الفتوحات العمرية ودور الخليفة عمر المحوري فيها

الفتوحات العمرية ودور الخليفة عمر المحوري فيها

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • ما أسباب مواصلة عمر (رض) للفتوحات التي بدأها سلفه الصديق (رض)؟
  • ما الذي يميز الفتوحات العمرية عن توسعات كبار القادة العسكريين في التاريخ؟
  • ما تفاصيل ما جرى من حادث استشهاده (رض)
  • كيف تثبت واقعة استشهاده (رض) نصاعة صحيفة الفتوحات الإسلامية بوجه عام؟

___

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى  بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 08/10/2021م

في المسجد المبارك بإسلام آباد، بريطانيا

 

أسباب الفتوحات في عهد عمر

كنت تحدثت عن الفتوح في عهد عمر . كتب أحد كُتاب السيرة لسيدنا عمر وهو العلّامةُ شبلي النعماني وهو يذكر أسباب فتوح عمر : لعل مثل هذه التساؤلات تنشأ في ذهن مؤرخ من أنه كيف طوت فئة قليلة من سكان الصحراء صفحات دولتَي فارس والروم؟ هل هذه واقعة استثنائية في تاريخ العالم؟ وما هي أسبابها يا ترى؟ ألا يمكن تشبيه هذه الأحداث بفتوح الإسكندر وجنكيز خان؟ وماذا كان دور الخليفة فيما حدث؟ نريد أن نجيب هنا على هذه التساؤلات، ولكن قبل ذلك ينبغي أن نعرف مدى اتساع الفتوح العُمَرية وحدودها. كانت المساحة الكلية للبلاد المفتوحة في عهد عمر 2251030 ميلا مربعا، أي 1036 ميلا من الناحية الشمالية لمكة المكرمة و1087 ميلا من ناحية الشرق و483 ميلا من ناحية الجنوب. لقد تمت كل هذه الفتوح في عهد عمر وخلال عشر سنوات، أكثر قليلا أو أقل قليلا. هذه هي الخلفية التاريخية التي لا بد من معرفتها لفهم هذه الفتوح.

والآن أبين ما هو رأي المؤرخين الأوروبيين عن هذه الفتوح. لقد أجاب المؤرخون الأوروبيون على السؤال الأول وقالوا إن مملكتي فارس والروم كانتا قد فقدتا مجدهما، أي كانتا قد بلغتا كمالهما ومن قانون الطبيعة أن بعد كل كمال زوالا. ثم كتب: كان نظام الدولة الفارسية قد اختل تماما بعد خسرو برويز لأنه لم يكن هناك من هو جدير بتولي الحكومة، وكانت المؤامرات قد تفشت بين أعضاء البلاط وأركان الدولة وبسبب تلك المؤامرات ظل الحكام يتعاقبون باستمرار، فإنه في غضون ثلاث أو أربع سنوات صار الحكم في أيدي ستة أو سبعة ملوك ثم خرج من أيديهم. وقال المؤرخون الأوروبييون: والسبب الثاني لذلك هو أن طائفة المزدكية كان قد اشتد أمرها قبل أنوشروان بقليل وهي كانت تميل إلى الإلحاد والزندقة، أي كانت هذه الطائفة تؤمن بأنه يجب تنـزيه قلوب الناس من الطمع ورفْع جميع الخلافات وجعْل جميع الممتلكات بما فيها النساء ملكا مشتركا للجميع، لكي يتنـزّه الدين، أي لم يكن لديهم أي احترام للمرأة أيضا. هذه كانت معتقداتهم. وعند البعض كانت هذه حركة اجتماعية تهدف إلى تطهير الديانة الزرادشتية. ومع أن أنوشروان كان قد شد عليهم بالسيف ولكنه لم يستطع استئصالهم تماما، وعندما وطئت أقدام الإسلام أرض فارس اعتبروا المسلمين أنصارا لهم لعدم تعرضهم لأي ديانة وعقيدة. هذه وجهة نظر المؤرخين الأوروبيين.

ثم كتب العلّامة النعماني: إن طائفة النساطرة المسيحية (nestorian) الذين لم يجدوا مأوى لهم في ظل أي حكومة حموا أنفسهم من ظلم المعارضين بمجيئهم تحت ظل الإسلام. وهكذا نال المسلمون التأييد والعون من هاتين الفرقتَين الكبيرتين بالمجان. أما دولة الروم فقد تسرب إليها الضعف وإضافة إلى ذلك كانت نزاعات المسيحية فيما بينهم على أشدها في تلك الأيام، ولأنه كان للدين دخل في نظام الحكم حينها لذا لم يكن تأثير هذا النـزاع مقتصرا على الأفكار الدينية فقط بل كانت الدولة ذاتها تضعف بسببه باستمرار.

