الاستقامة فوق الكرامة، رمضان والدعاء، والعلاقة الخاصة
التاريخ: 2016-06-17

الاستقامة فوق الكرامة، رمضان والدعاء، والعلاقة الخاصة

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • لو يتحلى المرء بالإيمان بالغيب يوهب له العرفان من الله.
  • الاستقامة فوق الكرامة أى على الإنسان أن يقوي إيمانه أولا.
  • الدعاء الذي فيه ضرر لا يقبله الله تعالى.

__

ثمة علاقة خاصة لرمضان بإجابة الدعاء لفت الله إليها أنظارنا في معرِض قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 187). بذكر هذه الآية وسط الأوامر بفرضية الصيام وشروطه والأوامر المتعلقة الأخرى. لقد تحدث سيدنا الخليفة الأول عن تلك العلاقة فقال: كما أن الصيام وسيلة لإحراز التقوى فهو كذلك وسيلةٌ للتقرُّب إلى الله أيضا. فشهر الصيام في حد ذاته ليس وسيلة لإجابة الدعاء ما لم تُبذل فيه الجهود لنيل قرب الله وتلمُّس سبل التقوى وسلوكها في شتى مجالات الحياة. وإذا ما تم لنا ذلك، فإن ما أقمناه من علاقة بالله في رمضان ستتعداه لتظهر آثارها الطيبة الدائمة فيما بعد أيضا. ولقد ذكر الله في هذه الآية «إني قريب»، وقال النبي أيضا إن الشيطان يصفَّد في هذا الشهر، وينـزل الله إلى السماء الدنيا، أي يقترب من عبده . لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى من يقترب من عباده؟ ألا إنما يقترب إلى الذين يبتغون قربه ويتلمسون سبل مرضاته، ولذلك يأتمرون بأوامره، ويسعون جاهدين للعمل بتوجيهه «فليستجيبوا لي» ويوطنون أنفسهم على العمل به، ويؤمنون ويوقنون بأن الله صاحب كل قدرة وقوة. وإذا سألناه مستجيبين لأوامره مخلصين له فسيسمع أدعيتنا. صحيح أن الله يقول ردًّا على سؤال عباده «إني قريب»، وأجيب دعاء عبدي وأصبحت قريبا منكم في هذا الشهر بشكل خاص، فادعوني. لكن قبل أن تدعوني لأجيب أدعيتكم يجب عليكم العمل بهذه الشروط، وهي: أن تستجيبوا لي عاملين بأوامري، وأن تؤمنوا وتوقنوا بقدرتي المطلقة إيمانا كاملا. فالذين يقولون إنا دعونا الله ولم يستجب لنا، أوَقد استعرضوا أوضاعهم مرةً إلى أي مدى يستجيبون لأحكام الله ؟! فإن زعم عدم الاستجابة على الرغم من الدعاء لهو زعم باطل. لقد قال سيدنا المسيح الموعود تبيانا للشروط التي وضعها الله للإجابة: الأمر الأول الذي بينه الله هو أن على الناس أن يخلقوا حالة التقوى وخشية الله كي يُسمَع نداؤهم.. وثانيا فليؤمنوا بي، أي فليؤمنوا بوجود الله تعالى، واتصافه الكامل بكل طاقة وقوة وقدرة، أي ينبغي أن يتحلى هذا العبد بالإيمان بالغيب، وإذا حصل ذلك من الإنسان فعندها يوهب له من الله عرفان يمكِّنه من أن يجرب بنفسه أن الله موجود وأنه صاحب القدرات كلها وأنه مجيب الدعوات. فالاستقامة فوق الكرامة، أي على الإنسان أن يقوِّي إيمانه أولا، وبعده سيتقدم الله إليه ويتوفر له الإثبات أيضا.

ينبغي أن يتحلى هذا العبد بالإيمان بالغيب، وإذا حصل ذلك من الإنسان فعندها يوهب له من الله عرفان يمكِّنه من أن يجرب بنفسه أن الله موجود وأنه صاحب القدرات كلها وأنه مجيب الدعوات. فالاستقامة قبل الكرامة، أي على الإنسان أن يقوِّي إيمانه أولا، وبعده سيتقدم الله إليه ويتوفر له الإثبات أيضا.

