طرق الحفاظ على الإيمان
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين (آمين)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر: 19-20)
من الملاحظ عادة أن أصل كل سيئة وذنب هو عدم بذل المساعي لاجتناب هذه السيئات والذنوب بعدّها بسيطة هينة، أو عدم الالتفات إليها. لكن عدم الحذر هذا نفسه يقود الإنسان إلى ارتكاب الكبائر، لأنه ينسى الحسنات تدريجيا، وينسى معايير الحسنات التي يجب على المؤمن إحرازُها، وتقلّ عنده خشية الله، ويبتعد عن التقوى، ولا يبقى عنده الإيمان الكامل بالحياة بعد الموت أيضا. وبتعبير آخر يبتعد مدّعي الإيمان عمليا عن شروط الإيمان، ولا يبقى مؤمنا في نظر الله. ولقد لفت الله انتباه المؤمنين إلى هذا الأمر في هاتين الآيتين. فقال الله للمؤمنين مؤكدا: لا تهتموا بالحياة الدنيا وملذات اللهو واللعب والراحة والرفاهية أو علاقات الأعزة والأقارب أو الأصدقاء في هذه الحياة الدنيا فقط، بل إن ما يجب أن تهتموا به هو آخرتكم. يجب أن يكون المفضَّل لديكم والحائزُ على اهتمامكم هو معيار إيمانكم بالله واتقاؤكم إياه . يجب أن يكون إيمانكم بحياة الآخرة والحساب والجزاء محورَ اهتمامكم. وإذا حصل ذلك فسوف يتحقق تقدمُكم الأخلاقي الحقيقي حيث لن تكون الأخلاق سطحية بل ستؤدي إلى الفوز برضوان الله . فلن يكون تقدُّمُكم الروحاني وادعاؤكم بأنا مؤمنون حقيقيا إلا إذا كنتم تنظرون ماذا قدمتم لغد. كما لن يكون إيمانكم بالله اليقيني والعفيف والمبني على الصدق حقيقيا في نظر الله إلا إذا سعيتم لنيل رضوان الله ناظرين إلى آخرتكم، وسعيتم للعمل بأوامره.
يقول سيدنا المسيح الموعود في هذا الخصوص: (هنا قدم حضرته ترجمة المسيح الموعود الأردية لهذه الآية الأولى التي تلوتها عليكم) “أيها المؤمنون خافوا الله على الدوام ولينظر كل واحد منكم بانتظام ما الذي قدم للحياة الآخرة، واخشَوا الإله الخبير العليم الذي ينظر إلى أعمالكم، أي هو مطلع جيدا على أعمالكم وفاحِصها لذا لن يتقبل أبدا الزائفة منها.
فكل واحد منا بحاجة ماسة إلى إدراك أمْر الله هذا باهتمام وتدبر، بحيث ننظر إلى أعمالنا متحلين بتقوى الله، ونهتم بأمورٍ تحسِّن مستقبلنا. إن الله تعالى الذي ينظر إلى أعماق قلوبنا وهو عليم بنا تمام العلم، لا يمكن أن يُخدع بأمور سطحية فقط. بل إنه كما قال المسيح الموعود يميز الزائف من الصحيح، فلن يتقبل أعمالا مزوَّرة أبدا. فيجب على كل مؤمن أن يهتم بمستقبله حيث يواجه الحساب على الأعمال. إذ يجب أن لا نعدّ هذه الدنيا وحدها كل شيء، بل يجب السير على درب التقوى لنيل النجاحات الحقيقية.
لكن عدم الحذر هذا نفسه يقود الإنسان إلى ارتكاب الكبائر، لأنه تدريجيا ينسى الحسنات، وينسى معايير الحسنات التي يجب على المؤمن إحرازُها، وتقلّ عنده خشية الله، ويبتعد عن التقوى، ولا يبقى عنده الإيمان الكامل بالحياة بعد الموت أيضا. وبتعبير آخر يبتعد مدّعي الإيمان عمليا عن شروط الإيمان، ولا يبقى مؤمنا في نظر الله.
