
- هل من شهادة علمية بدفاعية حروب الإسلام وإنسانية فتوحاته؟!
- ما موقف القرآن الواضح من المرتد؟
- إذا لم يكن قتل المرتد شريعة القرآن، فشريعة من إذن؟!
___
المكتبة الإسلامية مترعة بالمراجع العديدة التي تدحض التهمة القائلة بأنَّ الإسلام يشرّع أيَّة عقوبة جسدية على من يخرجون منه منكرين إياه كدينٍ لهم. وفي العديد من تلك المراجع تفاصيل للحجج الشائعة التي يسوقها من يدَّعون أصالة القول بقتل المرتد في شريعة الإسلام، من تلك الحجج خبر عِكرمة، والذي جاء فيه: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ .(1) وقائع حروب سيدنا أبي بكر مع مانعي الزكاة، وغير تلك الحجج التي أشبعها المؤرخون والباحثون عرضا وبحثا، بحيث لا نرى أننا بإمكاننا أن نضيف جديدا إذا ما عرضنا تلك الاتهامات محاولين دحضها مجددا، وقد دُحِضَت أصلا من قبل. إلا أن عرضنا لهذا الموضوع هذه المرة سيكون من باب مناقشة الكليَّات، مع الالتفات إلى دقائق ولطائف قرآنية تضفي على التشريع الإسلامي رونقا وبهاء منقطع النظير في كل ما عداه من التشريعات الاخرى.
نقطة البدء.. تحديد أصل القضية وفروعها
للحكم في أية قضية ولحل أية مشكلة لا بد أولا من ترتيب الأفكار بشأنها، وتحديد أولوياتها، الأمر الذي يُعبر عنه المناطقة والأصوليون بـ «تحديد الأصل والفروع»، فإن عدم فهم واستيعاب القضية الأصلية، سيأتي على القضية الفرعية بسوء فهم مضاعف.. والقول بقتل المرتد هو قضية فرعية، ومنشأ هذا القول عدم فهم واستيعاب القضية الأصلية، وهي الإكراه في الدين في الأساس. وبطبيعة الحال، فمَنْ لا يدرك الأصل يواجه تعقيدات في الإلمام بالفروع، من هنا يحسن بنا أن ننطلق في بحثنا، فنبدأ بمناقشة مبدأ الإكراه في الدين بشكل عام، وإلى أي حد اتخذته الشريعة الإسلامية أو عارضته، فإذا ثبت أن شريعة الإسلام عارضت نهج الإكراه في الدين وهو القضية الأصل، فإن القول بقتل المرتد، وهو القضية الفرعية، ينتفي من تلقائه بالتبعية.
والواضح بما لا يدع للشك مجالا، من خلال النصوص القرآنية العديدة أولا، ثم من خلال التطبيق النبوي لها ثانيا، أن الإسلام نهى نهيا قطعيا عن الجبر والإكراه في الدين، وذلك بصريح منطوق قوله تعالى:
فَأَنْ يتهم أحدهم بريئا بأنه قال كذا وكذا، مما يعاقب عليه القانون، ليس مدعاة للعَجَبِ، وهو أمر بات معتادا بكل أسف في عالم شبكي تنتشر فيه الأكاذيب انتشار النار في الهشيم، وقلما يتثبت فيه السامع مما يسمع! الأعجب من ذلك أن يكون بين أيدينا نص محفوظ، بشهادة المعادين والموالين على حد سواء، ويدعي عليه الخصم المعادي بأنه نص يدعو إلى الإكراه في الدين، فلا يلبث بعض الموالين أن يصدقوا ذلك الادعاء الباطل، ناهيك عن تصديق سائر الأغيار! مما يستنتج منه أن اتهام الإسلام بإكراه الناس على اعتناقه أو البقاء فيه، لم يُقابل من أولئك السمَّاعين بشيء من التحقيق والتثبت.
شهادة علمية بدفاعية حروب الإسلام وإنسانية فتوحاته
لما تجاوز عدوان مشركي قريش الحدود كلها، وتألّبت جميع قبائل شبه جزيرة العرب للقضاء على دين الإسلام، اقتضت غيرةُ الله أن يقتل بالسيف من يسلونه على المستضعفين، وإلا فإن القرآن لم يعلّم الإكراه مطلقا، وأبرز دليل على أن الحرب لنشر الدين ليست من تشريع الإسلام في شيء أن النبي ﷺ وأصحابه صبروا ثلاث عشرة سنة، هي عمر الدعوة الإسلامية في مكة قبل الهجرة، قدموا هذه المدة دليلا على صبر فاق الحدود والأوصاف، حتى كان المرء يشهد بأم عينيه مقتل ذويه دون أن يحرك ساكنا، مع أن القدرة على الانتقام كانت متاحة، لا سيما بعد أن انضم إلى حظيرة الإسلام بعض كبراء مكة وزعمائها، كسيدنا حمزة وسيدنا عمر .
ولو نظرنا بعين التحليل في قضية الحروب الإسلامية، لرأينا أنها «لا تخرج عن ثلاثة أقسام: الحروب الدفاعية، أي دفاعاً عن النفس، والقصاصية، أي عقابا موقَّعًا يعلى مرتكب جريمة سفك الدماء، والتحريرية، أي توطيداً للحرية الدينية، وكسرًا لشوكةِ القُوى العدوانية التي كانت تقتل المسلمين بسبب إسلامهم.»(3)
وحين نتعرض بالطرح لموضوع الفتوحات الإسلامية، يكون من المناسب والأوقع الاستشهاد بشيء مما قاله أهل الإنصاف والموضوعية من غير المسلمين، وهو هنا مقولة للكاتب الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف، والذي هو من المسيحيين الموارنة القاطنين في لبنان منذ خمسة عشر قرنا، حيث يقول معبرا عن نفسه وبيئته الثقافية بشكل عام: «لو كان آبائي مسلمين في بلدة غزاها النصارى، بدلا من كونهم نصارى في بلدة فتحها المسلمون، فلا أظن أنه كان بوسعهم أن يعيشوا محافظين على دياناتهم في قراهم ومدنهم طوال أربعة عشر قرنا، فأين مسلمو إسبانيا؟! وأين مسلمو صقلية؟! إمَّا قتلوا عن بكرة أبيهم، أو تم تنصيرهم جبرا وإكراها بالحديد والنار!»(4) فهذه شهادة قوية من وجهين اثنين، أولهما أنها صادرة من قلم عالم متخصص موضوعي، وثانيهما أن صاحبها ينتصر للإسلام على الرغم من أنه من غير المسلمين!
والقول بقتل المرتد هو قضية فرعية، ومنشأ هذا القول عدم فهم واستيعاب القضية الأصلية، وهي الإكراه في الدين في الأساس. وبطبيعة الحال، فمَنْ لا يدرك الأصل يواجه تعقيدات في الإلمام بالفروع، من هنا يحسن بنا أن ننطلق في بحثنا، فنبدأ بمناقشة مبدأ الإكراه في الدين بشكل عام، وإلى أي حد اتخذته الشريعة الإسلامية أو عارضته
قتل المرتد.. شريعة من؟!
واضح إذن براءة الإسلام من القول بالإكراه في الدين عموما، والقول بقتل المرتد خصوصا، فمن أين إذن برزت هذه المزاعم وأطلت برأسها؟! ومن كانوا الدعاة والمؤصلين لهذا السلوك في البداية؟ لا بد للإجابة على هذا السؤال من ركوب آلة الزمن والاطلاع على أحداث التاريخ والماضي البعيد، ساعتها سندرك أن الإكراه في الدين وقتل المرتدين عنه هو منهج الطغاة الذين أعلن الإسلام براءته منهم ومن فعالهم، وقد سجَّل القرآن على المكرِهين الحقيقيين الأوائل دعواهم، فنقل لنا مشهد محاولة إكراه آزر لإبراهيم:
ثم محاولة إكراه فرعون لموسى في قوله تعالى:
ثم أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون:
أيبقى بعد كل هذا شك في أن الإكراه في الدين كقضية أصلية، وقتل المرتد كفرع منها، هو مذهب المشركين وفاسدي العقيدة عبر التاريخ؟! وأن هذا النهج مقته الإسلام، بل وحذر من سلوكه أيما تحذير؟!
موقف القرآن الواضح من المرتد
ولسيدنا المسيح الموعود مقال نشره حضرته في مجلة مقارنة الأديان، وذلك قبيل وفاته بأيام، وكان عنوانه «أثر الردة عن الإسلام في الهند البريطانية»، وعرض حضرته موقف الإسلام الحقيقي من قضية عقوبة الردة فقال: «إن الآيات المتعلقة بالمرتدّين عن دين الإسلام في القُرآن الكَرِيم واضحةٌ تمام الوضوح لدرجة أن مجرد ذِكرها يحسم هذه المسألة بكل سهولة. لقد ورَدَ في سورة البقرة قوله عالى
في تأكيد قوي من حضرته على أمرين اثنين، أولهما أن أعداء الإسلام وخصومه هم من يسلكون مسلك الإكراه في الدين، والأمر الثاني هو بيان أن حتى المرتد في الواقع لا عقوبة دنيوية تنتظره، فلا ذِكر لكلمة «قتْل» بحقه، بل يمارس حياته بالطريقة التي يشاء فيموتَ وهو كافر، فلم تقل الآية مثلا «فيُقتل وهو كافر».. باختصار، لا وجود لذكر عقوبة القتل ولا أي عقوبة دنيوية أخرى في القُرآن الكَرِيم على الذين ارتدّوا عن الإسلام. أما الوعيد بالعذاب الذي ينتظرهم في الحياة الآخرة فهذا أمر آخر، المهم هنا اننا متفقون على أن مجرد تغيير الدين لا يعاقب عليه بالقتل وفقًا للقرآن الكريم.
عقوبة المرتدين في صدر الإسلام، وتصحيح سوء فهم تاريخي
من القضايا التي تُثار غالبا للنيل من شرف نبي الإسلام وتلطيخ نصاعة تعاليمه قولهم بأنه ﷺ وخليفته الأول سيدنا أبي بكر الصديق أوقعا بالمرتدين عقوبة القتل، فيما يُعرف بحروب الردة التي بدأت في النشوب أواخر أيام النبي ﷺ. وحقيقة ما حدث أن هؤلاء المرتدين كانوا قد ارتكبوا الجرائم الشنيعة فأوقعوا بالمسلمين الظلم والقهر والقتل، وعاثوا في الأرض تمرُّدًا ونهبًا. ونتيجة لذلك، تم قتال هؤلاء المحاربين كإجراءات دفاعية رادعة ضدهم، ووفق قوله تعالى:
صدرت أوامر قتلهم كخطوة لإنزال عقوبات مشابهة لما ارتكبوه من الجرائم.(9) فالحاصل أن عقوبة القتل التي صدرت بحق المرتدين في صدر الإسلام لم تكن جزاء على ردتهم عن الدين، ولكن كانت جزاء وفاقا على ما اقترفوه من جرائم بعد ارتدادهم، من قتل وإفساد في الأرض.
الهواش:
- صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير.
- (البقرة: 257)
- مرزا غلام أحمد القادياني، «المسيح الناصري في الهند»، ص10و 12
- انظر: أمين معلوف، «الهويات القاتلة.. قراءات في الانتماء والعولمة»، ترجمة: نبيل محسن، دار الهلال، القاهرة
- (مريم: 47)
- (الشعراء: 30)
- (يس: 19)
- مرزا غلام أحمد القادياني، «أثر الردة عن الإسلام في الهند البريطانية»، مجلة مقارنة الأديان، مجلد 7 عدد 5 مايو 1908.
- مرزا مسرور أحمد، خطبة الجمعة بتاريخ 1/04/2022م، وهي منشورة في نفس عدد هذا الشهر تحت عنوان ” قَتْلُ المُرْتَدِّ، فِعْلٌ جَرَّمَهُ القُرْآنُ”. (التحرير)
- (طه: 119)
- (البقرة: 287)
- (طه: 102 – 103)