، فهناك ساعات لقبول الدعاء، ثم لا يدري المرء متى يستجاب له، وما يعجب الله من عمله.

لقد قال الله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين .. والذين يدعون الله تعالى بتواضع راجين لعل الله يرضى بتواضعهم وخشوعهم، فإن الله تعالى يكون ناصرهم ومعينهم. لذا فعلى العبد أن يواصل الدعاء والاستعانة بالله بتواضع وخشوع.

ويقول المسيح الموعود في موضع آخر:

اعلموا أن الاستعانة الحقيقية هي بالله فقط، وقد ركّز القرآن الكريم على هذا كثيرا فقال إياك نعبد وإياك نستعين .

هذا أمر لا بد من استيعابه جيدًا، أي أن على المرء أن لا يبرح يقف أمام الله تعالى ويسأله بثبات وإلحاح وتكرار. هناك قصة لأحد أصحاب المسيح الموعود لا أذكر اسمه الآن، حيث يقول الراوي: رأيت هذا الصحابي قام لأداء صلاة النفل في المسجد الأقصى بقاديان، فلما وجدت أنه قائم منذ حوالي ثلث ساعة أو أكثر ولا يقوم بأي حركة أخرى، أحببت أن أسمع ما يقول إذ كان يحدث صوتًا خافتًا، فذهبتُ وجلست بالقرب منه، فإذا هو يردد دعاء إياك نعبد وإياك نستعين ، وظل يردده بصوت خافت حوالي ربع ساعة.

هذا هو مدى عرفان هؤلاء القوم الذين نالوا شرف صحبة المسيح الموعود ، وهذا هو الفهم والإدراك والعرفان الذي يجب على المؤمن السعي لنيله، لأن هذا يساعده على العبادة حقًا.

ويبين المسيح الموعود الطرق التي تساعد على العبادة كما ينبغي فيقول ما نصه:

“ثم اعلم أن قوله تعالى إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يدل على أن السعادة كلها في اقتداء صفات رب العالمين.”

 إذن، فمن واجب العبد أن يدعو الله تعالى بإلحاح وتكرار، كما عليه أن يتدبر صفات الله ويفهمها، ثم يحاول صياغة حياته على ضوء تلك الصفات الإلهية، وإلا سيُعَدّ ترديده لهذه الكلمات تكرارًا فارغًا كما تفعل الببغاء. لقد نال صحابة الرسول هذا العرفان العظيم لصفات الله تعالى، ثم نال هذا العرفان قوم عاشوا في صحبة المسيح الموعود ، وبفضل الله تعالى لا يزال هناك أفراد في جماعتنا يدركون هذا الأمر ويقومون بالدعاء على هذا المنوال.

ثم يقول المسيح الموعود ما نصه:

“ثم لما كان المانع من تحصيل تلك الدرجات الرياءَ الذي يأكل الحسناتِ، والكبرَ الذي هو رأس السيئات، والضلالَ الذي يُبعِد عن طرق السعادات، أشار إلى دواء هذه العلل المهلِكات، رحمةً منه على الضعفاء المستعدّين للخطيّات وترحّمًا على السالكين، فأمَر أن يقول الناس: إيَّاكَ نَعْبُدُ لِيُستخلَصوا من مرض الرياء، وأمَر أن يقولوا: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليُستخلَصُوا من مرض الكبر والخيلاء، وأمَر أن يقولوا: اِهْدِنَا ليُستخلَصوا من الضلالات والأهواء. فقوله: إيَّاكَ نَعْبُدُ حثٌّ على تحصيل الخلوص والعبودية التامة، وقوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إشارةٌ إلى طلب القوّة والثبات والاستقامة، وقوله: اِهْدِنَا الصِّرَاطَ إشارةٌ إلى طلب علمٍ مِن عنده وهدايةٍ مِن لدنه لطفًا منه على وجه الكرامة. فحاصل الآيات أن أمر السلوك لا يُتمَّم أبدًا ولا يكون وسيلةً للنجاة إلا بعد كمال الإخلاص وكمال الجهد وكمال فهم الهدايات، بل كلُّ خادم لا يكون صالحا للخدمات إلا بعد تحقُّق هذه الصفات.” (كرامات الصادقين)

فهذا هو مقام العبد الحقيقي، وعلى المؤمن السعي للوصول إليه.

