جوانب من تشريعات الإسلام على هامش سيرة حمزة بن عبد المطلب
- ما قصة إسلام حمزة (رض)؟
- ما ظروف اشتراك حمزة في أول قتال بين المسلمين والمشركين؟
- ماذا كان دور حمزة في معاقبة قبائل اليهود؟
- كيف تلقى النبي (ص) والمسلمون خبر استشهاد حمزة (رض).
____
خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز
الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 30/12/2022م
في مسجد مبارك، إسلام آباد ببريطانيا
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يوْم الدِّين * إيَّاكَ نعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ ، آمين.
كنتُ قلتُ في نهاية ذكر سيدنا أبي بكر أن ذكر صحابة بدر انتهى الآن، ولكن بعض الصحابة الذين قد تناولت ذكرهم سابقا وصلتني بعض الأشياء أو بعض التفاصيل عنهم التي سأذكرها في وقت من الأوقات أو سيتم إضافتها عند النشر والطباعة. يكتب إلي بعض الناس أنهم استفادوا كثيرا بالاستماع لهذا التاريخ، وأبدوا رغبتهم في أن تُذكر هذه الأشياء في الخطب أيضا، لذا رأيتُ من المناسب أن أبينها في الخطب لكي يعلم عنها الناس ويستمع إليها أكبر عدد منهم.
باختصار، أول ذكر بهذا الصدد لحضرة حمزة ، كان عم النبي . وكان النبي يحبه للغاية كما يتبين من قوله في مناسبات عدة، وكذلك من ردة فعله حين بلغه خبر استشهاد حمزة . ويمكن أن تتكرر بعض الأشياء إجمالا في هذا الذكر.
عن حمزة بن عبد المطلب وذريته
من الروايات الواردة في حب النبي لحمزة، ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: وُلد لرجل منا غلام فقالوا: ما نسميه؟ فقال النبي : «سموه بأحب الأسماء إلي حمزة بن عبد المطلب.» (1)
ورد عن أزواج حمزة وأولاده في الطبقات الكبرى أن إحدى أزواجه هي ابنة الملة بن مالك من الأوس التي أنجبت له يعلى وعامر وكان حمزة يكنى بأبي يعلى باسم ابنه يعلى. وزوجة حمزة الثانية هي خولة بنت قيس الأنصارية التي أنجبت له عمارة وقد كان يكنى به أيضا. وتزوج من سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس ووُلدت منها أمامة بنت حمزة، وهي أمامة نفسها التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد بن حارثة، وأراد كل واحد منهم أن تكون عنده، فقضى بها رسول الله لجعفر من أجل أن خالتها أسماء بنت عميس كانت عنده. وقد كان ليعلى بن حمزة أولاد، عمارة والفضل والزبير وعقيل ومحمد، درجوا فلم يبق لحمزة بن عبد المطلب ولد ولا عقب.
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ أُمَامَةَ بِنْت حمزة؟!
قد ذكرتُ آنفا الاختصام الذي حدث بين علي وجعفر وزيد بن حارثة في أمامة بنت حمزة، ورد تفصيله في صحيح البخاري كالتالي:
تنحل هذه القضايا الصغيرة أيضا بذِكر هذه الأحداث، في بعض الأحيان تُرفَع القضايا في دار القضاء عن البنات، لماذا تذهب البنت إلى خالة أو جدتها من الأم، فتنحل بذكر مثل هذه الوقائع.
إسلام حمزة
ورد في الروض الأُنُف عن إسلام حمزة :
عن عمار بن أبي عمار أن حمزة بن عبد المطلب قال: يا رسول الله أرني جبريل على صورته. قال: إنك لا تستطيع أن تراه. قال: بلى، فَأَرِنِيه. قال: فاقعد. فقعد فنزل جبريل على خشبة كانت في الكعبة يلقي المشركون عليها ثيابهم إذا طافوا. فقال النبي : ارفع طرفك فانظر. فرفع طرفه فرأى قدميه مثل الزبرجد الأخضر فخر مغشيا عليه (4). والزبرجد حجر كريم يشبه الزمرد.
ركب عمير خيله وطاف حول المسلمين فرأى في هيئة المسلمين جلالا وعزما وعدم المبالاة بالموت بحيث عاد مرعوبا للغاية، وقال لقريش: لم أر أي قوة دعم وراءهم ولكن «رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع» حين سمعت قريش ذلك نشأ فيهم اضطراب. وكان سراقة بن مالك، الذي جاء كضامن لهم، ارتعب لدرجة أنه هرب من حيث أتى، وعندما أراد الناس كبحه، قال: إني أرى ما لا ترون
أول غزوة للنبي وصدور الإذن بالقتال
خرج رسول الله من المدينة مع جماعة من المهاجرين إلى الأبواء في صفر العام الثاني للهجرة، واشترك في هذه الغزوة حمزة ، وكان لواء النبي مع حمزة ، وكان أبيض، واستعمل على المدينة أبا سعد وفي رواية سعد بن عبادة ، لم يقع القتال، حيث وادعته فيها بنو ضمرة وهي أول غزوة غزاها النبي ويقال لها غزوة ودان أيضا.
كتب حضرة مرزا بشير أحمد في سيرة خاتم النبيين : الإذن بالجهاد بالسيف قد نزل في شهر صفر من العام الثاني للهجرة. لما كانت هناك حاجة ماسة لاتخاذ إجراءات فورية للحفاظ على المسلمين من مخططات قريش الدموية ومكايدهم الخطيرة، لأجل ذلك خرج النبي من المدينة في هذا الشهر نفسه مع جماعة من المهاجرين. وقبل خروجه جعل سعد بن عبادة رئيس الخزرج أميرًا على المدينة. سلك النبي طريق مكة التي كانت في جنوب غرب المدينة حتى وصل موضعًا يسمى «ودان»، كان بنو ضمرة يسكنون هذه المنطقة، وهم فرع من بني كنانة وهكذا كانوا أبناء عمومة قريش. تكلم النبي مع رئيس بني ضمرة في هذا المقام وعقدا فيما بينهما معاهدة اتفقا عليها بشروط تالية: أن بني ضمرة يرتبطون بعلاقات الصداقة مع المسلمين، وأنهم لن يعينوا عدوًّا على المسلمين، وإذا دعاهم النبي لنصر المسلمين أجابوه.وفي المقابل تعهد النبي من طرف المسلمين أن يرتبطوا بعلاقات الصداقة مع بني ضمرة وينصروهم عند الحاجة. لقد حُرّرت هذه المعاهدة ووقع الفريقان عليها، ثم انصرف النبي إلى المدينة بعد غيبته عنها خمس عشرة ليلة. تسمى غزوة ودان بغزوة الأبواء أيضا لأن منطقة ودان قريبة منموضع الأبواء حيث توفيت والدة النبي . يقول المؤرخون أن النبي كان يقصد إضافةً إلى بني ضمرة قريشا أيضا. ويتضح من هنا أن مهمته هذه كانت هادفة إلى إفشال خطط قريش الخطيرة والحيلولة دونها، وكان قصده من خلال هذه الغزوة إزالة ذلك التأثير السام والخطير الذي كانت قوافل قريش تلقيه في قلوب قبائل العرب ضد المسلمين، وحيث كانوا يقومون في القبائل بدعاية خطيرة ضد المسلمين مميجعلهم عُرضة لأوضاع خطيرة. باختصار، كان حمزة يحمل لواء النبي في هذه الغزوة.
في جمادى الأولى من العام الثاني للهجرة بلغ النبيَّ خبرٌ عن قريش مكة، فخرج من المدينة مع جماعة من المهاجرين يبلغ عددهم مائة وخمسين أو مائتين، وجعل أخاه من الرضاعة أبا سلمة بن عبد الأسد أميرًا في غيابه. وفي هذه الغزوة أيضا حمل حمزةُ بن عبد المطلب لواء رسول الله الأبيضَ. في هذه الغزوة وصل النبي بعد أن دار يمينا وشمالا إلى مكان قريب من ساحل البحر يدعى العشيرة. ومع أنه لم يقع فيها قتال مع قريش إلا أنه أبرم مع قبيلة بني مُدلج معاهدة على الشروط نفسها التي عقد بها معاهدة مع بني ضمرة، ثم رجع.
وقد ذكرتُ من قبل أحاديث مختلفة عن المبارزة في الحرب أي القتال الفردي في غزوة بدر. لقد كتب مرزا بشير أحمد تفصيله كالتالي:راءى الجيشان ، فظهرت قدرة الله بشكل عجيب، إذ كان ترتيب الجيوش في ذلك الوقت بحيث بدا لقريش عدد المسلمين أكثر من العدد الفعلي بل ضعفه، مماقذف الرعب في قلوب قريش، في حين بدا للمسلمين عدد قريش أقل من العدد الفعلي، مما شجَّع المسلمين، كان أهل قريش يريدون معرفة العدد الفعلي لجيش المسلمين لكي تتقوى قلوبهم، ولذلك بعث رؤساء قريش عمير بن وهب ليطوف بفرسانه حول جيش المسلمين ويقدر عددهم، ويتحرى عما إذا كانت قوة دعم تختبئ وراءهم، فركب عمير خيله وطاف حول المسلمين فرأى في هيئة المسلمين جلالا وعزما وعدم المبالاة بالموت بحيث عاد مرعوبا للغاية، وقال لقريش: لم أر أي قوة دعم وراءهم ولكن «رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع» حين سمعت قريش ذلك نشأ فيهم اضطراب. وكان سراقة بن مالك، الذي جاء كضامن لهم، ارتعب لدرجة أنه هرب من حيث أتى، وعندما أراد الناس كبحه، قال: إني أرى ما لا ترون. وعندما سمع حكيم بن حزام رأي عمير ذهب إلى عتبة بن ربيعة خائفا وقال له يا عتبة، إنما تريد أن تأخذ من محمد ثأر عمرو بن الحضرمي حليفك، ألا يمكن أن تؤدي ديته وترجع بقريش، وبذلك تُذْكَرُ بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ، فقال عتبة فورا وهو نفسه كان خائفا: نعم، أنا موافق، إن هؤلاء المسلمين في النهاية أقرباؤنا فليس من الجيد أن يرفع الأخ سيفه على أخيه والأب على ابنه. فاذهب إلى أبي الحكم (أبي جهل) وبلغه بهذا الرأي. وأما عتبة نفسه فقد امتطى ناقته وأخذ يُشيع بين الناس أن مقاتلة الأقارب ليست بالأمر الصائب فيجب أن يعودوا ويتركوا مواجهة محمد ( ) للقبائل الأخرى ويروا النتيجة، ثم إن قتال هؤلاء المسلمين ليس سهلا هينا، ومهما وصفتَني بأني جبان، ولست بجبان، لكنني أرى هؤلاء يريدون شراء الموت. حين رأى النبي عتبةَ من بعيد قال إذا كان أحد من جيش الكفار يتحلى بنبل فهو راكب هذا الجمل الأحمر، إذا قبلوا ما يقول كان خيرا لهم. لكن حكيم بن حزام حين جاء إلى أبي جهل وقدم إليه هذا الاقتراح -ومتى كان فرعون الأمة هذا يقبل هذه الأمور- قال: إذن، يرى عتبة مقابله أقاربه، ثم دعا أخا عمرو الحضرمي عامرَ الحضرمي وقال له انظر ما يقول حليفك عتبة، وقد رأيتَ ثأرك بعينك. فاستشاط عامر غضبا ومزق ثيابهوراح يرفع عقيرته بالصراخ بحسب العادة القديمة في العرب، واعمراه واعمراه. وهذا النداء في الصحراء أضرم لهيب الثأرفي صدور قريش وبدأ وطيس الحرب يحمى بشدة. باختصار إن لوم أبي جهلأضرم النار في قلب عتبة، ثم خرج عتبة مع أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة بحسب العادة السائدة. فخرج إليهم الأنصار لكن النبي نهاهم وقال: قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة. وكان هؤلاء الثلاثة من أقارب النبي الأعزة، وكان يريد أن يتقدم إلى الخطر بأقاربِه أولا. وفي الطرف الآخر حين رأى عتبةُ وغيره الأنصار قالوا لا نقيم لهؤلاء وزنا، فليخرج إلينا نظراؤنا. فتقدم إليه حمزة وعلي وعبيدة، وتعرفوا على بعضهم البعض أولا بحسب العادة السائدة، ثم بارز عبيدةُ بن الحارث بن عبد المطلب الوليدَ وبارز حمزةُ عتبةَ وبارز علي شيبةَ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا خصمَيهما أن قتلاهما، واختلف عبيدة والوليد بن عتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه، وكرَّ حمزة وعلي على الوليد بن عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة إلى الخيمة لكنه لم يقاوم الجروحَ واستشهد في طريق العودة من بدر. وكان حمزة قد قَتل أحد زعماء قريش طعيمة بن عدي أيضا.
نموذج طاعة الصحابة حال تحريم الخمر
هناك رواية أن سيدنا حمزة قد قتل ناقتَي سيدنا علي في حالة السكر، وكان ذلك قبل تحريم الخمر. وتفصيل ذلك في صحيح البخاري
فقد قال في نفسه أن في هذه الحالة من الأفضل ألا يكلمه، أما لاحقا حين حُرمت الخمر فلم يقتربوا منها قط، فكان معيار استجابة الصحابة y لأوامر الله حيث كسروا جرار الخمر فور سماع تحريمها، ولم يقولوا: سنتخلى عنها لاحقا تدريجا، كما يقول الناس في العصر الراهن، حيث يتعودون على تناول المسكرات وهو ممنوع في الإسلام، ثم يقولون أمهلونا سنتركها رويدا رويدا. على كل حال قد ظهر هذا الحدث في ذلك الوقت وبعد ذلك ارتفعت معايير تضحياته بانتظام، ومن المؤكد أن سيدنا حمزة وجد في نفسه ندما على قوله هذا.
عقوبة قبائل اليهود
كان سيدنا حمزة متقدما في مهمة بني قينقاع أيضا التي حصلت بعد غزوة بدر، وفي هذه الغزوة أيضا كان سيدنا حمزة حامل لواء النبي وكان لونه أبيض. وكتب سيدنا مرزا بشير أحمد تفصيل ذلك كالتالي:
حين جاء رسول الله مهاجرا من مكة إلى المدينة كانت في المدينة ثلاث قبائل لليهود، وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فوقَّع النبي فور وصوله إلى المدينة عقود الصلح والسلام معهم ووضع الأساس للسكن المشترك بأمن وسلام. كان من واجب الفريقين بمقتضى العقد أن يحافظوا على أمن المدينة، وإذا هاجم المدينة عدوٌّ من الخارج فليقاوموه متحدين. في الأوائل تقيَّد اليهود مع هذا العقد وعلى الأقل لم يبدأوا الخصام مع المسلمين في ظاهر الأمر، لكنهم حين رأوا أن المسلمين يحرزون الاقتدار والسلطة تغيرتْ تصرفاتهم وعقدوا العزم على منع قوة المسلمين المتزايدة، ومن أجل ذلك اتخذوا كل نوع من التدابير الشرعية وغير الشرعية، حتى لم يتورعوا عن بذل الجهود لخلق الشقاق والفرقة والحرب الداخلية في المسلمين. فقد ورد في رواية أن كثيرا من أفراد الأوس والخزرج كانوا جالسين في مكان يتكلمون فيما بينهم بحب ووفاق فوصل إليهم بعض اليهود المثيرين للفتن، ليذكروا الحديث عن يوم بعاث،وكان يوما عصيبا إذ نشبت فيه معركة بين هاتين القبيلتين قبل الهجرة بسنين، وكان قد قُتل فيها الكثيرون من كلتا القبيلتين. فبذكرهذا اليوم ثارت ثائرة ذوي الطباع الحادة وتذكروا ذكريات من الماضي ومثلت أمامهم مشاهد العداوة السابقة، مما أدى إلى تبادل الطعن والشجار وسل بعضهم السيوف ضد البعض. وصل الخبر إلى النبي فجاء إلى هناك بجماعة من المهاجرين، وهدَّأ الفريقين ثم لامهم على العودة إلى طريق الجاهلية رغم وجوده فيهم وعدم شكرهم لنعمة الله، على أنه جعلهم إخوانا ببركة الإسلام، فتأثر الأنصار بهذه النصيحة كثيرا حيث دمعت عيونهم وتابوا عن تصرفهم هذا وتعانقوا. فلما انتهت معركة بدر ومكَّن الله المسلمين رغم قلة عددهم وعتادهم من الانتصار الواضح على الجيش الكبير، حيث هلك كبار زعماء مكة، اشتعلت نار حسد يهود المدينة الخفية، فبدأوا يتحرشون بالمسلمين علنا، ويقولون في المجالس علنا إن هزيمة جيش قريش لم تكن مهمة عظيمة، إذا تعرض لنا محمد وحاربَنا فسوف نخبره كيف تكون الحرب. حتى قالوا هذا الكلام في وجه النبي في مجلس.
ففي رواية أن رسول الله حين عاد من بدر إلى المدينة، جمع اليهودَ ذات يوم ونصحهم وعرض عليهم دعواه ودعاهم إلى الإسلام، فردَّ زعماء اليهود على هذه الدعوة المسالمة والمواسية بقولهم: يا محمد ربما اغتررت بقتل عدد من قريش، فهم كانوا يجهلون أساليب الحرب، وإذا خضت في الحرب معنا فسوف نخبرك كيف يكون المقاتلون. ثم لم يكتف اليهود بهذا التهديد باللسان فقط بل يبدو أنهم عمليا بدأوا يخططون لاغتيال النبي أيضا، فقد ورد في رواية أن صحابيا مخلصا جدا اسمه طلحة بن براء حين أشرف على الموت أوصى بأنه إذا مات ليلا فلا تخبروا النبي للجنازة، لأني أخشى أن يصيبه مكروه من اليهود بسببي. باختصار بدأ اليهود الفتن بعد معركة بدر علنًا، فلما كان بنو قينقاع هم أقوى وأشجع يهود المدينة، فقد صدر منهم نقض العهد أولا، فقد كتب المؤرخون أن أول من نقض العهد بين يهود المدينة ورسول الله هم بنو قينقاع، وقد أبدوا التمرد السافر والبغض والحسد ونقضوا كل المواثيق، لكن المسلمين رغم ذلك كله، تمسكوا بالصبر بكل طريقة ممكنة عملا بتوجيه سيدهم وامتنعوا عن كل تحرك نحوهم، وليس ذلك فحسب بل قد ورد في الحديث أن النبي كان يراعي اليهود ويواسيهم بوجه خاص بعد هذا العهد الذي كُتب بينه وبين اليهود. فذات يوم حصل نزاع بين مسلم ويهودي، حيث ذكر اليهودي أفضلية سيدنا موسى على جميع الأنبياء، فغضب المسلم وتشدد مع اليهودي نوعا ما، وقال إن رسول الله هو أفضل الرسل. فلما علم بذلك النبيُّ عاتب ذلك الصحابي ولامَه، وقال له: ليس من شأنك أن تبين فضيلة بعض أنبياء الله على البعض. ثم واسى ذلك اليهوديَّ بذكر فضيلة جزئية لسيدنا موسى . لكن اليهود ظلوا يتمادون في شرورهم رغم هذه المعاملة المواسية، وأخيرا نشأ سبب الحرب مع اليهود من قبل اليهود، حيث لم تبق العداوة في قلوبهم بل خرجت للعلن. وتفصيل ذلك أن مسلمة ذهبت إلى محل يهودي لشراء شيء، فتحرش بها بعض اليهود الجالسين في المحل بكل وقاحة، وصاحب المحل أيضا ربط طرف إزارها غفلة منها بثوب ظهرها بشوك أو ما شابهه، وكانت النتيجة أن تلك المسلمة حين أرادت الانصراف من هناك بعد ملاحظة تصرفهم الوقح، فنهضت انكشفت سوأتها، فضحك صاحب المحل وأصحابه من اليهود كثيرا، فصاحت خجلا واستغاثت، وبالمصادفة كان قريبا منها مسلم فوثب إليها وقتل صاحبَ المحل أثناء الدفاع عنها فوقعت السيوف على المسلم من الجهات الأربعة فأردي ذلك المسلم الغيور قتيلا. فلما علم بذلك المسلمون غضبوا جدا وفي الطرف الآخر كان اليهود الذين يريدون أن يجعلوا هذا الحدث سببا للقتال ازدحموا فوقع الشر بينهم وبين المسلمين، فلما اطلع النبي على الحدث جمع زعماء بني قينقاع وقال لهم: هذا الطريق ليس جيدا، اتقوا الله وكُفُّوا عن هذه الشرور والفتن. ولكنهم وبدلا من إبداء أسفهم وندمهم وبدلا من أن يطلبوا العفو ردّوا بردود ملؤها التمردُ، وأعادوا التهديد السابق وقالوا: لا تعتزوا على انتصاركم ببدر وستعرفون عند المواجهة من القوي في المحاربة. فذهب النبي مع جماعة من الصحابة إلى قلاع بني قينقاع مضطرا. كانت هذه الفرصة الأخيرة لهم ليندموا على أعمالهم ولكنهم أصروا على الحرب.
باختصار، أُعلنت الحرب وتمت المواجهة بين المسلمين واليهود. كان من أساليب الحرب في ذلك الزمن أن المحاربين كانوا يتحصّنون في حصونهم وكان الخصم يحاصر الحصن. ثم كان الفريقان يقومان بشن الهجوم على بعضهما بين حين وآخر. فإما كان الجيش المحاصِر يقتحم، أو يرفع الحصار يائسا من السيطرة على الحصن، و كان يُعَدّ انتصار المحصورين. وبهذه المناسبة أيضا خطا بنو قينقاع الخطوة نفسها وتحصّنوا في حصونهم. فحاصرهم النبي إلى 15 يوما متتالية، وحين تمزّق كِبر بني قينقاع كليا فتحوا أبواب حصونهم بشرط أن يسيطر المسلمون على أموالهم ولكن لن يكون للمسلمين حق على نفوسهم وأهلهم. قبل النبي هذا الشرط. كان المحاصرون يستحقون القتل بحسب شريعة موسى وكان ضروريا أن يُنفَّذ فيهم حكم شريعة موسى بحسب المواثيق المبرَمة. ولكن لما كانت هذه أول جريمة لهؤلاء القوم، ومن ناحية ثانية ما كان للنبي -الذي كان رحيما وكريما- أن يميل إلى تلك العقوبة القاسية التي هي العلاج الأخير. ومن ناحية ثانية إن بقاء تلك القبيلة ناقضة العهد والخائنة في المدينة يمثّل خطرا كبيرا، وخاصة حين كانت جماعة المنافقين من قبيلة الأوس والخزرج موجودة في المدينة سلفا. ففي هذه الحالة كان واجبا أن يأخذ النبي القرار الأنسب بأن يخرج بنو قينقاع من المدينة. علما أن هذه العقوبة كانت خفيفة جدا مقابل جريمتهم وبالنظر إلى الظروف السائدة حينذاك. وبالإضافة إلى ذلك كان في هذا القرار جانب من الحماية الذاتية أيضا، وأن الانتقال من مكان إلى آخر لم يكن بأمر ذي بال للبدو من العرب، وخاصة للقبائل التي ليست لها أملاك بصورة الأراضي والحدائق كما كان حال بني قينقاع، وخاصة إذا وجدت القبيلة كلها فرصة الانتقال من مكان إلى آخر في أمن وسلام. فترك بنو قينقاع المدينة بكل هدوء وذهبوا إلى الشام. وقد كلّف النبي صاحبه عبادة بن الصامت ، الذي كان من حلفائهم، بالإشراف على كافة الأمور المتعلقة برحيلهم. فشيّعهم عبادة بن الصامت إلى بضعة منازل ثم ودّعهم بسلام وعاد. الغنائم التي وقعت في أيدي المسلمين كانت تتضمن أسلحة الحرب وأدوات الصياغة.
لقد أبدى رسول الله عواطفه عند شهادة حمزة ولكنه صبر ونصح أخت حمزة أي عمته أيضا بالصبر، كما سبق الذكر من قبل. وقد ذُكر حادث منع النائحات من النصارى. سأذكر الآن ما قاله سيدنا الخليفة الرابع رحمه الله عن هذا الحادث في أحد خطاباته في الجلسة السنوية قبل توليه منصب الخلافة. وهذا الحادث يُبيّن خُلق النبي العظيم أيضا. لذا أرى من المناسب أن أذكر ذلك وإن كان قد ذُكر الحادث نفسه من خلال الأحاديث باختصار.
لقد ذُكر عن بني قينقاع في بعض الروايات أنهم عندما فتحوا أبواب قلاعهم وسلّموا أنفسهم للنبي ، كان ينوي أن يقتل المحاربين منهم بسبب خيانتهم العهد وتمردهم ومكايدهم الأخرى، ولكنه تراجع عن إرادته هذه بشفاعة من رئيس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول. ولكن لا دليل على هذا الكلام، والباحثون لا يرون هذه الروايات صحيحة لأنه ما دام قد ورد في روايات أخرى بكل صراحة بأن بني قينقاع فتحوا أبواب القلاع بشرط حمايتهم وحماية أهلهم من القتل، فلم يكن ممكنا بأي حال أن يختار النبي طريقا آخر بعد قبول هذا الشرط ويسعى لقتلهم. لذا فما ورد في الروايات المذكورة آنفا خطأ تماما. غير أن تقديم بني قينقاع شرطا لحماية أرواحهم يبيّن بجلاء أنهم كانوا يعرفون بأنفسهم بأن عقوبتهم الحقيقية هي القتل. ولكنهم طلبوا العفو من النبي وكانوا يريدون ألا يفتحوا باب الحصن إلا بعد أخذ الوعد من النبي بأنهم لن يُقتلوا. صحيح أن النبي عفا عنهم لكونه رحيم الطبع، ولكن يبدو أنهم ما كانوا يستحقون أن يبقوا أحياء على صفحة الأرض بسبب سوء أعمالهم وجرائمهم. فقد جاء في رواية أن مرضا تفشى في منفاهم بشدة متناهية في غضون عام واحد بعد وصولهم إلى هناك وأصيبوا به وهلكوا كلهم. لقد وقعت غزوة بني قينقاع في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة. على أي حال، كان حمزة يحمل الراية.
إنباء النبي باستشهاد حمزة
لقد سبق الذكر أن حمزة قُتل في غزوة أُحد، وقد أخبر اللهُ تعالى النبي بشهادته في الرؤيا قبل الأوان. فقد ورد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا وَكَأَنَّ ظُبَةَ سَيْفِي انْكَسَرَتْ فَأَوَّلْتُ أَنِّي أَقْتُلُ صَاحِبَ الْكَتِيبَةِ وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ. ثم قُتل حمزة ، وقتل رسولُ الله طلحةَ الذي كان يحمل راية المشركين.
لقد مُثّل بحمزة وبُقِر بطنه. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ رَأَى حَمْزَةَ قَدْ مُثِّلَ بِهِ قَالَ لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاَثِينَ مِنْهُمْ. وفي رواية، قال : والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك. فنزل القرآن وهو واقف في مكانه لم يبرح: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال النبی : نصبر يا ربِّ. وكفّر عن يمينه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : دخلت الجنة البارحة فنظرت فيها فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير.
عن أنس بن مالك أن رسول الله يوم أحد مرّ بحمزة ، وقد جُدع ومثِّل به، فقال: «لولا أن تجزع صفية، لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع، فكفنه في نمرة.»
لقد أبدى رسول الله عواطفه عند شهادة حمزة ولكنه صبر ونصح أخت حمزة أي عمته أيضا بالصبر، كما سبق الذكر من قبل. وقد ذُكر حادث منع النائحات من النصارى. سأذكر الآن ما قاله سيدنا الخليفة الرابع رحمه الله عن هذا الحادث في أحد خطاباته في الجلسة السنوية قبل توليه منصب الخلافة. وهذا الحادث يُبيّن خُلق النبي العظيم أيضا. لذا أرى من المناسب أن أذكر ذلك وإن كان قد ذُكر الحادث نفسه من خلال الأحاديث باختصار.
يقول الخليفة الرابع رحمه الله: يتبين مدى حب النبي لحمزة مما قاله مساء أُحد عند وقوفه على جثته . فقال ما معناه: الغضب الذي أكنّه والإيذاء الذي أصابني اليوم بمقتلك لن يرينيه الله تعالى مرة أخرى. عندها جاءت صفية أخت حمزة وعمة النبي أيضا بسماع خبر مقتله. فلم يأذن لها النبي بداية أن ترى جثة أخيها خشية ألا تتخلى عن الصبر ولكن أذن لها لاحقا حين وعدت بالتحلي بالصبر. باختصار، حضرت صفية ورأت أمامها جثة أخيها، أسد الله وأسد رسوله وكان الظالمون قد بقروا صدره وأخرجوا كبده، ومثّلوه أشنع تمثيل. مع أن قلب صفية كان هابطا بشدة الحزن ولكنها التزمت بوعدها بالصبر ولم تترك أهداب الصبر، وإن كانت غير قادرة على إمساك الدموع. فقرأت «إنا لله وإنا إليه راجعون» وجلست بقرب الجثة، وكانت عيناها تنهمران دموعا حزنا. يقول الراوي أن النبي أيضا جلس هناك وسالت من عينه الدموع عفويا. كلما خفت دموع صفية خفّت دموع النبي ، وكلما اشتدت دموع صفية اشتدت دموعه أيضا، وبقي الحال على هذا المنوال لبضع دقائق. فلم تكن نياحة النبي وأهل البيت سوى بضعة هذه الدموع الصامتة، كما هي سنّة النبي .
دخل النبي المدينة وكانت قد سادها المأتم، وتصدر من كل بيت أصوات النياحة على شهداء أُحد. فلما سمع النبي تلك الأصوات قال بكل ألم: «لَكِنْ حَمْزَةُ لَا بَوَاكِيَ لَهُ». ومن كان يمكن أن يبكي لحمزة أصلا لأن أهل البيت كانوا يُنصَحون ليل نهار بالصبر والجلَد. فلما سمع بعض من الأنصار هذه الجملة الأليمة من لسان النبي اضطربوا بشدة وأسرعوا إلى بيوتهم وأمروا نساءهم أن يتركن مأتما آخر ويبكين لحمزة. ففي لمح البصر صعدت الأصوات من كل حدب وصوب وأصبح كل بيت في المدينة مأتما لحمزة. واجتمعت بعض النساء باكيات نائحات عند بيت النبي أيضا. خرج النبي من بيته بسماع تلك الأصوات ورأى ازدحاما من نساء الأنصار. فدعا لهن لمواساتهن وشكرهن، ثم قال ما معناه: لا تجوز النياحة على الرجال. فتُرك تقليد النياحة منذ ذلك اليوم. فدت أرواحنا ونفوسنا النبي ، ما أعظمه من معلّم الأخلاق الذي نزل من سماء الروحانية ليعلّمنا ديننا. ما أكثره بصيرة وذكاء إذ كان نظره يصل إلى أعماق فطرة البشر. فلو منع النبي نساء الأنصار من البكاء على قتلاهن لكان بالإمكان أن يشق ذلك على بعضهن ولعل الصبر في تلك الساعة كان ابتلاء لهن. ولكن انظروا كيف صرف مأتمهن إلى عمه حمزة أولا. ثم عندما منعهن من البكاء فقد منعهم من البكاء لعمه حمزة. ما أعظم انتخاب الله تعالى إذ انتخب وأرسل لإصلاح خَلقه ناصحا عظيما كان مطلعا جيدا على أدق وألطف مشاعر الفطرة البشرية وكان مهتما جدا لمشاعر خدامه الدقيقة. عندما يفكر المرء في أخلاق النبي العظيمة يفدي بنفسه وروحه له تلقائيا ويصعد من قلبه تلقائيا صوت يقول: فدتك أرواحنا ونفوسنا وأموالنا وأولادنا يا رسول الله، وعليك ألف ألف الصلاة والسلام، إن بحر حسنك وإحسانك لا يعرف الحدود والشواطئ. عليك ألف ألف الصلاة والسلام يا رسول الله. نقسم بالله الإله الواحد الذي لا شريك له في السماوات والأرض بأنك الوحيد والفريد في الخلق في السماوات والأرض لم يكن أحد مثلك ولن يكون.
إذن، قد ذُكرت أسوة النبي العظيمة أيضا ضمن ذكر حمزة .
والآن سأذكر بعض الأمور الأخرى. معلوم أن العام الجديد سيبدأ بعد يومين، فادعو الله تعالى أن يُعيده علينا بالبركات، وأن يكون عاما جديدا مباركا للجماعة من كل الجوانب، وأن يُخيِّب الله خطط أعداء الجماعة كلها، ويوفق أفراد الجماعة المنتشرين في كل أنحاء العالم لأن يحققوا الهدف من خلقهم أكثرَ من ذي قبل. وادعوا للعالم بوجه عام بأن ينقذه الله من الحروب. الظروف لا تزال تزداد سوءا وخطورة، والدمار محدق بالعالم بشكل مخيف، ولا يُعلَم ما الذي سيحدث. كل واحد راكض وراء منافعه الشخصية. ندعو الله تعالى أن يرحم. وأكثِروا من الدعاء لإخوانكم المظلومين بأن يحمي الله تعالى الجماعة الإسلامية الأحمدية في السنة القادمة من كل نوع من الظلم والاعتداء.
الهوامش:
- رواه الحاكم في المستدرك بسند حسن
- (صحيح البخاري، كتاب المغازي)
- (الروض الأنف، باب «إسلام حمزة”)
- (المنتظم)
- (صحيح البخاري, كتاب المساقاة)