
- ما هو يا ترى البُعد الحقيقي لاتهام أمنا عائشة (رض الله عنها)؟
- هل يمكن اعتبار سيرة المتهم الناصعة سببا كافيا للميل إلى تبرئته؟!
___
كيف صنع المنافقون من الحبة قبة!
أثناء العودة من غزوة بني المصطلق، وعلى مقربة من المدينة، شعر الجنود أنهم في حاجة إلى بعض الراحة، فاستراحوا، ولما أمرهم الرسول بالتجهز لمواصلة العودة؛ وكانوا على مسافة من المدينة غير بعيدة، أرادت السيدة عائشة (رضي الله عنها) قضاء حاجتها، فانتحت جانبا على بعد من الأعين، ثم وهي عائدة؛ تبيّن أنها فقدت عقدًا لها، فعادت أدراجها تلتمسه، ثم لما عادت إلى الموضع الذي يحلّ به الجيش؛ لم تجد أحدا، وكان المكان خاليا تماما، فقد ارتحلوا، وحملوا هودجها ووضعوه فوق الجمل ظنًا منهم أنها فيه، فقد كانت خفيفة الوزن، وليس من السهل التفريق بين وجودها داخل الهودج من عدمه، فذهبت إلى حيث كانت تقيم قبل أن يرتحلوا، لعلهم يفتقدونها فيعودون بحثا عنها، إلا أن الليل قد حل وأُسدلت أستار ظلماته، فغلبها النوم، ولم تنتبه إلا على أشعة الشمس، وصوتٍ ينادي: من الجالس هناك، فاقترب منها، وعرفها، فما كان منه إلا أن استرجع قائلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وما لبث إلا أن حملها على ناقته متوجها صوب المدينة، وما أن رأى الناس ذلك إلا وبدأت تُنسَج خيوط تلك المؤامرة.
صفوان المتهم البريء
إنه صفوان بن المعطل، فقير من فقراء المهاجرين، قيل أن الرسول كان قد عينه للسير خلف الجيش لالتقاط ما يمكن أن يسهو عنه الجند، أو يسقط من الرواحل، فأي غرابة في التقائه بمن فقدتها القافلة وغادرت؟!
سيرة المتهم الناصعة تكفي لتبرئته!
بالتفكر في ملابسات حادثة الإفك تستوقف الذهن بضعة تساؤلات، إذ لماذا أشاع المنافقون تلك الشائعة المُغرِضة؟! ولماذا صدقهم بعض المؤمنين من الأتقياء الذين شهدوا بدرا وطالما نافحوا عن الإسلام بالسيف واللسان؟! وما الذي حملهم على تصديق كِذبة تطعن في شرف أم المؤمنين الطاهرة التي لم يعلم عنها كل مخلوق على الأرض إلا خيرا؟! فلو سألت هوامّ الأرض وطير السماء عن عائشة لاستنكروا سؤالك، واستنكروك، فليس مثلها يُسأل عنه، فما الذي يجعل الناس يسمحون لعقولهم أن تصدق ذلك الإفك، ثم كيف يسمحون لألسنتهم أن تخوض فيه؛ وهو مفترَى؟! فقد شهدت لها الخادمة «بريرة» قائلة:
وقد شهدت لها إحدى ضرائرها؛ زينب بنت جحش، وقالت ما علمتُ عنها إلا خيرا، بالرغم ما كان بينهما من سباق عادةً ما يكون بين الضرائر لاستمالة قلب الزوج، فما بالك لو كان هذا الزوج رسولَ الله وخاتمَ النبيين! فقد جاءتها الفرصة التي لا تسنح كل يوم للتخلص من منافسة شديدة القوة كي يخلو لها وجه الرسول إلى الأبد، وليس بعدها إلا منافسات ضعيفات، فقد تخلصت من المنافس الأقوى، لكن الذي حدث أنها شهدت شهادة حق، وتلك شهادة تستحق التوقف أمامها، أضف إلى ذلك شهادة الرسول نفسه في حقها، إذ قال أنه ما علم عنها إلا خيرا، ونفس تلك الشهادة شهدها في حق صفوان؛ الذي لا يكاد يذكره التاريخ إلا في هذه الحادثة، ولم يقل أحدٌ إن لقاءً جمعه بعائشة من قبل، ولا بغيرها، بل هو رجلٌ مغمور بين الرجال، فما الذي كان يدعوه لمثل ما يقولون وما الذي كان يدعوها، هل يقبل العقل أن من تتزوج محمدًا يمكن أن تفضل عليه غيرَه؟ هل في عموم الخليقة من هو جدير بأن ينافس محمدًا ويكون مفضَّلا عليه وقد فضلته السماء وجعلته سيدَ ولد آدم؟!
