في ذكرى مطلعِ السراجِ المنيرِ صلى الله عليه وسلم
- المسلمون المعاصرون وأسوة بالنبي
- يحسبون أنهم يحسنون صنعا
- حضرة خاتم النبيين بطل التوحيد والتغيير الطيب
- بعض شمائل نبينا وضرورة التأسي بها
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيم* صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين، آمين.
أسوة النبي ومسلمو اليوم بين الواقع والمأمول
يوم 12 من ربيع الأول هو اليوم الذي ظهر فيه في الدنيا ذلك النور الذي سماه الله سراجا منيرا ، والذي كان سيهب للعالم كله نورًا روحانيا، فوهب، والذي أُنيط به إقامة حكم الله في العالم، فأقامه، واضطلع بمهمة إحياء الموتى منذ قرون، فأحياهم، والذي حمل على عاتقه مهمة السلام والأمان في العالم، فنشر، والذي خاطبه الله قائلا:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ،
فلم يكن رحمة للمسلمين فقط، بل كان ولا يزال رحمة لغير المسلمين أيضا ولم يكن رحمة للناس فحسب، بل كان رحمة حتى للأنعام والطيور وغيرها، وكانت شريعته رحمة للجميع إلى يوم القيامة، والذي خاطب الله أتباعه قائلا:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .
فالمسلم لا يمكن أن يسمى مسلما حقيقيا دون التأسي بهذه الأسوة الحسنة. إن نبينا قد قدم لنا أسوة في مجال إقامة التوحيد، وفي مجال العبادات وفي مجال الأخلاق السامية وفي مجال أداء حقوق العباد. ولكن المؤسف أن أكثرية المسلمين اليوم يدّعون حب النبي ، لكن أعمالهم هي ضد ما علّمناه سيدنا محمد وقدم لنا أسوته الحسنة بالعمل به. لقد جاء نبينا رحمةً للعالمين، ولكن هؤلاء القوم الذين يدعون حبه ويحتفلون يوم الثاني عشر من ربيع الأول بكل حماس، فإنهم قد ملأوا معظم بلاد العالم الإسلامي بالفتن والفساد بدلاً من أن يعاهدوا ويقولوا يا رسول الله سوف ننشر الرحمات في كل ناحية عاملين بأسوتكم الحسنة. في يوم الفرحة هذا كان الواجب على كل المسلمين أن يؤكدوا بأعمالهم أن النبي الذي يؤمنون به كان مَلِكَ الأمنِ والسلام، وكان رحمة للعالمين، وقدم نموذجا مثاليا عاليا في عبادة الله وبلغ أعلى مستوى في الأخلاق السامية، وإنهم عاملون بسنته كما أمرهم الله تعالى، لذا سوف تتفجر منهم في هذا اليوم ينابيع المحبة والوئام والأمن والسلام فرحة بمولد هذا النبي ، لأن هذا ما أمر به رسولهم أتباعَه، وهذا ما انتظره منهم، وهذا ما علّمهم.
في يوم الفرحة هذا كان الواجب على كل المسلمين أن يؤكدوا بأعمالهم أن النبي الذي يؤمنون به كان مَلِكَ الأمنِ والسلام، وكان رحمة للعالمين، وقدم نموذجا مثاليا عاليا في عبادة الله وبلغ أعلى مستوى في الأخلاق السامية، وإنهم عاملون بسنته كما أمرهم الله تعالى، لذا سوف تتفجر منهم في هذا اليوم ينابيع المحبة والوئام والأمن والسلام فرحة بمولد هذا النبي ….
يحسبون أنهم يحسنون صنعا
إن ما نراه هو عكس ذلك المأمول تماما، إذ الفساد مستشرٍ في البلاد الإسلامية، بل العالم غير الإسلامي متوجس من المسلمين في بعض البلاد خيفة. ففي باكستان قد أوقفت الحكومة خدمة الهاتف الجوال في بعض المدن ، ورجال الشرطة مستنفرون بأعداد كبيرة في كل ميدان ومنعطف طريق تحسبا لاضطرام نيران الفتنة والفساد في تلك المناسبة. أهذا هو السبيل للاحتفال بمولد هذا النبي؟ حيث أصبح كل إنسان شريف خائفا، وتتردد الحكومة في تنفيذ القانون للحفاظ على الأمن والأمان خوفًا من هؤلاء. إن سبّهم لنا نحن الأحمديين وكيل الشتائم ضدنا باسم سيدنا وحبيبنا كان دأبهم اليومي، إلا أنهم قد ازدادوا شتما لنا في هذا اليوم احتفالا به، وهم يحسبون أنهم يزيدون من عظمة هذا النبي العظيم بتصرفهم هذا.
إن ما حدث قبل بضعة أيام في بعض المدن بباكستان من محاصرة مناطق معينة وإغلاق الشوارع والطرق بالجلوس فيها ووضع العراقيل فيها من قِبل الغوغاء، قد أقض مضاجع كل مواطن، حيث تعطلت الحياة اليومية كلية، فلم يستطع مريض الوصول إلى المشافي، وأغلقت المدارس، بل المحلات أيضا فلم يتمكن أي إنسان نفدت في بيته المؤن من أن يجلبها من المحلات لأجل أهله وأولاده. وقد لحقت بالشعب خسائر ببلابين الروبيات. وقد حدث كل هذا بسبب الهتاف بحب الرسول الذي رفعه هؤلاء المشايخ المزعومون، ذلك الرسول الذي هو رحمة للعالمين، والذي أمرنا بأداء حق الطريق. فقد قال :
«إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ».
لكن هؤلاء المشايخ قد آذوا الناس بقطع الطرق باسم حفظ عرض الرسول ، ومع ذلك يزعمون معرفة الدين، يجعلون من شاءوا مؤمنا ومن شاءوا كافرا في زعمهم. وليس وراء تصرفاتهم هذه إلا جلب المنافع الشخصية، وتصرفاتهم هذه لا تمتّ إلى تعاليم الرسول ولا إلى أسوته بصلة.
من المؤسف أن الدنيا لم تقدر مكانته حق قدرها. إنه هو البطل الوحيد الذي أعاد التوحيد إلى الدنيا بعد أن غاب عنها. لقد أحبَّ اللهَ غاية الحبِّ، وذابت نفسه تمامًا شفقةً على خلق الله، لذلك فإن الله العالِمَ بسريرته فضَّله على الأنبياء كافةً، وعلى الأولين والآخرين جميعًا، وحقّق له في حياته كلَّ ما أراد.
فليفعلوا ما يحلو لهم، إلا أن من واجب المسلمين الأحمديين أن يجعلوا كل جانب من أسوة الرسول نصب الأعين ويسعوا للعمل به بكل ما أوتوا من قوة وكفاءة.
سوف أذكر لكم بعض جوانب حياة النبي كأسوة حسنة لنا.
قال المسيح الموعود مبينا حب النبي لذات الباري تعالى:
لقد صار النبي عاشقًا وَلْهَانًا لله تعالى، فنال ما لم ينله أحد في الدنيا. لقد أحب الله تعالى حبا جعل الناسَ يقولون: عشق محمد ربه.
ويقول في وصف حب وعشق النبي لربه سبحانه وتعالى:
حين نزلت الآيات التي جاء فيها أن المشركين نجس، وشرُّ البرية، وسفهاء، وذرية الشيطان، وأن آلهتهم وقود النار وحصب جهنم، دعا أبو طالب النبيَّ ( ) وقال له: يا ابن أخي، قد استشاط قومك غضبا نتيجة شتائمك وكادوا يقتلونك وإيايَ، فقد سفَّهتَ حكماءهم، وسميتَ كِرامهم شرَّ البرية، ونعتَّ آلهتهم الجديرة بالتعظيم حصبَ جهنم ووقودَ النار، واعتبرتهم جميعا رجسًا ونجسًا وذرية الشيطان. فأقول نصحا لك أن تكفّ لسانك وتتوقَّف عن السباب وإلا فأنا لا أقدر على مواجهة القوم.
يقول المسيح الموعود : هذا ما قاله للنبي عمُّه. فقال له النبي في الجواب: أيا عمّاه، إن ذلك ليس سبًّا بل هو بيان الواقع، وذكرُ حقية الأمر في محله تماما. وهذا ما أُرسلتُ من أجله، فلو متّ في هذا السبيل فأنا راض بموتي بكل سرور، فإن حياتي فداء هذا السبيل، ولن أتوقَّف عن قول الحق خشية الموت. ويا عمِّ، فإن كنتَ تخشى ضعفك وقلة حيلتك ومعاناتك فتخلَّ عن ذمتي، فوالله لستُ محتاجا إليك، لأني لن أحيد عن تبليغ أمر الله أبدا. إن أحكام ربي أحبّ إليّ من نفسي. ووالله لو قُتلت في هذا السبيل لتمنّيت أن أظل أُحيا وأقتل في هذا السبيل مرة بعد أخرى. هذا ليس مقام خوف بل إن غاية سعادتي تكمن في تحمُّل المعاناة في سبيله سبحانه وتعالى. كان النبي يقول ذلك والرقة المفعمة بالصدق والنورُ تعلو وجهه الكريم. ولما أنهى كلامه سالت عينا أبي طالب بالدموع عفويا لِما رأى من نور الصدق والحق، فقال للنبي: كنت أجهل حالتك السامية هذه! فإن لك شأنا غريبا وحالة عجيبة! فاذهبْ إلى عملك واستمر فيه، وسوف أنصرك ما استطعتُ ما دمتُ حيا.»
أقول: اليوم يتهمنا المعارضون ويقولون بأن الأحمديين كفار بسبب إيمانهم بمرزا غلام أحمد القادياني ( ). الحادث الذي ذكرتُه آنفا قد قرأناه في التاريخ وسمعناه مرارا ولكن العفوية والكيفية القلبية التي بها ذكره المسيح الموعود تبين حبَّه للنبي العربي محمد الذي بواسطته تتراءى للمرء سبل حب الله تعالى أيضا.
فاليوم لو أردنا الاحتفال الحقيقي فلا بد من العمل بأسوته بحيث يكون مستوى العبادات عاليا والإيمان بالتوحيد كاملا ومعيار الأخلاق عظيما، وإن لم يكن كذلك فلا فرق بيننا وبين غيرنا، وإن لم نعمل بأسوة الرسول فلا فرق بيننا وبين المتشتتين والمتسببين في التضييق على الآخرين متّبعين قادةً عارِضين وعلماء مزعومين.
حضرة خاتم النبيين بطل التوحيد والتغيير الطيب
وقد بيّن المسيح الموعود هذا الجانب من سيرة النبي غارقا في حبه وقال ما تعريبه:
«إنني دائمًا أنظر بعين الإعجاب إلى هذا النبي العربي الذي اسمه محمد – عليه ألف ألف صلاة وسلام – ما أرفَعَ شأنَه! لا يمكن إدراكُ سموِّ مقامه العالي، وليس بوسع الإنسان تقدير تأثيره القدسي. من المؤسف أن الدنيا لم تقدر مكانته حق قدرها. إنه هو البطل الوحيد الذي أعاد التوحيد إلى الدنيا بعد أن غاب عنها. لقد أحبَّ اللهَ غاية الحبِّ، وذابت نفسه تمامًا شفقةً على خلق الله، لذلك فإن الله العالِمَ بسريرته فضَّله على الأنبياء كافةً، وعلى الأولين والآخرين جميعًا، وحقّق له في حياته كلَّ ما أراد. هو المنبع لكل فيض. ومن ادعى بأية فضيلة من غير الاعتراف بأنه قد نالها بواسطة النبي ، فليس هو بإنسان، وإنما هو ذرية الشيطان؛ لأنه قد أُعطي مفتاحًا لكل خير وكنـزا لكل معرفة. إن الذي لا ينال عن طريقه فهو محروم أزلي. من نحن وما هي حقيقتنا؟ سنكون من الكافرين بنعمة الله إن لم نعترف بأن التوحيد الحقيقي إنما وجدناه بفضل هذا النبي، وأن معرفة الإله الحيّ إنما حصَّلناها بواسطة هذا النبي الكامل وبنوره، ولم نتشرف بمكالمة الله ومخاطبته التي نحظى من خلالها برؤية وجهه إلا بفضل هذا النبي العظيم. إن أشعة شمس الهداية هذه تقع علينا كالنور الساطع، ونستطيع أن نبقى مستنيرين ما دمنا واقفين إزاءها.»
إذًا، لا يمكن معرفة التوحيد الحقيقي إلا باتباع النبي ، ولا يمكن الوصول إلى الله تعالى إلا بالتأسي بأسوته ، وهذا هو أساس ادعاء المسيح الموعود .
كم كان مستوى عبادة النبي رفيعا! تقول السيدة عائشة رضي الله عنها في ذكر كيفية أدائه صلاة التهجد:
مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً … فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنّ.
وقد جاء في رواية أن صحابيا رأى النبي وهو يصلي (أي رآه يصلي صلاة النافلة في عزلة) فقال:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ.
وفي رواية أخرى:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ نبيَ اللهِ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا.
ما طبيعة الانقلاب الذي أحدثته في الصحابة عبادةُ النبي البالغة هذا المستوى؟ يقول المسيح بهذا الشأن ما تعريبه: «أقول بكل قوة أنه مهما كان الخصم موغلا في الخصومة، سواء أكان مسيحيا أو من الآريين، عندما يتفقد حالة العرب قبل بعثة النبي ثم ينظر في التغيّر الذي حدث بتعليمه وتأثيره لاضطر إلى الشهادة على صدقه عفويا. لقد صور القرآن الكريم حالتهم الأولى قائلا:
يَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الْأَنْعَامُ .
هذه كانت حالهم زمنَ الكفر، ثم عندما أحدثت تأثيرات النبي الطيبة فيهم تغييرات صارت حالهم كما وصفه قول الله تعالى:
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا .
التغيّر الذي أحدثه النبي في العرب الهمج وإخراجه إياهم من الهوة وإيصالهم إلى مقام سامٍ رفيع؛ يدفع الإنسان إلى البكاء تلقائيا فيتساءل: ما هذا الانقلاب العظيم الذي أحدثه النبي بحيث لا نظير له في تاريخ أيّ قوم في العالم كله؟! هذه ليست مجرد أساطير بل أحداث واقعة أقرَّ الدهر بصدقها».
فمن واجب أفراد جماعة «الآخرين» الذين لحقوا بالأولين أن يرفعوا مستوى عباداتهم متأسين بهذه الأسوة كما فعل أصحاب النبي ، وألا يظلوا غارقين في الأمور الدنيوية فقط.
بعض شمائل نبينا وضرورة التأسي بها
ترفع المنظمات الفرعية وفروع الجماعة تقاريرها ويقولون بأن أربعين بالمائة أو خمسين بالمائة أو ستين بالمائة من أفراد الجماعة قد أصحبوا ملتزمين بالصلاة جماعةً، ولكن يجب ألا يهدأ بالنا ما لم يلتزم بها مائة بالمائة منهم. وهذه المسؤولية لا تقع على نظام الجماعة فقط بل يجب على كل فرد أن يحاسب نفسه ويتفقد حالته بهذا الشأن.
ماذا كانت أسوة النبي فيما يتعلق بقول الصدق والحق؟ فاسمعوا بهذا الشأن شهادة ألد أعدائه، النضر بن الحارث، فقد جاء في رواية أن زعماء قريش اجتمعوا ذات مرة بمن فيهم أبو جهل والنضر بن الحارث فقال أحدهم عن النبي إن علينا أن نذيع أنه ساحر، قام النضر بن الحارث فقال: «يا معشر قريش إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله. لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب. وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة … وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وحالهم… وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها… وقلتم: مجنون! ولا والله ما هو بمجنون… يا معشر قريش انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم».
هذا، ولم يستطع أبو جهل أيضا أن ينكر صدق مقال النبي ، فقال ما معناه: إني لا أكذّبك ولكن أكذّب ما جئتَ به لأنك تخالف أوثاننا. وهذا ما قاله أبو سفيان في بلاط هرقل، أي أنه لم يكذب قط، بل هو ينصح بصدق المقال دائما. إذًا، لم يستطع ألد أعداء النبي أيضا أن يتهموه بالكذب. وهذا أقوى دليل على صدق نبوته.
وقال الحَبْرُ اليهودي بعد أن نظر إلى وجهه إن هذا الوجه ليس لكاذب. إن أرفع معايير صدق تعليمه وعمله هي حصرا يمكن أن تقرِّب غير المسلمين إلى الإسلام اليوم أيضا. أما الكذب والخداع والزيف فيمكن أن يزيد الكراهية والنفور من الإسلام ويستحيل أن يقرِّب أحدًا إليه. فليس من شأن الأمور المادية وإقامة الحكومات وحفاظ العلماء المزعومين على منابرهم بناء على الكذب أن يُثبت أبدا فضيلة الإسلام. لذا يجب على الأحمديين أن يسعوا دوما لرفع معايير صدقهم تأسيا بأسوة النبي لكي يسْهل علينا نشرُ تعليم الإسلام الجميل. إن تبليغ الدعوة يقتضي التطابق في القول والفعل. وإن لم يكن في الفعل صدقٌ فسوف يَعدّ الناس التعليم الديني كاذبا. إن وجود الله حق، ودين الإسلام حق ومن واجبنا اليوم أن ننشر هذا الحق بالصدق. يقول سيدنا المسيح الموعود :
«العاقل الفطين لا يجد بدا من الإقرار بأن كل الأديان كانت قد فسدت وفقدت الروحانية قبيل الإسلام. فكان نبينا هو المجدد الأعظم في مجال بيان الصدق الذي أعاد الحق المفقود إلى الدنيا، ولا أحد يشارك نبينا في هذا الشرف، حيث وجد العالم كله في الظلام، وبظهوره تحوّل الظلام إلى نور، ولم يرحل من الدنيا حتى خلعَ القومُ كلهم الذين بُعث إليهم لباسَ الشرك، ولبسوا حُلّة التوحيد. وليس ذلك فحسب، بل وصلوا إلى أرفع مراتب الإيمان، وظهرت على أيديهم من أعمال الصدق والوفاء واليقين ما لا نظير له في أي بقعة من بقاع العالم. وهذه الدرجة من النجاح لم تكن من نصيب أيّ نبي سوى نبينا الأكرم . هذا هو الدليل الأكبر على صدق نبوة سيدنا رسول الله ، إذ بُعث في زمن غارق في الظلمات؛ وكان بطبيعة الحال يتطلَّبُ بعثة مصلح عظيم الشأن. ثم ارتحل من الدنيا بعد أن تمسَّك بالتوحيد والصراط المستقيم مئاتُ الألوف من الناس، متخلين عن الشرك وعبادة الأصنام. والحق أن هذا الإصلاح الكامل كان خاصًّا به وحده، حيث علّم قومًا همجيين ذوي طبائع وحشية الخصالَ الإنسانيةَ، أو قولوا بتعبير آخر إنه حوَّل البهائم أناسًا، ثم حوّلهم مثقفين، ثم جعل المثقفين أناسًا ربانيين، ونفخ فيهم الروحانية وأنشأ لهم علاقة بالإله الحق.»
فإن كنتم تريدون أن تُسمَّوا مسلمين حقيقيين وتنشئوا العلاقة بالإله الحق فثمة حاجة ماسة لرفع معايير الصدق، وإذا كان أحد يؤدي حق ذلك في العصر الراهن فهم الأحمديون. وذلك لأنهم قد عقدوا العهد مع إمام الزمان أنهم سيؤْثرون الدين على الدنيا. فلا تدَعوا هذا العهد محصورا في الإقرار باللسان فقط، بل يجب أن يشهد كل عمل لكل أحمدي على ذلك، وعندها فقط سيتضح صدق هذا العهد. من الأخلاق العظيمة التي كان يتحلى بها التواضع أو بتعبير آخر يمكن أن نقول إنه كان قد بلغ قمة التواضع. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها لم يحدث قط أن أحدا من الصحابة أو أهل بيته دعا النبي ولم يستجب له، لذلك قال الله له إنك لعلى خلق عظيم.
وعن علي أن النبي كلما نظر إلى أحد التفت إليه مقبلا بوجهه، وكان دوما مطرقا كأنه ينظر إلى الأرض أكثر. وكان يبادر بإلقاء التحية.
قد قال:
أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ.
والحق أن هذا الإصلاح الكامل كان خاصًّا به وحده، حيث علّم قومًا همجيين ذوي طبائع وحشية الخصال الإنسانية، أو قولوا بتعبير آخر إنه حوَّل البهائم أناسًا، ثم حوّلهم مثقفين، ثم جعل المثقفين أناسًا ربانيين، ونفخ فيهم الروحانية وأنشأ لهم علاقة بالإله الحق.
فهذا منتهى التواضع، وكان يظهر من كل قوله وفعله.
يقول سيدنا المسيح الموعود يجب اجتناب التباهي المحض والاستكبار والخيلاء، وينبغي التحلي بالتواضع. انظروا أن النبي الذي كان في الحقيقة أعظم وأجدر بالشرف والكرم قد ورد نموذج تواضُعه في القرآن الكريم أن أعمى كان يتعلم منه القرآن الكريم، وذات يوم حين جاء كان عند النبي عمائد مكة وزعماءها وكان يتكلم معهم، فبسبب انشغال النبي في الحديث معهم تأخَّر قليلا فانصرف ذلك الأعمى، وكان الأمر عاديا وبسيطا، لكن الله أنزل سورة عن ذلك، فذهب النبي إلى بيته وجاء به وفرش له رداءه المبارك ليجلس عليه.
الحقيقة أن الذين في قلوبهم عظمة الله لا يجدون بدا من التواضع لأنهم يخافون استغناء الله دوما ويرتجفون من خشيته.
ذلك لأن الله إذا كان يكرم على أمر ما فهو يعاقب أيضًا على أمر، إذا غضب من عمل فيحبط الأعمال كلها في لحظة، لذا يجب أن تتدبروا في هذه الأمور واحفظوها واعملوا بها.
إن موضوع سيرته وأسوته لا يكاد ينتهي، فقد ترك لنا أسوة عظيمة في كل خلق، فكيف لا إذ كان معلما عظيما وكان معلم الإخلاق، فحين جاء لزيارته شخص سيئ قابله بخلق حسن.
فعَنْ عَائِشَةَ:
أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ (رغم ما رأى فيه من أخلاق سيئة) فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ.
التغيّر الذي أحدثه النبي في العرب الهمج وإخراجه إياهم من الهوة وإيصالهم إلى مقام سامٍ رفيع؛ يدفع الإنسان إلى البكاء تلقائيا فيتساءل: ما هذا الانقلاب العظيم الذي أحدثه النبي بحيث لا نظير له في تاريخ أيّ قوم في العالم كله؟!
حين سأله أحدٌ مرة قائلا: يا رسول الله، كيف أعرف أنني أُحسن أو أسيء؟ فقال: إذا سمعتَ جارك يقول بأنك صالح فعملك حسن، وإذا قال جارك إنك سيئ وتعامُلك سيئ فاعلم أنك سيئ وسلوكك ليس صحيحا.
إذًا ثمة حاجة لتحسين الأخلاق دوما وهذا يجب أن يكون دأب كل أحمدي اليوم. فالسبب الأساس للفتن والفساد في المسلمين في هذا العصر هو الانحطاط الأخلاقي ونسيان الناس أسوةَ النبي فبقيت عندهم ادعاءات فارغة فقط.
يقول المسيح الموعود وهو يذكر أسوة الرسول الكاملة:
«إن النبي أسوةٌ كاملة في كافة مجالات الحياة. فانظروا في حياته كيف كان يعامل زوجاته. إنه لجبان وشقي عندي من يقوم مقابل المرأة. لو درستم حياة النبي لعلمتم كم كان خلوقا. لا شك أنه كان ذا هيبة عظيمة ومع ذلك لو أوقفته امرأة ضعيفة توقّف ما لم تسمح له بالانصراف. كان يشتري البضائع بنفسه. ذات مرة اشترى النبي شيئا وقال له أحد الصحابة: أرجوك أن تجعلني أحمله فقال: يجب أن يحمل الشيء صاحبُه. ولكن يجب ألا يُفهم من ذلك أنه كان يحمل رزمة الحطب أيضا. الهدف من بيان هذه الأحداث هو أنها توحي ببساطته وعدم تكلُّفه . (الملفوظات)
ثم قال المسيح الموعود :
«حين ننظر إلى نبينا نرى أنه عاش 13 عاما من نبوته في المصائب والشدائد، وعاش 10 أعوام حاكما يتمتع بالسلطة والثروة، ومقابله أممٌ كثيرة. أولا كانت أمته واليهود والنصارى وجماعة عبدة الأصنام والمجوس وغيرهم، وكانت أعمالهم عبادة الأوثان وكان اعتقادهم الراسخ بالأوثان أكبر من الاعتقاد بالله. فلم يكونوا يعملون أي عمل ينافي عظمة الأصنام، وكانوا يدمنون شرب الخمر لدرجة شربه خمس أو سبع مرات يوميا، بل كانوا يشربون الخمر بدل الماء، وكانوا يحسبون أكل الحرام كحليب الأم وكانوا يرون القتل كقَطعِ الجزر والفجل. باختصار كانوا متورطين في جميع الأعمال السيئة التي ترتكبها شعوب العالم كله فكان عليه إصلاح هؤلاء القوم بينما كان يعيش في مكة وحيدا فريدا دون أن يكون له أي نصير أو معين، فأحيانا كان يجد شيئًا للأكل وأحيانا ينام جائعا، وعدد قليل من الذين آمنوا به أيضًا كانوا يتعرضون للأذى والاضطهاد بسوء كل يوم، فكانوا عديمي الحيلة، ويتجولون هنا وهناك متشردين، واضطُرّ للهجرة من الوطن. أما المرحلة الثانية من الحياة فكانت الجزيرة العربية كلها خادمةً له من أقصاها إلى أقصاها، ولم يكن أحدهم يبدي المعارضة، وكان الله قد أعطاه اقتدارًا وهيبة. لو أراد لَقتَل العرب كلَّهم، فلو كان متبع الهوى والنفس فقد كانت عنده فرصةٌ سانحة للانتقام منهم على تصرفاتهم، لكنه حين عاد إلى مكة فاتحا أعلن «لا تثريب عليكم اليوم». باختصار قد طرأتْ على النبي مرحلتان وكانت فرصة جيدة لفحص أخلاقه واختبارها جيدًا حيث لم تكن حالة حماس مؤقت فوري، بل كانت أخلاق النبي قد اختُبرت كلية، وكانت قد ظهرت أخلاقُه من الصبر والعزيمة والعفة والحلم والتسامح والشجاعة والكرم والجود وغيرها ولم يكن أي جزء منها لم يختبر. (الملفوظات)
فاليوم لو أردنا الاحتفال الحقيقي فلا بد من العمل بأسوته بحيث يكون مستوى العبادات عاليا والإيمان بالتوحيد كاملا ومعيار الأخلاق عظيما، وإن لم يكن كذلك فلا فرق بيننا وبين غيرنا، وإن لم نعمل بأسوة الرسول فلا فرق بيننا وبين المتشتتين والمتسببين في التضييق على الآخرين متّبعين قادةً عارِضين وعلماء مزعومين. إنما بيعة المسيح الموعود تتطلب منا أن نضع في كل شيء أسوة الرسول أمامنا، وفّق الله الجميع لذلك.
يقول المسيح الموعود في ذكر مقام النبي العالي:
«ذلك الإنسان الذي كان أكمل البشر وإنسانا كاملا وأكمل الأنبياء، وجاء ببركات كاملة، والذي بسبب بعثته الروحانية والحشر الروحاني ظهرت القيامة الأولى في الدنيا وعاد عالم كامل من الأموات إلى الحياة. فإنّ ذلك النبي المبارك هو سيدنا خاتم الأنبياء، إمام الأصفياء، ختم المرسَلين فخر النبيين محمد المصطفى . فيا ربنا الحبيب صلّ وسلِّم على هذا النبي الحبيب صلاة وسلاما لم تصلّ وتسلِّم بمثلها على أحد منذ بدء الخليقة. لو لم يأت هذا النبي العظيم في الدنيا لما كان عندنا دليل على صدق بقية الأنبياء الصغار الذين جاؤوا إلى الدنيا مثل يونس وأيوب والمسيح ابن مريم وملاخي ويحيى وزكريا وغيرهم. مع أنهم كلهم كانوا مقرّبين ووجهاء وأحباء الله ، ولكنها منّة هذا النبي أنهم عُدُّوا صادقين في الدنيا. اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وآله وأصحابه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.»