قتل المرتد فعل جرمه القرآن

قتل المرتد فعل جرمه القرآن

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • من هو المرتد في مصطلح الإسلام؟!
  • كيف دحضت سيرة النبي (ص) كل مزاعم القائلين بقتل المرتد؟
  • كيف نحلل قضية قتل المرتد من وجهة نظر موضوعية؟
  • هل يمكننا القول بأن الجهاد في الإسلام شرِّع أصلا لتكريس لمجابهة آفة الإكراه في الدين؟!

____

واقع جزيرة العرب مع مفتتح عهد خلافة أبي بكر الصديق

كان الحديث جاريا عن الفتن التي أطلّت برأسها في زمن سيدنا أبي بكر ، وبهذا الشأن قال المسيح الموعود في كتابه «سر الخلافة»:

وذكر ابن خلدون: ارتدت العرب عامة وخاصة، واجتمع على طليحة عوامُّ طيءٍ وأسد، وارتدت غطفانُ، وتوقفت هوازن فأمسكوا الصدقة، وارتد خواص مِن بني سُليم، وكذا سائر الناس بكل مكان.

وقال ابن الأثير في تاريخه:…ارتدت العرب إمّا عامة أو خاصة مِن كل قبيلة، وظهر النفاق واشرأبّت اليهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة الممطرة، (حيث تجتمع في مكان واحد خائفة تبحث عن ملاذ) لِفَقْد نبيّهم وقِلّتهم وكثرة عدوّهم، فقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء -يعنون جيش أسامة جند المسلمين- والعرب على ما ترى، فقد انتفضتْ بك، فلا ينبغي أن تُفرِّق جماعة المسلمين عنك، فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذتُ جيش أسامة كما أمر النبي ولا أردّ قضاءً قضى به رسول الله وقال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد النبي مقامًا كِدْنا أَنْ نهلك لولا أن مَنَّ الله علينا بأبي بكر ، أجمعْنا على أن نقاتل على ابنة مَخاضٍ وابنة لَبون، وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين. (صفحة 142)

حَلُّ الجَدَلِ بَيْنَ قِتَالِهِ المُرْتَدِّينَ وأنه لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين

يمكن أن ينشئ سوءُ الفهم أيضا نوعا من النقاش الجاري هنا كما يمكن أن يُثار سؤال أن عقوبة الارتداد في الإسلام هو القتل لذا سأتناول هذا الموضوع باختصار.

بعد وفاة الرسول الكريم، عندما ارتد كل العرب تقريبًا وابتعد بعضهم عن الإسلام كليا ورفض البعض دفع الزكاة، قاتل حضرة أبو بكر ضدهم جميعًا.

وقد استخدمت كلمة «مرتدون» في كتب التاريخ والسير بحق جميع هؤلاء الأشخاص لذلك أخطأ أصحاب السِّيَر والعلماء اللاحقون أو تسببوا في نشر التعاليم الباطلة وكأن عقوبة الردة هي القتل، لذلك أعلن أبو بكر الجهاد عليهم وقتل هؤلاء جميعا إلا إذا أسلموا مجددا. فهكذا قدم هؤلاء المؤرخون وأصحاب السِّيَر أبا بكر بطلًا ومحافظا لعقیدة ختم النبوة. ولكن الحقيقة أن في أثناء فترة الخلافة الراشدة المذكورة لم تكن هناك أية فكرة عن عقيدة ختم النبوة والحفاظ عليها على النحو المذكور. ولم يُرفع السيف ضد هؤلاء لأن هناك خطرا على «ختم النبوة»، ولم يُقتلوا لأن عقوبة المرتد هو القتل. سوف يأتي لاحقا بيان مفصل لماذا أُعلن القتال ضدهم. ولكن لا بد من البيان قبل ذلك هل بيّن القرآن الكريم أو الرسول أن عقوبة المرتد هو القتل أو حدّد عقوبة أخرى؟

من «المرتد» في المصطلح الإسلامي؟!

المرتد في المصطلح الإسلامي هو الذي ينحرف عنه ويخرج من دائرته بعد قبوله. وعندما نقرأ القرآن الكريم من هذا المنطلق نرى أن الله تعالى قد ذكر المرتدين في آيات كثيرة وبكل وضوح، ولم يذكر أن عقوبتهم القتل، ولم يذكر بإنزال أي نوع من العقوبة الدنيوية عليهم. فأورد هنا بعض الآيات على سبيل المثال:

وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 218)

يتبين من هذه الآية بكل وضوح أنه لو كانت عقوبة الردة هي القتل لما قيل عن المرتد: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ بل كان ينبغي أن يُقتل فور ارتداده.