يقول سيدنا الخليفة الأول للمسيح الموعود : لقد أخبرَنا الله عن السرّ لإحراز النجاح في الدنيا والعقبى، وهو أنه يجب على الإنسان أن يهتم بالآخرة في هذه الدنيا وبذلك تتحسن دنياه وعقباه كلتاهما. ثم قال حضرته: لا ينجح الإنسان بالعمل بتعليم القرآن الكريم:
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
في الدنيا فحسب بل ينال الفلاح في الآخرة أيضا بفضل الله . فلا نستطيع أن نجمع متاع حياة الآخرة أبدا ما لم نبدأ الاستعداد له اليوم في هذه الدار.
من هذا المنطلق أود أن أشرح لكم أن هذه الآية تُقرأ في خطبة عقد القران أيضا، وهي الأخيرة من الآيات التي تُقرأ في خطبة عقد القران. لقد لفت الله انتباهنا إلى أمور كثيرة في الآيات التي تُقرأ في خطبة عقد القران ومنها الاعتناء بقرابات الرحم والاهتمام بتأدية المسئوليات التي تقع على الزوجين نتيجة هذا العقد، والتمسك بالصدق. فبذلك ستوفَّقون لإحراز الحسنات والتمسك بالصدق. فقال: استجيبوا لأوامر الله ورسولِه، ففي ذلك تكمن حياتكم الناجحة. ثم ركز أكثر وقال: إنكم إذا نظرتم إلى الغد فسوف ينشأ لديكم اهتمام بأوامر الله ورسوله. لقد أصدر الله ورسولُه أوامر كثيرة تؤدي دورا كبيرا في تحسُّن الحياة العائلية. فإذا تدبر الإنسان فسوف يجد أن فائدة العمل بها تصيبه هو نفسه، لأنه كما قال الخليفة الأول تتحسن بها دنيا الإنسان وعقباه. وسوف تصبح الحياة الأسرية في هذه الحياة الدنيا مشهدا للجنّة كما ينال الإنسان بالعمل بأوامر الله الإنعاماتِ الإلهية في الآخرة أيضا. ثم لا يتوقف الأمر عند ذات الإنسان فقط بل سوف يوفّق الذرية أيضا للسير على درب الحسنات، وبتعبير آخر لن يحسّن المؤمن مستقبله الشخصي فقط بل سوف يهيئ ضمانا لتحسّن مستقبل الأجيال القادمة أيضا، بحيث تسير الأجيال القادمة أيضا على درب الحسنات عادة.
جميع السيئات والذنوب تصدر منا لأن خناسا يكون قد اقتحم دماغنا، أي يكون فيه شيطانٌ. ومن ثم يتصرف الإنسان متجاهلا العواقب. فنادرا ما يقدم مجرمو القتل وسفْك الدماء أو المذنبون أنفسهم لمواجهة النتائج باعترافهم. فالذين يقدمونها فمن الملاحظ أن حالة الجنون تلازمهم دوما.
فإذا بدأ الزوجــان أو العـائلات – التي تدمر حياتها الأسرية لأتفه الأمور- بتدبُّر أوامر الله والعمل بها، فلن يضمنوا سكينة بيوتهم شخصيا فحسب بل سوف يوفَّقون لتربية أولادهم تربيةً حسنة وقيادتِهم إلى السير على دروب التقوى أيضا، ومن ثَم يحسِّنون حياتهم. وليس ذلك فحسب بل سوف ينالون إنعامات الله أيضا في الدنيا والآخرة. فالبيوت التي يدمر أهلها حياتهم الأسرية لأتفه الأمور من أجل الدنيا فقط، يجب أن يفكروا ويتدبروا. إذ ليست الأجيال القادمة ذريتكم فقط بل هي ثروة الجماعة والأمة أيضا، فتسييرهم على الطريق الصحيح مهمة الوالدين. ولن يتحقق ذلك ما لم يسعَ الوالدان للعمل بأوامر الله ورسولِه. وفقنا الله جميعا لذلك.
هذا جانب واحد قد نبَّه الله المؤمنَ إلى العمل به، لكي يتمكن من تحسين الدنيا والآخرة له ولأولاده. من المعلوم أن في حياتنا اليومية تتسنى مناسباتٌ كثيرة لا نتمسك فيها بالتقوى، ولا ننظر إلى الآخرة، ونعدّ وسائل هذه الدنيا وحاجاتها هي كلَّ شيء، ونؤْثر وسائل هذه الدنيا على السند الإلهي دون أن نشعر. ثم ندمر مستقبل هذه الدنيا بسبب ضعفنا وتقصيراتنا وكسلنا بحيث ندمر المستقبل في هذه الحياة الدنيا والحياة الآخرة أيضا، ولا نفكر أن سلوكنا هذا كم يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة.
