إصلاح ذات البين والنموذج الإسلامي في فض النزاعات الأسرية

إصلاح ذات البين والنموذج الإسلامي في فض النزاعات الأسرية

ضحى أحمد

ضحى أحمد

  • فما الإرشادات الأسرية التي وصفها الإسلام لتحقيق نموذج الجمة ذاك؟
  • وهل يوجد نموذج إسلامي لتلك الإرشادات على المستوى الدولي؟

____

لقد جبل اللهُ تعالى الإنسانَ على الطبيعة الاجتماعية النابعة من فطرته المفعمة بالأنس والإيناس التي منحته تسمية «الإنسان» باستحقاق. ولقد ساهمت هذه السمة في نقل الجنس البشري من حقبة الهمجية والسكن في الكهوف إلى عمران ظاهر الأرض وتشييد القرى. وهكذا تم وضع حجر أساس الحضارة الإنسانية. ولا شك أن حقبة سكنى الكهوف اصطبغ فيها طابع الحياة بالهمجية بكل ما تعنيه من معاني الوحشة والعزلة والانفراد. ومع بزوغ فجر الوحي الإلهي بدأ الطبع الهمجي في التفكك ووعى الإنسان أن في العيش جماعة يـُمنح فرصة أكبر في الحماية من الأخطار الخارجية وتوفير الغذاء للأفراد الضعفاء، الأمر الذي ظهرت معه أولى بوادر التكافل الاجتماعي. كل هذا تم بفضل الوحي الإلهي المتنزِّل على قلب المأمور الإلهي في تلك الحقبة الزمنية (1). لقد كان ذلك الوحي المبارك حجر الأساس لتأسيس المجتمع الإنساني، ولو بصورة بدائية، فهنا نستحضر قول الله سبحانه وتعالى:

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2).

وعلى المستوى الأسريلقد درجنا في تأسينا بسنة النبي ﷺ على تلاوة الآية الثانية من النساء في كل عقد نكاح، إيذانا ببدء علاقة أسرية جديدة، تتطلب تذكيرا بما تتضمنه تلك الآية الكريمة من وصايا تجلب البركات لمن يطبقها بحقها، حيث يقول تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (3).

فإلى جانب التقوى يتم التركيز على احترام روابط القرابة والعلاقات الأسرية الجيدة. إن الكلمة المفتاحية التي تتضمنها آية سورة النساء المذكورة هي كلمة «الأرحام»، ومما جاء في الأحاديث القدسية بشأنها:

«إنَّ الرَّحِمَ شَجْنةٌ متمسِّكةٌ بالعَرْشِ، تكلَّم بلسان ذَلْقٍ: اللهم صِلْ مَن وصَلَني، واقطَعْ مَن قطَعَني. فيقولُ اللهُ تبارَكَ وتعالى: أنا الرحمنُ الرحيمُ، وإنِّي شقَقْتُ للرَّحِمِ مِن اسمي، فمَن وصَلَها وصَلتُه، ومَن بتَكَها بتَكتُه.»(4)

ولا شك أن الإصلاح خير من الشقاق، وصلة الرحم أفضل من قطعها. يقول تعالى:

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (5).

إن الإصلاح بين الناس بإزالة ما بينهم من الخلافات لعمل جدير بالثناء، إن لم نقل أنه فرض كفاية، حيث ينبغي أن يؤديه فرد واحد أو جهة واحدة على الأقل في المجتمع، ويأثم المجتمع كله إن لم يُؤدَّ هذا الفرض. لذا لا غرابة في أن يستحق المُصلح بين الناس أجرا عظيما، يقول تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (6)..

لقد كانت حياة النبي الكريم ﷺ مليئة بالمواقف التي تحث المسلمين على المصالحة عند نشوء أي نزاع. لدرجة أنه حتى قبل إعلان نبوته كان يعمل على الإصلاح بين المتنازعين، دعونا نسترجع مشهد حله ﷺ النزاع الذي نشب بين زعماء قريش يوم نقل الحجر الأسود وكاد يتطور إلى ما لا تُحمد عقباه في تلك البيئة التي تسودها نزعة الحميَّة والأنفة.(7) فعن أبي الدرداء أن رسول الله ﷺ قال:

«أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ. لا أقولُ: إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ».(8)

إن هذا القول النبوي يضع في الاعتبار أهمية تسوية الخلافات بشكل عام، وتسوية الخلافات الأسرية بشكل خاص، ذلك لأن الافتقار إلى السلام داخل الأسرة لا يبقى محصورًا داخل الجدران الأربعة وإنما يمتد بعد ذلك إلى العائلة الأكبر ويدمر سلام العديد من البيوت الأخرى، ثم لا يلبث أن يتطور مدمرا سلام المجتمع ككل، الأمر الذي من شأنه أن يهدد سلام العالم أجمع(9)! وكيف لا يتهدد السلم العالمي وقد فسدت لبناته التي يتألف منها سلم الأسرة الصغيرة؟!

على المستوى الدولي العام

إن السلام داخل الأسرة هو أساس السلام على جميع مستويات التفاعل الإنساني. والإسلام في نهاية المطاف هو واجبنا تجاه خالقنا وتجاه خلقه ومن هو الأقرب إلينا من بين خلق الله؟ إنهم بالطبع أفراد عائلتنا، وأهالينا، وإخوتنا وأخواتنا، وأزواجنا، وأطفالنا، وبنفس القدر من الأهمية أفراد عائلة أزواجنا، وأصهارنا. فهذه هي الروابط العائلية الوثيقة والإحسان إليهم واجب. وللأسف فإن الإنسان ضعيف، وهذه شهادة القرآن الكريم، وهو يظهر ضعفه بالوقوع في نزاعات حتى مع أفراد عائلته.

وهذه الخلافات لا تقتصر على الزوجين فحسب، بل تمتد إلى جميع الروابط الأسرية بما في ذلك العائلة الأوسع. وهذا لا يدمر سلام عائلة واحدة فحسب، بل يؤثر على العديد من الأسر. في الإسلام، يتم فرض الالتزامات على كلا الزوجين، وعندما يتم إهمالها، يمكن أن تنشأ المشاكل. يلخص أمير المؤمنين نصره الله بشكل جميل هذه العلاقة بين الزوجين واصفا إياها بأنها تشكل نواة نظام الأسرة.

الأسلوب الأمثل في فض النزاعات الأسرية

يرشدنا القرآن الكريم إلى كيفية التوفيق بين المتنازعين، وذلك في قوله تعالى:

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا . (10)

ويجب أن نفهم الحكمة في هذه الآية، وهي أنه عندما يخشى المرء الخلاف فكلما أسرعت جهود المصالحة كلما زادت فرص النجاح. ومن المهم أن يكون الحكمان من الأتقياء والصادقين والجديرين بالثقة، وبما أنهما من الأسرة فيمكنهما ضمان السرية والاحترام المتبادل. وتلك مهمة سامية أوكلها الله إليهما، فعليهما تأديتها بأمانة. ويجب أن تكون جهود الحكمين للتوفيق لا لتأجيج الأمور أكثر. ويتمثل دورهما أولا في أن يضعا يديهما على مصدر النزاع، وإزالة أي سوء فهم موجود، وإيجاد طريق وسط عن طريق التحكيم والتوصل إلى الصلح، وثانيا في تذكير الطرفين المتخاصمين بالتزاماتهما ومسؤولياتهما.

يقول الفقهاء إن تعيين الحكمين للصلح بين المتنازعين لا يقتصر على الخلافات الزوجية فحسب، بل ينبغي استخدامه أيضًا في النزاعات الأخرى التي يكون فيها الأطراف أقارب. ويؤكد ذلك قرار حضرة عمر الذي أصدر أمرًا لقضاته بإعادة الخلافات بين الأقارب إلى ذويهم حتى يتصالحوا بمساعدة بعضهم بعضا.

غالبًا ما تتضمن المصالحة التواصل والتحكيم والتفاوض. عندما يتم جمع الأطراف معًا للتحكيم، من المهم استخدام المهارات الناعمة، وعدم السماح للأمور بالخروج عن السيطرة. يمكن للكلام اللطيف أن يحول الشخص المعادي إلى صديق حقيقي. يجب على جميع الأطراف إظهار التقوى والالتزام بالأمر القرآني بقول ما هو سديد، وأن يكونوا على استعداد للتغيير، ورؤية الوضع من منظور الشخص الآخر.

لعل أكبر عدد من الخلافات العائلية التي نواجهها تكون بين الزوجين.

وهذه الخلافات لا تقتصر على الزوجين فحسب، بل تمتد إلى جميع الروابط الأسرية بما في ذلك العائلة الأوسع. وهذا لا يدمر سلام عائلة واحدة فحسب، بل يؤثر على العديد من الأسر. في الإسلام، يتم فرض الالتزامات على كلا الزوجين، وعندما يتم إهمالها، يمكن أن تنشأ المشاكل. يلخص أمير المؤمنين نصره الله بشكل جميل هذه العلاقة بين الزوجين واصفا إياها بأنها تشكل نواة نظام الأسرة.

فإذا لم يكن هناك حب واحترام متبادل وتقدير وإذا لم يستر الطرفان عيوب بعضهما، فسوف يُنتهك سلام الأسرة بأسره. ولحل هذه الخلافات يجب التوجه إلى التوجيه الإسلامي. حيث يذكرنا الله تعالى قائلا:

هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ (11)،

ومن دلالات استعمال لفظ «لباس» في هذا الموضع بالذات ستر العيوب والعورات، ومواراة السوءات، وهو الأمر الذي لو فرَّطنا فيه لفسدت العلاقة بين الزوجين من تلقائها. إننا نلاحظ أن أسرع الخلافات حلا بين أي زوجين هي تلك التي يحفظ فيها كلا الطرفين أسرار الآخر وعيوبه ولا يفشيها أمام الآخرين.

التخلي عن الأنانية، خسارة قريبة تجني مَكسبًا بعيدًا

الأنانية تُعدُّ وقودًا مثاليا لتأجيج نيران الخلافات بشتى أنواعها، والخلافات الزوجية على رأسها. فإذا ما قطعنا إمداد تلك الخلافات بوقودها الضروري، لانتهت من تلقائها، والتخلي عن الأنانية هو في الواقع تضحية لا يمكن إنكار ثوابها عند الله تعالى، وبركات التضحية تتحقق للمضحي لا محالة، وليس المخطئ وحده من يُطالب بالتخلي عن أنانيته، بل حتى صاحب الحق ينبغي أن يتنازل أحيانا،.. وفي كتابه «سفينة نوح»، يقول سيدنا المسيح الموعود :

«تَخلَّوا عن أنانيتكم مِن كل وجه، ولا تباغضوا، وتذلّلوا ذلّةَ الكاذب وأنتم صادقون لكي يُغفر لكم، واتركوا تسمين النفس لأنّ الإنسان السمين لا يقدر على الدخول من الباب الذي نوديتم إليه…إن أكرمكم أكثركم غفرانا لأخيه.» (12)

إن التضحية بشيء ما من أجل الصالح العام يمكن أن تؤدي إلى مصالحة الناس بأعجوبة. ونستخلص هذا المغزى من القصة التي وقعت أحداثها زمن  النبي سليمان ، إذ يُحكى أن امرأتين كان معهما ابناهما، وجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت: الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى سليمان ، وكل منهما تدعي أن الذئب ذهب بابن الأخرى وأن الطفل الحي لها فقال سليمان عليه السلام: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت إحداهما: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، أعطه لها، بينما في الواقع هي والدته فكانت على استعداد للتخلي عن حقها من أجل إنقاذ الطفل! لذلك، سواء كان هناك نزاع مع الوالدين، أو إخوتك وأخواتك، أو زوجتك أو أي قريب آخر، فمن أجل المصالحة يجب أن يكون المرء على استعداد للتضحية، فقط انظر ما كانت هذه الأم على استعداد للتخلي عنه.

بينما في كثير من الخلافات بين أفراد الأسرة، في بعض الأحيان لا يكون الطرفان مستعدين للتضحية بأتفه الأشياء. لذلك، يمكن تسوية النزاعات ببعض المفاوضات. بعد الاستماع إلى كلا الطرفين وإيجاد حل وسط، فيتم جمع الطرفين معًا وعقد اتفاق. يمكن أن تكون النزاعات العائلية الأخرى بين الأشقاء. يختلف الإخوة مع بعضهم بعضا، أو في بعض الحالات تختلف الأخوات مع بعضهن، وفي بعض الأحيان يختلف الإخوة مع أخواتهم. إنه وضع محزن، حيث أنهم ولدوا في نفس المنزل ونشأوا معًا، لسبب ما هناك دماء فاسدة بينهم.

هناك مقاطعة كاملة، وكراهية لبعضهم بعضا.. إنهم لا يرون بعضهم، وغالبًا ما ينشرون شكاواهم لكل فرد في الجماعة. في بعض الأحيان قد تكون النزاعات حول المعاملات المالية أو التنافس بين الأشقاء أو عدم المساواة في المعاملة من قبل الوالدين، وفي أحيان أخرى بسبب أطفال الإخوة. ومن المؤسف أن السبب الجذري للقضايا هو في كثير من الأحيان إهمال التعاليم الإسلامية. كما هو الحال في التعاملات المالية فلا يتبع الأمر القرآني بتوثيق المعاملات. وفي أحيان أخرى، لا يكون هناك احترام للأخ الأكبر، ولا يكون الأخ الأكبر لطيفًا مع الأصغر سنًّا.

إن التوفيق بين نزاعات الأشقاء من نفس الأسرة هو مسألة ملحة كما نفهم من قول النبي الكريم ﷺ: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.»(13)، فكم من الحري بنا أن نأخذ مسألة الإصلاح بين الزوجين على محمل الخطورة والجد!

الهوامش:

  1. لا عزلة في الإِسلام، مجلة التقوى إبريل 2020
  2. (العنْكبوت: 21)
  3. (النساء: 2)
  4. الهيثمي، مجمع الزوائد، الصفحة أو الرقم: 8/153
  5. (النساء: 129)
  6. الحجرات: 11)
  7. انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر
  8. أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) باختلاف يسير، وأحمد (6/ 444).
  9. انظر: د. زاهد خان،خطاب ألقي خلال الجلسة السنوية للجماعة الإسلامية الأحمدية بالمملكة المتحدة، بتاريخ28 يوليو 2014
  10. (النساء: 36)
  11. (البقرة: 188)
  12. مرزا غلام أحمد القادياني، سفينة نوح
  13. رواه الترمذي
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via