ويقول الله تعالى في آية أخرى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة: 55)

في هذه الآية أيضا ذكر الله تعالى المرتدين ثم بشّر المؤمنين بأنه سيأتي بقوم بعد قوم يدخلون الإسلام، ولم يقل أَنِ اقتلوا المرتدين، أو أنزلوا بهم عقوبة كذا وكذا. ثم هناك آية أخرى تدحض كل نوع من الشكوك والشبهات وترد على كافة الأسئلة وهي آية سورة النساء:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (النساء: 138)

هذه الآية أيضا تبين بكل صراحة أن عقوبة الردة ليست القتل. لقد فسر المفسرون هذه الآية على هذا النحو وهكذا فُسّرت في أدبياتنا أيضا. لقد تناولها الخليفة الرابع رحمه الله بشيء من الشرح في ترجمة معاني القرآن الكريم التي قام بها وقال بأن هذه الآية تدحض فكرة أن عقوبة المرتد هو القتل. فيقول الله تعالى إنه إذا ارتد أحد ثم آمن ثم ارتدّ ثم آمن فإن أمره مفوَّض إلى الله تعالى، وإذا مات وهو كافر فسيكون من أهل النار حتما. فلو كانت عقوبة المرتد هو القتل لما نشأ سؤال إيمانه وارتداده مرة بعد أخرى.

المرتد في المصطلح الإسلامي هو الذي ينحرف عنه ويخرج من دائرته بعد قبوله. وعندما نقرأ القرآن الكريم من هذا المنطلق نرى أن الله تعالى قد ذكر المرتدين في آيات كثيرة وبكل وضوح، ولم يذكر أن عقوبتهم القتل، ولم يذكر بإنزال أي نوع من العقوبة الدنيوية عليهم. فأورد هنا بعض الآيات

هناك آيات أخرى أيضا التي تدحض فكرة قتل المرتد من حيث المبدأ كقول الله تعالى:

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (الكهف: 30)

وقال تعالى نافيا أي نوع من الإكراه في الدين:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 257)

لقد أوردت على سبيل المثال فقط بعض الآيات القرآنية التي تدحض كل نوع من القسوة والإكراه باسم الدين. وإن ذكر المرتدين فيها وعدم بيان أية عقوبة لهم يدلنا على أن الشريعة الإسلامية لم تحدّد أية عقوبة جسدية ودنيوية لأهل الردة. إن هذا التعليم القرآني ينال تأييدا أكثر من خلال أن ذكر المنافقين وارد في القرآن الكريم في عدة آيات، وقد ذُكرت عيوبهم بشدة بحيث لم تُذكر عيوب الكفار بالشدة نفسها. وقد سمُّوا فاسقين وكفارا أيضا وقيل إنهم آمنوا ثم كفروا، ولكن لم تُذكر لهؤلاء المنافقين أية عقوبة. إن تاريخ الإسلام شاهد على أنه لم يعاقَب أيّ منافق على نفاقه. فيقول القرآن الكريم في ذكر المنافقين: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (التوبة: 53-54)

في هذه الآية عُدّ المنافقون فاسقين وأنهم كفروا بالله ورسوله. ثم ذكر شناعة كفرهم في آية:

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (التوبة: 74)

كذلك قال في سورة التوبة:

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (التوبة: 66)

هذا، وقد نزلت سورة كاملة عن المنافقين وجاء فيها:

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (المنافقون: 3-4)

لقد قيل في هذه الآية أيضا إن هؤلاء الناس آمنوا ثم كفروا ولكن لم تُحدَّد لهم أية عقوبة ولم يُعاقبوا.

إذن، هناك آيات كثيرة تتناول ذكر الذين يؤمنون ثم يكفرون علنا أو عمليا، وقد سمّي هؤلاء الناسُ فاسقين وكافرين ومرتدين ولكن لم تُذكر لهم عقوبة القتل أو أي عقوبة غيرها قط.

مَن «المرتد» في المصطلح الإسلامي؟!

وبعد القرآن الكريم لننظر ماذا قال النبي عن المرتد، ولنر بعد القرآن الكريم ماذا قال الإنسان المبارك الذي أُنزل عليه القرآن الكريم وكان مصداق القول «كان خُلقه القرآن» الذي قدم عمله ونموذجه وأسوته تنفيذا لأوامر القرآن الكريم، ولْنطَّلع ماذا قال هذا الإنسان المقدس عن المرتد، فالحدث التالي في صحيح البخاري يحكم أنه لم يكن للمرتد أي حد شرعي لمجرد جريمة الارتداد، ونص هذا الحديث:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ فَجَاءَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثلاث مرات ولم يردّ عليه، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ من المدينة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا.