لقد نبهنا الخليفة الأول ذات مرة بكلمات موجزة إلى ذلك فقال: يجب على المؤمن أن يفكر سلفا في نتائج العمل الذي يقْدم عليه. فالإنسان عند الغضب يريد أن يقتل من يغضب عليه ويسبّه، فعليه أن يفكر في النتيجة التي ستترتب عليه. فإذا وضَع هذا الأصل في الحسبان فسوف يوفَّق للتحلي بالتقوى. إذا لاحظنا فسوف نجد أن جميع السيئات والذنوب تصدر منا لأن خناسا يكون قد اقتحم دماغنا، أي يكون فيه شيطانٌ. ومن ثم يتصرف الإنسان متجاهلا العواقب. فنادرا ما يقدم مجرمو القتل وسفْك الدماء أو المذنبون أنفسهم لمواجهة النتائج باعترافهم. فالذين يقدمونها فمن الملاحظ أن حالة الجنون تلازمهم دوما. أما العاقل فحين يخرج من حالة الجنون هذه يسعى لحماية نفسه من العقاب. أما المتعودون على الجرائم فقضيتهم مختلفة. فالله لم يتكلم هنا عن المتعودين على الجرائم أو المجانين، بل خاطب المؤمنين أن من علامة المؤمن أنه ينظر إلى المستقبل. ثم وضَّح حضرة الخليفة الأول كيف يمكن أن نتصوَّر المستقبل بالنظر إلى النتائج، أو كيف يمكن أن ننظر إلى المستقبل، فقال: يجب أن يؤمن المرء بـ الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ أي هو مطلع على ما تتصرفون. فلو تيقّن الإنسان أن هناك إلها خبيرا وعليما يرى كل نوع من السيئة والخديعة والزيف والكسل والتهاون، وسيعاقبه عليه لأمكنه اجتنابه. فقال: عليكم أن تخلقوا في أنفسكم إيمانا من هذا النوع.
هناك كثير من الناس الذين يتهاونون في واجباتهم فيما يتعلق بعملهم أو مهنتهم وغيرها، وإذا فعل الإنسان ذلك لا يبقى رزقه حلالا. أي أنّ الذين يتكاسلون في الأمور الدنيوية ولا يؤدون حقها فهذا يعني أنهم أفسدوا عاقبتهم أيضا، ولم يعد رزقهم الذي كسبوه حلالا بل هو رزق كُسب خدعةً. فهذه الآية التي توجه أنظار الإنسان إلى الانتباه إلى عقباه وهي واسعة المعاني جدا، وهي توقِف قدمَي المؤمن الحقيقي في كل خطوة من التقدم إلى الذنب ونقاط الضعف مهما كانت بسيطة.
فهناك حاجة إلى أن نخلق في أنفسنا يقينا -ويجب أن نعض عليه بالنواجذ- بأن الله تعالى يرى كل عمل من أعمالنا وسيحاسبنا عليه. ثم يجب أن نوقن أيضا بأنه لا يحب أية خديعة يمكن أن يقوم بها أحد، وإن حسبها بسيطة أو كانت لكسب منفعة ضئيلة أو إذا تهاون في الأعمال المفوَّضة إليه أو لم ينجز أعماله قصدا بحسب الوعد واضعا في الحسبان لعله يستفيد أكثر بالضغط على صاحب العمل. فليكن معلوما أن الله تعالى لا يحب مثل هذا السلوك. وما دام الله لا يحب هذا السلوك فسيواجه صاحبه جزاءه أيضا، كما قال الخليفة الأول أن جزاءه سيكون بصورة العقوبة، ليس إلا.
فقد وجّه الله تعالى- بأمره بالانتباه إلى العقبى – أنظار المؤمنين إلى مراعاة التقوى والسلوك على أدقّ سبله بدءا من أموره التجارية في مجتمعه إلى أموره العادية في البيت. والذي لا يريد أن يسلك مسلك التقوى فليضع في الحسبان أن الله سيبطش به حتما. فلا يظننّ أحد أنه لا علاقة بين المعاملات الدنيوية والأمور الدينية. المؤمن مأمور بالسلوك على دروب التقوى ومراعاة مقتضيات التقوى بحسب أمر الله تعالى في كل الأمور سواء كانت تتعلق بالدين أو الدنيا. في بعض الأحيان يحاول الإنسان أن يختار طرقا معوجة ليجتنب ابتلاء دنيويا، ويسعى للحصول على منفعة دنيوية بأية طريقة ممكنة، ولكن يجب عليه أن يتذكر أن كل أسلوب خادع يختاره المرء للحصول على منفعة مالية يُبعده عن الدين والإيمان. الأمر الذي يبدو دنيويا في بادئ الرأي يكون أحيانا ابتلاء للمرء في دينه، ويُبعده عن الدين وعن الله رويدا رويدا. لذا يجب على المؤمن أن يتذكر دائما أن الابتلاء في الدين أقسى من الابتلاءات الدنيوية بكثير، وبالنتيجة تفسد دنيا المرء وعقباه أيضا.
فيجب أن نحاسب أنفسنا دائما واضعين هذا الأمر في الحسبان، ويجب أن ننظر إلى عاقبة كل عمل واضعين في الحسبان أن الله تعالى يرى أعمالنا كلها. عندما يتولّد هذا الفكر في القلب يصبح الإنسان مؤمنا حقيقيا أو يخطو على هذا السبيل على الأقل.
ولا حاجة إلى فحص استمارات تابعة للجماعة أو للمنظمات الفرعية للاطلاع على هذا المعيار بل كل واحد يستطيع أن يحاسب نفسه ويعرف هل يخطر بباله قبل الشروع في أيّ عمل أن الله يرى فعله هذا. فإذا كان يعمل شيئا ابتغاء مرضاة الله فليعلم أن الله تعالى قد وعده بالأجر أضعافا مضاعفة. أما إذا كانت النية سيئة فليعلم أنه يمكن أن يقع تحت طائلة بطش الله. فإذا أدى كل واحد واجباته أو سعى لأدائها واضعا هذه الفكرة في الاعتبار فسوف يرتفع مستوى تقوى الجماعة بوجه عام وستكون رفعة معيار التقوى في الجماعة ملحوظة للجميع وبصورة تلقائية. ولن يواجه فرع التربية ولا فرع “الأمور العامة” ولا فرع “دار القضاء” مشاكل ومسائل، ولن تكون الفروع الأخرى أيضا بحاجة إلى التذكير المتكرر أو القلق.
إذًا، يجب أن نحاسب أنفسنا كل حين وآن، في كل صباح وفي كل مساء. هناك حاجة ماسة لننقذ أنفسنا من هجمات الشيطان. ولكن إذا كانت هذه الفكرة لا تخطر ببال أحد فهذا يعني أن الشيطان أنساه إياها لأن الشيطان هو الذي يلعب دوره لينسى المرء هذه الأشياء. وإذا نسي المرءُ ربّه فالشيطان هو الذي يُنسيه. وإذا نسي الإنسان عقباه فالشيطان هو الذي أنساه ذلك. والشيطان هو الذي يُغوي الإنسان ويقول له بأن الله لا يراه. وإذا فحصنا الأمر من هذا المنطلق لوجدنا أن كثيرا من الناس لا يفكرون أن الله يرى أعمالهم، ولا يفكرون ماذا عسى أن تكون عاقبتهم. يقول رسول الله بأن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم. إن كثيرا من الأمراض تضر بالإنسان، فمثلا يصاب المرء بالالتهاب لسبب من الأسباب ثم يجري هذا الالتهاب في الدم. ثم تتفاقم هذه الأمراض رويدا رويدا ويأتي وقت حين تترك في الجسم تأثيرها السيئ جدا. والمصاب لا يدرك أن المرض قد هاجمه إلا إذا كان حذرا جدا. ولكن إذا تهاون أحد قليلا ثم زار الطبيب ففي بعض الأحيان لا يعلم الطبيب أيضا أن المرض كامن في المريض ويجري فيه مجرى الدم. تتفشى أحيانا هذه الأمراض، كما قلتُ، بسبب الجراثيم المنتشرة في الجو ثم تنتقل إلى الآخرين. نرى الأمراض والأوبئة منتشرة في هذه الأيام أيضا ولكن لا يُعلَم عنها أحيانا في البداية ولكنها عندما تتفشى على نطاق أوسع يتم تشخيصها. ولكن أخطر ما في الأمر وخاصة في هذه الأيام هو انتشار الأمراض الروحانية فنرى الجو مليئا بالأمراض الروحانية، ولكن الإنسان لا يدري أن الشيطان هاجمه وأدى إلى تفاقم مرضه الروحاني. والمعلوم أن المرض الذي يثور نتيجة جريان الشيطان في دم الإنسان أكثر خطورة من مرض جسدي عادي، لأن المرض الجسدي يؤثر في الجسم ويتعرض الجسم للأرق والسهاد ويتطرق الكسل إليه ثم يتفاقم المرض أكثر فيشعر به المرء ويذهب إلى الطبيب طلبا للعلاج ولكن المرض الروحاني يكون أخطر من حيث أنه كلما ابتعد الإنسان من الله هاجمه الشيطان فورا، ولكن المصاب به لا يشعر أنه مريض بل يزعم أنه سليم معافى ولكنْ أصدقاؤه ومواسوه يشعرون أنه مريض ويشرحون له الموضوع. أما الذي يكون مرضه قد تفاقم إلى درجة كبيرة فيزعم أن أصدقاءه وأقاربه مخطئون ويظن أن أصدقاءه يقولون كلاما خاطئا ويحسب نفسه سليما معافى. إذًا، إن هجوم الشيطان أو هجوم المرض الروحاني أخطر بكثير من المرض الجسدي لأن الإنسان في كثير من الأحيان لا يرضى بعلاجه لدرجة أنه إذا وجّه الآخرون أيضا أنظاره إلى العلاج لا يكاد ينتبه إليه.
فعلى المؤمن أن يتخذ إجراءات وقائية قبل أن يهاجمه المرض. وما دامت الأمراض الروحانية منتشرة في أجواء هذا المجتمع على نطاق واسع كما قلت من قبل، فهناك حاجة للسعي الدؤوب وكذلك للعلاج المستديم والإجراءات الوقائية لإنقاذ أنفسنا منها. وهذا ضروري جدا للمؤمن، لذا عليه أن يستمر في هذا العمل دائما. يجب أن تتذكروا أن المؤمن الحقيقي لا يخلو من خشية الله أبدا، ولا يجوز له أن يغفل ذلك. لقد جاء في الروايات عن النبي أنه كلما استيقظ ليلا دعا الله بالتضرع والإلحاح الشديد. ذات مرة قالت له السيدة عائشة رضي الله عنها بالنظر إلى حالته ما مفاده: لماذا ترهق نفسك إلى هذا الحد؟ ولماذا كل هذا الخشوع والخضوع في الدعاء وقد غفر لك الله كل شيء؟ وقد قال النبي أيضا بأن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وقال أيضا بأن شيطانه قد أسلم، أي لم يكن هناك احتمال أن يهاجمه أيّ مرض روحاني، مع كل ذلك قال بأن نجاتي أيضا منوطة بفضل الله تعالى، وأنا أيضا بحاجة إلى الخضوع الدائم أمامه . فإذا كان الرسول الكريم مع كل ذلك يُظهر مثل هذه الخشية فمن يمكنه القول بأنني لست بحاجة إلى النظر كل حين إلى الغد في كل عمل أقوم به، وأنني لست بحاجة إلى البحث عن أفضال الله تعالى بعد القيام بهذه الأعمال؟
فهناك حاجة ماسة للتيّقظ كل حين، واختبارِ الأعمال واستعراض الأحوال مع الالتزام الدائم بالتقوى. وهناك حاجة لطلب الرحمة من الله دومًا، والاهتمام بطرقِ إنقاذ الإيمان.
لقد وجه الله تعالى في الآية التالية التي تلوتها إلى أنه ينبغي أن:
لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ
وذلك لأن الله تعالى بعد ذلك أنساهم أنفسهم. ولقد ضربت مثالا أن المريض بمرض روحاني لا يعدُّ نفسه مريضا، وإذا حاول بعض المواسين له أن يعالجوا مرضه فإنه يحسبهم من المرضى والمجانين. فإن المرض الروحاني يُغفل الإنسان عن استعراض حالةِ نفسه. ثم لا تُسفر هذه الحالة إلا عن الدمار.
ينبغي أن تتذكروا أن الإنسان ينسى الله تعالى عمومًا بطرق ثلاثة، أو بتعبير آخر هناك أنواع ثلاثة من الناس في العالم الذين يبتعدون عن الله؛ أحد هذه الأنواع أناسٌ ينكرون وجود الله تعالى ويقولون بكل تجاسر أنه لا شيء يسمّى بالله، ويتبنّى هذه الفكرة عدد كبير من الناس الذين يعدّون أنفسهم مثقّفين، فإنهم يتبجّحون بثقافتهم العالية ويسمّمون بأفكارهم السامّة هذه عقولَ الشباب وأذهانهم غير الناضجة مستخدِمين طرقًا شتى من وسائل الإعلام والإنترنيت.
والنوع الثاني أناسٌ لا يؤمنون إيمانًا صادقًا وحقيقيًا بالإله القوي القدير الذي سيمثلون أمامه يومًا ويسألهم عن أعمالهم. فعلى الرغم من أنهم يؤمنون بأن هناك إلهًا خلق هذا العالم وهو يدير نظام هذا الكون إلا أنهم مع كل ذلك لا يعملون بحسب أوامره.
والنوع الثالث منهم أولئك الذين قد انغمسوا في الأعمال الدنيوية لدرجة نسوا الله تعالى، فإذا تذكروا صلّوا أحيانًا ودعوا الله أيضا ولكنهم لا يواظبون على ذلك، ولا ينتبهون إلى أن الله تعالى قد فرض على المؤمن خمس صلوات.
على أية حال، من المؤكد حتمًا أن الذين ينسون الله تعالى فإنهم يصِلون في نهاية المطاف إلى حالة يتعرضون فيها للانحطاط الأخلاقي والروحاني ثم يفقدون السكينة الذهنية. إنهم يرون منافعَهم كامنةً في الأعمال الدنيوية لذلك يرون إنجازها أولا، أما حقوق الله تعالى فيؤخرونها لتؤدَّى لاحقًا، وذلك لأنهم يرون راحتهم وسكينتهم ماثلةً في المنافع الدنيوية، ولكن كما يقول الله تعالى بأنه يعامل مثل هؤلاء الناس معاملةَ: “فأنساهم أنفسهم”، أي أن الله تعالى يُغفلهم عن أنفسهم أيضا فلا يمكن أن يتمتعوا بالسكينة الذهنية. فلقد قال الله تعالى للمؤمنين إنه إذا كانت فيكم تقوى حقيقية، وإذا كنتم مؤمنين حقًّا بوجود الله تعالى وتؤمنون بوحدانية الله تعالى فينبغي أن تعيشوا حياتكم بالشروط التي أمر الله تعالى بالعيش وفقها، وهي أن تنظروا إلى عاقبة كل عمل تقومون به، وأن تكونوا على يقين تام أن الله تعالى يرى كل أعمالكم وأفعالكم. وإذا فكر الإنسان بمثل هذا التفكير فسيغيّر طريقه لإنجاز كل أعماله وسيشعر بأن الله تعالى ينعم عليه بأفضاله بسبب ذلك.
أتذكّر أنني لما سافرت في جولة إلى كينيا التقى بي هنالك في حفل الاستقبال سياسيٌّ قديمٌ وقال لي: تشرفتُ بلقاء الخليفة الرابع رحمه الله أيضا وقد أسدى لي نصيحة انتفعت بها كثيرًا، لقد نصحني قائلا: يجب أن تفكر قبل الشروع في أي عمل بأن الله تعالى يراك وعنده سِجِلّ كامل لجميع أعمالك.
ولكن المرض الروحاني يكون أخطر من حيث أنه كلما ابتعد الإنسان من الله هاجمه الشيطان فورا، ولكن المصاب به لا يشعر أنه مريض بل يزعم أنه سليم معافى ولكنْ أصدقاؤه ومواسوه يشعرون أنه مريض ويشرحون له الموضوع. أما الذي يكون مرضه قد تفاقم إلى درجة كبيرة يزعم أن أصدقاءه وأقاربه مخطئون ويظن أن أصدقاءه يقولون كلاما خاطئا ويحسب نفسه سليما معافى.