لقد سلط سيدنا المسيح الموعود الضوء مركزا على شروط إجابة الدعاء ومبادئها وفلسفتها وغيرها في مناسبات مختلفة.
الآن سأقدم لكم بعض المقتبسات من كلام المسيح الموعود أيضا، التي بواسطتها يمكن أن نزيد علومنا ومعارفنا مدركين أعماق هذا الموضوع ومتخذين إياه وسيلة لنيل قرب الله في رمضان. كما يمكن أن ننضم إلى الفائزين بالبركة الحقيقية لرمضان. بعض الناس يظنون أن كل دعاء لهم هو موضع القبول والاستجابة، وقد شرحتُ قليلا من قبل عن هذا، أن الله قد وضع بعض الشروط التي ينبغي علينا تحقيقها لنستحق بها الإجابة. فما هي مبادئ الإجابة؟ ولماذا لا يُتقبل أحيانا دعاء أولئك الذين يوفون جميع الشروط أيضا بحسب رغبتهم؟ يقول سيدنا المسيح الموعود :

“إنما الأساس الذي عليه يقوم الدعاء، أن الله تعالى لا يكون تابعًا لرغبة الداعي وآماله. فانظروا، ما أعظم حبَّ الأمهات لأولادهن! حيث لا يردن أن يصابوا بأي أذى، لكن لو أصر الولد على أمر خاطئ لسذاجته، فطلب منها مثلا أن يمسك بسكين حادة أو بجذوة نار متوهجة، أفتسمح له أمه، مع حبها الصادق وحرقتها الحقيقية له بأن يتناول هذه الجذوة، أو يقبض على نصل سكين حادة ويجرح بها يده؟ كلا. من هنا لكم أن تدركوا مبدأ إجابة الدعاء.”

يقول :

“أنا شخصيا صاحب تجربة في هذا المجال، بحيث إنه لو كان جانب ما في الأمر المدعو من أجله ضارًّا فلا يُتقبل ذلك الدعاء أبدا. ينبغي أن ندرك جيدا أن علمنا ليس يقينيا ولا صحيحا، فهناك أمور كثيرة نقوم بها مسرورين ظانين أنها مباركة، ونظن أن نتائجها إيجابية جدا، غير أنها تكون ذات عواقب وخيمة في نهاية المطاف، وتستحيل همًّا ومصيبة ملازمة لنا. قصارى القول، لا نستطيع القول إن كل ما يرغب فيه المرء هو خير له. كلا، بل لما كان الإنسان مجبولا على السهو والنسيان، فمن الطبيعي كما هو ملاحظ أن يكون بعضُ ما يريده ضارًّا، ولو قبل الله دعاءه على علاته، لعارض هذا رحمته سبحانه وتعالى معارضةً صريحة. إنه لمن الحقائق الثابتة اليقينية أن الله تعالى يجيب أدعية عباده ويشرفها بالقبول، لكنه لا يتقبل من الدعاء كل غث وسمين، لأن الإنسان لا يبرح يدعو غير ناظر إلى العواقب من فرط حماس نفسه، ولكن الله الذي هو ناصح حقيقي وعالم بالعواقب، يرد دعاء الداعي نظرًا إلى ما في قبوله من مضار وعواقب وخيمة له، ورد الدعاء هذا هو قبول بصورة ما، إذ يكون فيه الخير الحقيقي للعبد. فالله تعالى يستجيب دعاء العبد ما دام قبوله سيحفظه من الآفات والصدمات، أما دعاؤه الذي فيه ضرر فيقبله الله تعالى برفضه. لقد تلقيت الوحي التالي مرارا: «أجيب كل دعائك»، وبتعبير آخر، إن كل دعاء نافع ومفيد سوف يجاب.”

ثم قال مبينا ضرورة أن ينظر المرء إلى أعماله واعتقاده أيضا بخصوص الدعاء، فقال: الحق والحق أقول، إن الذي لا يقوم بالعمل فإنه لا يقوم بالدعاء، بل يختبر الله تعالى، لذا فلا بد من استنفاد جميع القوى والطاقات قبل الدعاء، وهذا هو معنى الدعاء. فلزام على المرء أن يفحص معتقده وأعماله قبل الدعاء، لأن من سنة الله أن الإصلاح يتم بالأسباب، حيث يخلق الله سببًا ما يؤدي إلى الإصلاح. والذين يقولون ما الحاجة إلى الأسباب مع الدعاء، عليهم أن يتوقفوا هنا على وجه الخصوص متأملين. يجب أن يفكر هؤلاء الأغبياء أن الدعاء بحد ذاته سبب خفي ويؤدي إلى أسباب أخرى. ونلحظ شرحا لهذا الأمر خاصة في تقديم الله تعالى لجملة إياك نعبد، التي تتضمن الدعاء، على جملة إياك نستعين ، المتضمنة لمساعدته تعالى لنا وإمداده إيانا بالأسباب.
باختصار، إن سنة الله التي نراها دوما أنه يخلق الأسباب، فيهيئ الماء لإطفاء الغلة، والطعامَ لسد الجوع، ولكن من خلال الأسباب. فسلسلة الأسباب هذه متصلة على هذا النحو، وتخلق الأسباب حتما، لأن لله اسمين … كما قال:

وكان الله عزيزًا حكيمًا .

فالعزيز هو الغالب والقادر على كل شيء فيفعل ما يشاء، والحكيم من يكون فعله لحكمة وفي محله الملائم والمناسب. وعلى سبيل المثال، تجدون في النبات والجمادات خصائص شتى، فتناول قدرٍ ضئيل جدًا من التربد أو السقمونيا يسبب الإسهال. إن الله قادر على أن يجعل بطن المرء يجري دون سبب، أو يروي الغليل حتى بدون الماء، ولكن كشف عجائب قدرته للإنسان كان ضروريا، لأنه كلما ازداد الإنسان معرفة بعجائب قدرة الله اطلع على صفات الله أكثر، مما يساعده على التقرب إليه تعالى.

فالله تعالى يستجيب دعاء العبد ما دام قبوله سيحفظه من الآفات والصدمات، أما دعاؤه الذي فيه ضرر فيقبله الله تعالى برفضه. لقد تلقيت الوحي التالي مرارا: «أجيب كل دعائك»، وبتعبير آخر، إن كل دعاء هو نافع ومفيد سوف يجاب.

ثم ذكر المسيح الموعود فلسفة الدعاء فقال:
عندما يبكي الرضيع ويصرخ طلبا للبن الأم من فرط الجوع، يتدفق اللبن في ثدي الأم. لا يعرف الطفل حتى لفظ الدعاء، ولكن كيف تستدرّ صرخاته لبن أمه؟! هذا ما جرّبه الجميع. فقد لوحظ في بعض الأحيان أن الأم لا تشعر بوجود اللبن في ثديها، ولكن صرخة الرضيع تجلبه تلقائيا وكأن لتلك الصرخات علاقة بتدفقه. أقول حقًّا: لو كانت صرخاتنا أمام الله تعالى أيضا اتسمت بهذا النوع من الحرقة والاضطرار فلا بد أنها تثير فضله ورحمته وتجلبهما.
ثم يشرح فلسفة الدعاء المذكورة في مثال الأم والرضيع فيقول بأنه ينبغي أن تكون من سمة الإنسان الدعاء والسؤال، فإن دأَبَ على ذلك أراه الله تعالى تجلي الاستجابة. يقول حضرته:
«إن الدعاء سمة الإنسان والاستجابةُ صفة الله، والذي لا يفهم ولا يؤمن فهو كاذب. إن مَثَل الطفل الذي ضربته آنفا يبين فلسفة الدعاء جيدا. الرحمانية والرحيمية ليستا شيئين مختلفين، لذا فمن ترك إحداهما وأراد الأخرى فلن يجد شيئا. إن من آثار فيوض رحمانية الله تعالى أنها تولِّد فينا القوى اللازمة لاستنزال فيوض رحيميته ، ومن لم يفعل ذلك فهو كافر النعمة. (أي ينكر نعم الله تعالى) إنما المراد من:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ

أننا نعبدك وحدك مع مراعاة الأسباب المادية التي وهبتَنا إياها، ومن جملتها الدعاء وغيره مما أُعطيناه من أسباب ظاهرة لتحقيق هذا الأمر. خذوا اللسان مثلا وما يدخل في تكوينه من عروق وأعصاب، فلو لم يكن اللسان هكذا لما قدرنا على الكلام. فلا يسع الإنسان الكلام إن جفّ لسانه، كذلك يتصلب اللسان إن أصيبت بعض أعصابه، فقد رزقنا للدعاء لسانا قادرا على التعبير عما يختلج في قلوبنا من أفكار. (لقد أعطى الله الإنسان اللسان ليتكلم به ويفصح عما يخطر بجنانه من أفكار) فإن لم نستخدم اللسان للدعاء قط فهذه شقاوتنا. هناك أمراض كثيرة لو أصابت اللسان لتعطل دفعة واحدة ولصار الإنسان أبكمَ. فمن عظيم رحيمية الله أنه قد منحنا اللسان. كذلك لو حصل خلل في الأذن لم نسمع شيئا. والحال نفسها للقلب؛ فلو أصابه المرض لفسد كل ما خلق الله تعالى فيه من قوة الخشوع والخضوع والتفكر والتدبر. انظروا إلى مختلي العقل كيف تبطل قواهم. إذًا، أفليس واجبا علينا أن نقدر هذه النعم الإلهية حق قدرها؟ لو تركنا هذه القوى التي أعطانا الله بكمال فضله عاطلةً، فلا ريب أننا بهذا نجحد نعمة الله علينا. فاعلموا ألا فائدة ترجى من الدعاء ما لم يرافقه إعمال ما خولنا الله تعالى من قوى وكفاءات وأسباب، (أي ينبغي أن تستخدموا كل ما حبانا الله تعالى به من قوى وقدرات وكفاءات واعملوا بما حثّ به على الأخذ بالأسباب، ثم ينبغي أن تقوموا بالدعاء، وبدون ذلك لن يفيدكم الدعاء شيئا) فإن لم نستفد من الرحمانية كعطية إلهية أولى، فأنى لنا أن ننتفع من رحيميته كعطية أخرى؟ ثم يُجَلِّي الأمر أكثر، فيقول بأن نواميس القدرة تتضمن أمثلة على استجابة الدعاء. يقول :

«فقصدي أن نظائر استجابة الدعاء موجودة في نواميس القدرة، وفي كل زمان يرسل الله نماذج حية لذلك، ومن أجل ذلك علّم دعاء «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط الذين أنعمت عليهم». هذه مشيئة الله وقانونه، وليس بوسع أحد أن يبدلها.
إن كلمات اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لهي دعاء يتضمن التماس أنْ يجعل الله أعمالنا أكمل وأتم. يكشف التدبر في هذه الكلمات أنها وإن كانت تأمرنا بالدعاء طلبا للهداية إلى الصراط المستقيم، (أي أنها في الظاهر إشارة إلى الحث على الدعاء وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم) إلا أن كلمات إياك نعبد وإياك نستعين التي سبقتها توحي بأنه يجب علينا أن نغتنم هذه الفرصة، أعني أن نستعين بالله مستخدمين قوانا السليمة على التدرج في منازل الصراط المستقيم. (فاستخدموا القوى السليمة التي وهبها الله تعالى للسلوك في الصراط المستقيم واستعينوا به) لذا فإن الأخذ بالأسباب الظاهرية أيضا ضروري، ومن يتركها فهو كافر بالنعمة.»