لقد أورد حضرة مولانا شير علي هذا الحديث في كتابه «قتل المرتد والإسلام» -الذي كان ألَّفه بإشراف سيدنا المصلح الموعود – ونستخلص أن مجيء ذلك الرجل إلى النبي مرارا أيضا يفصح أن لم يكن القتل عقوبة المرتد، وإلا ما كان للأعرابي أن يأتي حضرتَه بل لحاول الانسلال دون أن يخبر أحدا ودون أن يكشف لأحد أنه يريد الارتداد. يقال لنا أن القتل جُعل عقوبةَ الارتداد في الشرع الإسلامي لمنع الارتداد، والقصد منها إكراه المسلمين أن يبقوا مسلمين، وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا لم يحذِّر النبيُّ هذا الرجل الذي أتاه مرة بعد أخرى، ولماذا لم يقل له: انتبه إن عقوبة الارتداد في الإسلام هي القتل، إذا ارتددتَ فسوف تُقتَل. ثم لما كان أبدى ارتداده مرارا وكان يُخشى أن يخرج مرتدًّا فلماذا لم يعيَّن عليه حرس لكي يقبضوا عليه أثناء خروجه مرتدا، وينفَّذ فيه الحد الشرعي؟ ولماذا لم يقل له الصحابة يا رجل، إذا كنت تحب سلامة نفسك فلا تنطق بالارتداد لأن القانون الساري في هذه المدينة أن الذي يُسلم ثم يرتد يُقتل فورا. فإبداء ذلك الأعرابي رغبته في الارتداد وذهابه إلى النبي مرارا وامتناع النبي عن تحذيره من عاقبة الارتداد وعدم تحريضه الصحابةَ على قتله وخروجه أخيرا من المدينة دون أن يتعرض له أحد، فكل هذه الأمور تشهد بجلاء أنه لم يكن في الإسلام أي حد شرعي للمرتد. ثم إن إظهار النبي نوعا من الفرحة على خروجه وقوله إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا، يُفصح بجلاء أنه كان يعارض فكرة إبقاء أحد على الإسلام جبرا، واتخاذ وسائل الإكراه لمنع الناس عن الارتداد، بل على عكس ذلك عندما كان ينفصل أي خبيث عن جماعة المسلمين، لم يكن حضرته ينزعج، ولم يكن يسعى لإبقائه في المسلمين عنوة ضد رغبته، بل كان خروج مثل هذا الرجل مصداق المثل القائل «كلما قلَّت الأعشاب صار العالم نظيفا». فلو كان من مبادئه أن يبقي في الإسلام بكل طريقة ممكنة من أسلم، وإذا رفض فيقتله، لكي يكون عبرة للآخرين، لكان يجب أن يبدي غضبه على انسلال ذلك الأعرابي ويعاتب الصحابة على أنهم لماذا سمحوا له بالانسلال ولماذا لم يُلقوا عليه القبض ولماذا لم يهدِّدوه بالقتل. وكان يجب أن يأمر الصحابة أن يبحثوا عن ذلك الخبيث ويُحضروه ليُقتل. لكنه لم يفعل ذلك بل قد أعرب بتعبير آخر أن خروجه كان جيدا، إذ لم يكن يجدر بالعيش في المسلمين، ففَصَله الله بيده عنهم. باختصار إن مثال ذلك الأعرابي يُثبت بشكل حاسم ومؤكد أنه لم يكن في الإسلام أي عقوبة شرعية للارتداد، ولم يكن في المسلمين قطعا قاعدة أن يقتلوا كل مرتد لمجرد ارتداده.

وقائع صلح الحديبية

والبرهان الثاني على أنه لم يكن أي حد شرعي للمرتد تلك الشروط التي أبرم بها النبي الصلح مع مشركي مكة في الحديبية، فقد ورد في حديث صلح الحديبية المروي عن البراء بن عازب أن النبي عقد الصلح مع المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أمور أولها أنه إذا أسلم أحد المشركين ووصل إلى النبي فعليه أن يعيده إلى المشركين، والشرط الثاني أنه إذا ارتد أي مسلم وجاء إلى المشركين فلن يعيدوه إلى حضرته . ومن هذا الشرط الثاني للصلح يتبين بوضوح أنه لم يكن أي حد شرعي للمرتد، لأنه لو كان عقوبة المرتد في شريعة الإسلام أن يُقتل لما قبِل النبي شرط المشركين بخصوص الحد الشرعي. وإضافة إلى هذا هناك أحداث عدة توضِّح جيدا أن بعض الناس ارتدوا في حياة النبي ولم يتعرض لهم لمجرد ارتدادهم ما لم يرتكبوا الأفعال الشنيعة كالمحاربة والتمرد.

لقد فسر سيدنا المصلح الموعود هذه المسألة أكثر من خلال آية أخرى فقال:

أما قوله تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فقد بيّن فيه أن الدعوة والتبليغ هي السنّة القديمة للرسل لا استخدام السيف، وقد اتبع إبراهيم أيضًا هذه السنة نفسها؛ كما قال الله تعالى لأهل عصره أيضًا: ليس على رسولنا إلا تبليغ رسالتنا لا إكراه الناس على قبولها بحد السيف. وهذا هو ملخص القرآن كله، أي ليس على رجال الدين إلا إقناع الناس بالدليل، أما إكراههم بالقوة فلا يجوز لرجال الدين أبدًا. ولكن المؤسف أن الدنيا لم تعِ هذا الأمر حتى اليوم، بل المسلمون هم أنفسهم يجيزون قتل المرتد.

قضية قتل المرتد من وجهة نظر موضوعية

مع أن الواقع أن كل إنسان يعتبر عقيدته حقًا بغض النظر عما إذا كانت حقًا في الواقع أم لا، شأن المسلم الذي يعتبر دينه حقًّا. لا شك أن المسيحية ديانة باطلة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ينظر معظم المسيحيين إلى المسيحية؟ لا جرم أنهم يعتبرونها دينًا حقًّا. كذلك لا غرو أن الهندوسية دين باطل، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ينظر إليها أكثرية الهندوس؟ لا شك أنهم يعتبرونها دينًا حقًا. ولا شك أن الديانة اليهودية باطلة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ماذا يعتبرها معظم اليهود؟ والجواب أنهم يعتبرونها دينًا حقًّا.

فإذا جاز قتل مسيحي بناءً على رأي مسلِم بأن دينه حق ودين المسيحي باطل، فلماذا لا يُمنح المسيحي حق قتل مسلم بناء على المنطق نفسه؟ ولماذا لا يجوز للهندوسي أن يُدخل الآخرين في ديانته قهرًا أو يقتلهم؟ ولماذا لا يُمنح أتباع الديانة الكونفوشيوسية في الصين حق إكراه الآخرين على اعتناقها؟ ولماذا لا يحق للمسيحيين في الفلبين التي يوجد فيها اليوم نحو عشرين ألف مسلم (وهذا في ذلك العصر أما الآن فعددهم أكبر من ذلك) أن يقوموا بتنصيرهم جبرًا؟ ولماذا لا يحق لأمريكا أن تُدخل مواطنيها المسلمين في المسيحية بالقوة؟ ولماذا لا يحق لروسيا أن يجعلوا المسلمين كلهم بالإكراه مسيحيين أو شيوعيين؟ إذا كان يحق للمسلمين إكراه الآخرين على قبول عقيدتهم فيجب أن يتمتع الآخرون أيضًا بهذا الحق عقلاً ومنطقًا. ولكن هل يمكن أن تنعم الدنيا بالسلام إذا مُنح هذا الحق للجميع؟! هل تستطيع أن تقول لابنك أو لزوجتك بأنه يحق للمسيحيين أن يُنصّروا المسلمين قهرًا، ويحق للمسلمين أن يُدخلوا المسيحيين في الإسلام قسرًا، ويحق للإيرانيين أن يدخلوا الأحناف كلهم في الشيعة بالقوة، ويحق للأحناف أن يُدخلوا الشيعة في أهل السنة قسرًا؟! باختصار إن هذا الأمر مناف للعقل والمنطق بحيث لا يستطيع أن يقبله أي إنسان أبدًا.

الجهاد الإسلامي ينقض تهمة الإكراه في الدين

كلما رفض أقوام الأنبياء هداية الله في الماضي قالوا لهم:

أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (هود:29).

أي إذا كنتم لا تريدون أن تهتدوا عن طيب نفس فلن نُكرهكم على الهدى قسرًا. ولكن المؤسف أنه يوجد في هذا العصر بين المسلمين من يُنكر هذا المبدأ. ونلاحظ أن غالبية المسلمين في العصر الراهن تقول ذلك حصرا. والحق أن الدنيا لو فهمتْ هذه القضية لانتهت عمليات الاضطهاد الديني والسياسي، ولم يفرض الناس عقيدتهم على الآخرين قسرًا ولم تفرض الدول نظامها السياسي على الدول الأخرى بالقوة.

