
- ما مفهوم مصطلح الإبانة؟
- ما الفرق بين الإبانة والاستبانة؟
- لماذا ذُكِر القرآن بوصفه كتابا مبينا بينما سائر الكتب بوصفها مستبينة؟
___
معنى سياق الكلام بإيجاز
يتفق كثير من اللغويين والبلاغيين المُحْدَثين على فكرة مفادها أننا ليس بوسعنا الإحاطة بدلالة الكلام، أي كلام، دون الإحاطة بالسياق الذي قيل فيه، أي الظروف المحيطة والملابسات الكائنة وقت قول ذلك الكلام. والحق أنهم محقون في قولهم هذا، فالكلام الذي نقوله، حتى إن تشابه لفظه، قد تختلف دلالته باختلاف الظرف الذي قيل فيه، مثلا: قد يقال لشخص ما: “إنك أنت العزيز الكريم!”، ويراد من هذا القول المدح، وقد تقال نفس العبارة في موقف آخر ويراد منها التقريع، نحو ما جاء في قول الله:
وفي السياقات الثقافية بعامة، يولد كل نص حاملا في ثناياه التأثيرات البيئية والموروثة لمختلف النصوص التي سبقته نشوءا في هذه الثقافة أو تلك، فلا يولد نص منعزلا عما سبقه من نصوص. وشأن مولود النصوص في ذلك كشأن مولود الإنسان، الذي يأتي إلى العالم وقد حمل ما حمل من صفات أبويه المباشرين الوراثية، ناهيك عن آبائه المتقدمين،
مدى احتياج النص القرآني إلى سياق الحال
القرآن بوصفه نصًّا من طراز فريد، دلَّت شتى الآثار على اكتفائه بذاته دون الحاجة إلى سياق خارجي لبيان مقصوده، سواء كان ذلك السياق الخارجي مقاميا (سياق الحال)، أو لغويا منفصلا عنه، كأن يُفسَّر النص القرآني في ضوء نص أو نصوص أخرى. من ذلك ما كان من قصة إسلام سيدنا عمر بن الخطاب والتي أوردها البيهقي (ت 458هـ) في «دلائل النبوة» روايةً عن عمر بن الخطاب نفسه وهو يقول:
وبقية قصة إسلام الفاروق معروفة وبروايات عدة.. فبمجرد أن قرأ عمر نصًّا قرآنيا، وحتى بمعزل عن الشيء الكثير من السياق الخارجي، إلا أن القرآن أحدث فيه التأثير المأمول، بحيث انطلق من فوره إلى النبي ﷺ مُشهرا إسلامه..
كذلك ما أورده البغوي (ت 510هـ) في تفسيره مما كان من الوليد بن المغيرة الذي يصفه العرب بريحانتهم وحكيمهم، والذي عُرِف عنه تزعُّمُه جبهة الشرك ومعاداة المسلمين بمكة، حين تلا عليه النبي ﷺ قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ … إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أخي، أعد فأعاد عَلَيْهِ، فَقَالَ:
أفلا يستوقفنا هنا قول الوليد بن المغيرة واصفا القرآن إذ سمعه من النبي ﷺ مباشرة بمعزل عن أي سياق خارجي آخر؟! لقد أحدث القرآن تأثيره المباشر في نفس سامعه، الذي سمع تلك الآيات للمرة الأولى على ما يبدو!
إن نظرة متأملة في الموقفين المذكورين، أي موقف إسلام عمر بسماع فواتح سورة طه، وموقف تأثر الوليد بن المغيرة بسماع فواتح سورة غافر، مع الأخذ في الاعتبار أن المتلقي في الحالين يتلقى النص للمرة الأولى، ويتلقاه، إن جاز التعبير، بمعزل شبه تام عن سياق الحال. بل إن موقف الوليد بن المغيرة يُعد أكثر إثارة للاهتمام، نظرا إلى أن ردة فعله بعد سماع النص القرآني ترجمها لسانه بقوله أن القرآن ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن! إن الاستدلال بهذا الموقف وحده كافٍ للقول بأن من أبرز ما يميز القرآن عن أي نص آخر أن القرآن مُبِينٌ لنفسه بنفسه دون الحاجة إلى سياق خارجي يبينه، بخلاف كلام البشر الذي مهما تفاوت في درجة إبانته، يظل مفتقرا إلى السياق المقامي بقرائنه المتنوعة.. فهذا المقال يخلص في هذه الجزئية إلى أن [درجة إبانة أي نص تتناسب عكسيا مع عدد السياقات المطلوبة لإدراك المعنى].
مع القرآن، نحن أمام مفترق طرق!
إذا ما شرعنا في بيان معنى اللفظ القرآني بتطبيق النظرية السياقية، سنجد أنفسنا أمام مفترق طرق، فهل معنى اللفظ القرآني هو استعماله في اللغة؟ ذلك الاستعمال الذي داخَلَه قدر غير بسيط من الانحراف الدلالي عن المقصود القرآني الأول؟ أم أن معناه هو الطريقة التي استُعمل بها اللفظ داخل السياق القرآني نفسه؟!
ويمكن صياغة هذا التساؤل بطريقة أخرى، وهي: هل يختلف دور السياق في فهم دلالة النصوص الأدبية بعامة عن دوره في فهم النص القرآني بوجه خاص؟! والإجابة على هذا التساؤل تفرض علينا أن نعيد النظر مجددا في وظيفة السياق، والتي هي وظيفة مساعدة للغة في الأصل، فحيث لا توجد اللغة لا يكون للسياق معنى. ودور السياق بالنسبة للغة مفهوم، وهو سد النقص الحاصل إما في مستوى بيان المتكلم أو في درجة تلقي المُخاطَب. الواضح أننا في هذا المقال نميل بقوة إلى التوجه الثاني، واضعين في الحسبان أن المعنى القرآني لا يمكن سبره إلا من خلال السياق القرآني نفسه، دون الحاجة إلى أي سياقات خارجية أخرى..
لقد جعل المسيح الموعود القرآنَ الكريم معيارا لاختبار صحة الحديث، وخاض مناظرة حول هذا الموضوع مع الشيخ محمد حسين البطالوي وهي مسجلة بعنوان «الحق، مناظرة لدهيانه»، يمكن الاطلاع على تفاصيل مجرياتها ضمن المجلد الرابع من الخزائن الروحانية. وقد دحض في هذه المناظرة القول بأن الأحاديث مبينة للقرآن، فتظل الحاجة قائمة إلى اختبار الحديث من حيث الصحة أو الضعف على محك القرآن الكريم
عرض مقارن بين القرآن وما سواه من نصوص موحاة
إن النص القرآني، مما تقدَّم، نص شديد الخصوصية على مستوى النصوص المقدسة قاطبة، فكل ما سواه من نصوص، على الرغم من إلهية مصدرها، كانت بحاجة إلى تفسيرات من خارجها، تفسيرات بسياقات خارجية أو وفق سياقات ثقافية، بينما القرآن، ذلك الكتاب المبين، حتى وإن لم يستعن قارئه بعوامل مساعدة خارج إطار سياقه الداخلي، واكتفى بآياته التي يفسر بعضها بعضا، فلن يشق عليه إدراك مقصود آياته، فهو كتاب مبين، كما صرحَّ قائله سبحانه وتعالى في ثمانية مواضع، فقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
هذا كله ناهيك عن المواضع التي وُصِفَ فيها القرآن بأنه مبين، على سبيل التلميح والإشارة، وتوخيًّا للإيجاز نورد موضعًا واحدًا، حيث يقول جل وعلا فيه:
فوصف القرآن بـ «المبين» في كل تلك المواضع المذكورة لهي ملاحظة تدعونا إلى التفكر مليًّا، لماذا القرآن حصرا دون سائر كتب الوحي الإلهي كان مستحقا للوصف بالإبانة؟! ثم ما قيمة هذا الوصف أصلا؟! وما دلالته؟! بينما على جانب آخر، وصف جل وعلا كتابًا إلهيًّا تشريعيًّا سابقًا للقرآن، وهو التوراة التي أنزلها من قبل على موسى وهارون (عليهما السلام)، بقوله:
فالتوراة كتاب مُستبين، بمعنى أنه يُستعان على فهمه وسبر دقائقه بأمور خارجة عن سياقه، أما القرآن فهو الكتاب المبين، الذي يضطلع بعضه بإبانة بعضه الآخر، فيشد بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضا ويفسره. وليس هذا فحسب، بل إن القرآن العظيم بما له من طاقة إبانته المذكورة قادر على إبانة ما سواه من سياقات كُتب سماوية ووضعية، الأمر الذي نذكره لاحقا مع شيء من التفصيل.
القرآن إذن، وعلى خلاف سائر الكتب البشرية، أو حتى الإلهية التي سبقته نزولا، هو الكتاب الأوحد الذي يبين بعضُه بعضا، فيفسر نفسه بنفسه، حتى إننا أصبحنا نألف سماع عبارات من قبيل «تفسير القرآن بالقرآن»، وهو ما لم يَتَأَتَّ لكتاب سماوي قبل القرآن العظيم.. وتفسير القرآن بالقرآن هو على حد قول ابن تيمية:
وبتعبير آخر، فإن هذا الأسلوب من أساليب التفسير، أي تفسير القرآن بالقرآن، معناه توضيح آيات القرآن بواسطة آيات أخرى وبيان مقصودها، فتكون الآية القرآنية الواحدة بمثابة المصدر والمرجع لتفسير آية أو آيات أخرى. ويُعَدُّ منهج تفسير القرآن بالقرآن من أقدم مناهج التفسير، حيث يرجع انتهاجه إلى زمن النبي ﷺ نفسه، وقد انتهج هذا النهج بعده بعض الصحابة والتابعين، وقد حظي هذا المنهج باهتمام واسع خاصة عند المفسّرين المحدثين، بحيث اتخذه بعضهم منهجًا رئيسًا، وأهم وأفضل ما استعان به الباحثون والمختصون في تفسير القرآن وعلومه في هذا المنهج توضيح الآيات المجملة بواسطة الآيات المبيِّنة، وتعيين مصداق الآية بواسطة الآيات الأخرى.
القرآن مبين لغيره، وبعض جوانب هذا النوع من الإبانة
لم تتوقف مزايا القرآن العظيمة عند حد إبانته نفسه بنفسه، بل تعدتها إلى إبانة غيره كذلك، فكان مبينا للكتب السماوية التي سبقته نزولا على من خلوا من النبيين (عليهم السلام)، ومبينا للأحاديث النبوية التي لم تدون فعليا إلا مع القرن الثاني الهجري، بعكس عملية تدوين وحي القرآن التي كانت تتم بالتزامن الفوري مع تنزيله، فلما تأخر تدوين الأحاديث النبوية كل تلك المدة، كان لزاما أن يوجد حالَ البدء في التدوين معيار يقاس عليه صحة ما دون، وكان هذا المعيار هو القرآن الكريم نفسه، حيث لم تكن حتى علوم نقد وتمييز الأحاديث الصحيحة من الموضوعة قد ظهرت بعد. وبتوقف عملية التدوين الفعلي للحديث بحلول القرن الخامس الهجري، انتقل علماء الحديث النبوي إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة نقد الأحاديث من حيث السند والمتن، مؤسسين بذلك علم مصطلح الحديث. فلو أن ما يردده أغلب الأصوليين اليوم من أن «السنة قاضية على القرآن»، بحسب تعبيرهم هم، صحيحا، ويعنون بالسنة الأحاديث الصحيحة وفق معايير مصطلح الحديث، فبأية ُسنَّةٍ يا ترى كانوا يفهمون القرآن طوال قرون مضت قبل أن تُؤسَّسَ علوم الحديث المتنوعة؟! لقد حسم النص القرآني نفسه هذه القضية سلفا فقال:
وهنا يفيد العموم بكل جلاء أنه يجب أن تردّووا حديثًا يعارض القرآن الكريم.
لقد جعل المسيح الموعود القرآنَ الكريم معيارا لاختبار صحة الحديث، وخاض مناظرة حول هذا الموضوع مع الشيخ محمد حسين البطالوي وهي مسجلة بعنوان «الحق، مناظرة لدهيانه»، يمكن الاطلاع على تفاصيل مجرياتها ضمن المجلد الرابع من الخزائن الروحانية. وقد دحض في هذه المناظرة القول بأن الأحاديث مبينة للقرآن، فتظل الحاجة قائمة إلى اختبار الحديث من حيث الصحة أو الضعف على محك القرآن الكريم(16).
الهوامش:
- 1 (الدخان: 94 – 05)
- أبو بكر البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، ط1، ج2، ص217، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988م.
- أبو محمد البغوي، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق: محمد عبد الله النمر، وآخرون، ط4، ج5، ص39، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1997م.
- (الحجر: 2)
- (المائدة: 16)
- (النمل: 2)
- (يوسف: 2)
- (الشعراء: 2-3)
- (القصص: 2-3)
- (الزخرف: 2-3)
- (الدخان: 2-3)
- (النساء: 175)
- (الصافات: 118)
- مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار، شرح مقدمة في أصول التفسير، دار ابن الجوزي، ط2، 1428هـ
- (الجاثية: 7)
- راجع: مرزا غلام أحمد القادياني، مناظرة لدهيانه، الخزائن الروحانية، المجلد4