يقول العلامة ردا على هذا الموقف أو رأي المؤرخين الأوروبيين المذكور: هذه الإجابة فيها شيء من الحقيقة، إلا أن الزيف في الاستدلال يفوق الحقيقة فيها وهذا هو الأسلوب المتبع لدى الأوروبيين. فلا شك أن دولتي الفرس والروم لم تكونا في أوج قوتهما آنذاك ويمكن أن يُستنتج من ذلك أنهما أصبحتا غير قادرتَين على مواجهة دولة قوية ولكن لا يمكن أن يُستنتج أن تُمزَّقهما على يد قوم بلا عدة وعتاد كالعرب. لأن الفرس والروم كانوا بارعين في فنون الحرب بدليل أن الكتب التي كُتبت عن قواعد الحرب الخاصة بها والتي لا تزال موجودة، ظلت رائجة عمليا لمدة عند الروم وإلى جانب ذلك لم يعترها أي نقص في وفرة المؤن وكثرة العدة والعتاد وتنوع الآلات الحربية وكثرة الجيش، وفوق كل ذلك فهي لم يكن عليها أن تخرج للهجوم على دولة أخرى بل كان عليها أن تدافع عن أرضها باقيةً في بلادها وقلاعها وحصونها. وقبل هجوم المسلمين بقليل في عهد كسرى برويز، حيث كانت فارس في أوج شوكتها وقوتها، حمل عليها قيصر الروم ووصل أصفهان فاتحا في كل خطوة، واستعاد بعض الأقاليم التي كان الفرس قد انتزعوها منهم وأعاد تنظيم الإدارة من جديد.

ومن المسلَّم به عموما أن الحكومة الفارسية كانت في غاية القوة والعظمة حتى عهد كسرى برويز، وكانت الفترة ما بين وفاة كسرى والحملة الإسلامية أربع سنوات فقط، فكيف يمكن أن تضعف مثل هذه الدولة القوية والعتيدة في هذه الفترة القصيرة؟! لا شك أن التغير الذي حدث بسبب الذين اعتلوا العرش من بعده قد أخلّ بالنظام إلا أن مؤسسات الدولة مثل الخزينة والجيش ومصادر الدخل لم يعترها أي خلل، ولما تولى يزدجرد الحكم اتجه أهل البلاد ناحية الإصلاح واستردوا نفس الجاه والعظمة مرة أخرى.

أما الطائفة المزدكية فقد كانت موجودة في إيران ولكن لم نعلم من كتب التاريخ بأن المسلمين تلقوا أي نوع من العون منها، كما لم نعلم شيئا عن تلقي المساعدة من النساطرة، ولم يذكر أحد من المؤرخين الأوروبيين أي حدث أثَّر فيه اختلاف الطوائف المسيحية.

ولننظر الآن إلى حال العرب فإن جميع الجيوش التي كانت منشغلة في حروب الروم وفارس ومصر لم يصل مجموعها قط إلى مائة ألف. ومن ناحية خبرتهم بفنون الحرب فقد كانت اليرموك أول معركة استخدم العرب فيها نظام «التعبئة» في تنظيم الصفوف، والتعبئة هي ترتيب الجيوش عند الحرب بحيث يكون قائد الجيش أو الملك الذي يقود الجيش يقوم في وسط الجيش، كذلك لم يكن العرب يعرفون من عتاد الوقاية سوى الدروع وكثيرا ما كانت تُصنع من الجلد، في حين أن الفرس عرفوا الخوذات والدروع والسترات الحديدية، والجواشن، وهي نوع من الدُرع، والواقية المصفَّحة، وهي هي ألواح حديدية أربع تُربط على الصدر والظهر وعلى كلا الفخذين، والقفافيز الحديدية، و«جهلم» (هي الحلقات الحديدية على الخوذ أو النقاب) والأخفاف التي كانت من مستلزمات ملابس الحرب لكل جندي فارسي، وكان رِكاب الفارس العربي من الخشب بدلا من الحديد، ولم يكن العرب يعرفون من آلات الحرب سوى الصولجان والوهق، (الصولجان نوع من السلاح يكون سميكا ومدوّرا من أعلاه ويكون تحته عصا، ويُستخدم لضرب رأس العدو. وأما الوهق فهو حبل أو شبكة أو فخ) أما رماحهم فقد كانت صغيرة وضعيفة حتى إن الفرس عندما رأوها لأول مرة في معركة القادسية ظنوها مغازل.

كتب العلامة النعماني وهو يبين الأسباب الحقيقية لفتوح المسلمين: إن الجواب الحقيقي لهذا السؤال في رأيي هو أن الشجاعة والهمة العالية والقوة والصبر والعزيمة والحماس قد دب في المسلمين في ذلك الوقت بسبب بعثة النبي فيهم، وقد ضاعف عمر من هذه الصفات وشحّذها فلم تستطع مملكتا فارس والروم في عصرهما الذهبي أن تتصديا لهم، وإلى جانب هذا توجد أسباب أخرى، وأولها صدق المسلمين وأمانتهم، فقد كان الناس في أي بلد يُفتح يقعون في حب المسلمين لصدقهم بحيث إنهم كانوا لا يريدون زوال حكمهم بالرغم من اختلاف الدين، ففي معركة اليرموك عندما خرج المسلمون من مدن الشام صاح جميع الرعايا المسيحيون قائلين: «ليردكم الله إلى هذه البلد»، بل إن اليهود خرجوا حاملين التوراة قائلين: «لا يمكن أن يأتي قيصر إلى هنا ما دمنا أحياء».

لقد كان حكم الروم في مصر والشام حكما جائرا، لذا واجه الرومُ المسلمين بقوة الدولة والجيش ولم يكن معهم الرعايا، وعندما قضى المسلمون على قوة الدولة كان الجوُّ مهيأً أمامهم لأنهم لم يجدوا أي نوع من أنواع المقاومة من جانب الرعايا، إلا أن حالة فارس كانت مختلفة عنها فقد كان هناك كثير من الحكام والأمراء تحت لواء المملكة وكانوا يملكون الأقاليم والمحافظات فكانوا يحاربون للحفاظ على حكوماتهم الخاصة لا من أجل الدولة. ومن أجل ذلك واجه المسلمون العراقيل عند كل خطوة في فارس حتى بعد فتحهم عاصمتها، إلا أن الرعية عامة كانت معجبة بالمسلمين، وصارت عونا كبيرا على استتباب حكم المسلمين بعد الفتح.

كتب العلامة النعماني وهو يبين الأسباب الحقيقية لفتوح المسلمين: إن الجواب الحقيقي لهذا السؤال في رأيي هو أن الشجاعة والهمة العالية والقوة والصبر والعزيمة والحماس قد دب في المسلمين في ذلك الوقت بسبب بعثة النبي فيهم، وقد ضاعف عمر من هذه الصفات وشحّذها فلم تستطع مملكتا فارس والروم في عصرهما الذهبي أن تتصديا لهم، وإلى جانب هذا توجد أسباب أخرى، وأولها صدق المسلمين وأمانتهم

وكان هناك سبب آخر لذلك وهو أن المسلمين عندما قاموا بالحملات على الشام والعراق في أول الأمر، كان العرب قاطنين بكثرة في البلدين، ففي الشام كان الغساسنة يحكمون دمشق، وكان حاكمها الغساني تابعا لقيصر بالاسم فقط. أما العراق فكان اللخميون يملكون البلاد في الواقع، وإن كانوا يدفعون لكسرى الخراج. وقد حارب هؤلاء العربُ المسلمين في أول الأمر لكونهم مسيحيين، ولكن عاطفة الوحدة العربية عملت عملها أخيرا، فأسلم كبار رؤساء العرب في العراق سريعا، فصاروا بعد إسلامهم عونًا كبيرا للمسلمين. أما في الشام فأسلم العرب فيها في نهاية المطاف، وتحرروا من حكم الروم.

أما الإسكندر وجنكيز خان وغيرهما من الغزاة فذكرهم غير منسجم في هذا السياق بتاتا. لا شك أن كلاهما أحرز انتصارات عظيمة، ولكن كيف؟ بالقهر والظلم والقتل العام. وأمر جنكيز خان معروف للجميع، أما الإسكندر فلو درسنا انتصاراته لعلمنا أنه لما أراد فتح مدينة «صور» الشامية، قاتله أهلها بكل بسالة لمدة طويلة، فلما تمكن من فتحها أمر بالقتل العام فيها، وعلق جماجم آلاف من سكانها على أسوارها، كما جعل ثلاثين ألفا منهم عبيدا وإماء وباعهم. ولم يترك شخصا واحدا من سكانها الأصليين ممن كانوا يسعون إلى التحرر.

