- كيف تمثل سورة “الكافرون” القاعدة الذهبية التي توجه المسلمين للحفاظ على هويتهم الروحية وسط دعوات الاندماج؟
- هل يشكل الفصل الواضح بين العقائد أي إضرار بمبدأ التأكيد على حرية الاعتقاد؟
- كيف تدعم نتائج الدراسات النفسية الحديثة المنهج القرآني في ضرورة وضوح القيم الشخصية ووضع الحدود، باعتبارها عوامل رئيسية لتعزيز الصحة النفسية والرضا عن الحياة؟
- ما الفارق بين الاندماج الإيجابي، وبين “الذوبان” السلبي؟
____
مسألة الهوية
حين تُطرح مسألة الهوية على مائدة النقاش نجد أنها سر العديد من النزاعات الإثنية في جميع أنحاء العالم، ولا فرق هنا بين العالم الغربي المتقدم والعالم الثالث النامي، فمسألة الهوية قاسم مشترك، ومثار قلق وتخوف واضحين. كل هذا بسبب الرغبة المتأصلة لدى كل شعب في حفظ ملامح هويته القومية العنصرية الزائلة لا محالة عاجلا أم آجلا.. فهنا نروم تبيان معنى الهوية الحقيقية التي تتسامى على مجرد العرق والقومية الجاهلية. إن الحديث الدائر سيكون حول الهوية الروحية التي ثبت أن بقاءها وصيانتها هو ضامن العيش الكريم، الذي يتجاوز حياة الجسد إلى الحياة الروحية السامية.
سورة «الكافرون» والقاعدة الذهبية
نظرا إلى كون قضية الهوية مثار قلق وتخوف واضحين، فهي أمر دائم التحدي. وبالنسبة لنا كمسلمين، فإن هويتنا على المحك في البلدان الغربية، لا سيما إزاء الدعاوى التي يطلقها البعض بحجة الاندماج، زعمًا بأن احتفاظ المسلمين بهويتهم الإسلامية من شأنه إحداث خلل في التجانس المجتمعي.(1)
وفي زمنٍ تتسع فيه مساحات الغموض الأخلاقي، يمدنا القرآن الكريم بإرشادات واضحة تضمن لنا السير السليم في مجاهل عصر الحداثة الراهن، ففي سورة «الكافرون» يقول الله تعالى:
هذه السورة المكيّة نزلت قبل الهجرة، وتحتل مكانة مركزية في الخطاب القرآني لما تحمله من رفضٍ قاطع للشرك، وإصرارٍ مطلق على التوحيد. فقد جاءت ردًّا حاسمًا على مشركي مكة الذين عرضوا على النبي ﷺ نوعًا من التوفيق أو التسوية بين عبادة الله وعبادة الأصنام،
إن أسلوب السورة الصارم ينفي إمكانية مسايرة المسلمين لعقائد المشركين تحت أي ضغط أو إغراء. وهو موقف يُظهر بجلاء جوهر الإسلام، التوحيد الخالص لله تعالى.
إن الحكمة العملية التي نستقيها من هذه السورة هي الشجاعة في إعلان المبادئ دون عداء أو تنازل، مع مراجعة حدودنا القيمية بما يوافق أصول الإسلام، وممارسة الحوار مع المختلفين باحترام وموضوعية، مقتدين بالمنهج القرآني في التعايش.(4)
الحفاظ على الهوية الإسلامية في المجتمعات الغربية قد يكون محفوفًا بالصعوبات؛ إذ كثير من الممارسات الإسلامية تختلف عما يُعَدّ مألوفًا هناك. فمثلاً: الامتناع عن السهرات المختلطة بعد العمل، أو تجنّب الاختلاط الحر مع الجنس الآخر، أو رفض حضور الحفلات التي يُقدَّم فيها الخمر والمخدرات، أو الالتزام بالزيّ المحتشم، كلها خيارات إيمانية قد يُنظر إليها بوصفها غريبة أو غير مفهومة في السياق الاجتماعي الغربي. هذه التحديات تستلزم من المسلم صلابة نفسية وقوة قناعة، مع موازنة دقيقة بين قيمه الإيمانية ومتطلبات البيئة المحيطة. والتمسك بهذه الهوية، في مثل هذه السياقات، هو في حقيقته شهادة عملية على صدق الانتماء وعمق الالتزام. وقد بينت بحوث في علم النفس أنّ وضوح الحدود الشخصية والقيم المستقرة يعزز مناعة الفرد النفسية، ويحافظ على توازنه وصحته الذهنية.
العلم الحديث يُقِرُّ
في هذا العصر الذي تنامت فيه العلاقات الاجتماعية وتعقدت، تكتسب تعاليم سورة «الكافرون» دلالة جديدة تنضاف إلى الدلالات السالفة وتنبني عليها. وقد أظهرت دراسة نفسية معاصرة نشرتها مجلة Frontiers المتخصصة في علم النفس، أنّ وضوح القيم الشخصية يسهم في تعزيز الرضا عن الحياة، وأن المرونة العاطفية والذكاء الوجداني يعززان هذا الأثر.(5)
وبالنسبة للمسلم، فإن هويته تتمحور في وعيه بربه خالقًا ومُدبّرًا، فهي هوية قائمة على التوحيد، والالتزام بالقرآن والسنّة، والتحلي بالقيم الإسلامية الكبرى كالعدل، والتواضع، والرحمة، والاستقامة. وهذه القيم ليست مجرد نموذج حالم، بل هي نموذج واقعي وإطار عملي يشكّل حياة المسلم الروحية والأخلاقية والاجتماعية. ولقد أعلن القرآن الكريم مبدأ تميز هوية المسلم عمَّن سواه من الناس، وهذا التميُّز ليس بدوافع عنصرية بغيضة، وإنما بدوافع أخلاقية روحية بحتة، فعلى سبيل المثال يوجه الله تعالى نساء النبي ﷺ بوصفهن المثال الذي ينبغي أن تحتذيه كل امرأة وفتاة مسلمة، فيقول تعالى:
حماية الحدود الشخصية
الحفاظ على الهوية الإسلامية في المجتمعات الغربية قد يكون محفوفًا بالصعوبات؛ إذ كثير من الممارسات الإسلامية تختلف عما يُعَدّ مألوفًا هناك. فمثلاً: الامتناع عن السهرات المختلطة بعد العمل، أو تجنّب الاختلاط الحر مع الجنس الآخر، أو رفض حضور الحفلات التي يُقدَّم فيها الخمر والمخدرات، أو الالتزام بالزيّ المحتشم، كلها خيارات إيمانية قد يُنظر إليها بوصفها غريبة أو غير مفهومة في السياق الاجتماعي الغربي. هذه التحديات تستلزم من المسلم صلابة نفسية وقوة قناعة، مع موازنة دقيقة بين قيمه الإيمانية ومتطلبات البيئة المحيطة. والتمسك بهذه الهوية، في مثل هذه السياقات، هو في حقيقته شهادة عملية على صدق الانتماء وعمق الالتزام. وقد بينت بحوث في علم النفس أنّ وضوح الحدود الشخصية والقيم المستقرة يعزز مناعة الفرد النفسية، ويحافظ على توازنه وصحته الذهنية.
الركيزة هي الحوار البنَّاء
يُعين وضوحُ التواصل المسلمَ على تجنّب سوء الفهم وتخفيف الضغوط الاجتماعية. فالتصريح بالقيم الإسلامية – مثل الامتناع عن شرب الخمر، أو المواظبة على الصلاة، أو الالتزام بالحشمة – يضع حدودًا واضحة مع الآخرين ويمنع الارتباك الداخلي. ورغم أن إعلان هذه الحدود في البداية قد يبدو صعبًا أو مثيرًا للحرج الاجتماعي، إلا أن التكرار مع الاحترام المتبادل يرسّخ التفاهم ويخفف من الصدامات المستقبلية. وهذا هو المقصود من روح السورة؛ فهي لا تحرّض على عداوة، بل ترسّخ ضرورة الفصل بين المؤمنين وغيرهم في شؤون العقيدة. وعبارة «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» تمثل قاعدة ذهبية في الحوار غير العدائي، قائمة على الاحترام المتبادل وحرية الاعتقاد(7)
وقد ركزت بعض الدراسات في مجال علم النفس الاجتماعي وعلم اللغة الاجتماعي على تحليل الخطاب في سياق المجتمعات العربية. وتوصلت إلى أن الغموض قد يُستخدم أحيانًا كوسيلة لتجنب المواجهة المباشرة، لكنه في المقابل يُسبب ضغطًا نفسيًا هائلاً، حيث يترك الأمور عالقة وغير محسومة، وعلى العكس تماما، فإن الحوار الواضح والمهذَّب، حتى لو كان حول أمور خلافية، ينشر لدى الطرفين المتحاورين شعورًا بالسيطرة على الموقف ويُسهّل الوصول إلى حلول، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى تعزيز العلاقات الإنسانية، وهذا ما يتناغم مع التوجيه القرآني بالجدال بالتي هي أحسن، حيث يقول تعالى:
ليست دعوة إلى الانغلاق
إنّ ذوبان المرء المسلم في مجتمعات المهجر، لا سيما حين يكون ذلك الذوبان ميالا إلى التغريب دون وعي أو تمييز، فلن يكون سوى ستارٍ خادعٍ يُلقى على جوهر الأمة، بهدف طمس شخصيتها ومحو هويتها. فالحذر من هذه التيارات الجارفة التي تسعى إلى محو موروثنا الروحي والتربوي.
إن هذه ليست دعوة إلى العزلة والانكفاء على الذات، ولا إلى تكوين مجتمعات «غيتو» منغلقة على أهلها، كمجتمعات اليهود في دول أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، بل هي دعوة إلى حصانة فكرية تحمي أجيالنا من التشويه والتدمير القِيَمِي الذي تسعى إليه القوى الدجالية التي لا تفتأ تنفث سمومها عبر كل وسيلة، ساعيةً إلى اختراق العقول والتأثير في الطبائع، فما تسعى إليه هو سلخ الذات من خالقها واقتلاعها من جذورها.
إن الجيل المتزن هو ذلك الذي لا ينساق خلف التقليد الأعمى، بل يزن الظواهر بميزان قناعاته التربوية والإيمانية، وبما فُطر عليه من حب للفضيلة وبغض للرذيلة. إنه جيل يتسلح بالعلم والمعرفة، ليبني سدًا منيعًا يصدّ مغريات التغريب.
نحن نفهم أن لا أحد يحبذ حياة العزلة، نحن جميعاً نؤمن بالاندماج، بل إن الاندماج المحمود هو ذلك الذي تبقى فيه هويتنا الروحية متميزة، وانطلاقًا من هذا الوضع فالإسلام هو الراعي الرسمي للاندماج البناء، يقول تعالى:
فلا غضاضة إذن في الاندماج، شريطة أن نعد له عدته المتمثلة في هوية روحية قوية معتزٍّ بها، بغير هذا يكون الاندماج سيلًا جارفًا مهددًا بقاءنا. لقد عالج المسيح الموعود هذه القضية الحساسة في كتابه القيِّم «سفينة نوح»، حيث قال :
الهوامش:
- فهيم يونس القرشي، ماذا عن هويتنا الروحية، مجلة التقوى، عدد فبراير 2022
- (الكافرون: 1–6)
- أبو الحسن الواحدي النيسابوري، أسباب النزول، تحقيق: عصام الحميدان، ط2، ص 467، دار الإصلاح، الدمام، ١٤١٢هـ – ١٩٩٢م
- Sana Maryam Idrees, How insights from Surah al-Kafirun can help us navigate the modern world,
- Aiko Murata & Others, The balance of intrapersonal, interpersonal, and extra-personal values and its relationship to life satisfaction and resilience in Japan and the United States
- (الأحزاب: 33)
- Sana Maryam Idrees How insights from Surah al-Kafirun can help us navigate the modern world
- (العنْكبوت: 47)
- (الحجرات: 14)
- مرزا غلام أحمد القادياني، سفينة نوح، الترجمة العربية، الطبعة الحديثة، ص32، الشركة الإسلامية المحدودة،