ضرب الأمثال في القرآن الكريم

ضرب الأمثال في القرآن الكريم

أديب بط

  • ما هو المَثَل؟
  • ما معنى ضرب المثل؟
  • لماذا اشتمل كلام الوحي عموما والقرآن خصوصا على العديد من مواضع ضرب الأمثال؟

 _____

 

عندما نمعن النظر في كلام الله جل وعلا نرى أنه يتميز بتنوع أساليبه وتراكيبه مع دقة التعبير وإيجاز الكلام. ونستكشف خلال إمعاننا أسلوبا بارزا وهو ضرب المثل، وقد توصَّل اللغويون والبلاغيون إلى ما لهذا الأسلوب من المزايا والفوائد. والغاية التي من أجلها ضُربت الأمثال في سياق النص القرآني هي كما ورد في نص القرآن نفسه:

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1).

فحقيقة الأمر من سنة الله تعالى أنه إذا أراد أن يبين أمرا قد يلتبس معناه على الناس لقلة الفهم وحدود قوى العقل فلأجل ذلك يعزز الله قوله بضرب المثل إذ يتضح المعنى وضوحا تامًّا، وتقرب صورة المعنى في أذهان المستمعين والقراء، لكيلا يتعلل الناس ولا يشكوا من قلة فهمهم. فضلا عن ذلك نرى كيف أن هذا الأسلوب لم ينفرد به كلام الله فقط، بل انتقل وترسخ استعماله في كلام من آتاهم الله الفصاحة والبلاغة من أنبيائه المكرمين، وهم أنبياء الله الذين تكلموا بالأمثال، وكان أفصحهم قلبا ولسانا سيدنا محمد ﷺ الذي أُثِرت العديد من الأمثال في كلامه المبارك، ومنها قوله ﷺ: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(2).

معنى ضرب الأمثال.. لماذا الضرب؟!

قبل الخوض في مزايا الأمثال وخصائها كفن من فنون القول، نُفرد فقرات قليلة للحديث عن تفاصيل المصطلح، أي «ضرب الأمثال»، فنتساءل: لماذا نقول «ضرب الأمثال» ولا نقول مثلا: «ذِكر الأمثال»؟! الواقع أن تعبير «الضرب» بحد ذاته يمنح المصطلح سيرورته، أي عمله المستمر، ففي معجم مقاييس اللغة يُورد اللغوي الفذُّ أحمد بن زكريا بن فارس للضرب معاني عدة وأبوابًا مختلفة لها أصل واحد، فيقول:

الضَّادُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ […] والضَّرِيبُ: الْمِثْلُ، كَأَنَّهُمَا ضُرِبَــا ضَرْبًــا وَاحِدًا وَصِيغَا صِيَاغَةً وَاحِدَةً […] وَيُقَالُ لِلصِّنْفِ مِنَ الشَّيْءِ: الــضَّرْبُ، كَأَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى مِثَالِ مَا سِوَاهُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ»(3).

الشاهد من إيراد هذه المقتطفات اللغوية أن نُسبت للضرب معنى التكرار والاستمرار على مثال ما.

ولم ينءَ علماء المصطلح عن هذا المعنى اللغوي للضرب، فأشاروا بالتصريح والتلميح إلى معنى التكرار، فقيل: «الــضرب في العروض: آخر جزء من المصراع الثاني من البيت. الــضرب: في العدد تضعيف أحد العددين بالعدد الآخر»(4). وقولنا مثلا: ضرب العملة، يعني طباعة العديد من النسخ المتشابهة والمتكررة على نموذج واحد. فها هو إذن معنى «التكرار» يبدو حاضرا بقوة هنا أيضا.

واقتناصا للحكمة من ضرب الأمثال في القرآن الكريم، يحدثنا المصلح الموعود في سياق تفسير سورة البقرة، وقول الله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا… (5)،

فيقول حضرته: “لما كان نعيم الجنة أسمى من نعيم الدنيا في طبيعته ودرجته ومقداره.. فإن هذا لا يقاس بذلك أبدا إلا على وجه التمثيل وتقريب المعنى. ولقد صرح القرآن الكريم بأن نعيم الجنة هو النعيم الحق، وأن حياة الجنة هي الحياة الروحانية الأسمى، وأن متع الدنيا ما هي إلا قطرة من بحر متع الجنة. وتتضمن هذه الآية إزالة أية شبهة، والإجابة على أي اعتراض بسبب هذا الفارق الشاسع بين حقيقة الجنة وما يساق لها من وصف. وتقول الآية إن أسلوب التمثيل مفيد في تقريب الحقائق من الأفهام، وليس في استخدامه ما يدعو للاستنكار.”(6)

وهل يتكرر المثل؟!

لكل مثل مورد ومضرب. فما المَوِرد؟ وما المضِرب؟ المقصود بمَوِرد المثل المناسبة التي قيل فيها المثل أول مرة. والمقصود بمَضِرب المثل الموقف الجديد الذي يشبه تلك المناسبة التي قيل فيها المثل في أول مرة، بحيث يكون ذلك الموقف كافيا لتسترجع الذاكرةُ المناسبةَ الأولى التي قيل فيها المثل أول مرة (أي حين لم تكن قد صارت مثلا بعد)، ويجب أن يقال المثل بلفظه، فعبارة المثل تكون ثابتة لا تُغيّر. إن هذا التكرار في المناسبة والمقولة يُتيح لمستمع المثل فرصة التعلُّم، فمن فطرة الإنسان أنه يكتسب الخبرة من خلال مروره بنفس الموقف أكثر من مرة. لهذا يقول القرآن الكريم:

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (7).

أقوال في فوائد ضرب الأمثال

وقف القدامى والمحدثون على حد سواء من الأمثال موقف التعظيم والاستحسان، لما ألفَوه من فوائد بلاغية وتعليمية، فالمثل يختزل قصة طويلة متشعبة الأحداث في كلمات قليلة موجزة، فيسهل تناقلها عبر الزمان والمكان والاستفادة بما فيها من عظات وعبر.. كذلك يجتمع في المثل أربع مزايا لا تجتمع في غيره من فنون القول الأخرى، وهي: ايجاز اللفظ، وإصابة المعنى بأقصر الطرق، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو، أي المثل، منتهى البلاغة.

وهناك مقولة لعبد الله بن المقفع يحدثنا فيها عن مزايا الأمثال: «إذا جُعِل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث (أي فروعه)»(8).

ويتناول عدد من المُحدَثين موضوع الأمثال، ومنهم من أعاد دراسة أمهات كُتُب الأمثال العربية، ككتاب «مجمع الأمثال» ذائع الصيت، والذي صنَّفه أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري، والمعروف بـ «الميداني»، فمن التعليقات الحديثة على والتي تُقر بدور الأمثال في اللغة والأدب ما جاء فيها من أنَّ «الحكم والأمثال مرآة تعكس طبيعة الشعوب، مختصرة بكلمات قليلة قصصا طويلة، أو تعبيرا عن موقف، أو وصفا لحالة، هي تشمل ميادين الحياة كافة.»(9)

ويقول المبرد صاحب الكتاب الرائد في فن الأدب «الكامل في اللغة والأدب»:

«المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول. والأول فيه التشبيه»(10).

 

من بدائع ضرب الأمثال في القرآن

وفي القرآن الكريم كانت للأمثال فائدة عظيمة، وبلاغة جليلة، قال الله تعالى:

وَيَضْرِبُ اللَّهُ ‌الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)،

وقال:

وَتِلْكَ ‌الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (12).

فضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه عدة أمور، منها: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل، كنسبة المحسوس إلى الحس. وتأتي ‌أمثال ‌القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر، وإبطال آخر، وما إلى ذلك من الأهداف والغايات.

وتشبيهات القرآن جميعها أمثال مضروبة لفهم مراد الله عز وجلّ بخطابه لعباده، كما قال: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .(13)

ومن بديع أسلوب القرآن في ضرب المثل: أن يسوق الجُمَلَ مستعملاً إياها في معانيها الحقيقية، قاصداً بها غرضاً خاصاً؛ كالاحتجاج على بعض العقائد، وبعد أن يفيد بها هذا الغرض، يعود إلى جعلها مثلاً يرمي إلى غرض من الأغراض التي تُضرب لها الأمثال. ولنقرأ على سبيل المثال قول الله تعالى:

وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (14)؛

فقوله تعالى:

أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ …(إلى قوله تعالى) : … زَبَدٌ مِثْلُهُ

ظاهر في معنى تقرير حجة على كمال قدرته تعالى، وبعد أن أقام به حجة على المشركين، جعل هذا القول نفسَه مثلًا يستبين به الحق والباطل، فقال تعالى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ، وهذا من الإيجاز الذي بلغ به القرآن أعلى مستويات البلاغة.

أقسام أمثال القرآن الكريم

ترد أمثال القرآن على أقسام: عدة، القسم الأوّل: أمثال يصرّح فيها بلفظ المثل، أو ما يدلّ على التّشبيه وتسمّى «الأمثال المصرّحة». فمثال التّصريح بلفظ المثل قوله تعالى:

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدا رابِيا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (15).

ومثال التّصريح بالتّشبيه، قوله تعالى:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا… (16).

أم القسم الثّاني: فأمثال لا يصرّح فيها بلفظ التّمثيل، ولكنّها تدلّ على معان تمثيليّة بإيجاز، ونسميها بـ «الأمثال الكامنة»، كقوله تعالى:

وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فكرهتموه (17)

والقسم الثّالث من أمثال القرآن يشير به البعض إلى القصص القرآني، وذلك باعتبار أن الله عز وجلّ قصّ علينا من أنباء الأوّلين ما جعله أعظم مثل للاعتبار والقياس، فقال:

وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (18)

فهذا المثل هو قصّة آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وبني إسرائيل، وغير ذلك، فالمخاطبون بهذا القرآن هم الممثَّل لهم، وأصحاب تلك القصص هم الممثّل بهم، والمَثَلُ هنا هو شأنهم، وما كانوا عليه، وما صاروا إليه.

وهذا المثل قضيّة قياسيّة، أصلها تلك الأمم الخالية، وفرعها هذه الأمّة ومن بلغه هذا القرآن، والمعنى الجامع لإلحاق الفرع بالأصل: إمّا استقامة تلحق بمن أنعم الله عليهم، وإمّا انحراف يلحق بمصير المغضوب عليهم والضّالّين.(19)

فالحاصل أن أمثال القرآن، هي لون من طرائقه البديعة، وأدبه البالغ في إيصال المعاني في أقرب صورة، وألطفها، وأبلغها دلالة على المراد.

الهوامش:

  1. (الحشر: 22)
  2. رواه الشيخان
  3. ابن فارس، مقاييس اللغة، تحت مادة ” ض ر ب”
  4. الشريف الجرجاني، التعريفات، تحت مادة ” ض ر ب”
  5. (البقرة: 27)
  6. مرزا بشير الدين محمود أحمد، التفسير الكبير، الترجمة العربية، ج1، ص143، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن. د.ت.
  7. (إبراهيم: 26)
  8. عبد الله بن المقفع، الأدب الصغير
  9. الميداني، مجمع الأمثال، مقدمة المحقق نعيم حسين زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، 2021م.
  10. أبو العباس المبرد، الكامل في اللغة والأدب
  11. (النور: 36)
  12. (العنكبوت: 44)
  13. (إبراهيم: 26)
  14. (الرعد: 18، 19)
  15. (الرّعد: 18)
  16. (النّور: 41)
  17. (الحجرات: 14)
  18. (النّور: 35)
  19. راجع: عبد الله بن يوسف الجديع العنزي، كتاب المقدمات الأساسية في علوم القرآن، ص394 – 397، مركز البحوث الإسلامية ليدز – بريطانيا، 2001م.
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via