وكانت الحال نفسها في فارس أيضا، فأصطخر التي كانت من مدنها القديمة، لما فتحها الإسكندر قتل َكل ذكرٍ من سكانها. وتاريخ انتصاراته مليء بمثل هذه المذابح الوحشية. فكيف يمكن مقارنة انتصاراته بالفتوحات الإسلامية. والمعروف أن الظلم يدمر الدول ويقضي عليها، وهذا صحيح تماما إذ لا يبقى الظلم طويلا. وبالفعل لم تدُمْ ممالك الإسكندر ولا جنكيز خان. غير أن مثل هذه المذابح يمكن أن تساعد على الانتصارات الفورية حيث تبثّ الرعب في قلوب السكان كلهم، ولأن معظم الرعايا يتعرضون للقتل والإبادة فلا يبقى هنالك خطر للتمرد والثورة، ومن أجل ذلك كان مشاهير الغزاة الكبار مثل جنكيز خان وبختنصر وتيمور لنك ونادرشاه وغيرهم كانوا سفاكين دمويين.

أما فتوحات سيدنا عمر فلم يتعد فيها الجنود المسلمون القانون والعدل قط. لم يُسمَحْ لهم مطلقا بقطع الأشجار أو التعرض للصغار والشيوخ، دعْ عنك أن يُعمِلوا القتل في الرعايا. وما كان ممكنا أن يُقتَل أحد إلا في ساحة القتال، أي مَن كان يُقتَل من السكان إنما كان يُقتَل أثناء القتال، أما سوى ذلك فلم يكن قتلُ أحد مسموحا به أبدا. وما كان مسموحا لهم بنكث العهد مع العدو أو خداعه بأية حال. وكان هناك أوامر مشددة للقادة أنهم إذا حاربوا العدو فلا يخدعوا ولا يقوموا بالمثلة (أي بقطع أنف أو أذن أحد) ولا يقتلوا وليدا، أما سواهم من جنود مقاتلين فليقاتلوهم بشجاعة، ومَن تمرد بعد أن صار مطيعا، ثم مال إلى الصلح فليأخذوا منه العهد ثانية وليصفحوا عنه. حتى إن أهل عربسوس تمردوا ثلاث مرات متتالية بعد أن آتوا العهود والمواثيق (عربسوس مدينة شامية على الحدود المتاخمة مع آسيا الصغرى) فمع ذلك كل ما فُعل بهم هو جلاؤهم من أرضهم، ومع ذلك دفع لهم المسلمون ثمن عقاراتهم.

ثم قال صاحب هذا الكتاب: لقد أُجلي يهود خيبر بجريمة المؤامرة والتمرد، ولكن دُفع لهم أجور أراضيهم، وأُرسلت الرسائل إلى ولاة مختلف المناطق بأن يقدموا لهؤلاء كل نوع من المساعدة حيثما يمرون، وإذا أقاموا في بلدة فلا يأخذوا منهم الخراج لمدة سنة.

فتوحات عمر، وغزوات جنكيز خان والإسكندر

يقول العلامة النعماني: إن الذين يقللون من عظمة هذه الفتوحات الفاروقية المدهشة بقولهم أنه كان هناك غزاة آخرون مثله في التاريخ، فعليهم أن يقدموا مثالا لحاكم واحد في تاريخ العالم فتح شبرا من أرض العدو ملتزما بهذه الشروط من حيطة وصفح وعدل.

ثم إن الإسكندر وجنكيز خان وغيرهما من الغزاة كانوا يحضرون القتال بأنفسهم في كل وقعة، وكانوا يقودون بأنفسهم جنودهم في ساحة القتال، فكان الجنود يجدون بذلك قائدا محنكا يشرف على القتال، كما كان هذا دافعا طبيعيا كبيرا لرفع معنوياتهم ولخلْق الحماس لفداء سيدهم. ولكن سيدنا عمر لم يحضر في خلافته أي معركة قط. كانت الجنود تحارب في كل مكان، ومع ذلك كان سيدنا عمر آخذا بزمام أمرهم بيده.

ومن الفروق البينة المميزة الكبيرة أيضا هو أن انتصارات الإسكندر وغيره جاءت كسحاب عارض يأتي بقوة دفعة واحدة ثم ينكشف سريعا، ولم يوطدوا نظام الحكم في البلاد التي غزوها، وعلى النقيض فمن ميزة الفتوحات الفاروقية أن البلاد التي فتحها في ذلك الوقت لا تزال حتى اليوم في ظل الإسلام رغم مرور ثلاثة عشر قرنا على فتحها، كما أن سيدنا عمر في عهد خلافته فعل بنفسه كل ما كان لزاما لتوطيد النظام في تلك البلاد.