ثم يقول حضرته: هناك آفات عديدة لو أصابت اللسان لتعطّلَ عن عمله. فهذا مثال على رحيمية الله. كذلك قد أودع الله قلوبنا الخشوع والخضوع وقوة التفكر والتدبر، ولو دعَونا الله غير باذلين هذه القوى والقدرات فاعلموا أن مثل هذا الدعاء لن يكون مجديا ونافعا أبدا، لأننا إذا لم نستفد من الموهبة الأولى فماذا سنستفيد من الثانية؟ فورود إياك نعبد قبل اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني وكأننا نقول: ربنا ما عطّلنا المواهب والقوى التي أعطيتنا من قبل ولا أضعناها. اعلموا أن ميزة الرحمانية أنها تجعل الإنسان أهلاً للاستفادة من الرحيمية، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: ادعوني أستجب لكم ، وهذا ليس كلاما فارغا، بل هذا ما يقتضيه شرف الإنسان. الدعاء من صفات الإنسان، ومن لم يتحرَّ استجابة الدعاء عند الله تعالى فهو ظالم.
مما يؤسف له أن حالة السرور والمتعة الناشئة عن الدعاء لا توجد كلمات تكفي لوصفها، لأن هذه الحالة لا تدرك إلا بالتجربة. وقصارى القول، إن من أول شروط الدعاء عمل الصالحات وسلامة الاعتقاد، لأن الذي يدعو الله تعالى بدون أن يصلح معتقداته ويعمل الصالحات فكأنه يختبر الله تعالى. إننا نقصد بقولنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أن يجعَل ربنا أعمالنا أكملَ وأتمَّ، ثم نصرح أكثر ونقول صراط الذين أنعمت عليهم ، أي أننا نريد أن تهدينا إلى صراط المنعم عليهم، أي ذوي العقيدة السليمة، وتنقذنا من صراط المغضوب عليهم الذين حلَّ بهم العذاب جرَّاء سوء أعمالهم،. وأما قوله تعالى ولا الضالين فعلَّمنا فيه الدعاء من أجل ألا نُحرَم حمايته والاستفادة من رحمانيته، فنحرم بالتالي من الاستفادة من رحيميته فَنُمْسِي من الضالين.
ثم يدحض المسيح الموعود قول أهل الدنيا بأن التضرع والبكاء في حضرة الله لا يُجديان شيئا، فيقول حضرته:
يظن بعض الناس أن البكاء والابتهال أمام الله تعالى غير مُجْدٍ، كلا، هذا ظنّ خاطئ وباطل. بل مثل هؤلاء لا يؤمنون بوجود الله وصفة قدرته وتصرّفه. لو كانوا مؤمنين حقا لما تجاسروا على هذا القول.
كلما جاء أحد إلى الله تعالى ورجع إليه بتوبة صادقة تفضَّل الله عليه دائما. ما أصدقَ ما قال الشاعر (بالفارسية):

أيُّ عاشق ذلك الذي لا ينظر حبيبه إلى حاله! يا صاحبي ليس عندك وجع، وإلا فإن الطبيب موجود.
(أي عليكم أن تشعروا في أنفسكم بحرقة وألم فسوف يستجيب الله لكم. ثم يقول )

إن الله تعالى يريد أن تأتوه بقلوب طاهرة، والشرط الوحيد أن تجعلوا أنفسكم متوافقة مع لقائه سبحانه وتعالى، (أي أن تعملوا بقوله فليستجيبوا لي) وتُحدثوا في أنفسكم ذلك التغيير الحقيقي الذي يجعل الإنسان أهلاً للقاء الله تعالى. الحق والحق أقول، إن ما عند الله تعالى من قوى وكمالات وأفضال وبركات ما لا يُعَدُّ ولا يُحَدُّ، ولكن لن يتسنى لكم إحرازها إلا لو أبصرتموها بعين الحبّ. إذا كان الحب صادقا استجاب الله تعالى للدعاء بكثرة وأيد بكثرة أيضا.
فحضرته يقول: لكي يستجيب الله لدعائكم يجب أن تحبوه ، فلو كان الحب صادقا فلا بد أن يتقبل أدعيتكم بكثرة.
ماذا على الإنسان أن يفعل حتى يحظى بحب الله تعالى فيستجيب لدعائه ويمتعه بقربه؟! يقول المسيح الموعود بهذا الصدد:
إن الشرط هو أن يحب المرء الله سبحانه وتعالى ويخلص له، فإنّ حبَّ الله يحرق حياة الإنسان السِفْلية ويجعله إنسانا جديدا نقيا، وعندها يرى ما لم يكن يراه من قبل ويسمع ما لم يكن يسمعه من قبل. باختصار، لقد زوّد اللهُ الإنسان بكفاءات شتى ليتناول من مائدة الفضل والكرم التي أعدها الله له وينتفع منها.
(أي أن الله تعالى لم يخلق الأشياء فقط بل زوَّدَنا أيضا بكفاءات تساعدنا على استعمال تلك الأشياء والانتفاع منها)

فكما أن الإنسان إذا أصابته مصيبة وشعر بالألم والضيق، نادى بكل قوة مستصرخا ومستغيثا، كذلك لو أنه فكّر في أحوال ضعفه وزلاته لوجد نفسه محتاجًا إلى معونة الله في كل حين، وخرّت روحه على عتبة الله تعالى بمنتهى الحماس والألم والاضطراب وصرخت: يا رب، يا رب.

ولو أن الله تعالى زود الإنسان بالكفاءات ثم لم يهيئ له شيئا لكان هذا نقصًا، أو لو أنه تعالى أعد له الأشياء ولم يزوده بالكفاءات للانتفاع منها فما الفائدة في ذلك؟ ولكن ليس الأمر هكذا، وإنما وهب الله تعالى للإنسان الكفاءات وهيأ له الأشياء والأسباب أيضا.
ففي مقابل خلق الخبز لغذاء للإنسان، خلق الله تعالى له العين واللسان والأسنان والمعدة وسخَر له الكبد والأمعاء لتناوله وهضمه.
وجعل مدار كل هذه الأمور على الغذاء، فلو لم يدخل الطعام في البطن فمن أين يأتي الدم للقلب؟ ومن أين يتولد الكيلوس؟ فكذلك تماما قد تفضل الله علينا فأرسل أولاً رسوله بدينٍ كامل كالإسلام، وجعله خاتم النبيين وأنزل عليه القرآن كتابا كاملا خاتم الكتب، بحيث لن ينزل بعده إلى يوم القيامة كتاب، ولن يأتي بعده أي نبيّ بشرع جديد، فما لم ننتفع بعد ذلك مما وهبنا الله تعالى من قوى الفكر والتدبر، ولم نتقدم إلى الله، فكم نكون كسالى وغافلين وناكرين للجميل! انظروا كيف دلّل الله تعالى في هذه السورة الأولى على صراط فضله بطريقة واضحة مقصودة.
انظروا كيف بيَّن الله تعالى في أولى سور القرآن صراط فضله باجلى بيان وبشكل مقصود، حيث بين في هذه السورة التي تسمى خاتم الكتاب وأم الكتاب بصراحةٍ غايةَ الحياة الإنسانية والسبيل إلى تحقيق تلك الغاية. فكأنّ قوله (إياك نعبد) هو مقتضى الفطرة الإنسانية ومرادها الأصلي، ثم قدّمه الله على قوله (إياك نستعين) ليبين أنه لا بد للإنسان أولاً أن يسعى ويجاهد في اتباع سبل مرضاة الله تعالى بكل ما أعطي من قوة وهمة وفهم، وينتفع مما وهبه الله تعالى من كفاءات وقوى حق الانتفاع، ثم بعد ذلك يدعو الله تعالى لتكميلها واستثمارها.
ما وسائل بلوغ معرفة الله؟! يبين المسيح الموعود هذا الموضوع فيقول: لا شك أنه قد (خُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا). إنه مخلوق ضعيف لا يستطيع فعل شيء من دون فضل الله ورحمته. إن وجوده وأسباب نمائه وبقائه كلها متوقفة على فضل الله تعالى. إنه لأحمق ذلك الذي يتباهى بعقله وفهمه أو ماله وثرائه، لأن كل تلك الأمور إنما هي عطية من الله، فمن أين حصل عليها؟ أما الدعاء فلا بد أن يفكر الإنسان في ضعفه وعجزه، لأنه كلما فكر في ضعفه وجد نفسه أحوج إلى عون الله تعالى، وهكذا سيتحمس قلبه للدعاء.
(يقول الناس لا نجد حماسًا للدعاء، وهنا يبين أن على الإنسان أن ينظر بإمعان إلى ضعفه وعجزه، ثم يسعى للوفاء بمقتضى محبة الله، فسوف يجد في قلبه حماسًا للدعاء. ويتابع المسيح الموعود ويقول)
فكما أن الإنسان إذا أصابته مصيبة وشعر بالألم والضيق، نادى بكل قوة مستصرخا ومستغيثا، كذلك لو أنه فكّر في أحوال ضعفه وزلاته لوجد نفسه محتاجًا إلى معونة الله في كل حين، وخرّت روحه على عتبة الله تعالى بمنتهى الحماس والألم والاضطراب وصرخت: يا رب، يا رب.
لو تدبرتم في القرآن الكريم لعلمتم أن الله تعالى قد أمرنا بالدعاء في أول سورة منه فقال:

اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ،

لا يُعدّ الدعاء جامعا إلا إذا جمع كل يجلب المنافع وينجي من المصائب والآلام فقد سُئِلت في هذا الدعاء المنافعُ العليا التي يمكن وجودها في دعاء، كما يُتَوقَّى به من كافة المضار التي تؤدي إلى هلاك الإنسان.
إذًا، يجب التذكر دائما أن الأدعية المذكورة آنفا ليست من أجل الدنيا، وإنما هي من أجل الدين، لذا يجب على الإنسان أن يقدّم الدين على الدنيا في أدعيته كلها. عندما يفعل المرء ذلك تفتح عليه أبواب قرب الله تعالى وتُقبل الأدعية الأخرى تلقائيا.
ثم يوضح المسيح الموعود أن الدعاء الحقيقي هو دعاء ثبات المرء على الدين، وهذا الدعاء يكون سببا للحصول على قرب الله واستجابة الأدعية الأخرى، فيقول :

« أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ أي أقبل توبة التائب. إن وعد الله هذا يُجيز الإقرار الذي يقوم به التائب بصدق القلب. لولا مثل هذا الإقرار أمام الله تعالى لكان قبول التوبة صعبا. الإقرار الذي يتم بصدق القلب تكون نتيجته أن الله يحقق جميع وعوده التي قطعها مع التائب. عندما يقر الإنسان بأنه سيجتنب جميع الذنوب ويؤْثر الدين على الدنيا يبدأ تجلي النور بالنـزول على قلبه في الوقت نفسه.»

لقد بيّن الله تعالى أن الصلاة أفضل السبل لقربه ولإجابة الدعاء، يقول المسيح الموعود في هذا الموضوع:
الهدف الحقيقي ومغزى الصلاة هو الدعاء وهو يطابق قانون الله السائد في الطبيعة. نرى بوجه عام أنه عندما يبكي الطفل ويبدي اضطرابه، فإن الأم تضطرب بدورها وترضعه. فالعلاقة نفسها توجد بين الألوهية والعبودية ولا يُدركها كل شخص. عندما يخرّ الإنسان على عتبات الله بكل تواضع وخشوع وخضوع ويعرض عليه ظروفه ويسأله حاجاته يهيج لطف الألوهية فيُرحم العبدُ. إن لبَنَ فضل الله ولطفه أيضا يقتضي بكاءً، لذا يجب أن تُقدَّم إليه عين باكية.
ففي شهر رمضان حين يتوجه معظم الناس إلى المساجد وأداء الصلاة جماعة، يجب التركيز أكثر على النوافل أيضا، كذلك يجب الإكثار من الدعاء ليوفقنا الله لتقديم الدين على الدنيا ويرزقنا قربه. ينبغي أن تكون الأولوية لهذا الدعاء ثم تأتي مرتبة الأدعية الأخرى التي تتعلق بحاجاتنا الدنيوية، فسيقضي الله تعالى الحاجات الدنيوية تلقائيا.
والآن أقدم لكم من أدعية المسيح الموعود دعاء يجب أن نحرص عليه كثيرا في هذه الأيام بوجه خاص لننال قرب الله تعالى. لقد دعا المسيح الموعود في حضرة الله قائلا: «يا ربَّ العالمين، لا يسعني شكر مننك، فأنت جِدُّ رحيمٍ وكريمٍ، ولك عليّ مننٌ تفوق حد الإحصاء، فاغفرْ لي ذنوبي لئلا أُهلَكَ، وأَلْقِ حُبَّك الخالص في قلبي لأنال الحياة، واستُرْني وأوزِعْني أن أعمل صالحًا ترضاه. أعوذ بوجهك الكريم من أن يحلّ عليّ غضبك، ارحمْني ونَجِّني من بلايا الدنيا والآخرة، فبيدك الفضل والخير كله، آمين ثم آمين.»
ندعو الله تعالى أن يوفقنا لفهم حقيقة الدعاء، وأن يجعلَنا شهرُ رمضان من الذين يفهمون تلك الحقيقة، ويوفقنا دائما لأن نكون من أقوياء الإيمان الذين يسمعون أوامره ويعملون بها ويقدمون رضاه على كل ما سواه. وندعوه تعالى أن تكون أعمالنا كلها لوجه وأن يتقوى اعتقادنا أكثر من ذي قبل، وينشأ في قلوبنا حبُّه الصادقُ، وأن ينقذنا من البلايا في الدنيا والآخرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك