
- فما المقصود بـ”الجاهلية” في مصطلح القرآن؟
- وكيف أنبأ الكتاب الحكيم بحلول عصر الجاهلية ثانية؟
- وهل تعني الجاهلية التأخر العلمي بالضرورة؟
- وما العلاقة بين البيعة من جانب والجاهلية من جانب آخر؟
____
حال «الجاهلية» منشأ آفة التدهور الأخلاقي
السيئات بوصفها أمراضا روحانية تجري عليها نفس سنن الله الجارية على الأمراض الجسمانية، فلكل من المرضين أسبابه التي لو اجتنبناها لكنا في مأمنٍ ِمِنْ أمراض الروح والجسد على حد سواء. والمجرمون بإزاء القانون صنفان، صنف يقترف الجريمة اجتراء، وهم عالمون بالقانون، وصنف يقترفونها جهلا بالقانون، فلا يكادون يشعرون أنهم يقترفون جرمًا أصلا، قال ابن قيّم الجوزية:
فالجاهلون بهذا المعنى هم من يقترف الجرم وهم جاهلون به، فهؤلاء هم المعنيون بالإشارة القرآنية:
وفي كتابه القيِّم «الأحمدية، أي الإسلام الحقيقي» يمعن سيدنا المصلح الموعود في تفصيل هذا المعنى، موضِّحًا أن الجهل بالسيئة يغري بالوقوع فيها في أغلب الأحوال، يقول حضرته : «أي الباعث على السيئات هو قلة المعرفة الإلهية. العقل الإنساني أيضا يؤيد هذا الإعلان القرآني فالعاقل لا يُدخل يده في النار قصدا، والذي يعرف أن طعاما ما قد دُس فيه السم لن يأكله أبدًا، ولو علم أحد أن سقف البيـت سيسقط حتما بعد دخوله إليه لما دخله على الإطلاق، والذي يعلم أن في هذا الجحر أفعى لن يدخل فيه يده، ولو علم أحد أن أسدا يقبع في مغارة مــا لمــا دخلها بلا أسلحة وعُدة وعتاد. فالذين يخافون النار والأفاعي والأسود والسموم إلى هذه الدرجة أنّى لهم أن يجترئوا، بعد الحصول على المعرفة الإلهية، علـــى اقتراف السيئات وإساءة الخلق إذا كانوا قد عرفوا حق المعرفة أنها كالسموم، بل أكثر منها ضررا؟ فيتبين بجلاء أن ارتكاب السيئة يعود إلى الجهل وقلة المعرفة. والدين الذي يخلق المعرفة فكأنه يفتح على أتباعه بابا للحصول على مكارم الأخلاق»(3).
من معاني الجاهلية
بالتفصيل السابق، قدَّم سيدنا المصلح الموعود شرحًا وافيا لمعنى الجاهلية، والذي يمكننا بلورته بالقول إنه العصر الذي كان الناس فيه يقترفون السيئات بمختلف صورها جهلا منهم بعواقبها الوخيمة، بل وظنًّا منهم أنها من المناقب والمحامد في بعض الأحيان!
بتطبيق هذا القول على العصور التي مضت نجد أن معنى الجاهلية انطبق تماما أول مرة على العصر الذي سبق بعثة النبي ، فقد كان أحلك عصور البشرية، حتى إن سيدنا المسيح الموعود وصفه قائلا: «لقد بُعث سيدنا ومولانا محمد في زمن كان العالم فيه قد فسد وخرب من كل الوجوه كما يصفه الله تعالى بقوله:
وتفشي الفساد في البر والبحر فيه إشارة إلى أن الفساد قد عم أهل الكتاب وغيرهم من الأمم المحرومة من ماء الوحي. وعليه فإن هدف القرآن المجيد في الحقيقة هو إحياء الموتى. كان العرب يومئذ قد تدنوا إلى أحط درجات الهمجيّة. لم يعُدْ لديهم أي نظام يعلمهم القِيمَ الإنسانية. وكانت المعاصي مفاخر عندهم يتباهون بها»(4). ومع ذلك، ففي غضون عقدين من الزمن، غيّرت تعاليم القرآن الكريم حياتهم تغييرًا جذريًا، فرفعت المتوحشين إلى مستوى الإنسان، ثم زوّدتهم بالصفات الأخلاقية، ورفعتهم أخيرًا إلى مصاف الصالحين. لقد انتقلوا من أناسٍ عُرفوا بالحروب القبلية والثأر إلى أرضٍ ينعمون فيها بالسلام والأمن، كما أنبأ النبي في قوله:
فالحق أن العالم لم يشهد من قبل مثل هذا التحول العظيم والمعجز في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن.
نعيش عصرًا يشهد تقدمًا تكنولوجيًا هائلًا، وتطوراتٍ طبيةً، وعجائبَ آسرة، ولكنه يشهد أيضًا شكوكًا عقائدية، واضطراباتٍ اجتماعية، واضطرابًا أخلاقيًا. فعلى الصعيد العقائدي في هذا العصر يشهد العالم تزايدًا سريعًا في أعداد اللاأدريين والملحدين، وخاصةً بين الشباب، حيث تتراوح أعمار حوالي 40% من الملحدين بين 18 و29 عامًا. ووفقًا لاستطلاعاتٍ حديثة، تدخل بريطانيا أول «عصرٍ للإلحاد» فيها، حيث يفوق عدد الملحدين عدد المؤمنين. لذا فإننا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذا عصر «جاهلية حديثة»، ففي غمْرَتِهِ نسيت البشرية بارئها وهَجَرَتْهُ، ونتيجةً لذلك، انحدر النظام الأخلاقي والاجتماعي إلى أدنى مستوياته
تتوالى العصور، والجاهليات أيضًا!
من المؤكَّد أن هناك ممن يقرأون القرآن الكريم، قلُّوا أم كثروا، تستوقفهم هذه الآية الكريمة:
لتبدأ بعد قراءتها حال لذيذة من تداعي الأفكار، فالشيء لا يستحق وصفه بالأول إلا إذا أُتبِعَ بثان، وهنا ينطرح تساؤل كبير مفاده: «هل مر العالم، أو يمر أو سيمر، بعصر جاهلية آخر غير الذي كان قبل مبعث سيدنا محمد ؟!»..
لننظر أولا في مظاهر الجاهلية التي كانت قبل مبعث سيدنا محمد ، والتي قُضي عليها تماما بإشراق الأرض بنور ربها ببعث ذلك الإنسان وتبليغه رسالة القرآن.
ففي المجال العقائدي، ظهر الإلحاد المعروف بصورته الشائعة قديمًا بالشرك بالله مع الاعتراف بوجوده تعالى وأنّه الخالق المدبّر كما كان في مشركي العرب، وقد أثبت الله تعالى ذلك في كتابه فقال عن إقرارهم بخلق الله للكون:
مع وجود فئةٍ نادرةٍ تنكر وجود الله تعالى بالكلية(7).
وعلى الصعيد الاجتماعي فحدِّث ولا حرج، فقد كانت المرأة عرضة لأبشع صور الاستغلال، لا في بلاد العرب وحدها، بل وحتى في بقاع العالم المتحضِّر قديما كذلك، ونكتفي من تصفحنا لوضع المرأة لدى الحضارات القديمة بشيء من التشريع الروماني، والذي يُعرف عنه أنه جرد المرأة من معظم حقوقها المدنية في مختلف مراحل حياتها، فلم تكن لها أهلية أو شخصية قانونية، وقد كان القانون يعد «الأنوثة» سببًا من أسباب عدم الأهلية، كحداثة السن أو الجنون…»(8).
لقد صدق رسول الله محمد عندما أنبأ بغلَبَة الجهل شيئًا فشيئًا على العلم وانتشاره بين الناس في العصور التالية لعصره، حيث جاء في الرواية عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
واليوم ونحن نودع الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وحيث نعيش عصرًا يشهد تقدمًا تكنولوجيًا هائلًا، وتطوراتٍ طبيةً، وعجائبَ آسرة، ولكنه يشهد أيضًا شكوكًا عقائدية، واضطراباتٍ اجتماعية، واضطرابًا أخلاقيًا. فعلى الصعيد العقائدي في هذا العصر يشهد العالم تزايدًا سريعًا في أعداد اللاأدريين والملحدين، وخاصةً بين الشباب، حيث تتراوح أعمار حوالي 40% من الملحدين بين 18 و29 عامًا. ووفقًا لاستطلاعاتٍ حديثة، تدخل بريطانيا أول «عصرٍ للإلحاد» فيها، حيث يفوق عدد الملحدين عدد المؤمنين. لذا فإننا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذا عصر «جاهلية حديثة»، ففي غمْرَتِهِ نسيت البشرية بارئها وهَجَرَتْهُ، ونتيجةً لذلك، انحدر النظام الأخلاقي والاجتماعي إلى أدنى مستوياته(10).
وعلى الصعيدين النفسي والاجتماعي، بلغت معدلات الاكتئاب والقلق لدى الشباب أعلى مستوياتها عالميًّا. وفي عام ٢٠٢٤ وحده، راح أكثر من ١٢٠ ألف شخص في أمريكا ضحيَّة جرعات زائدة من المخدرات. وخلال عام ٢٠٢٣، انتحر أكثر من ٤٩ ألف شخص. كما أشارت الإحصائيات إلى تعرض امرأة من بين خمس نساء لاعتداء جنسي، وأفادت ٨١٪ منهن بتعرضهن للتحرش الجنسي في حياتهن. وفي أمريكا وحدها، تُجرى أكثر من مليون عملية إجهاض سنويًا. وتُعلِن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها رقما مفزعا لمعدل الإصابة السنوي بالأمراض المنقولة جنسيًا، إذ تخطَّى حاجز المائتين وأربعة ملايين حالة سنويا!(11)
والإحصائية الأكثر إثارة للقلق تقول بأن حوالي طفل واحد من كل ٢٠ طفلًا في المملكة المتحدة تعرض لاعتداء جنسي. في عام ٢٠٢٢، تلقت الشرطة ١٠٧ آلاف بلاغ عن اعتداء جنسي على الأطفال، وهو رقم يفوق أربعة أضعاف ما كان عليه قبل عقد من الزمن.
وعلى الصعيد الاجتماعي الأُسري تجاوزت حالات الطلاق نسبة الخمسين بالمائة في العديد من البلدان.
وعلى الصعيدين السياسي والاقتصادي دلَّت استطلاعات الرأي على أن ١٦٪ فقط من سكان الدول المتقدمة يثقون بحكوماتهم، إذ إنها تُنفق المليارات على الحروب، وفي المقابل يعاني الملايين من الجوع والمجاعة. ولا يزال الأغنياء والأقوياء يستولون على ثروات الأفراد أو الدول الضعيفة. إذ إن نسبة ٧٠٪ من إجمالي الثروة حكرٌ لدى 10% فقط من الناس(12).
إن هذه الإحصائيات تعكس حقائق مروعة، وتلك الحقائق هي نفسها ما يدفع الناس حول العالم إلى رفع أصواتهم في الاحتجاجات العامة والمسيرات والمظاهرات المطالبة بالتغيير. العديد من هذه الحركات الاحتجاجية معروفة، مثل حركة «حياة السود مهمة» لإنهاء العنصرية الممنهجة، وحركة «أنا أيضًا» لمكافحة مظاهر الاعتداء على النساء والتحرش الجنسي بهن، وحركة «حق الفتيات في التعليم» لتعزيز الحق الأساسي للفتيات والنساء في التعليم (13).
الجاهلية لا تعني التأخر العلمي بالضرورة
من يظن أن الناس في عصر الجاهلية الأولى كانوا يعيشون حالا من التدني على صعيد رفاهيات الحياة فإن الصواب يُجانبه حتما، حيث يثبت تاريخيا أن الناس في عصر الجاهلية الأولى الذي كان قبل مبعث سيدنا محمد خاتم النبيين كانوا قد بلغوا شأوًا بعيدا، بمقاييس عصرهم بالطبع، ففي القرن السادس الميلادي، والذي شهد مبعث خير الورى ، كانت مظاهر الرفاهية تتجلى بشكل رئيسي في الدول الكبرى، كالإمبراطورية البيزنطية، والتي شهدت ازدهارًا عظيمًا في العمارة والفنون والعلوم. وقد شُيِّدَت العديد من الكنائس الفخمة مثل كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية، والتي تعد بحد ذاتها تحفة معمارية. وفي مجال العلوم استمرت الإمبراطورية البيزنطية في الحفاظ على المعرفة اليونانية والرومانية القديمة، وقدمت مساهمات بارزة في مجالات عديدة مثل الطب والفلك والرياضيات. وفي المجال التشريعي وضع الإمبراطور جستنيان تشريعاته المعروفة بـ «قانون جستنيان»، والتي كان لها بصمتها الواضحة في التشريعات الأوربية اللاحقة.
غاية القول إن العالم لم يكن يَعدم سبُل الرفاهية المادية في عصر الجاهلية، بل كما عبَّرت آي الذكر الحكيم عن حياة الناس في ذلك العصر:
وإنما وصلتنا تلك الفكرة المغلوطة عن ذلك العصر بتأثير مشاهدة الأعمال الدرامية، والتي كانت تقدِّم الشخصيات الجاهلية المشهورة، كأبي جهل وأبي لهب ومن شاكلهما، في صورة مادية تشمئز منها النفوس، علما أن الحقيقة كانت على النقيض من ذلك، فقد كان عتاة الجاهلية على درجة عالية من حسن الصورة ورفعة الثقافة ورفاه العيش، وإنما كانت جاهليتهم في عدم إدراكهم حقيقة الأمور الروحية وما ينتظرهم في الآخرة. وهذا كان من شأنه أن يجعل من حياتهم مسرحًا لعمليات الشيطان ووساوسه دون أن يدركوا بتاتا الهدف من وجودهم، وهذا وحده كان كفيلا بإحداث كافة الشرور المذكورة في الفقرات السالفة من هذا المقال بإحصائياتها المُفزعة، ولله در القائل:
فَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ
وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ (15)
إذن، أين طريق الخلاص؟!
ضرورة البيعة، والموقف الإلهي من الجاهلية كما نَتَيَقَّنُه
لم يترك الله خليقته هكذا في خضم الجاهلية دون أن يبعث لها ومنها وفيها مبعوث عنايته ودليل هدايته، وليس معنى شيوع مظاهر الجاهلية ثم زوالها في عصر ما إلا كتعاقب الليل والنهار، هذا التعاقب المعدود آية من آيات الله تعالى في خليقته، حيث يقول :
إذن، فيقيننا في الله تعالى وفي حسن أسمائه يدفعنا دفعًا إلى الإيمان بأنه لا يمكن أن يجعل الجاهلية نهاية المطاف، بل ثمة مُخلِّص من الغرق فيها والضلال في ليلها البهيم، ذلك المُخلِّص هو نفسه إمام الزمان الذي وجبت مبايعته، ودون ذلك الغرق في لجة الجاهلية المظلمة ومآسيها، فبحسب رواية الإمام جعفر الصادق: «من بات ليلة لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(17).
الهوامش:
- ابن قيّم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق : محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1416 ه – 1996 م
- (النساء: 18)
- مرزا بشير الدين محمود أحمد، الأحمدية.. أي الإسلام الحقيقي، ص128
- مرزا غلام أحمد القادياني، فلسفة تعاليم الإسلام.
- صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 6943
- (الأحزاب: 34)
- أحمد الخضر المحمد، قراءة في أنواع الإلحاد، مجلة رواء، 25 يونيو 2022م
- سامح مصطفى، الإسلام والمرأة، والقرن الحادي والعشرون، مجلة التقوى، مارس 2017م.
- أبو القاسم شمس الدين الأصفهاني، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، ج3، ص160، دار المدني، السعودية، ط1، 1406 ه – 1986 م
- أظهر حنيف، خطاب بعنوان “تعاليم الإسلام للحد من التدني الأخلاقي الاجتماعي”، في الجلسة السنوية الـ 59 بالمملكة المتحدة بتاريخ 26 يوليو 2025م.
- نفس المصدر السابق
- نفس المصدر السابق
- نفس المصدر السابق
- (الروم: 8)
- علاء الدين المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، ج12، ص272، دار إحياء التراث العربي، ط2، د. ت.
- (آل عمران: 191)
- ابن الدمشقي، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، ج2، ص136