يقول سيدنا المسيح الموعود :

لا أعرف من أين ومِمّن سمع معارضونا أن الإسلام انتشر بقوة السيف؟! يقول الله في القرآن الكريم: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ، فمن ذا الذي أمَر بالجبر؟! وماذا كانت وسائل الإجبار المتوفرة؟! وهل يمكن أن يتحلى بهذا الإخلاص وهذا الإيمان مَن يُجبَرون على تغيير دينهم؛ أي أن يجرؤوا، على كونهم بعدد مائتين أو ثلاثمائة ودون أن يتلقوا رواتب أو أغراض مادية، على مواجهة جيش يعدّ بالآلاف؟! وعندما يصل عددهم إلى ألف يهزمون مئات الآلاف من أعدائهم، ويرضون بالذبح مثل الخِراف والمعز في سبيل الدفاع عن الدين من هجمات الأعداء، ويشهدون بدمائهم على صدق الإسلام. كما يكونون مشغوفين بنشر وحدانية الله تعالى، فيتحملون في سبيل نشر رسالة الإسلام أنواع الشدائد، ويصلون إلى صحاري أفريقيا كالزهاد؛ ثم يصلون بعد مكابدة كل نوع من الصعاب إلى الصين في هيئة الدراويش غير قاصدين الحرب على أهلها، فيبلغونهم دعوة الإسلام، ثم ينجحون بجهودهم المباركة في إدخال عشرات الملايين من أهل الصين في الإسلام. ثم يدخلون الهند في هيئة الدراويش، مرتدين الخَيش، وينجحون في إدخال جزء كبير من أهل الهند في الإسلام. ثم يصلون إلى حدود أوروبا ويبلغونها رسالة «لا إله إلا الله».

قولوا أمانةً، بالله عليكم، أيمكن أن يقوم بهذه المهمة مَن أُكرهوا على الإسلام، وظلت قلوبهم كافرة ولم يؤمنوا إلا باللسان فقط؟! كلا، بل لا يقوم بهذه المهمة إلا أولئك الذين تعمر قلوبهم بنور الإيمان، ولم يشغل أيّ حيّز من قلوبهم سوى الله. (رسالة السلام)

فلماذا قاتل سيدنا أبي بكر المرتدين إذن؟!

لقد ثبت في ضوء هذه الآيات والتعليمات القرآنية أن عقوبة الردة ليست القتل.

والسؤال المطروح الآن هو إذا كانت عقوبة الردة ليست القتل فلماذا قتل سيدنا أبي بكر المرتدين وأمر بقتلهم؟

الحقيقة هي: يمكن للمرء من خلال دراسة التاريخ أن يكتشف بسهولة أن المرتدين في زمن أبي بكر لم يكونوا مرتدين فحسب، وإنما كانوا متمردين، بل كانوا متمردين يستبطنون نوايا لسفك الدماء، فلم يكيدوا لمهاجمة المدينة فحسب بل حاكوا مؤامرات مروعة لاغتيال المسلمين أيضا، بل وقد قاموا باعتقال المسلمين في مناطق مختلفة وقتلوهم بلا هوادة، حيث قطعوا أطرافهم وضربوهم وأحرقوهم بالنار وهم أحياء.

كان هؤلاء المرتدون قد ارتكبوا جرائم شنيعة مثل ممارسة الظلم والقهر والقتل والتمرد والنهب. ونتيجة لذلك، تم قتال هؤلاء المحاربين كإجراءات دفاعية وانتقامية ضدهم. ووفق قوله تعالى: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا صدرت أوامر قتلهم كخطوة لإنزال عقوبات مشابهة لما ارتكبوه من الجرائم.

وإليكم تفصيل هذا الأمر من كتب التاريخ والسير، فقد ورد في تاريخ الخميس:

وأقبل خارجة بن حصن وكان ممن ارتدّ فى خيل من قومه إلى المدينة يريد أن يخذل الناس عن الخروج أو يصيب غرّة فيغير، فأغار على أبي بكر ومن معه وهم غافلون.

لم يكتف المرتدون بمهاجمة المدينة المنورة، بل عندما هزمهم أبو بكر، قتلوا من كان بينهم من المؤمنين المخلصين، كما ذكرتُ عنهم في الخطبة السابقة، وهم أولئك الذين ظلوا متمسكين بالإسلام رغم ارتداد قومهم. يقول العلامة الطبري:

لما هزم أبو بكر القبائل المهاجمة وثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفَعَلَ مَن وراءهم فِعلَهم. أي إنهم أيضا قتلوا من بقي منهم على الإسلام.

يقول العلامة ابن الأثير: ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين العزّل فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين.

كما ذُكر من قبل، فإن ارتداد القبائل التي ارتدت عند وفاة النبي لم يقتصر على الاختلافات الدينية، بل تعدى إلى أنهم تمردوا على الحكومة الإسلامية، وحملوا السيف وهاجموا المدينة المنورة، وقتلوا من فيهم المسلمين من قومهم، وأحرقوهم في النار ومثّلوا بهم.

ولقد ورد في تاريخ الطبري عند ذكر خالد بن الوليد:

لما انهزمت أسد وغطفان وهوازن وسليم وطيء لم يقبل منهم خالد معذرتهم إلا أن يجيئوه بالذين حرّقوا المسلمين بعد ارتدادهم ومثّلوا بهم واعتدوا على المسلمين.

وكتب ابن خلدون أن هذه القبائل المرتدة من شبه الجزيرة العربية قصدت المدينة المنورة لمحاربة أبي بكر والمسلمين.

وورد في تاريخ الطبري أن أول من هاجم المدينة من القبائل هما عبس وذبيان. لذلك اضطر أبو بكر لقتالهم قبل عودة جيش أسامة.

وكتب ابن خلدون أن قبيلة ربيعة ارتدوا وجعلوا منذر بن النعمان -الذي كان يلقب بالمغرور- ملكا.

يقول العلامة العيني شارح صحيح البخاري: إِنَّمَا قَاتل الصّديق مانعي الزَّكَاة لأَنهم امْتَنعُوا بِالسَّيْفِ ونصبوا الْحَرْب للْأمة.

يقول العلامة الشوكاني: وكتب الخطابي بعد ذكر أمور مختلفة عن الذين ارتدّوا بعد وفاة النبي والذين امتنعوا عن أداء الزكاة أن هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَإِنَّمَا دُعوْا بِهَذَا الِاسْمِ خُصُوصًا لِدُخُولِهِمْ فِي غِمَارِ أَهْلِ الرِّدَّةِ.

وقد وصف أحد الكتاب هؤلاء المرتدين مرارًا في كتابه  بأنهم بُغاة متمردون ثم قال: لما انتشر خبر وفاة النبي في العرب كله، واشتعلت نار البغي والتمرد في كل مكان، وكانت اليمن أكثر المناطق ضرامًا وذلك رغم أن من أضرم هذه النار وهو العنسي وكان قد قُتل. ولقد ادعى مسيلمة من بني حنيفة وطليحة من بني أسد النبوة وضمّا إليهما كثيرًا من الناس، وشرع الناس يقولون: نبي من الحليفين -يعني أسدًا وغطفان- أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي.

فلما بلغ أبا بكر خبر التمرد قال علينا الانتظار حتى تأتينا الأخبار كاملة لهذه الأحداث من عمال تلك المناطق وأمرائهم. فلم تمر أيام إلا وبدأت تصله كتب الأمراء، وكان يتضح منها أن البغاة لا يهددودن أمن الدولة فحسب بل يشكلون خطرا بعد ارتدادهم على الذين لم يسيروا معهم بل ظلوا متمسكين بإسلامهم. وبهذه الحالة كان لا بد لأبي بكر الصديق من مجابهة هذا التمرد بكل قوة وإخضاع البغاة والسيطرة على الوضع بأي ثمن كان.

وكتب أحد المؤلفين: كان أبو بكر يهدف إلى قمع المرتدين الذين كانوا يؤججون لهيب التمرد في أجزاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية. وكانوا يشكلون خطرًا شديدًا على الإسلام وعلى المؤمنين به.

ثم يكتب أحد الكتاب: بعد وفاة الرسول ارتد عديد من الزعماء العرب واستقل كل منهم في منطقته. وعند الباحثين كانت هذه الردة سياسية إلى حد كبير، ونادرًا ما كان فيها ارتداد ديني، ففي الأيام الأخيرة من حياة الرسول في هذه الدنيا ادعى زعماء بعض القبائل النبوة لإضفاء صبغة دينية على الحركة السياسية لتمردهم.

على أية حال، هذه السلسلة مستمرة وسأقدم بقية الأحداث لاحقًا إن شاء الله. وملخص هذه المراجع التاريخية التي قدّمتها هو أن القبائل المرتدة حجبت أموال الزكاة، أي حجبت قسرًا الضرائب الحكومية. ونهبوا أموال الزكاة من بعض الأماكن، وأعدوا الجيوش، وهاجموا المدينة المنورة، وقتلوا المسلمين الذين رفضوا الارتداد، فحرقوا بعضهم أحياء. لذلك فإن هؤلاء المرتدين قد استحقوا عقوبة القتل لتمردهم المسلح ضد الحكومة ونهب ممتلكاتها وقتل المسلمين وحرقهم أحياء، وذلك بحسب قوله تعالى في القرآن الكريم: جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا أي أن المذنب يجب أن يُعاقب بنفس الطريقة التي ارتكب بها الجريمة؛ ولقوله تعالى:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوْا أَوْ يُصَلَّبُوْا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ .

الَّذِينَ يُحَارِبُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَه أي الذين يحاربون الرسول أو خليفة الرسول أو الحكومة الإسلامية، لأنه لا يمكن لأحد أن يحارب الله ولا يسع أحد أن يمد يده إلى الله تعالى ولا يستطيع أن يرميه بالحجارة ولا بالسهام ولا بالسيوف، لذلك فإن المراد من الحرب مع الله هو كما تقدّم.

وذُكر في قوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا المراد من الحرب مع الله ورسوله، وتفصيل ذلك أن الذين يحاربون الله ورسوله، هم الذين يفسدون في البلاد، ويرتكبون القتل والسرقة والنهب والتمرد المسلح، وإن عقوبتهم هي أن: يُقَتَّلُوْا َأوْ يُصَلَّبُوْا، أي ينبغي قتلهم بشدة أو صلبهم.

على أية حال، لقد ذكرت جزءًا بسيطًا آخر مما تبقى، وسيُذكر الباقي لاحقًا إن شاء الله.

أي إذا كنتم لا تريدون أن تهتدوا عن طيب نفس فلن نُكرهكم على الهدى قسرًا. ولكن المؤسف أنه يوجد في هذا العصر بين المسلمين من يُنكر هذا المبدأ. ونلاحظ أن غالبية المسلمين في العصر الراهن تقول ذلك حصرا. والحق أن الدنيا لو فهمتْ هذه القضية لانتهت عمليات الاضطهاد الديني والسياسي، ولم يفرض الناس عقيدتهم على الآخرين قسرًا ولم تفرض الدول نظامها السياسي على الدول الأخرى بالقوة.

والآن أريد أن أذكر بعض المرحومين سوف أصلي عليهم صلاة الغائب بعد الصلاة. أولهم السيد محمد بشير شاد الداعية المتقاعد الذي كان في أمريكا في هذه الأيام. توفي عن عمر يناهز 91 عاما، إنا لله وإنا إليه راجعون. بايع أبوه في 1926. بُعث في 1958 إلى سيراليون كداعية حيث خدم في أماكن كثيرة، وأقام دار النشر هناك، ثم عُين داعيةً في نيجيريا وعمل هناك أيضا بشكل جيد لمدة ثلاث سنوات. ثم عاد إلى باكستان في 1964،  وفي 1970 حين زار الخليفة الثالث رحمه الله تعالى أفريقيا وذهب إلى «كانو» حيث قدّم المرحوم إلى حضرته مئة بيعة جديدة هديةً، مما أسعد حضرته وأمّ في الدعاء وأهدى السيدَ بشير شاد عمامته. عندما عاد المرحوم من هناك في 1970 وفي الطريق تشرف بالعمرة. وفي 1983 عُين سكرتير المجلس المسؤول عن شؤون بهشتي مقبرة بربوة. وفي 1984 حين صدر القانون المضاد للأحمدية في باكستان اضطر الخليفة الرابع للهجرة، وقبل الهجرة ألقى المرحوم خطبة الجمعة بحضور الخليفة الرابع رحمه الله تعالى، ومن هذه الناحية ورد ذكره في تاريخ الأحمدية أيضا. وفي 1988 كتب إلى الخليفة الرابع رحمه الله تعالى أنه يريد أن يتقاعد بسبب الظروف الشخصية، فوافق حضرته، ثم انتقل المرحوم إلى أمريكا. ترك في ذويه زوجته السيدة نسرين أختر شاد وابنا وأربع بنات. غفر الله له ورحمه وجعل أولاده جميعا متمسكين بالجماعة والخلافة بكامل الوفاء.

والذكر التالي للسيد رانا محمد صديق الذي كان ابن رانا علم الدين من مليانوالا في محافظة سيالكوت. وهو أيضا توفي مؤخرا، إنا لله وإنا إليه راجعون. كان والد المرحوم ذهب إلى قاديان في 1938 وبايع هناك. كان المرحوم ملتزما بالصيام والصلاة والتهجد، وكثير الدعاء وشجاعا. وكان يحب الخلافة للغاية ويعمل بجميع أوامر الخليفة، وكان ينصح أولاده دوما بأن يتمسكوا بالخلافة والطاعة والحب لها. وفي 1974 و1984 حين اشتدت معارضة الجماعة ظل ثابتا، ترك في ذويه ستة أبناء وبنتا واحدة. وأحد أبنائه رانا محمد أكرم محمود داعية في نيجيريا وهو لم يستطع أن يحضر جنازة والده بسبب انشغاله بخدمة الدين، ومن قبل توفيت أمه في 2018 ولم يحضر جنازتها أيضا. ألهمه الله الصبر والسلوان وغفر للمرحوم ورحمه.

