
- لماذا علم الفلك بالذات؟
- كيف خدم علم الفلك أسلافنا أصلا؟
___
في نقله للمحاورة التي جرت بين سقراط وغلوكون، أورد أفلاطون عبارة لغلوكون يقول فيها ما تعريبه: «واضح لكل أحد أن الفلك في كل حال يحمل النفس على النظر إلى ما فوق، ويجتذبها من هذا العالم إلى العالم الآخر!»(1)، فيعقب سقراط على كلامه بقوله: «رأيي هو أن الفلك على ما يتناوله طلاب الفلسفة اليوم يحوِّل نظر النفس إلى أسفل»(2)، لعل سقراط كان يرمي بتعقيبه إلى أن دراسة الفلك مع إغفال الغاية من الوجود هي دراسة مادية لن يكون لها أي مردود روحي. الاكتشافات الضخمة الحديثة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك صدق مقولة سقراط الحكيم، فالتطور العلمي في مجال الفلك في عالم اليوم لم يُسهم في هداية العالم وإشاعة السلام، بل على العكس، أمسى الفضاء مسرحا جديدا من مسارح الحرب، في إطار ما بات يُعرف بحرب النجوم بين المعسكر الشرقي والغربي، فإلامَ الإعراض عن الغاية الأصلية من هذا العلم؟!
وعلى أية حال، قد أنبأ المولى جل في علاه عن هذا الإعراض قبل استفحاله بقرون عديدة مديدة فقال:
التحديق في لوحة سقف السماء
طالما شغل مشهد السماء المذهل عند بعض الحضارات القديمة حيزاً كبيراً في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية. فلا تزال النجوم إلى اليوم تجذب اهتمام الصغار والكبار على حد سواء. إذ يربط علم الفلك بين ماضينا ومستقبلنا. وإذا ما نظرنا إلى أسلافنا وقد شاهدوا نفس الأجرام السماوية التي نشاهدها الآن فإننا ندرك كم أولوها من اهتمام! وفي عصرنا الحديث، ننظر إلى السماء ذاتها، وإن كان ذلك بأدوات أكثر دقة، ونبني أسساً لتقنيات ومعارف جديدة، فتطور الافتتان القديم بلوحة سقف السماء خلال الليل من النظر إلى مجرة درب التبانة إلى صناعة الأجهزة المكبرة للمسافات المجهولة ومن ثم إلى إطلاق المناظير الفلكية (التلسكوبات) في الفضاء الخارجي.
علم بين العلوم
إن علم الفلك هو من أوائل العلوم، ويتضمن مراقبة الأجرام السماوية لقياس مواقعها وخصائصها. ومع تطور معرفتنا بالعالم من حولنا، بدأ العلماء في تطبيق الفيزياء لفهم علم الفلك، وهو مجال الفيزياء الفلكية. رغم أن المجالين كانا منفصلين في الماضي، إلا أن مصطلحي علم الفلك والفيزياء الفلكية يعنيان الشيء نفسه لأن علماء الفلك المحترفين يطبقون اليوم مبادئ الفيزياء والرياضيات والإحصاء في عملهم.
وببساطة يمكننا القول بأن علم الفلك والفيزياء الفلكية يعنيان بدراسة الضوء. ومن الممكن مراقبة جزيئات الضوء (الفوتونات) التي تسمى الوحدات الضوئية بطول موجاتها المتعددة، من موجات الراديو ذات الطاقة المنخفضة إلى الأشعة السينية عالية الطاقة وأشعة جاما. يبدأ علماء الفلك المحترفون تدريبهم بدراسة سلوك الفوتونات عند مرورها بالغاز في رحلتها تجاه كوكب الأرض. يمكننا التعرف على مجموعة واسعة من الأجرام الفلكية بما في ذلك النجوم والكواكب والمجرات والسوبرنوفا (انفجارات نجمية هائلة) من خلال مراقبة الفوتونات التي تنبعث منها بأطوال موجية مختلفة. وإن الأدوات التي يستخدمها علماء الفلك للحصول على هذه الملاحظات تبدأ بمناظير أرضية بحجم حافلة مدرسية وتنتهي بمناظير فضائية.
فالتطور العلمي في مجال الفلك في عالم اليوم لم يُسهم في هداية العالم وإشاعة السلام، بل على العكس، أمسى الفضاء مسرحا جديدا من مسارح الحرب، في إطار ما بات يُعرف بحرب النجوم بين المعسكر الشرقي والغربي، فإلامَ الإعراض عن الغاية الأصلية من هذا العلم؟!
كيف خدم علم الفلك الأسلاف؟!
لكن قبل أن نتعمق فيما ستأخذنا إليه دراسة علم الفلك، يجب أن نبدأ بما قدمته لنا إلى الآن. لقد ساهمت حضارات مختلفة حول العالم في فهمنا للكون. ففي عام 1800 قبل الميلاد، احتفظ البابليون بوثائق مفصلة عن تحركات الأجرام السماوية، بينما افترض عالم الفلك الهندي القديم أريابهاتيا (Aryabhatiya) أن أشعة الكواكب والقمر تعكسان الضوء من الشمس. وفي مصر في عصر الدولة البطلمية، نجح إراتوسثينس في حساب محيط الأرض مفترضا شكلها الكروي. وقبل ذلك في مصر القديمة أيضا، استُخدمت ملاحظات عن الأجرام السماوية لتحديد مكان بناء الأهرامات والتنبؤ بفيضان نهر النيل. وفي الصين أنشأ عالم الفلك الصيني القديم شي شن (Shi Shen) أطلسا للنجوم عُرف بـ «أطلس شي للنجوم» وهو وهو الأقدم من نوعه والأكثر تفصيلاً. وفي بلاد فارس الإسلامية، وصف الفلكي آزوفي (Azophi) الأبراج ومجرة أندروميدا المجاورة لنا بالتفصيل في كتاب النجوم الثابتة، بينما صنع أبو محمود حميد بن خضر الخوجندي أول سكستانت (sextant) أو ما يسمى بآلة السُّدسية لقياس الميل المحوري للأرض.
هل نحن وحدنا؟!
سؤال يلح على عقولنا الساذجة منذ الطفولة، وما زال يفرض نفسه علينا حتى بعدما تخطينا سن الطفولة إلى الشبا والكهولة، التساؤل هو: هل من حياة على كواكب أخرى غير كوكب الأرض؟! أيمكن أن توجد في جنبات الكون المتناهي حياة من نوع ما؟! كتب الفيلسوف اليوناني إيبيكوروس(Epicurus)، في القرن الثالث قبل الميلاد أن «هناك عوالم لا نهائية تشبه عالمنا أو تختلف عنه…». وفي الصين أعلن الحكيم Teng Muتين مو في القرن الثالث عشر أن «الفضاء الخارجي يشبه المملكة وأرضنا وسماءنا ليستا إلا شخص واحد في تلك المملكة». كما افترض الفيلسوف وعالم الفلك الإيطالي برونو (Bruno) وجود كواكب خارج النظام الشمسي في كتابه «الكون والعوالم اللانهائية» الذي ألفه عام 1584، حيث ذكر فيه أن هناك عددا لا يحصى من الشموس، وعددا لا يحصى من الكواكب كالأرض كلها تدور حول شموسها تماماً ككواكب نظامنا.. تلك العوالم التي لا تعد ولا تحصى ليست أسوأ من أرضنا ولا هي غير مأهولة».. والمذهل في الأمر أن هذه الادعاءات التي تزعم وجود العديد من الكواكب في جميع أنحاء الكون قد تم إثبات صحتها فقط منذ عقدين من الزمن من خلال اكتشاف أول كوكب خارج النظام الشمسي.
إن فكرة وجود الحياة خارج كوكب الأرض هي فكرة عابرة للثقافات، منذ قرون، إن لم نقل آلاف السنين، فعلى سبيل المثال، عبَّر عالم الفلك المسلم أُلُغ بيك (Ulugh Beg) في القرن الخامس عشر عن هذه الفكرة مستشهدا بما جاء في القرآن الكريم:
بينما نعلم اليوم بإحصائية موثوقة أن عدد الكواكب في الكون يفوق عدد النجوم، فإن تحديد ما إذا كان هناك حياة على أحد هذه الكواكب لا يزال بعيد المنال. وسنبدأ فقط بحل مسألة صلاحية الحياة على أي كوكب من خلال الوسائل المستقبلية كتلسكوب جيمس ويبر الفضائي ((JWST، الذي خلف تلسكوب هابل (Hubble)، والمقرر إطلاقه في عام 2021. سنتمكن بفضل تلسكوب ويبر من الحصول على بيانات دقيقة بما يكفي لتمييز الأغلفة الجوية للكواكب الخارجية الأصغر حجماً والشبيهة بالأرض لاستنتاج ما إذا كان بإمكانها استضافة أشكال الحياة خارج كوكب الأرض. وبالتالي، فإن التطورات الحديثة في التكنولوجيا ستقربنا من الإجابة على سؤال ما برحنا نطرحه منذ مئات السنين.
بالإضافة إلى تقديم إجابات على الأسئلة القديمة، فإن التطورات في علم الفلك تقودنا أيضاً إلى اتجاهات جديدة وممتعة. ففي عام 2015، اكتشف علماء الفلك موجات الجاذبية الأرضية لأول مرة. تنبعث هذه التموجات في بنية الزمكان عندما تندمج الأجسام الضخمة، مثل الثقوب السوداء، وتطلق الطاقة. ويمثل هذا الاكتشاف بداية حقبة جديدة في علم الفلك حيث يمكننا من خلاله مراقبة وفهم بعض أكثر الظواهر الفلكية غموضاً من خلال وسيلة أخرى غير الضوء.
أخيرا، وبالعودة إلى المقتبس من محاورة جمهورية أفلاطون، والذي افتتحنا به هذا المقال، والذي يبرز كيف لعلم الفلك إذا ما أحسنا تناولهأن يكون بابا إلى الرقي الروحي
الكون أصبح في متناولنا
منذ أربع سنوات فقط، تم اكتشاف كوكب أكبر قليلاً من الأرض يدور حول نجم «القنطور الأقرب Proxima Centauri» وهو أقرب نجم إلى الأرض. وهذا الكوكب قريب بما يكفي من الأرض لدرجة لبناء مركبة فضائية وإرسالها إليه وإعادتها إلينا خلال حياتنا. لقد توصلت أكثر من فريق أبحاث إلى تصميمات إبداعية وفعالة من حيث التكلفة لمركبة فضائية يمكن إرسالها إلى أقرب كوكب مجاور لنا.
علاوة على ذلك، مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2019 بشكل مشترك لكل من جيم بيبلس من جامعة برينستون لعمله في تطوير النظرية الكونية وميشيل مايور و ديديار كويلوز في مرصد جنيف الفلكي لاكتشاف أول كوكب خارج المنظومة الشمسية يدور حول نجم شبيه بالشمس. واكتشاف ملحوظ من حيث إنه لم يتطلب تقنية عالية أو أداة جديدة، بل تم التوصل إليه باستخدام تلسكوب صغير الحجم في مرصد مقاطعة هاوت الفلكي في جنوب فرنسا.
لقد تغير إدراكنا للكون بشكل كبير بعد تساؤلات وتاملات وأبحاث استمرت منذ أكثر من ألف عام مضت ، وعلى الرغم من كل تلك الاكتشافات التي توصلنا إليها إلا أنها لم تشف غليلنا بعد، ولم ترو ظمأنا إلى المزيد من فك طلاسم الكون الفسيح وأسراره لكن الهدف الأساسي لهذه الاستفسارات بقي كما هو: وضع الوجود البشري في سياق التوسعات الزمانية والمكانية للكون. وإن محرك هذه الرغبة هو فضول الإنسان ورهبته.
أخيرا، وبالعودة إلى المقتبس من محاورة جمهورية أفلاطون، والذي افتتحنا به هذا المقال، والذي يبرز كيف لعلم الفلك إذا ما أحسنا تناولهأن يكون بابا إلى الرقي الروحي، الأمر الذي أكدت عليه آيُ الذكر الحكيم:
الهوامش:
- جمهورية أفلاطون، الكتاب السابع (المُثُل)
- نفس المرجع السابق
- (الأنبياء: 33)
- (الشورى: 30)
- (ق: 7)