ويقول المسيح الموعود وهو يبين حقيقة الأدعية المستجابة ما نصه:

“اعلمْ أن حقيقة العبادة التي يقبَلها المولى بامتنانه، هي التذلل التام برؤية عظمته وعلوّ شأنه، والثناءُ عليه بمشاهدة مِننه وأنواع إحسانه، وإيثارُه على كل شيء بمحبّة حضرته وتصوُّر محامده وجماله ولمعانه، وتطهيرُ الجنان من وساوس الجِنّة نظرًا إلى جِنانه.” (إعجاز المسيح)

ثم يضيف في بيان حقيقة العبادة ويقول:

لقد علمنا الله تعالى في أول سورة في القرآن أعني سورة الفاتحة دعاء إياك نعبد وإياك نستعين . المراد من العبادة هنا العبادة المعروفة والعرفان، أي التوفيق للعبادة ولعرفانها. وقد أشار الله تعالى في الجملة إلى ضعف العبد وعجزه.

أقول: لذا علينا أن نردد بألسنتنا إياك نعبد وإياك نستعين ، وأن نعرف لماذا نردد هذا الدعاء، وهذا العرفان إنما يتيسر لنا إذا كنا متواضعين حقًا كما بين المسيح الموعود .

ثم يقول :

إن المرء يدعي عبادة الله، لكن هل تتم عبادة الله بكثير من السجود والركوع والقيام فقط، أم هل يمكن أن يسمى الذين يُكثِرون من تحريك حبات السبحة عابدين لله تعالى. كلا، إنما العابد مَن تجذبه محبةُ الله بحيث يتفانى في الله تعالى وكأنه لم يبق له وجود. يجب على العابد أولاً أن يوقن بوجود الله تعالى يقينًا كاملا، ثم يجب أن يكون مطّلعًا على حسن الله وإحسانه (أي يحب أن يدرك أن ما عنده من نعم إنما هي عطاء من الله تعالى)، ثم يجب أن يبلغ حبُ الله فيه مبلغًا بحيث يجد في قلبه حرقة ولوعة حتى ينكشف حاله هذا من وجهه، وتستولي عظمة الله على قلبه بحيث يبدو له كل العالم ميتًا إزاء الله تعالى، وألا يخشى إلا الله، وأن يجد في تحمل الآلام في سبيله متعة ما بعدها متعة، وأن يجد الراحة كلها في خلوة الله، ولا يطمئن قلبه إلا به . هذه الحالة هي العبادة. ولكن أَنَّى للمرء أن يصير إلى هذا لحال بدون معونة الله الخاصة، ومن أجل ذلك قد عُلّمنا دعاء إياك نعبد وإياك نستعين ، أي: ربنا إننا نعبدك، ولكن أنى لنا أن نعبدك حق العبادة إلا إذا أعنتَنا إعانة خاصة. إن عبادة الله باعتباره المحبوب الحقيقي هي الولاية، التي ليس فوقها درجة. ولكن هذه الدرجة لا يبلغها الإنسان بدون معونة الله. وعلامة بلوغ المرء هذه الدرجة أن تصبح عظمة الله مسيطرةً على قلبه، ومحبتُه راسخةً في فؤاده، فلا يثق قلبه إلا به، ولا يرضى إلا به، ولا يؤْثر إلا إياه، ويصبح ذِكرُه غاية حياته.

ثم يبين المسيح الموعود ما هو جوهر العبادة كالآتي:

إن خلاصة أصل العبادة إنما هي أن المرء إذا قام أمام الله تعالى فيجب أن يوقن أنه يرى الله تعالى أو أن الله يراه، وأن يتطهر من كل شائبة وشرك، ويفكر في عظمة الله وربوبيته، ويُكثر من الأدعية، المأثورة وغير المأثورة، ويتوب ويستغفر الله كثيرًا، ويعترف بضعفه وهوانه مرة بعد أخرى، لكي تتزكى نفسه وتكون له علاقة متينة مع الله تعالى، ويتفانى في حبه . هذه هي خلاصة الصلاة كلها، وقد شملتْها سورة الفاتحة تماما. فجملة إياك نعبد وإياك نستعين اعتراف بالضعف والتقصير، وطلبُ العون من الله وحده، والتماس النصرة من الله وحده، ثم الدعاء للسير في سبل الله ورسله والفوز بالنعم التي نزلت على الدنيا بواسطة الأنبياء والرسل، والتي لا يمكن نيلها إلا باتّباع خطواتهم، ثم الدعاء بأن يجنّبنا الله تعالى سبيل الذين كفروا برسل الله أنبيائه لكبرهم وشرّهم، فحلّ بهم غضب الله في هذه الدنيا نفسها، أو سبيل الذين اتخذوا الدنيا ونسوا غاية خلقهم منحرفين عن الصراط المستقيم.