والذكر التالي هو للدكتور محمود أحمد خواجه من إسلام آباد الذي توفي مؤخرا، إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان عمره 78 عاما، وكان منخرطا بنظام الوصية بفضل الله تعالى، دخلت الأحمدية في أسرته بواسطة والده السيد خواجة محمد شريف الذي بايع في عهد الخليفة الثاني بناء على رؤيا. كانت الأسرة كلها معارضة للجماعة ولكنه كان سعيد الفطرة فرأى في الرؤيا ثلاث مرات أن المسيح الموعود أمره بالبيعة، ففي نهاية المطاف بايع. حصل الدكتور محمود خواجه على الدراسة الإبتدائية من بيشاور وبعد ذلك في 1966 نال شهادة الماجستير في علم الكيمياء من جامعة بيشاور. ثم في 1973 حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة «لاترو» في ملبورن بأستراليا. ثم درّس في مختلف الجامعات في باكستان وخارجها. وتعرفتُ عليه حين كان يدرّس في جامعة «كيبكوس» بغانا ولقد وجدتُه بسيطا ومتواضعا للغاية، وكان عالما باحثا جيدا جدا، وكان له احترام كبير كباحث في باكستان وفي الخارج أيضا. كان متزوجا من السيدة أمة القيوم ابنة شودري أكرام الله وله ابن وابنة. ولقد وُفّق المرحوم ليعمل مع زوجته الوقفَ المؤقَّت في سيراليون من 1979 إلى 1984 تحت مشروع «نصرة جهان». قال ابنه الدكتور طارق خواجه: كان أبي يقرأ القرآن الكريم بغاية الإمعان والتدبر في رمضان خاصة، وكان يركز على أنه يجب تقديم كلام الله وكلام النبي وكلام الخلفاء بغاية الدقة لأنه يمكن أن يُساء الفهم نتيجة تبديل حرف واحد في بعض الأحيان. كتب السيد عبد الباري أمير الجماعة في محافظة إسلام آباد: كنتُ خدمتُ الجماعة في سيراليون مع المرحوم، وبعد العودة إلى باكستان توظف في دائرة حكومية ثم انتقل إلى إسلام آباد حيث انضم إلى (Sustainable Development Policy Institute) معهد تخطيط التنمية المستدامة، حيث نال شهرة كبيرة، ومع ذلك كان يعمل بكل إخلاص، وعمل على المواد الغذائية ونظام الصرف الصحي، وحذفِ المواد الكيميائية الموجودة في منتجات التجميل. واشتُهر عالميا وألَّف عدة كتب في هذا المجال. كلما كان يؤلف كتابا كان يرسل نسخة منه إلي، عندي الكثير من كتبه. كان المرحوم أحمديا مخلصا يحب الخلافة ويرشد خدام الجماعة إلى إصلاحهم دوما.

لقد أرسل العلماء والوزراء وممثلو الحكومات وعمداء الجامعات والدكاترة ورؤساء المنظمات الاجتماعية رسائل التعزية على وفاة خواجه محمود من ألمانيا والسويد وبوركينافاسو وأمريكا وأذربيجان وسويسرا ونيجيريا ومصر والبحرين وكثير من البلدان الأخرى، وأرسل أولاده هذه الرسائل إلي أيضا. وكانت كثيرة، أقرأ منها رسالة أو رسالتين كنموذج. كتب السيد شارلس جي براون رئيس المنظمة (World Alliance for Mercury-Free Dentistry) في واشنطن دي سي بأمريكا: كان الدكتور محمود خواجه عالما فذا عبقريا نادرا في المجتمع، ومن أهم إنجازاته كتاباتُه الرائعة حول العلوم الحديثة وبحوثه في المواد السامة، وتطوير المنحة الدراسية وتوفير الأساس للعمل في القطاع العام والخاص. إن مساعيه الممتدة على عدة عقود من خلال المنظمات العالمية قد ساعدت كثيرا على تنفيذ المعاهدات بين الأمم عمليا، وترويج التفاهم والانسجام بين المجتمع وتقليل المواد السامة في باكستان. لقد مُنح في عام 2019 جائزة «رئيس اتحاد حوض المحيط الهادئ للبيئة والصحة». من بين إنجازات الدكتور رئاسة منظمة طبية عالمية، وهو الرئيس الوحيد لهذه المنظمة الذي لم يكن يمارس الطب، بل كان يحمل الدكتوراه. لقد أثنى على أعماله كثير من العلماء بمن فيهم الدكاترة من ألمانيا وسويسرا أيضا. تغمده الله بواسع رحمته وغفر له وألهم ذويه الصبر ووفقهم لمواصلة حسناته.

Share via
تابعونا على الفايس بوك