- من تراها خولة بنت الأزور؟
- ما قصة خولة التي دعتنا إلى قول ما قلناه بحقها؟
__
إذا كان الله قد اختار المرأة للبيت والرجل لمعترك الحياة خارجه، فلأنه عهد إلى الرجل أمانة التعمير والبناء والإنشاء، بينما عهد إلى المرأة أمانة أبَرَّ وأعظم، هي تنشئة الإنسان نفسه، وإنه من الأعظم لشأن المرأة أن تؤتمن على هذه الأمانة.
على أننا لا نعدم أن نرى نماذج نسائية ناوحت الرجال، بل وفاقتهم فيما اختصوا به، حتى إن مثل أولئك النساء من صارت سيرهن منارات على طريق الأمجاد الإنسانية، ولا عزاء لدعاة النِسْوِيَّةِ المعاصرة.
من تلك النماذج التي نذكرها بافتخار، كونها نماذج مسلمة، أو عربية، أو حتى شرقية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ملكة سبأ، والتي دعاها المفسرون «بلقيس»، والتي أقر القرآن بعظمتها فقال :
وتاريخ الإسلام يحوي من نماذج النساء المتفوقات في كل مجالات الخير الكثير والكثير، وسنأتي على ذكر إحداها في هذا المقال.
شخصية المقال
إن ذكر سيرة نموذج البطولة الذي هو موضوع مقالنا يبدأ من أيام الفتوحات الإسلامية زمن الخلافة الراشدة الأولى، وتحديدا من فتوحات المسلمين في بلاد الشام
خولة بنت الأزور رضي الله عنها واحدة من رموز الشجاعة والفروسية والإيمان الصادق في تاريخ الإسلام، خرجت مع أخيها ضرار بن الازور الى الشام، وشاركت في المعارك التي دارت رحاها بين المسلمين والروم، وأظهرت بسالة فائقة، وخلد التاريخ اسمها في سجل الابطال البواسل، ووقع أخوها في الاسر فحزنت لذلك، ولكن حزنها لم يَفُتَّ في عزيمتها، واستمرت في قتال الروم·
رُبَّ جنديٍّ مجهول يُلهب حماس جيش بأسره
يروى أن خالد بن الوليد ، والذي كان قائد جند المسلمين وقتها- قبل المعركة نظر الى فارس طويل لا يظهر منه الا الحدق ومتدثر بالسواد، وقد تمنطق وتوشح بنطاق ووشاح أخصر شدَّه على وسطه وصدره وظهره، وقد كان طيلة المعركة في مقدمة الصفوف· فتساءل خالد عن هوية ذلك الفارس المجهول، وأيقن أنه ولا شك فارس مغوار لا يُشقُّ له غبار، ثم اتبعه خالد والناس، وكان هذا الفارس اسبق الى الروم فحمل على عساكرهم كأنه النار المحرقة فزعزع كتائبهم وحطم معنوياتهم، ثم غاب في وسطهم ثم لم يلبث حتى خرج من بينهم ورمحه وسيفه مخضَّبان دمًا، وقد قتل من الروم رجالا.
لقد أثار ذلك الفارس الغامض حيرة بين المسلمين الذين اختلفوا في تحديد هويته، حتى زعم أحدهم مؤكدا أن ذلك الفارس ليس إلا خالد بن الوليد، وكاد من حوله من المسلمين أن يصدِّقوه، لولا أن أشرف خالد عليهم بنفسه نافيا أن يكون هو، ثم قال: والله إنني أشد إنكارا منكم له، ولقد اعجبني ما ظهر منه ومن شمائله.
ثم أمر خالد معشر المسلمين أن يحملوا بأجمعهم وراء ذلك الفارس المجهول، فقوَّموا أسنَّة رماحهم وشحذوا سيوفهم وأطلقوا أعِنَّة خيلهم، ووقفوا متكاتفين مع بعضهم البعض كأنهم البنيان المرصوص، وخالد أمامهم.
هوية الفارس الملثَّم
كان نظر خالد بن الوليد متجها صوب الفارس المجهول خلال المعركة، فوجده كأنه شعلة من نار، والخيل في أثره ولما وصل الى جيش المسلمين فتأملوه فرأوه وقد تلطخ بالدماء، فصاح المسلمون: لله درك من فارس! وسأله خالد أن يميط اللثام عن وجهه، فمال عنه دون أن يجيبه، وعاود الانغماس في جند الروم فصاح المسلمون وقالوا: ايها الرجل الكريم اميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيما فلم يرد عليهم جواباً، فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه، وقال له: ويحك لقد شغلت الناس وقلبي ببلائك الحسن، وألح عليه، فخاطبه الفارس من تحت لثامه بصوت تغلب عليه الأنوثة وقال: إنني يا أمير لم أُعرض عنك إلا حياء منك، فأنا من ذوات الخدور وبنات الستور، فقال لها: من انتِ؟ فقالت: أنا خولة بنت الأزور.
فمن هي خولة؟! وماذا حَمَلَهَا على الاشتراك في المعركة؟!
بطلتنا هي خولة بنت الأزور الكِندية، أخت القائد العظيم ضرار بن الأزور الكندي، وهي إحدى عقائل العرب، وبقية بنات الملوك، وهي من بيت شرف في الجاهلية وفي الإسلام، فقد قتل أبوها بين يدي رسول الله دفاعاً عنه.
وكان الذي حمل خولة على الاشتراك في معارك فتح الشام أن فُجِعت في أخيها ضُرار، بعد أن علمت بخبر أسر الروم له، وقد أشعل جامَّ غضبتها وحماسها أبيات نُسبت لأخيها ضرار وهو في ربقة الأسر، وقد قال:
ألا بلِّغا قومي وخَولةَ أنني
أسيرٌ رهينٌ مُوثقُ اليدِ بالقيدِ
.
وحولي عُلُوجُ الرومِ من كل كافرٍ
وأصبحتُ معهم لا أُعيدُ ولا أُبدي
.
فلو أنني فوق المُحَجَّلِ راكبًا
وقائمَ حدِّ العضْبِ قد ملكَتْ يدِي
.
لأذللتُ جمعَ الرومِ إذلالَ نِقمةٍ
وأسقيتُهم وسْطَ الوغى أعظمَ الكدِّ
.
فيا قلبُ مُتْ همًّا وحزنًا وحسرةً
ويا دمعَ عيني كن مَعينًا على خدِّي
.
فلو أنَّ أقوامي وخولةَ عندنا
وألزمُ ما كنا عليه من العهدِ
.
كبَا بي جوادي فانتبذت على الوغى
وأصبحت بالمقدور ولم أبلغن قصدي
مهمة إنقاذ أخرى
ومن المواقف الشهيرة أيضا، والتي اظهرت فيها خولة بسالة عظيمة، ما فعلته في صبحورا من اعمال الشام، وقد أُحيط بالنسوة المسلمات في مؤخرة الجيش، فجمعتهن خولة، وقامت فيهن خطيبة، وكانت هي من ضمن من أُحيط بهم من النساء، فقالت: يا بنات حمير وبقية تبع، أترضين لأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيدا لهم؟! إني أراكن بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون! لقد أثارت خولة بخطابها الحماسي الحميَّة في قلوب النسوة، فحولتهن لبؤات في البراري، وتابعت خولة حديثها فقالت لهن: لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تفترقن فتملكن فيقع بكن التشتيت واحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهم وهجمت خولة وهجمت النساء وراءها وقاتلن قتالاً شديداً حتى استخلصت النسوة من ايدي الروم.
وعلى الرغم من كل تلك العمليات الفدائية التي كان احتمال رجوع المرء منها حيا أمرا شبه مستحيل، فإن خولة، وهي امرأة، خرجت من كل تلك الأهوال سالمة، حتى وافتها المنية في بيتها أواخر خلافة سيدنا عثمان بن عفان .