إن كراهية الإثم نعمة عظيمة، أما وكيف تتيسر هذه النعمة، يقول المسيح الموعود :

ليس هناك نعمة أعظم من أن يكره الإنسان الإثم وأن يحفظه الله بنفسه من المعاصي، ولكن هذه النعمة لا تتيسر لأحد بالتدبير فقط أو بالدعاء فقط، بل لا بد له من الاثنين، كما علّمنا الله تعالى في قوله إياك نعبد وإياك نستعين ، أي: على المرء أولاً أن يستخدم قواه التي وهبه الله إياها، ثم يسلّم أمره إلى الله قائلا: رب، لقد بذلتُ كل ما كان في وسعي وقدرتي، وهذا هو مفهوم قوله إياك نعبد ، ثم يقول وإياك نستعين أي: رب الآن أستعين بك فيما تبقى من المراحل. إنه لسفيهٌ جدًا مَن لا يستخدم ما أعطاه الله من قدارت وكفاءات مكتفيا بالاستعانة بالله بالدعاء فقط، فأنى لهذا أن يفلح في مرامه.

يقول :

إن الذي يسأل الله تعالى بالدعاء والتدبير هو المتقي وهو الذي يستجاب دعاؤه، أما إذا لم يقم بالدعاء مع جهده فلا فائدة في ذلك أيضًا، كما بيّنت آنفًا.

ثم يقول :

لو أنه قام بالدعاء مع بذل الجهود، ثم صدرت منه زلة، لحفظه الله من مغبتها.

إذًا، لو بذل المرء جهده، وقام بالدعاء أيضًا، فإن الله تعالى يكِّرهُ إليه الآثامَ ويحميه من نتائجها المدمرة أيضًا.

ثم إن المسيح الموعود يبين لنا مفهومًا آخر لقوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين بربطه بصفتي الله الحي والقيوم ويقول:

اعلم أن الله تعالى قد ذكر في القرآن اثنين من أسمائه وهما الحي والقيوم. والحي مَن هو حي ويهب الحياة للآخرين، وأما القيوم فيعني أنه تعالى قائم بذاته كما هو سند حقيقي لقيام الآخرين وبقائهم. إن كل شيء حيٌّ وقائمٌ بفيض هاتين الصفتين الإلهيتين. واسم الحي يقتضي أن يُعبَد الله وحده كما يدل عليه قوله تعالى في سورة الفاتحة إياك نعبد ، واسم القيوم يتطلب أن يُرجى العون منه وحده، كما هو مفهوم قوله تعالى وإياك نستعين .

فسواء كانت الأمور الدنيوية والترقيات المادية أو الأمور الروحانية والرقي الروحاني فإن الإنسان لا ينتفع بفيوض هذا الدعاء ولن يرث نعم الدنيا والآخرة إلا إذا صار عبدًا حقيقيًا لله تعالى. لقد بينت من قبل أن الشكر على فيوض رحمانية الله يرغّب الإنسان في العبادة وطلبِ فيوض الرحيمية، وهذا هو معنى الاستعانة. والواضح أن هذا المفهوم يغطي المعاملات المادية والأمور الروحانية كلها.

لقد قلت في بداية خطبتي أن الصلاة مخ العبادة، وقد قال المسيح الموعود في توضيح ذلك ما نصه: ”

“ومن أفضل العبادات أن يكون الإنسان محافِظًا على الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها، وأن يجهد للحضور والذوق والشوق وتحصيل بركاتها، مواظبًا على أداء مفروضاتها ومسنوناتها. فإن الصلاة مركَبٌ يوصل العابد إلى رب العباد، فيصل بها إلى مقام لا يصل إليه على صهوات الجِياد، وصيدُها لا يُصاد بالسهام، وسرُّها لا يظهر بالأقلام. ومن التزمَ هذه الطريقة، فقد بلَغ الحقَّ والحقيقةَ، وأَلْفَى الحِبَّ الذي هو في حُجب الغيب، ونجا من الشك والريب، فترى أيامَه غُرَرًا، وكلامَه دُرَرًا، ووجهَه بدرًا، ومقامَه صدرًا. ومَن ذلَّ للهِ في صلواته أذلّ الله له الملوكَ، ويجعل مالِكًا هذا المملوكَ.” (إعجاز المسيح)

لا جرم أن الصلاة أفضل العبادات وأنها وسيلةٌ تقرّب العبد إلى الله تعالى، ولكن الله تعالى قد صرح بنفسه أن صلوات بعض الناس لا تحظى بالقبول، لأنهم لا يؤدونها حق الأداء. إن بعض الناس يشتكون أنهم لا يجدون المتعة في الصلاة، ولا تستولي عليهم في الصلاة تلك الحالة التي يجب أن تستولي، مع أنهم أهل صلاح ويريدون أن يتمتعوا بالصلاة. يخبر المسيح الموعود علاج ذلك ويقول:

إن بعض الناس يقولون إنهم لا يجدون المتعة في الصلاة، ولكني أقول لمثل هؤلاء أن يواظبوا على الصلوات ويصلّوا بكثرة. ذلك أن السالك يصاب بالقبض الروحاني في المراحل الأولى في سبيل التقوى، وعليه في هذه الحالة أن يردد قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين مرة بعد أخرى. في الكشف يتراءى الشيطان على شاكلة السارق، لذا على العبد أن يستغيث الله تعالى في الصلاة قائلا رب إن هذا السارق يطاردني، فأستنصرك عليه معتصمًا بك. إن الذين يستغيثون الله على الشيطان على هذا النحو ويستعينون به في دعائهم ولا يسأمون ولا يملون، فإنهم يجدون قوة يهلكون بها الشيطان.

ولكن هذه الاستغاثة تتطلب صدقًا وحرقة عظيمين في الدعاء. كيف يتيسر ذلك للمصلي؟ إنما يتيسر له إذا تصور أن الشيطان يهاجمه كالسارق. وكيف تتولد في قلبه هذه الحرقة واللوعة؟ إنما تتولد فيه بالإنابة إلى الله بصدق. إذا تصور العبد أن الشيطان يطارده ويصول عليه كاللص، وأنه يحاول أن يعرّيه كما فعل بآدم حتى ألقاه في الابتلاء، فإن روحه ستصرخ عاليا إياك نعبد وإياك نستعين .

فإن الصلاة مركَبٌ يوصل العابد إلى رب العباد، فيصل بها إلى مقام لا يصل إليه على صهوات الجِياد، وصيدُها لا يُصاد بالسهام، وسرُّها لا يظهر بالأقلام. ومن التزمَ هذه الطريقة، فقد بلَغ الحقَّ والحقيقةَ، وأَلْفَى الحِبَّ الذي هو في حُجب الغيب، ونجا من الشك والريب….

لقد ضربتُ قبل قليل مثالَ الصحابة رضي الله عنهم أو الذين تيسرَ لهم العرفان كيف أنهم كانوا لا يبرحون يرددون في الصلاة هذه الكلمة مرة بعد أخرى لكي يودوا حق العبادة، ويلوذوا من الشيطان بملاذ الله تعالى مستعينين به، وليرثوا المزيد من أفضال الله تعالى.

ثم يقول حضرته :

عليكم أن ترددوا في الصلوات إياك نعبد وإياك نستعين   كثيرًا. إن قوله إياك نستعين يردّ إليكم فضلَ الله الذي هو متاعكم المفقود. لقد بينتُ مِن قبل أن تكرار هذه الكلمة تنبّه الإنسان إلى عبادة الله.

ندعو الله تعالى أن يوفقنا أن نصوغ حياتنا بهذه العبارات من نور وهذه الجواهر الثمينة، وأن ندخل في عباد الله الذين يستعينون به كل حين وآن، والذين يعيذهم الله بملاذه، وأن ننتفع من بركات شهر رمضـان حق الانتفـاع. ركّزوا على الدعـاء في هذه الأيـام الباقية خاصـةً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك