قول في إعجاز القرآن

قول في إعجاز القرآن

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • القرآن هو الكتاب التشريعي الكامل، ولا يوجد تشريع أكمل منه، ومن ثم فهو قاض على كل ما سواه.
  • القرآن يشتمل على نبوءات الغيب التي تشهد بصدق مبعوث آخر الزمان.

 ___

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يوْم الدِّين * إيَّاكَ نعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ ، آمين.

 

القرآن هداية، لكن لمن؟!

في خطاباتي الحالية أتناول محاسن القرآن الكريم ومزاياه. يقول المسيح الموعود في ذكر محاسن القرآن الكريم الفريدة: «الحق والحق أقول، إن القرآن الكريم كتاب كامل وجامع لا يضاهيه أي كتاب آخر. هل في الفيدا عبارة توازي

هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

إذا كان في الإقرار باللسان فقط كفاية، أي إن لم تكن هناك حاجة للثمرات والنتائج فإن العالم كله يقرّ بوجود الإله بوجه من الوجوه ويستحسن العبادة والصدقات أيضا ويعمل بهذه الأمور بشكل أو بآخر فماذا أعطته الفيدات؟ أو أثبِتوا على الأقل أن الأقوام التي لا تؤمن بالفيدات فُقدت فيهم الحسنات كليا، أو أخبرونا عن ميزة متميزة أخرى في الفيدات.

ففي بداية القرآن الكريم جاء الوعد بالترقيات التي تقتضيها الروح طبعا. فقد علّم

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

في سورة الفاتحة وقال: ادعوا دائما أن اهدنا إلى الصراط المستقيم، وبعد الدعاء فورا بشّر في الآية الأولى من سورة البقرة قائلا:

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين .

(فلما علّم الدعاء لنيل الهداية فقد بيّن دستور العمل أيضا وقال بأن هذا هو الكتاب الذي سينال المتقون هداية نتيجة العمل به) وكأن الأرواح تدعو فيُري القبولُ تأثيره فورا ويتحقق وعد قبول الدعاء بصورة نزول القرآن الكريم. فمن ناحية يتم الدعاء ومن ناحية أخرى تُلاحظ النتيجة ظاهرة للعيان. هذا فضل من الله تعالى، ولكن من المؤسف أن الدنيا تجهل ذلك وتغفله وتهلك نفسها لبُعدها منه.

يتابع قائلا: أقول مرة أخرى بأن صفات المتقين التي بينها الله تعالى في بداية القرآن الكريم قد عدَّها من الصفات العادية. ولكن الذي يؤمن بالقرآن الكريم ويجعله دستور العمل لهدايته يصل إلى أعلى درجات الهداية ومراتبها التي هي المقصود من هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . إن الإنسان يشعر بالمتعة والسعادة بالنظر إلى علة القرآن الكريم المتوخاة التي لا يمكن بيانها بالكلمات لأنها تؤدي إلى معرفة فضل الله الخاص وكمال القرآن الكريم».

معنى إكمال الدين

ثم بين المسيح الموعود أن تعاليم القرآن كاملة وحاجة العصر دليل آخر على بعثة النبي وقد بيّن النتيجة في:

اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

أي أن الظروف السائدة في ذلك الزمن كانت تمثّل دليلا على بعثته لأن الزمن كان يقتضي بعثته. ثم أكمل التعليم فقال:

اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

يقول : إن قول الله تعالى

اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

هو فصل ثانٍ من باب النبوة. ليس المراد من الإكمال إنزال السور فقط بل كمّل نفوسهم وطهر قلوبهم، وحوّلهم من وحوش إلى أناس، ثم إلى أناسٍ عاقلين وخلوقين ثم جعلهم واصلين إلى الله، وساعدهم على عبور مدارج التكميل وتطهير النفس وتهذيبها. (أي الكمال لا يعني إعطاء التعليم بإنزال القرآن فقط بل الكمال هو أنه كمّل حالة نفس الإنسان أيضا، فجعل العاملين بتعليم القرآن كاملين، وطهَّر قلوبهم).

إذن، يقول : حوّلهم من الوحوش إلى أناس، ثم إلى أناسٍ عاقلين وخلوقين ثم جعلهم واصلين إلى الله، وساعدهم على عبور مدارج تطهير النفس والتكميل وتهذيب النفس. (أي علّم الإنسان مدارج عليا لتهذيب النفس، وتطهيرها وأوصل تلك المدارج منتهاها) كذلك أكمل كتاب الله أيضا بحيث ما من حقيقة لا توجد في القرآن الكريم. قلتُ للبانديت «اغني هوتري» مرارا (الذي كان ينتمي بداية إلى فرقة هندوسية ثم أسس فرقة بنفسه وكان زعيما لها، وقد جرى بينه وبين المسيح الموعود نقاشات كثيرة فبهذا الشأن طلبت منه مرارا أن يقدم صدقا لا يوجد في القرآن الكريم ولكنه لم يقدر على ذلك. كذلك أتى عليّ زمان حين قرأت الكتاب المقدس على سبيل المقارنة ووجدت أن الأشياء التي يعتز بها المسيحيون توجد كلها في القرآن الكريم بصورة دائمة وبوجه أكمل ولكن من المؤسف أن المسلمين لا يتنبهون إليها. فإنهم لا يتدبرون القرآن الكريم وليست في قلوبهم عظمته وإلا إنه لمفخرة لهم أنه لا يوجد نظيره عند الآخرين.

إن للآية:

اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

جانبين. أولا أنه طهّركم، وثانيا: قد أكمل الكتاب. يقال بأنه عندما نزلت هذه الآية كان اليوم يوم الجمعة وقال يهودي لعمر : كان حريا بكم أن تحتفلوا بيوم نزولها عيدا. فقال عمر : الجمعة عيد بحد ذاته. ولكن كثيرا من الناس غافلون عن هذا العيد. يلبسون لباسا جديدا بمناسبة عيدين آخرَينِ ولكن لا يهتمون بهذا العيد فيحضرونه بلباس وسخ مثلا. إن هذا العيد أفضل عندي من الأعياد الأخرى (أي يجب الاهتمام خاصة بيوم الجمعة للاشتراك في صلاة الجمعة أيضا ولا يكفي أداء صلاة العيد بعد عام) إذ قد نزلت سورة الجمعة عن هذا العيد، وقُصرت له الصلاة. وقد وُلد آدم عصرا يوم الجمعة. وهذا العيد يدل أيضا على زمن خُلِق فيه الإنسان الأول وعليه اختتم القرآن الكريم.»

هو فصل ثانٍ من باب النبوة. ليس المراد من الإكمال إنزال السور فقط بل كمّل نفوسهم وطهر قلوبهم، وحوّلهم من وحوش إلى أناس، ثم إلى أناسٍ عاقلين وخلوقين ثم جعلهم واصلين إلى الله، وساعدهم على عبور مدارج التكميل وتطهير النفس وتهذيبها.

القرآن قاض على كل ما سواه

عرض المسيح الموعود لقضية قطعية ثبوت القرآن مقابل ظنية ثبوت الأحاديث، وأن القرآن الكريم قاضٍ على الحديث فقال:

«هناك خطأ آخر شائع في معظم المسلمين أنهم يقدّمون الأحاديث على القرآن الكريم، مع أن هذا الاعتقاد خاطئ تماما. القرآن الكريم يحتل مرتبة اليقين أما الحديث فمرتبته ظنية. الحديث ليس قاضيا على القرآن بل القرآن هو القاضي عليه، (أي الـحُكم للقرآن الكريم) غير أن الحديث شارح للقرآن الكريم (نجد أحاديث كثيرة تفسّر آية من آيات القرآن الكريم) فيجب أن نعطيه مكانته اللائقة. إن الإيمان بالحديث ضروري ولكن إذا لم يعارض القرآن الكريم بل وافقه. وإذا عارض القرآن الكريم فهو ليس بحديث بل هو قول مردود. ولكن الحديث ضروري لفهم القرآن الكريم. (واعلموا أيضا إلى جانب ذلك أن هناك أحاديث كثيرة نجد فيها تفسير بعض الآيات، لذا لا بد من فهم هذه الروايات التي رواها كبار الصحابة، ولكن يجب ألا تعارض هذه الرواياتُ القرآنَ الكريم) إن أوامر الله تعالى التي نزلت في القرآن الكريم قد وضّحها النبي بعمله، وطلب العمل عليها وأسس بصددها قدوة. لولا هذه القدوة لما فُهم الإسلام. ولكن مع ذلك كله فإن الأصل هو القرآن الكريم».

إن بعضا من أصحاب الكشوف يسمعون مباشرة من النبي بعض الأحاديث التي لا يعلمها الآخرون أو يطلبون منه تصديق بعض الأحاديث المتداولة. وقد قال المسيح الموعود إنه أيضا سمع بعض الأحاديث من النبي مباشرة.

ثم بيّن سيدنا المسيح الموعود فصاحة القرآن الكريم وقال: إن القرآن الكريم يتضمن في عباراته الفصاحة والاعتدال واللطافة واللين والرونق لدرجة لو أُمر ناقدٌ متحمس ومعارض شديد من قِبل حاكم مقتدر أنه إن لم يأت في عشرين عاما … بنظير القرآن بحيث يأخذ من أي مكان من القرآن الكريم مضمونا يحتوي على بضعة أسطر أو ما يعادلها ثم يأتي بعبارة مثلها أو أفضل منها من حيث المضمون مع كافة حقائقه ومعارفه، وتكون العبارة بليغة وفصيحة مثل القرآن لأُعدم نتيجة عجزه عن ذلك، لما قدر على الإتيان بالنظير على الرغم من عناده الشديد وخوف تعرضه للإهانة والموت، وإن اتخذ مئات من خبراء اللغة والمنشئين في العالم ظهيرا.

أقول: من ناحية قد أُعطي مهلة عشرين عاما من قِبل حاكم أن يأتي بنظير القرآن الكريم ولو ببضع آيات منه، ولكنه مع هذا لن يقدر على ذلك. فهذا هو كمال القرآن الكريم وفصاحته. فقال المسيح الموعود إن هذا الكلام ليس وَهْما أو فكرة افتراضية بل التحدي للإتيان بنظيره موجود أمام العالم منذ نزول القرآن الكريم. في العصر الراهن أيضا يحاول معارضو الإسلام ليأتوا بنظيره، إذ يقول بعض الناس بين حين وآخر كلاما من هذا القبيل ويدّعي بأنه قادر على الإتيان بنظيره ولكنه لا يكاد يقترب من فصاحة القرآن الكريم وبلاغته بل هي ادعاءات فـارغة فقط.

يقول المسيح الموعود : كذلك تستحيل مبارزة فصاحة القرآن وبلاغته. خذوا سورة الفاتحة على سبيل المثال، فلو غيرنا ترتيبها الحالي لاستحال بيان ما فيها بترتيبها الحالي من معان سامية ومطالب عظمى. بل خذوا أية سورة قرآنية ولو سورة

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ،

فالمعارف والحقائق التي ذكرتها هذه السورة بمنتهى الرفق واللطف، لا يقدر أحد على بيانها. إن بيانها إنما من إعجاز القرآن فقط. تأخذني الحيرة حين يقول بعض الجهلة، بقصد الهجوم على كون القرآن منقطع النظير، إن مقامات الحريري أو المعلقات السبع منقطعة النظير. إنهم لا يدرون أن صاحب المقامات الحريرية لم يدّع قط أنها عديمة المثال، هذا أولاً. وثانيا صاحبها الحريري نفسه كان معترفا بإعجاز فصاحة القرآن الكريم. ثم إن هؤلاء الطاعنين لا يأخذون في الاعتبار ما في القرآن من حق وصدق، وإنما ينظرون إلى الكلمات فقط. الحق أن الكتب المذكورة أعلاه تخلو من الحق والحكمة. القرآن الكريم وحده يتحلى بمعجزة الفصاحة والبلاغة وفيه الصدق والحكمة، وهذه المعجزة لا توجد إلا في القرآن الكريم الذي هو واضح وضوح الشمس ومزود بقوة إعجازية من الجوانب كلها.

ثم يقول : ذات مرة قدم القسيس فندر كتب الحريري وأبي الفضل وبعض الكتب الإنجليزية مقابل معجزة فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، وقد مضت على ذلك مدة لا بأس بها. وفكّرت حينها أنه يكذب لأن مؤلفي تلك الكتب لم يدّعوا بأن كلامهم عديم النظير بل قد أقروا بعدم قدرتهم على الإتيان بنظيره دائما وأثنوا على القرآن الكريم، هذا أولا. وثانيا: إن المعنى في كتبهم يمشى تابعا للكلمات ويربطون الكلمات مع بعضها فقط، ويبحثون كلمة مقابل كلمة من أجل السجع ولا يهتمون بالحكمة والمعارف في الكلام بينما هناك التزام بالحق والحكمة في القرآن الكريم. (أي فيه الصدق والحكمة أيضا ولم يُقتَصر فيه على مراعاة نظم الكلمات والاهتمام بالسجع فقط)

يتابع المسيح الموعود قائلا: الأصل هو بيان الموضوع على أحسن ما يرام بحيث يكون السجع أيضا صحيحا مع بيان الحق والحكمة، وهذا لا يُنال إلا بتأييد الله تعالى. (فإذا كان الكلام يشتمل على الحق والحكمة ويكون السجع أيضا حاصلا فهذا يدلّ على تأييد الله تعالى وإلا فإن بمقدور أي إنسان أن يأتي بكلام  يضاهي كلام الحريري وأمثاله).

