كتاب «بداية الخلافات في الإسلام» قراءة تحليلية

كتاب «بداية الخلافات في الإسلام» قراءة تحليلية

  • ما هو ذلك المنهج العلمي المقترح في الكتاب لنقد الروايات التاريخية؟
  • ما هي يا ترى تلك الأسباب الأربعة الرئيسة للفتنة الكبرى؟

 ____

تمهيد للمقال

قراءة التاريخ وحسن تدبره أمر فارق بين أولي الألباب والمكتفين بالقشور، ويقول :

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ… (1)،

لذا فمن مصلحتنا النظر مليا في كتب التاريخ،  إذ على أساسه يمكننا تحديد موقعنا الحالي، ومن ثم خطوتنا القادمة. وفي إطار دراستنا لأي من العلوم الطبيعية أو الإنسانية فإن أول ما يجب أن ندركه من ذلك العلم فلسفته ولماذا ندرسه أصلا، ومن تلك العلوم علم التاريخ، والذي يتعدى الوصف بأنه مجموع حكايات وأقاصيص عن الأمم والأزمان والأحداث الخالية، فالتاريخ في ظاهره، كما قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته، «لا يزيد، من حيث الشكل، عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق»(2).  ويعدُّ ما جرى من أحداث الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي من أهم الدروس البليغة في التاريخ.

ولا يكاد موضوع الفتنة الكبرى يُطرح، إلا ويكون موردا خصبا لتبادل الشتائم واللعن  من قِبل أغلب المسلمين، وهم محقون ولا شك، فحتى وإن تعددت الخلافات المذهبية بين المسلمين، فإنهم متفقون على حقيقة  جلِّية وهي أن وقائع تلك الفتنة الكبرى كانت مصيبة حاقت بالمسلمين منذ قرون خلت، وكان مُؤداها اشتعالاً متسلسلاً لفتن مستمرة بينهم إلى هذا الحين، حتى لقد باتت هذه الفتن المعاصرة من أحد أهم الأسباب التي أسهمت في تعذر رأب الصدع القائم بين المسلمين ، إذ يُخرج بعض المسلمين البعض الآخر من الملة، فأي وحدة تُرتجى بعد هذا؟! فكل محاولة لِلَمِّ الشمل والتقريب بين الفرق المتورطة في تلك الفتنة لا تبوء إلا بفشل ذريع، بل لا يزداد طين الخصومة بعدها إلا بلة. ولكن كما هي سنة الخلاق العليم، أن الليل كلما اشتد سواده، كان إيذانا باقتراب الفجر، وقد آن أن يطلع فجر الحقيقة على البائتين(3).

منهج علمي جديد لنقد الروايات التاريخية

إن كتاب «بداية الخلافات في الإسلام»، على صغر حجمه، يُعلن ميلاد منهج منطقي يصلح للتطبيق على كافة الروايات التّاريخية وتمييز غِثِّهَا مِنْ سَمِينها.. فلم ينتهج المؤلف في عمله هذا منهجًا وصفيًّا في كتابة التّاريخ، وإنما انتهج منهجا تحليليًّا وتقصَّى الحقائق بأسلوب منقطع النظير استعصى حتى على أولئك المعاصرين للحدث. فقد توجه حضرته إلى أصل الدّاء مباشرة، فشخصه أوضحَ تشخيص، وأزال التّراب المتراكم حول جذور شجرة الفتنة الخبيثة، تمهيدًا لاجتثاثها من أصلها بكل اقتدار، إذ أماط حضرته اللثام عن أسباب الفتنة وملابساتها، وكيفية تطور أحداثها.(4)

المبدأ الذهبي لتصحيح التاريخ

ثمة مبدأ ذهبي لقراءة التاريخ  يفرض نفسه خلال عملية التّحقق من أية معطيات تاريخية، وهو أن تُدرس الأحداث العالمية باعتبارها سلسلة – وبذلك فإنه لا يستحيل الاطلاع أو الوصول إلى صحة الأحداث لأن الله تعالى قد أبقى الطرق مفتوحة وبسببها يمكن الاطلاع على الأحداث الصحيحة بكل جلاء. فهناك رواة يسردون الأحداث كما هي لكونهم حياديين تماما. والمبدأ الذهبي لتصحيح التاريخ هو أن الأحداث الواقعة في العالم إنما هي كسلسلة، فلو أردنا أن نختبر صحة حدثٍ معين يجب أن نحاول خرطه في تلك السلسلة ثم نرى ما إذا كانت حلقته تنخرط في سلسلة الأحداث بصورة صحيحة أم لا. فهذا المبدأ مفيد جدا للتمييز بين الأحداث الصحيحة وغيرها. إذن، لا بد من أخذ الحيطة والحذر بعين الاعتبار، والجرح والتعديل للاطلاع على صحة الأحداث الواقعة في تلك الفترة. وبدون النظر في تسلسل الوقائع لا يمكن الاطلاع على تاريخ يوثَق به لأي عصر، ولا سيما على تاريخ الفترة قيد البحث. ولقد استغل المؤرخون الأوروبيون هذا الاختلاف وشوّهوا تاريخ تلك الفترة إلى درجة احتراق قلب كل مؤمن غيور كمدا عندما يقرأ تلك الأحداث، ويتبرأ بسببها كثير من المسلمين ضعاف الإيمان من الإسلام نفسه. والمؤسف في الأمر أن بعض المؤرخين المسلمين أيضا لم يتوخَّوا الحيطة والحذر في هذا المقام فتعرضوا للعثار وتسببوا في تضليل الآخرين.

هذا الكتاب، والهدف الذي وضع من أجله

هذا الكتاب في أصله محاضرة ألقاها المصلح الموعود سيدنا مرزا بشير الدين محمود أحمد، الخليفة الثاني بتاريخ 26/2/1919م في جلسة جمعية مارتن للتاريخ في الكلية الإسلامية بلاهور. لم ينتهج المؤلف في عمله هذا منهجا وصفيًا في كتابة التاريخ، فقد توجه حضرته إلى أصل الداء مباشرة، فشخصه أوضح تشخيص، وأزال التراب المتراكم حول جذر شجرة الفتنة الخبيثة، وأماط اللثام عن أسباب الفتنة وملابساتها، وكيفية تطور أحداثها.) ولم ينس حضرته على مدى صفحات الكتاب أن يبرئ ساحة الصحابة الكرام  جميعهم مما نسب إليهم من تهم ألصقت بهم بسوء النية أو عن غير عمد، وهذا الأمر تعذر على مَن سواه مِن المؤرخين والمفكرين إلى عصرنا هذا، وذلك بسبب ميلهم المسبق إلى أحد المعسكرين وافتقادهم الموضوعية.

ولا نبالغ لو قلنا أن هذا الكتاب يعد بكل صدق فرصة ثانية للأمة لتتشبث من جديد بأهداب الخلافة الراشدة بعد أن أفلتتها من يدها منذ أربعة عشر قرنا.

والمؤلف بعمله هذا، وما ألَّف من كتب أخرى  يستحق عن جدارة لقب المصلح الموعود، فهذا الكتاب أحد آثار إصلاحاته للفساد المستشري في جسد الأمة منذ قرون على الصعيد الفكري والعقائدي.

والقارئ للكتاب سيلحظ الموضوعية التامة للمؤلف، ووقوفه على المسافة نفسها من كلا المعسكرين، الأمر الذي لا يتأتى إلا لحكمٍ عدل. فهذا الكتاب على صغر حجمه عظيم المحتوى بالغ الأثر في شفاء الجرح القديم. وكيف لا؟! وهل يرد المال المسلوب إلا أهله؟!

لقد حمل المؤلف على عاتقه بيان الوجه المشرق لتاريخ الإسلام المجيد، لا سيما وأن هذا التاريخ قد اكتسب المتأخرون تصورا سلبيا عنه وعن شخصياته البارزة، ونعني هنا شخصيات صحابة النبي ﷺ. وهؤلاء في نظر المؤلف وقناعته «… الذين تربوا في صحبته كلهم أناس مرموقون ويتربعون على ذرى مكارم الأخلاق، ولا نظير لهم في أي قوم البتة حتى بين أصحاب أي نبي آخر»(5).. كذلك أومأ المؤلف إلى طبيعة الظروف التي خاضها الصحابة الكرام، واضطروا خلالها إلى التضحية بالنفس والنفيس، ومع ذلك ما تخلوا عن سبيل الحق، فما أفلتوا التقوى والأمانة من أيديهم رغم اضطرارهم إلى الولوج في  أوحال السياسة المحفوفة بالمخاطر. وظلوا منتصبي القامة، مرفوعي الهامة تحت أثقال الحُكْم والدولة كما كانوا سابقا عندما كانت تعوزهم لقمة عيش تسد رمقهم، بحيث استحقوا وصف المؤلف لهم بـ «المخلصين الأوائل»(6).

ومن قبيل عبقرية المصلح الموعود أنه، في وقت واحد ، استطاع أثناء حديثه الماتع عن الصحابة الكرام أنْ يقوم بتهيئة عقول مستمعيه إلى الحديث عن اثنين من أكابر الصحابة، ألا وهما سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، ليتخذ من الحديث عن كلتا الشخصيتين البارزتين والمقدستين مدخلا لعرض مغالطات عدد من المؤرخين غير المسلمين الذين وقفوا من الإسلام ككل موقفا عدائيا.

كما ويأخذ المؤلف على عاتقه مهمة نفي الفكرة القائلة بضعف الخليفتين الراشدين الثالث والرابع (رضي الله عنهما) ضعفا من أي نوع، باعتبار أن وقوع الفتنة في هذين العهدين المباركين ليس مردُّه إلى ضعف خليفة الوقت بحال. فيتخذ المؤلف من حياة عثمان قبل توليه الخلافة دليل إثبات على قوته الروحية(7).

 

تشريح الأسباب الأربعة للفتنة الكبرى

خلال سرد الأحداث والروايات التاريخية للفتنة الكبرى، أسدى المؤلف خدمة عظيمة للمسلمين، باحثين مهتمين، أو عوام قراء، إذ حلل أسباب الفتنة ومقدماتها في أربعة شرارات صغيرة، يُعزى إليها أصل النار المضطرمة بين فرق الأمة إلى يومنا هذا، فوافقت قول القائل:

كل الحوادث مبدأها من النظرِ

ومعظم النار من مستصغر الشررِ(8)

وتلك الأسباب الأربعة نوجزها في الآتي:

  1. السبب الأول تمثل في الحسد الناشئ في قلوب متأخري الإسلام للصحابة الذين تقدم إسلامهم وتضحياتهم، لا سيما بعد أن كانت الأُعطيات تُقدَّر بناء على سبق المرء إلى الإسلام. فيتحدث المؤلف عن هؤلاء الحاسدين ونقمتهم على وضعهم الراهن آنذاك، بحيث ظلوا ينتظرون وقوع ما من شأنه أن يفرّق شمل النظام القائم ويؤدي إلى زعزعته ويجعل مآل الحكم إلى أيديهم فيظهروا قدراتهم في الإدارة ويحصلوا على الأموال والعظمة الدنيوية(9).
  2. وتمثل السبب الثاني، وهو من الأسباب الجوهرية في الواقع، تمثل في أن الناس على ذلك العهد المبكر لم يكونوا قد تلقوا القدر الكافي من التربية الروحية بعد، فلم يدركوا أن الخلافة الإسلامية نظام ديني في الواقع، ولم تكن نظاما دنيويا بحال، هم تعاملوا معها كنظام دنيوي يبرز فيه التمثيل النيابي في الحكم، بينما النظام الديني تكون السلطة المطلقة فيه لله تعالى، ويُظهرها في صورة من يمثله على الأرض، أي الخليفة(10).
  3. والسبب الثالث حسب رأي المؤلف هو أن كثيرا من الناس كانوا قد أحدثوا في أنفسهم تغييرا عظيما في حياتهم متأثرين بأشعة الإسلام النوارنية، ولكن ما كان لهذا التأثير أن يغنيهم عن المعلّم الذي يحتاج إليه الناس دائما لتحصيل العلوم الدينية والدنيوية(11)..
  4. والسبب الرابع لتلك الفتنة في رأي المؤلف هو أن الإسلام قد أحرز تقدما خارقا ولم يستطع الأعداء أن يدركوا هذا التقدم الهائل في البداية. فكان أهل مكة معتزين بقوتهم مقابل ضعف النبي ﷺ حتى فُتحت مكة فجأة وانتشر الإسلام في الجزيرة العربية، وكان قيصر الروم وكسرى الفرس يستهينون بقوة الإسلام المتنامية وينظرون إليها نظرة احتقار، كمصارع قوي ينظر إلى أولى محاولات وقوف طفل صغير ودبيبه على الأرض(12).

 

خاتمة

إنَّ ما كُتِبَ عن الفتنة الكبرى وظهور الفرق الإسلامية بلغ من كثرته حدًّا بحيث لم يعد هناك أي جديد يُقال بعد كل ما قِيل، لا سيما إذا انتُهج المنهج القديم في البحث التاريخي، والقائم على إعادة سرد الروايات المبثوثة من  كل حدب وصوب، دون النظر فيها في إطار المبدأ الذهبي آنف الذكر.

إن وقائع أحداث تلك الفتنة العصيبة كانت، ولم تزل، طعنة نجلاء بخنجر مسموم في قلب الأمة منذ قرون خلت، والحديث عن اشتعالها بين المسلمين واستحالة وحدتهم إلى معسكرين متناحرين حديث ذو شجون، حتى أنه بات جرحًا لما يندمل بسبب ما اشتمل عليه من قيح وصديد، فكل محاولة لرأب الصدع والتقريب بين الفرق المتورطة في تلك الفتنة لا تبوء إلا بفشل ذريع، بل لا يزداد طين الخصومة بعدها إلا بلة. ولكن، كتاب «بداية الخلافات في الإسلام» يبدو أنه يسطع مشعا ببارقة أمل في إعادة تناول دراسة ذلك المنعطف التاريخي الخطير، فبهذا الكتاب القيم قد وضع صاحبه لبنة في صرح الوحدة الإسلامية من جديد.

 

الهوامش:

  1. (يوسف: 112)
  2. عبد الرحمن بن خلدون، العبر (المقدمة)
  3. حتمية الفتنة الكبرى وضرورتها، مجلة التقوى، عدد فبراير 2022
  4. مقدمة الناشر، بداية الخلافات في الإسلام
  5. مرزا بشير الدين محمود أحمد، بداية الخلافات في الإسلام، الطبعة العربية الأولى، ص7، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن، 2015م.
  6. انظر: المرجع السابق، ص8
  7. انظر: المرجع السابق، ص11
  8. ينسب البعض هذا البيت لأبي الطيب المتنبي، بينما ينسبه البعض الآخر إلى ابن القيِّم، غير أن ابن القيم نفسه في كتابه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» يعزو هذا البيت إلى قائل سبقه.
  9. مرزا بشير الدين محمود أحمد، بداية الخلافات في الإسلام، ص15
  10. المرجع السابق، ص15
  11. المرجع السابق، ص16
  12. المرجع السابق، ص21

 

تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via