لا أتذكر إذا كان هذا السياسي مسلمًا أم مسيحيًا، بل لعله كان مسيحيًا؛ فإذا كان هو ينتفع بمثل هذه النصيحة فإلى أي مدى سينتفع المؤمن الحقيقي – الذي أكّد له الله تعالى بوجه خاص أن يعمل بهذه الأمور – بأن ينظر إلى عاقبة أعماله دومًا ويتذكر أن الله العليم القدير يرى جميع أعماله وأفعاله، ولأجل ذلك ينبغي أن يقوم بكل عمل من أجل نيل رضى الله تعالى. إن لم تفكروا بمثل هذا التفكير ونسيتم الله تعالى، فيقول الله تعالى بأنكم ستُعَدّون من الفاسقين.
بوصفه تعالى هؤلاء بالفاسقين وضّح على من يدّعون الإيمان أنهم إذا كانوا لا يسلكون سبل التقوى، وإذا كانوا لا يهتمّون بغدِهم، ولا يلتزمون بأوامر الله تعالى فسيُعَدّون من الفاسقين. والفساق هم الذين يتعدّون حدود الله وينغمسون في الذنوب ويَخرجون من الطاعة ويبتعدون عن الصدق. فإن لم نحاسب أنفسنا، ولا نختبر أعمالنا على محك وضعه الله تعالى لنا فحالتنا هذه منذرة جدًّا.
يقول الخليفة الأول رضي الله عنه موضّحًا هذا الأمر: لا تكونوا كالذين قال الله تعالى عنهم:
نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
أي لا تكونوا كالذين تركوا هذا الإله القدوس الذي هو مصدر الرحمة والقدسية ويريدون أن يحققوا نجاحات من خلال شرورهم ومكائدهم وأعمال لا يُحمد عقباها، ومن خلال أنواع الحيل والمكر كالثعالب.
لقد ورد هنا أنهم يحتالون ويمكرون كالثعلب، وهذا تعبير أردي إذ يقال للماكر أنه يمكر كالثعلب.
ثم يقول حضرته رضي الله عنه: يتعرض الإنسان للمشاكل، ويحتاج إلى أمور كثيرة بحيث يحتاج للأكل والشرب، ثم إذا كان له أصدقاء فله أعداء أيضا، ولكن التقيّ في هذه الظروف يراعي ألا يسيء إلى علاقته مع الله، أي أنه يتذكر الله تعالى دومًا ويؤثره على أصدقائه وعلى كل الأمور النافعة له.
ثم قال حضرته: إذا كان الإنسان يعتمد على صديقه فمن الممكن أن يغادر صديقه هذا العالم قبل حلول المصيبة عليه هو، أو يتعرض صديقه لمشاكل بحيث لا يجديه نفعًا ولا يستطيع مساعدته.
وإذا كان يعتمد على الحاكم فمن الممكن أن يتغير الحاكم فلا يتمكن من تحقيق المنفعة المرجوة منه. ثم إذا كان يعتمد على الأحباب والأقارب ويتوقع أنهم يساعدونه عند تعرضه لمشكلة أو أذى، فمن الممكن أن يبعدهم الله تعالى وقت الحاجة بحيث لا يسعهم مساعدته شيئا.
وعليه فينبغي ألا يقطع الإنسان صلته مع الله تعالى الذي لا ينفصل عنا في الحياة ولا في الممات؛ أي لا ينفع الإنسان في حياته وعند مماته إلا علاقته مع الله تعالى.
يقول حضرته: يقول الله تعالى: لا تكونوا كالذين قطعوا علاقتهم مع الله تعالى، من يكون هؤلاء؟ إنهم فساق وفجرة، ولا يتحلون بإيمان صادق. لا يقتصر الأمر على أنهم ضعفاء الإيمان بالله بل لا يتحلون بخلق الشفقة على خلق الله أيضا، أي لا يشفقون على خلق الله، وهذا يعني أنهم لا يؤدون حقوق الله ولا حقوق العباد.
فعلى كل واحد منا أن يسعى لجعْلِ أعماله كلها وفقَ أوامر الله تعالى، وأن ينظر إلى غدِه بدلا من أن يتطلع إلى تحقيق منافعه المؤقتة، وفقنا الله تعالى لذلك. آمين.