
- من هو ابن فضلان ذاك؟
- ما أهمية رسالته تلك يا ترى؟
- إلى أي حد عكست رسالة ابن فضلان فكرة حوار الحضارات في ذلك الوقت المبكر؟
____
ما زال الالتباس والادعاء يحيطان بأهم وأقدم رحلات الحوار الحضاري في العصور الوسطى، نعم، إذ تعد رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة والبلغار أقدم رحلة رسمية عربية إلى تلك البلاد التي كانت برعاية الدولة العباسية وتحت إشرافها، والتي استغرقت ثلاث سنوات بدءا من عام 921م حتى عام 924م. وبهذا تحتل رحلة ابن فضلان مكان الصدارة في أدب الرحلات العربي، إذ هي الأقدم تاريخًا، وتسبق رحلة ابن بطوطة بثلاثة قرون على أقل تقدير.
كتب أحمد بن فضلان في يوميات رحلته وصفا تفصيليا تحليليا لرحلته إلى تلك البلاد (بلاد الصقالبة أو ما يُعرف الآن ببلغار الفولجا) في عام 921 م.
تعد رحلة ابن فضلان أقدم وصف أجنبي لروسيا، إذ لا أجد على جد علمي وصفا لتلك البلاد يرجع إلى فترة أقدم من تلك الفترة. بدأت ملامح تلك الرحلة بخروج أحمد بن فضلان على رأس وفد لزيارة روسيا برسالة من الخليفة العباسي إلى ملك الصقالبة. ففي عام 921 (309هـ) خرجت من بغداد، حاضرة العالم الثقافية وقتذاك، بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسي «المقتدر بالله» إلى قلب القارة الآسيوية في مكان عُرف وقتها باسم «أرض الصقالبة»، تلبية لطلب ملكهم المتمثِّل في التعرف إلى الدين الإسلامي، عله يجد إجابة للسؤال الدائر وقتها، بل إلى وقتنا هذا، وهو: «كيف أمكن لذلك الدين الآتي من قلب الصحراء أن يكوِّن تلك الإمبراطورية الضخمة التي لم تضاهها سوى إمبراطورية الإسكندر المقدوني؟!» وفي بغداد كان أعضاء البعثة يرتبون أوراقهم بين فقيه ورجل دولة ومؤرخ، وفي صدارة الوفد تم تعيين رجل موسوعي المعرفة، يُدعى أحمد بن فضلان. فمن هو يا ترى ذلك الرجل؟ ولماذا وقع عليه هو بالذات الاختيار لرئاسة سفارة بهذه الأهمية؟
من هو ابن فضلان؟!
هو أحمد بن العباس بن راشد بن حماد البغدادي، عالم مسلم عاصر القرن العاشر الميلادي. لم تحتفظ لنا المصادر التاريخية بأي معلومات عن صاحب الرحلة فلا نعرف سنة ميلاده، أو وفاته على وجه التحديد، حتى إن ياقوت الحموي في معجم البلدان وصف رحلته بالقصة المشهورة(1)، ولكنه أهمل ذكره في معجم الأدباء، ولم يذكره حتى في طبقة الموالي، ومع ذلك، فمن حسن الطالع أن ابن فضلان لم يكن مجرد رجل موهوب أو صاحب رؤية سياسية فحسب، بل كان قد درب عينيه الثاقبتين على رؤية ما وراء المشاهد المباشرة، ولم يكتف برصد الأحداث، بل كان يتفكر ويتدبر ويعقل كل ما يراهُ أو يسمعه ليربط الأسباب بالنتائج.
تيسرت لابن فضلان فرصة العمل لمدة عقد من الزمان معاونا للقائد العسكري محمد بن سليمان الكاتب، الذي كان أول والٍ عباسي على مصر بعد إسقاط الدولة الطولونية، والذي يدين له العباسيون بالفضل في إعادة مصر إلى حظيرتهم.
ذلك القائد العسكري الهمام الذي لا يُشقُ له غبار ، كان قائداً لحملات عسكرية امتدت من مصر غربا إلى تخوم الصين شرقاً، وفي الوقت ذاته كان ابن فضلان مرافقا له مما جعله يكتسب الكثير من المعارف المختلفة من ثقافات الشعوب المتنوعة التي كانت خاضعة لتلك الحملات العسكرية ، إلى أن وصل إلى بلاط الخليفة العباسي « المقتدر بالله « تحت مسمى رجل دولة وعالم فقيه ، ولم يقف مسماه عند هذا الحد وإنما استمر ابن فضلان في الترقي في المراتب في بلاط الحكم حتى عام 921 م ، وقتئذ وصلت رسالة قيصر البلغار «ألموش بن يلطوار» يطلب من الخليفة إرسال سفراء إلى القيصرية البلغارية للتعريف بمبادئ الإسلام، وعلى أن يرسل الخليفة من يبني للقيصر مسجدا يطل من محرابه على شعبه(1)، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، فاختاره الخليفة على رأس الرحلة تقديرا لمكانته وقدرته على الحوار.
وفي بغداد كان أعضاء البعثة يرتبون أوراقهم بين فقيه ورجل دولة ومؤرخ، وفي صدارة الوفد تم تعيين رجل موسوعي المعرفة، يُدعى أحمد بن فضلان. فمن هو يا ترى ذلك الرجل؟ ولماذا وقع عليه هو بالذات الاختيار لرئاسة سفارة بهذه الأهمية؟
المعالجة الغربية لسبب الرحلة
تنتشر في المعالجات الغربية رواية مختلفة لسبب إرسال سفارة أحمد بن فضلان، وتتبنى تلك الرواية القول بأن اختيار ابن فضلان جاء بهدف التخلص منه، وطمعا في فتاة كان قد أوشك على الزواج بها! على أن الغربيين أنفسهم يُقرون بفضل الرحلة في تدوين اكتشافات حضارية لم يسبق لها مثيل، ويسطّرون اسم ابن فضلان بحروف بارزة في تاريخ التواصل الحضاري بين الإسلام و«الآخر»، ويؤكدون أنها نقلة نوعية في فن كتابة الرحلة العربية التي كانت قبل ذلك مُغرقة في السرد والقص، فنقلتها إلى مستوى التحليل الإثنوغرافي لشعوب لم يكن العرب ليعلمون عنهم شيئا.. بل لا نجانب الصواب إن قلنا أن العالم لم يكن ليعلم عنها شيئا!
من مدينة السلام إلى مجاهل شمالي أوروبا، من أجل نشر الثقافة العربية الإسلامية واكتشاف أطراف عالم القرون الوسطى يوم كانت بغداد العباسية مركزه وحاضرته الكبرى. واستغرقت الرحلة 11 شهرا، واخترقت أراضي عدد من الدول الحالية التي كانت المعلومات عن تاريخها القديم شبه غائبة بعيدا عن دافع سفر ذلك العالم الجليل ابن فضلان، مع كل الاحترام والتقدير للآراء الغربية، فإننا نحن – المسلمين – نؤول بأنَّ الأسباب التي أدت إلى سفره هو وأفراد بعثته يعود إلى النيّات الباطنية، وإذا نظرنا إلى ما قام به ذلك العالم نظرة علمية بحتة فإنه يتبين لنا بوضوح وجلاء أنه قد سبق عصره وأوانه، وقد وضع هو وبعثته الحجر الأساس لمفهوم (السفارات بين الدول) وليس هذا وحسبُ، بل الدول القائمة على أساس تبادل السلام والحوار..
الهوامش:
انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، تحت «بلغار».
راجع: أحمد بن فضلان، رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة، دار السويدي، أبو ظبي، 2003م.