بالتفكر في ملابسات حادثة الإفك تستوقف الذهن بضعة تساؤلات، إذ لماذا أشاع المنافقون تلك الشائعة المُغرِضة؟! ولماذا صدقهم بعض المؤمنين من الأتقياء الذين شهدوا بدرا وطالما نافحوا عن الإسلام بالسيف واللسان؟! وما الذي حملهم على تصديق كِذبة تطعن في شرف أم المؤمنين الطاهرة التي لم يعلم عنها كل مخلوق على الأرض إلا خيرا؟! فلو سألت هوامّ الأرض وطير السماء عن عائشة لاستنكروا سؤالك، واستنكروك، فليس مثلها يُسأل عنه، فما الذي يجعل الناس يسمحون لعقولهم أن تصدق ذلك الإفك، ثم كيف يسمحون لألسنتهم أن تخوض فيه؛ وهو مفترَى؟!
البُعد الحقيقي لاتهام أمنا عائشة (رضي الله عنها)
إن اتهام السيدة عائشة بمثل هذه الفرية الباطلة هو اتهام للدين في الحقيقة وهدمٌ له، فإن الجميع يعلمون أن الله هو من بشر النبي بالزواج بها، وأراه صورتها على قماش من حرير قائلا له: هذه زوجك. ولو ثبُتت خيانتها فإن الرسول كان كاذبا “والعياذ بالله” في ادعاء بشرى الزواج منها وأن تلك البشرى من الله؛ عندما قال: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء»(2). هذه هي الرسالة التي أراد مختلقو هذه الشائعة ومروجوها أن تصل إلى أذهان الناس، وأن يتناولوها بالتحليل ليصلوا بهم إلى الشك في الدين، ومن ثم الارتداد عنه، وبالتالي تذوب رياسة الرسول للمدينة، ويقفز على كرسيّ رياستها من كان على وشك الجلوس عليه قبيل الهجرة، ويزول تهديده لسلطان العرب، فيظل كل منهم في مكانه ومكانته التي باتت مهددة بالزوال لا محالة بقدومه، وهكذا ينتهي أمر محمدٍ برمته دون عناء، وبلا أسلحة ولا قتال ولا نفقات باهظة، وبلا سفك قطرة دم.
إنها خطة يعجب الشيطان من حياكتها، ويعجز عن الإتيان بمثلها، وربما يأخذه الخجل فيستكثر الخوض فيها.
قيل فيما قيل أن الرسول شك في عائشة، وكذلك أبوها وأمها، وإن شكّ هؤلاء فيكِ يا عائشة فماذا يتبقى لك من جدار تتكئين عليه وتستندين إذا ألمّت بك نازلةٌ كهذه؟ فما أثقلها من مصيبة! ولكن تحليل الأحداث وردود الأفعال ينفي ذلك نفيا تاما، فلم يقل الرسول أنها مذنبة، ولو برّأها لما أخذ الناس بتبرئته إياها قائلين: إن شهادته في حق عروس مجروحة، وربما تأتي بنتائج عكسية، واستدلوا من ذلك أنه لا يعلم الغيب، إذ لو علمه لكذّبهم بما عنده من الغيب، والحق أنني أتعجب من هكذا أقوال، فلو لم يكن الله يُطلع رسولا على الغيب ففيمَ كان قوله تعالى:
فلو قالوا إن الله لم يكن يُطلعه على الغيب فربما إنهم لا يرونه رسولا، ولكن كيف ذلك وهم من المسلمين؟ تلك التناقضات من العجائب، إذ كيف لصاحب القلب الشفاف، والبصيرة النافذة، الذي يؤيده الوحي فيما هو أقل شأنا من هذا؛ أن يتركه الله حائرًا بلا دليل به يهدأ قلبَه، وتطمئن نفسُه؟ كان الدليل معه، مستقرًا داخله، وإنما هو له، لا للناس، أما إعلان البراءة فلا يكون منه، بل من عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير، لذلك صمت، واحتسب، وانتظر.
ولما سألت السيدة عائشة والديها أن يردا على رسول الله لتبرئتها مما يقول الناس قالا: لا ردّ لدينا، ماذا نقول؟ لم يكن المقصود أنهم أيضا يصدقون ما يقال، بل المعنى أن شهادتهم في حق ابنتهم لا قيمة لها في هذا الموقف، فهو يعرفها أكثر منهم، وشهادتهم لا تفيده بشيء، ولا تغني عن كلام الناس شيئا، فماذا يقول الوالدان في ابنتهما حتى لو كانت مذنبة، وهما يعلمان؟! ولأنهما يقرآن المشهد جيدًا، فامتنعا عن الشهادة، واحتسبا، وانتظرا.
إن الجميع كانوا على يقين من كون الأمر إفكًا وفرية، وكانوا على يقينٍ أيضًا أن مثل هذا الإفك لا تكون براءته إلا من الله، إنه خاتم النبيين وأعظمهم، وإنها أم المؤمنين الفقيهة العالمة، وإن لهذا الإفك تأثيرًا عظيما على الدين لابدّ من ردّه، ولا يكون الردُّ من أحد ولو كان زوجًا رسولا، ولو كان أبًا صديقًا، فجاء الرد من السماء جامعا مانعا حكيما:
الهوامش:
- صحيح البخاري
- جامع الترمذي
- (الجن 27-28)
- (النور 12)