ثم كتب صاحب هذا الكتاب عن الدور الخاص الذي لعبه سيدنا عمر في تلك الفتوحات، فقال: والاعتراض الأخير الذي يثار من قبل هؤلاء المعترضين نظرا إلى الرأي العام السائد آنذاك يتمثل في الزعم بأن عمر  لم يكن له دور خاص في هذه الفتوحات، بل إن الحماس والعزيمة السائدين عموما عند المسلمين عندها كانا هما الدافع الأصلي وراء كل هذه الانتصارات. ولكن هذا الرأي ليس بسليم عندي. كان المسلمون أنفسهم موجودين في عهد سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهما، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لا شك أن الحماس والعزيمة قوتان تعملان عمل البرق، ولكنهما لا تنفعان إلا إذا كان الذي يستخدمهما يتمتع بنفس القوة والقدرة. ولمعرفة هذا الأمر ليس ثمة حاجة للقياس والاستدلال، بل إن الواقعات بنفسها تتكلم وتصدر حكمها. فبدراسة تلك الفتوحات بالتفصيل يتضح جليا أن كل الجنود كانوا يتحركون كالدمية بإشارات سيدنا عمر ، وكان نظام الجنود مرهونا بسياسة عمر وتدبيره .

لقد اخترع سيدنا عمر بنفسه نظما عديدة للجيش من ترتيب للجنود، والمناورات العسكرية، وبناء معسكرات، وتربية الخيول، وحماية القلاع، وتحديد توقيت الحملات نظرا إلى الطقس من برد أو حر، والتحركات العسكرية، ونظام البريد، واختيار القادة، واختراع واستعمال آلات لتدمير القلاع وغيرها من الأمور العسكرية، ثم حافظَ على تنفيذ كل هذه الأمور بقوة وعزيمة بشكل مدهش. كل هذه الأمور هي من خواص سيدنا عمر وحده. والحق أن سيدنا عمر قاد بنفسه الجيوش الإسلامية في الفتوحات العراقية. فعندما كان الجنود يسيرون من المدينة كان يحدد لهم كل منزل ينزلونه في الطريق، بل كان يحدد لهم الطرق التي يسلكونها، وظل يرسل لهم أوامره وفقا لرؤيته، ولما وصل الجيش قريبا من القادسية، طلب خريطة المكان وبحسبها أرسل تعليماته لإعداد الجيش وترتيب الصفوف، وكان القادة الذين يتولون شتى المهام إنما كانوا يتولونها بحسب تعليمات صادرة مباشرة من عمر .

لو قرأتم أحداث العراق المفصلة في تاريخ الطبري لتبين لكم بكل جلاء أن هذا القائد الأعلى كان يدير القتال بإصدار الأوامر لكل الجيوش المختلفة جالسا من مكان بعيد، وأن كل شيء كان يتم بحسب إشاراته. كانت هناك معركتان هما الأخطر من بين المعارك خلال كل هذه الحروب التي وقعت في السنوات العشر، إحداهما معركة النهاوند حين أرسل الفرس نقباءهم في كل ولاية فارسية، وأججوا الناس ضد المسلمين من أقصى البلاد إلى أقصاها، فتهيأ المحاربون بمئات الآلاف وتقدموا للقاء المسلمين. والأخرى حين هاجم قيصر الروم بجنوده ثانية على حمص بمساعدة أهل الجزيرة. وفي كلتا المعركتين لم يحسم الأمر إلا بحسن تدبير وسياسة سيدنا عمر ، حيث صدّ الطوفان القادم من جهة، كما حطم الجبل العظيم من جهة أخرى.

بعد قراءة تفصيل هذه الواقعات لا تثبت إلا حقيقة واحدة وهي أنه لم ير تاريخ العالم المعروف حتى اليوم فاتحا وملكا جمع الفتوحات والعدل معًا مثل الفاروق الأعظم ، حيث نال الفتوحات كما أقام العدل أيضا.

أما فتوحات سيدنا عمر فلم يتعد فيها الجنود المسلمون القانون والعدل قط. لم يُسمَحْ لهم مطلقا بقطع الأشجار أو التعرض للصغار والشيوخ، دعْ عنك أن يُعمِلوا القتل في الرعايا. وما كان ممكنا أن يُقتَل أحد إلا في ساحة القتال، أي مَن كان يُقتَل من السكان إنما كان يُقتَل أثناء القتال، أما سوى ذلك فلم يكن قتلُ أحد مسموحا به أبدا. وما كان مسموحا لهم بنكث العهد مع العدو أو خداعه بأية حال. وكان هناك أوامر مشددة للقادة أنهم إذا حاربوا العدو فلا يخدعوا ولا يقوموا بالمثلة (أي بقطع أنف أو أذن أحد) ولا يقتلوا وليدا، أما سواهم من جنود مقاتلين فليقاتلوهم بشجاعة، ومَن تمرد بعد أن صار مطيعا، ثم مال إلى الصلح فليأخذوا منه العهد ثانية وليصفحوا عنه

واقعة استشهاده

وقد ورد أن النبي دعا لسيدنا عمر بالشهادة أو سماه شهيدا، فعن ابن عمر أن النبي رأى على عمر ثوبا أبيض، فقال: أجديد ثوبك هذا أم غسيل؟ قال ابن عمر: لا أتذكر بماذا أجاب عمرُ رسولَ الله ، إلا أن رسول الله قال له: البسْ جديدا، وعِشْ حميدا، ومُتْ شهيدا. وقال ابن عمر: أظن أنه قال أيضا: ويرزقك الله قرة عين في الدنيا والآخرة.

عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ».عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «قَالَ لِي جِبْرِيلُ : لِيَبْكِ الْإِسْلَامُ عَلَى مَوْتِ عُمَرَ

ولقد ورد عن أمنية عمر حول الشهادة، وهناك رواية

عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي قَتْلا فِي سَبِيلِكَ وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ. قَالَتْ: قُلْتُ وَأَنَّى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِأَمْرِهِ أَنَّى شَاءَ.

لقد ذكر المصلح الموعود دعاء سيدنا عمر عن تلقي الشهادة وقال:

ما مدى قرب عمر من الله؟ يقول الرسول الكريم لو كان بعدي نبي لكان عمر. ويعني «بعدي» هنا بعده مباشرة. فإن الذي يعتبره الرسول الكريم جديرًا بأنه إذا أراد الله تعالى أن يرفع أحدًا من مرتبة الشهادة إلى مرتبة النبوة على حسب حاجة الزمان، لاستحق ذلك عمر الذي يعترف حتى أعنف الخصوم الأوروبيين عندما يرون تضحياته بأنه لا يكاد يوجد رجل يقدم مثل هذا النوع من التضحيات بحيث يتفانى في هذا السبيل؛ بل ويغالون بخصوص تضحياته لدرجة يربطون به رقي الإسلام كله، هذا هو سيدنا عمر الذي كان يدعو: اللهم ارْزُقْنِي قَتْلا فِي سَبِيلِكَ وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ. لقد دعا عمر هذا الدعاء بدافع المحبة، وإلا فإن هذا الدعاء كان خطيرًا جدًّا، وكان يعني أن يكون المهاجم قويًا لدرجة يفتح البلاد الإسلامية كلها حتى يصل إلى المدينة المنورة ويقتل عمر هناك. ولكن الله العارف بحال القلوب قد حقق رغبة عمر وحمى المدينة أيضا من الآفات المخفية وراء تحقق هذا الدعاء، وذلك أنه تعالى جعله يتلقى الشهادة على يد كافر بالمدينة المنورة. على أي حال، يظهر من دعاء عمر أنه كان يرى علامة القرب من الله تعالى أن يجد فرصة للتضحية بحياته في سبيل الله، لكن اليوم (كان المصلح الموعود يوصي الأحمديين في إحدى خطبه) يُعدّ إنقاذ الله تعالى الإنسان من الموت علامةً على قرب الله تعالى.

لقد ذكر المصلح الموعود واقعة استشهاد عمر في مكان آخر وقال: لقد ورد عن سيدنا عمر أنه كان يدعو باستمرار:

«اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك».

لاحظوا أن الموت شيء مفزع بحيث يفارق الإنسان أعز أعزائه عند حلول الموت. یُروى أن ابنة إحدى العجائز مرضت مرضًا شديدًا، (يذكر حضرة المصلح الموعود واقعة لإظهار كيفية خوف الناس من الموت، وهي قصة عجوز مرضت ابنتها) فأخذت تدعو يوميًا أن تنجو ابنتها من الموت، وتموت هي مكانها (حيث كانت تبدي حبها لابنتها) وفي إحدى الليالي انحلّ رسن البقرة فمضت وأدخلت رأسها في جرّة ضيقة فعلق فيه فأخذتها برأسها وجفلت وأخذت تجري هنا وهناك. فلما رأتها العجوز أمامها ورأت مكان رأسها شيئًا ضخمًا عجيبًا ذعرت. (أي رأت أنها جسم البقرة ومكان رأسها شيء آخر وهي تجري هنا وهناك فخافت جدًّا) فظنت أن دعاءها استجيب، وجاء عزرائيل لقبض روحها، فأخذت تصرخ بشكل عفوي قائلة: يا عزرائيل لست أنا المريضة إنما هي التي مضطجعة هناك، فاقبض روحها وأشارت بذلك إلى ابنتها.

يقول المصلح الموعود : لاحظوا كم يحب المرء إنقاذ نفسه من الموت ويسعى له سعيه. فكانت العجوز تدعو لتموت مكان ابنتها ولكنها لما لاحظت أن خطر الموت محدق بها أشارت إلى ابنتها لتُقبض روحها. يقول حضرته: يقوم الإنسان بكل ما في وسعه من أجل إنقاذ نفسه، وبعضهم يظلون ينفقون على تلقي العلاج حتى الإفلاس، أما الصحابة فكانوا يتمنون التضحية بنفوسهم في سبيل الله تعالى باندفاع شديد لدرجة أن عمر كان يدعو أن ينال الشهادة في المدينة المنورة.

يقول المصلح الموعود: خطر ببالي ما أخطر هذا الدعاء، إذ كان يعني أن يشنّ العدو على المدينة هجوما شديدا ويقتل عمر في أزقة المدينة. ولكن الله تعالى قد استجاب دعاءه بطريقة أخرى بحيث استشهد في المدينة بيد شخص كان يدَّعي الإسلام.

(قيل عن القاتل أنه كان كافرًا ولكن ورد في بعض الروايات أنه ربما كان مسلما، على أية حال، بشكل عام يعرف عنه أنه كان كافرًا. أما المصلح الموعود فقد ذكره مرة أنه كان كافرًا وذكر أيضا أنه كان مسلما، أي أنه لم يكن متأكدًا أكان القاتل مسلمًا أم كافرًا. فقد ذكر بنفسه هنا أيضا) ويرى البعض أنه لم يكن مسلمًا، على أية حال، كان عبدًا مملوكًا تم استشهاد عمر بيده. فما يرغب فيه الإنسان ويتمناه لا يعدّه مصيبة له.

هذا كان بيان المصلح الموعود من إحدى خطبه.

وهناك رؤى بعض الصحابة عن استشهاد ووفاة عمر .

عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ عَلا النَّاسَ بِثَلاثَةِ أَذْرُعٍ. قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قُلْتُ: بِمَ يَعْلُوهُمْ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهِ ثَلاثَ خِصَالٍ. لا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وَإِنَّهُ شَهِيدٌ مُسْتَشْهَدٌ. وَخَلِيفَةٌ مُسْتَخْلَفٌ. فَأَتَى عَوْفٌ أَبَا بَكْرٍ (الذي كان خليفة آنذاك) فَحَدَّثَهُ فَبَعَثَ أبوبكر إِلَى عُمَرَ فَبَشَّرَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لعوف: قُصَّ رُؤْيَاكَ. فَلَمَّا قَالَ: خَلِيفَةٌ مُسْتَخْلَفٌ انْتَهَرَهُ عُمَرُ فَأَسْكَتَهُ (لأنه كان يذكر ذلك في حياة أبي بكر). فَلَمَّا وَلِي عُمَرُ انْطَلَقَ إِلَى الشَّامِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ رَأَى عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ. فَدَعَاهُ. فَصَعِدَ مَعَهُ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: اقْصُصْ رُؤْيَاكَ. فَقَصَّهَا. فَقَالَ: أَمَّا أَلا أَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ فَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَنِي اللَّهُ فِيهِمْ. وَأَمَّا خَلِيفَةٌ مُسْتَخْلَفٌ فَقَدِ اسْتُخْلِفْتُ فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَنِي عَلَى مَا وَلانِي. وَأَمَّا شَهِيدٌ مُسْتَشْهَدٌ فَأَنَّى لِيَ الشَّهَادَةُ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَسْتُ أَغْزُو النَّاسَ حَوْلِي؟ ثُمَّ قَالَ: يَأْتِي بِهَا اللَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أي أن الظروف الحالية لا تشير إلى ذلك ولكن الله تعالى يمكن أن يأتي بها إن شاء.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ كأني أخذت جواد كَثِيرَةً فَاضْمَحَلَّتْ حَتَّى بَقِيَتْ جَادَّةٌ وَاحِدَةٌ. فَسَلَكْتُهَا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى جَبَلٍ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ فَوْقَهُ وَإِلَى جَنْبِهِ أبو بكر. وإذا هو يومىء إِلَى عُمَرَ أَنْ تَعَالَ. فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. مَاتَ وَاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قال أنس: فَقُلْتُ: أَلا تَكْتُبُ بِهَذَا إِلَى عُمَرَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَنْعِيَ لَهُ نَفْسَهُ.

عن سعيد بن أبي هلال أن سيدنا عمر بن الخطاب خاطب الناس يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال أيها الناس أُريت رؤيا توحي بأن موتي قريب، فقد رأيت ديكا أحمر نقرني نقرتين، وإني استعبرت أسماء بنت عميس، فقالت: يقتلك رجل من العجم.

فعن يوم استشهاد سيدنا عمر ويوم دفنه روايات مختلفة، فقد ورد في الطبقات الكبرى، أن سيدنا عمر هوجم يوم الأربعاء وتوفي يوم الخميس، حيث طعن في السادس والعشرين من ذي الحجة عام ثلاثة وعشرين الهجري، ودفن صباحَ الأول من محرم عام أربع وعشرين الهجري. وقال عثمان الأخنس أنه توفي في يوم الأربعاء في السادس والعشرين من ذي الحجة، وقال أبو معشر أن عمر استشهد في السابع والعشرين من ذي الحجة، وقال معظم المؤرخين ما عدا تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير إن عمر طعن في السادس والعشرين من ذي الحجة عام ثلاث وعشرين الهجري وتوفي في الأول من محرم عام أربع وعشرين الهجري ودفن في اليوم نفسه.

وقد ورد تفصيل حادثة الشهادة في صحيح البخاري كالتالي:

عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ، وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: « كَيْفَ فَعَلْتُمَا (بحق أراضي العراق، التي كانت مهمة عنايتها قد عُهدت إليهما من قِبل الخلافة) أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ؟ قَالاَ: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، (أي تقدر الأرض على إنتاج الزرع بحسب ذلك) مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ، قَالَ: انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ، قَالَ: قَالاَ: لاَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ، لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ العِرَاقِ لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا، قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ، قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ، أَوِ النَّحْلَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي – أَوْ أَكَلَنِي – الكَلْبُ، حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ العِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لاَ يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، (خشية أن يمسك به أحدهم) حَتَّى طَعَنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا، (وهو قميص طويل ومعه ما يغطي الرأس أيضا ويقال للطاقية الطويلة أيضا) فَلَمَّا ظَنَّ العِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ يَلِي عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى، وَأَمَّا نَوَاحِي المَسْجِدِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلاَةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي، فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلاَمُ المُغِيرَةِ، قَالَ: الصَّنَعُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ، (فمن هنا أيضا ثبت أنه لم يكن مسلما)، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ العُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ، – وَكَانَ العَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا – فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ، أَيْ: إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا؟ (أي هؤلاء الرقيق العجم في المدينة). قَالَ: كَذَبْتَ بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ، وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ، وَحَجُّوا حَجَّكُمْ.(فكان كثير من الرقيق قد أسلموا). فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمِئِذٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لاَ بَأْسَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَجَاءَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلاَمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ (أي لن يبلى عاجلا لاحتكاكه بالأرض) وَأَتْقَى لِرَبِّكَ.(في ذلك الزمن كان الناس يرتدون ثيابا طويلة للدلالة على الغنى والثراء، فحذره من التكبر فهو أقرب للتقوى). يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ: إِنْ وَفَى لَهُ، مَالُ آلِ عُمَرَ فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَسَلْ فِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ، وَلاَ تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَأَدِّ عَنِّي هَذَا المَالَ. انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلاَمَ، وَلاَ تَقُلْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي لَسْتُ اليَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، (وقد ورد في عمدة القارئ شرح البخاري أنه قال حين أيقن بموته، وكان في ذلك إشارة لحضرة عائشة ألا تخاف من «أمير المؤمنين») فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ السَّلاَمَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ، قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. أَذِنَتْ، قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ، فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي (الحجرة للدفن)، وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ وَجَاءَتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لَهُمْ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ، قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ – كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ – فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ، وَلاَ خِيَانَةٍ، وَقَالَ: أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي، بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا، الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ[، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الإِسْلاَمِ، وَجُبَاةُ المَالِ، وَغَيْظُ العَدُوِّ، وَأَلاَ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ. وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ العَرَبِ، وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ، وَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ، فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ، فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ، الذين سماهم عمر ليتم انتخاب الخليفة.

سأستأنف الحديث عن هذا الموضوع في الخطبة القادمة بإذن الله لأن للحديث بقية.

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via