دار الحديث ذات مرة في مجلس عن تفسير «إعجاز المسيح» وقيل إن الله تعالى لم يعط أيًّا من المعارضين قدرة على كتابة التفسير مقابله، فقال : هناك مذهبان عن كون القرآن الكريم معجزة. الأول هو أن الله تعالى سلب قدرة المعارضين أي أنهم لن يقدروا على أن يأتوا بنظيره. والمذهب الثاني، وهو المذهب الأصح والأصدق والأقوى وهو مذهبي أنا أيضا، أن المعارضين كانوا عاجزين بأنفسهم عن المبارزة. والحق أنه قد سُلب منهم علمهم وعقلهم. إن معجزة القرآن الكريم تُفهم جيدا من تفسيرنا. هناك آلاف المعارضين الذين يسمُّون أنفسهم علماء وفضلاء، وقد نشرنا عديدا من الإعلانات لإثارة غيرتهم ولكن لم يقدر أحد على مبارزة هذه الآية. (يجب علينا أن نقرأ كتب المسيح الموعود من هذا المنطلق أيضا لنفهم مضامين القرآن الكريم).

وقال في مناسبة أخرى: المعجزة التي أعطى الله تعالى القرآن الكريم إنما هي تعليم الأخلاق والتمدن من الدرجة العليا، كذلك فصاحته وبلاغته التي لا يباريها إنسان. كذلك هناك معجزة تتمثل في أخبار الغيب والنبوءات. وليس لأي خبير في أعمال الشعوذة في العصر الراهن أن يدّعي بذلك. (ففيه الفصاحة والبلاغة وأخبار الغيب والنبوءات، ولا يمكن لأي مشعوذ أن يأتي بهذه الأمور ولا يمكن أن يدّعيها)

يتابع قائلا: وقد ميز الله آياته بجلاء، لئلا تبقى لأحد فرصة الاعتراض، ومثل ذلك قد بيَّن الله بآياته بحيث لا يكون بوسع أحد أن يُدخل فيها أي شك وشبهة.

ثم يقول حضرته عن فصاحة القرآن الكريم:

إن فصاحة الناس وبلاغتهم تتبع الكلمات ولا يوجد في كلامهم غير الكلام الموزون المقفَّى، كما قال أحد العرب «سافرت إلى روم وأنا على جمل مالوم» فهذه الكلمات إنما جاء بها للقافية والوزن فقط. إنما إعجاز القرآن الكريم أنه قد نُظمت فيه الكلمات كلها كاللآلئ وكلها في محلها، بحيث لا يمكن تبديلها من مكانها أو استبدال بعض الكلمات بأخرى. ومع ذلك توجد فيه لوازم القوافي والفصاحة والبلاغة بأكملها.

دلائل صدق المسيح الموعود هي دلائل صدق خاتم النبيين 

عرض حضرته ذات مرة في مجلس بيانا لجمال فصاحة القرآن الكريم وبلاغته فقال: كل ما يظهر على يدي من الآيات إنما هي خوارق رسول الله  ومعجزاته، أما النبوءات فهي نبوءات القرآن الكريم في الحقيقة لأنها ثمرات اتّباعه وتعليم القرآن الكريم. لا يوجد في العصر الراهن دين يسع متّبعَه أن يدّعي أنه قادر على أن يتنبأ أو يُظهر الخوارق. لذا فإن معجزة القرآن الكريم من هذه الناحية تفوق معجزات الكتب كلها.

فالمعجزات التي أظهرها حضرته شخصيا إنما هي ببركة القرآن الكريم فقط، واتباع النبي حصرا.

ثم قال : إن فصاحة القرآن الكريم وبلاغته حائزة مكانة عليا حتى اضطر الأعداء المنصفون أيضا للتسليم بها. لقد تحدّى القرآن الكريم: «فأتوا بسورة من مثله»، لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره إلى يومنا هذا. وقد عجز عن مبارزته فصحاء العرب وبلغاؤهم أيضا والذين كانوا ينشدون قصائد في اجتماعات حاشدة بمناسبات خاصة.

ثم لم يُركَّز في فصاحة القرآن الكريم وبلاغته على الكلمات فقط دون الاهتمام بالمعاني والمفاهيم بل كما رُصِّعت الكلمات بأعلى درجة من الترتيب العجيب فقد فُصّلت فيه الحقائق والمعارف أيضا. أما الإنسان فلا يقدر على الاهتمام ببيان الحقائق والمعارف إلى جانب مراعاة مراتب الفصاحة والبلاغة أيضا.

يقول الله تعالى في آية:

يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ

أي يتلو عليهم صحفا فيها الحقائق والمعارف. يعرف الأدباء أن الاهتمام بالتعليم الطاهر والأخلاق الفاضلة في الأدب صعب جدا، ولا سيما التعليم المؤثر والجذاب الذي يزيل الصفات الرذيلة ويخلق مقابلها ميزات سامية. إن حالة العرب آنذاك ليست خافية على أحد إذ كانوا مجموعة من العيوب والمنكرات. وكانوا في هذه الحالة المتدهورة منذ قرون. ولكن انظروا كم كانت فيوضه وبركاته قوية إذ قلب حالتهم رأسا على عقب في غضون 23 عاما، فكان ذلك تأثير التعليم فقط.

إن فصاحة الناس وبلاغتهم تتبع الكلمات ولا يوجد في كلامهم غير الكلام الموزون المقفَّى، كما قال أحد العرب «سافرت إلى روم وأنا على جمل مالوم» فهذه الكلمات إنما جاء بها للقافية والوزن فقط. إنما إعجاز القرآن الكريم أنه قد نُظمت فيه الكلمات كلها كاللآلئ وكلها في محلها، بحيث لا يمكن تبديلها من مكانها أو استبدال بعض الكلمات بأخرى. ومع ذلك توجد فيه لوازم القوافي والفصاحة والبلاغة بأكملها.

لو أخذنا سورة صغيرة من القرآن الكريم لوجدناها مليئة بميزات التعليم والكمالات إضافة إلى مراتب الفصاحة والبلاغة. خذوا سورة الإخلاص مثلا فسترون أنها تبين مراتب التوحيد كلها (فهي سورة قصيرة قد شملت بيان التوحيد برمته) وتدفع كل نوع من الشرك. ثم انظروا إلى سورة الفاتحة مثلا كم تحتوي على الإعجاز في تلك السورة الوجيزة ذات الآيات السبع، وهي ملخص القرآن كله وفهرسه. ففيها التعليم عن ذات الله وصفاته وضرورة الدعاء وأساليب استجابته وأسلوب الأدعية المفيدة والمجدية وتعليم اجتناب السبل المضرة. كذلك فيها دحض الأديان الباطلة الموجودة في العالم كله. (فهذه السورة القصيرة تحتوي على كل هذه المواضيع)

سترون أن معظم الكتب وأهل الأديان يذكرون مثالب الأديان الأخرى وعيوبها، ويطعنون في التعاليم الأخرى. ولكن عند الطعن لا يقدم أحد أتباع دينٍ ما تعليما جيدا آخر مقابل ذلك، ويثبت أنه إذا كان يريد إنقاذا من سلوك سيّئ ما، فهو يقدم مقابله تعليما جيدا ولا يلاحَظ هذا في أي دين، وإنما الإسلام وحده يحظى بمفخرة أنه حين يدحض الأديان الباطلة كلها ويميط اللثام عن تعاليمها الخاطئة يقدم إلى جانب ذلك تعليما أصيلاً وحقيقيا. (وهذه الميزة لا يقدر على دحضها المثقفون المزعومون في العصر الراهن أيضا، فقد لاحظت في مناسبات عديدة أنني حين وضعت أمام الأغيار حلَّ أي مسألة من تعليم القرآن الكريم فهم سلَّموا به.)

يقول سيدنا المسيح الموعود في بيان محاسن القرآن الكريم إن القرآن الكريم كتاب سلس الفهم، يقول بعض الجهلة إننا لا نفهم القرآن الكريم ولا ينبغي التوجه إليه لأنه صعب جدا، ولكن هذا خطأ منهم (إذ يقدمون عذرا أنه صعب، ولا نستطيع أن نفهمه لذا لا داعي للالتفات إليه، ومجرد قراءته كافية). والحق أن القرآن الكريم فهّم المسائل العقائدية بفصاحة عديمة النظير والمثيل، وأدلته تؤثر في القلوب. (أي فيما يتعلق بالمعتقدات فقد شرحها القرآن الكريم) فالقرآن فصيح وبليغ لدرجة فهِمه الأعراب غير المثقفين تماما، فكيف لا يفهمونه الآن؟

(فكان الأعراب أميين تماما وجهلة، بل كانوا أحط درجة من سائر الناس، فجعلهم القرآن أناسا ربانيين فإذا كانوا هم قد فهموا القرآن فكيف لا تفهمونه أنتم وغالبيتكم على قدر من الثقافة؟!)

المنطق السديد والصادق والسلس هو ما بيَّنه القرآن الكريم، فليس فيه أي تعقيد. فقد علَّمنا الله طريقًا سديدا، ينبغي أن يتدبر المرء القرآنَ الكريم وينظر إلى أوامره ونواهيه منفصلة ويعمل بها. (أي ينبغي أن يسجل الأمور التي يجب العمل بها، فليعمل بها، والتي نُهي عنها فليمتنع منها) وبذلك سيُفرح ربه، (فهذا الطريق بسيط جدا وهو أن تعملوا بما تجدون من الأوامر الظاهرة، وامتنعوا عما نهيتم عنه، فبذلك سترُضون الله ) أما المصطلحات الأخرى التي اخترعها الصوفية وأصحاب المنطق، فقد تسببت في تعثُّر الكثيرين، لأنها معقدة وفيها صعوبات. (أي لا تتبعوا أصحاب المنطق والصوفية، فقد اخترعوا المصطلحات الصعبة وقدموا القرآن بأسلوب يؤدي إلى العثار ولا يُفهم منه شيء، فإذا كان الناس يواجهون الصعوبة في فهم القرآن فسببه الوحيد أصحاب المنطق والصوفية والعلماء المزعومون)

قال حضرة المسيح الموعود : لقد كتب أحد الصلحاء -ونحسن إليه الظن أنه كتب بحسن النية وإن كان قوله ليس صحيحًا- أن الشيخ عبد القادر الجيلاني لم يكن من الكمَّل لأن نزوله لم يكن كاملا وإنما كان صعوده فقط، (أي لم يكن ينزل عليه الإلهامات وإنما كانت أدعيته فقط تجاب)، ولذلك صدرت منه كرامات كثيرة، فلو كان نزوله كاملا لما صدرت منه أي كرامة. (هذا ما قاله أحدهم). ومن البين كم يعارض هذا القولُ القرآنَ الكريم، فهذا القول يعارض القرآن الكريم والحديث تمامًا. والحقيقة أن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان من عباد الله الكمَّل. إذا كان أحد يعترض على معجزاته فهذا الاعتراض يرد على جميع الأنبياء أيضًا. (ولا يغيبن عن البال أن بعض أتباعه قد بالغوا في بيان مقامه، وكتبوا الحواشي على كراماته، فهذا خطأهم، وفي الوقت نفسه صحيح أن المعجزات تحدث ضمن قانون الطبيعة وتابعة للشريعة، فكانت تحدث من الأنبياء وظهرت منه أيضا)

فهذا نتيجة اتِّباع مصطلحات الصوفية الخاطئة، التي لا يصدِّقها القرآن الكريم والحديث. (فهناك فريق لا يؤمن أصلا، وهناك فريق يبالغ كثيرا حتى بلغوا منتهاه. فالذين لا يؤمنون فبسبب الصوفية، أما الذين آمنوا فهم يقعون في المشاكل بسبب شروح الناس المخطئين، لذا يجب التدبر دوما ويجب قياس المعجزات على قانون الشريعة وقانون الطبيعة، وبشكل تابع لمعجزات الأنبياء، فلا أحد يقدر على إظهار معجزة أكبر من الأنبياء)

يقول حضرته عن تقديم القرآن الكريم الإلهَ الحق: إننا نشكر الله على أن القرآن الكريم لم يقدم إلها ناقص الصفات الذي لا يملك الأرواح ولا الذرات، ولا يقدر على أن ينجيهم ولا يقبل توبة أحدهم. بل نحن بحسب القرآن الكريم عبادُ ذلك الإله الذي هو خالقُنا ومالكُنا وهو رحمن ورحيم ومالك يوم الدين، فمن محل الشكر للمؤمنين أنه أعطانا كتابا يكشف صفاته الصحيحة تامة، فهي نعمة الله العظمى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك