الاضطراب الاكتئابي وعوز فيتامين  أشعة الشمس

الاضطراب الاكتئابي وعوز فيتامين  أشعة الشمس

د. منى محمد

  • ما مصادر الحصول على هذا الفيتامين الثمين؟
  • ما مخاطر نقصه في أجسادنا؟
  • كيف له أن يدعم صحتنا؟

____

كلما دارت عجلة الزمان لتنتقل بركب التحضُّر إلى الأمام، تكون الإنسانية قد قطعت بالفعل مسافة على طريق الرقي المادي، ولكن هذا الرقي لم يُتح هكذا مجانا دون ضريبة، بل دفعت الإنسانية ثمنا باهظًا كان سداده على حساب الصحتين الجسدية والنفسية، واللتين ليستا في الواقع سوى وجهين لنفس العملة.

ومن بين الضرائب التي تسددها الإنسانية من رصيد صحتها النفسية، يبرز الاكتئاب، بوصفه اضطرابًا نفسيًّا معقدًا ذا تأثير سلبي حاد على مشاعر المصاب به، وتفكيره، وسلوكه. ولا يقتصر هذا الاضطراب على كونه مجرد شعور عابر بالإحباط أو الحزن، وإنما هو حالة مرضية تتعدى في شدتها ومدتها ردود الفعل الطبيعية إزاء تحديات ومصاعب الحياة اليومية العادية.

وثمة اتفاق بين المختصين في علم النفس والاجتماع على حقيقة أن الاكتئاب يُعد المشكلة الصحية العامة الأولى عالميًا. وتُصنّفه الجمعية الأمريكية لعلم النفس بأنه الاضطراب العقلي الأكثر شيوعًا. وفي بلد مكتظ بالسكان كالهند، تُظهر الإحصائيات ارتفاعًا مُذهلًا في معدلات الإصابة بالاكتئاب سنويًا، وهذا من شأنه أن يوضح مدى خطورة الأمر! لا سيما وأن الاضطراب الاكتئابي لا يستهدف فئة عمرية أو جنسية معينة، بل إن جميع الفئات العمرية تقريبًا معرضة للإصابة به، وحتى بغض النظر عن الجنس.

لقد بات معظمنا يعلم أن الاكتئاب مرضٌ متعدد الأشكال وله محفزاتٌ عديدة.. وكم من الأبحاث التطبيقية أُجرِيت بهدف الكشف عن المتورط الحقيقي في الإصابة به!

نقص فيتامين «د» في قفص الاتهام!

إن تاريخ الأمراض والممارسة الطبية يقر بأن معظم الأمراض التاريخية لم تكن في حقيقتها سوى أعراضًا لنقص أنواع من الفيتامينات، أو ما يُطلِق عليه البعض مصطلح «العَوَز الفيتاميني»، وهو حالة مرضية تنشأ عن عدم كفاية المخزون الفسيولوجي لفيتامين معين، مما يؤدي إلى ظهور سلسلة من المظاهر الكيميـ – ـحيوية (البيوكيميائية) والسريرية المحددة(1). وقد احتفظ لنا التاريخ الطبي بشهادات موثقة عن أمراض عضوية مثّلت خطورة في وقتها، ثم اكتُشف فيما بعد أنها لم تكن سوى مظاهر للعوز الفيتاميني، من تلك الأمراض مرض الإسقربوط، الذي تفشّى بين البحارة في كل أنحاء العالم، ثم اكتشفنا أنه لم يكن سوى عرضًا لنقص فيتامين ج (فيتامين C).

وهذا المقال مساحة لمناقشة ما إذا كان العوز الفيتاميني يقف وراء الاضطراب الاكتئابي، وإذا كان هذا صحيحًا، فأي نوع من الفيتامينات ذلك الذي يتسبب نقصه الحاد في تلك الكارثة النفسية!

لقد خلصت العديد من الأبحاث السريرية إلى وجود مستقبلات فيتامين د في مناطق الدماغ المرتبطة ببدء الاكتئاب. كما وُجد أن فيتامين د يؤثر على عدد من الهرمونات، مثل السيروتونين والدوبامين، والمعروفة على نطاق واسع باسم «هرمونات السعادة». كما لوحظ بوضوح مدى تحكم فيتامين د بكيفية عمل هذين الهرمونين. كما توصَّلت الأبحاث السريرية المذكورة إلى أن العديد من أدوية مضادات الاكتئاب تؤدي وظيفتها عن طريق زيادة نسبة هرموني السيروتونين والدوبامين في الدماغ.

وتشير مراجعة بحث دولي إلى أن أكثر من 31 ألف شخص شاركوا في 13 دراسة رصينة في هذا المضمار، وأظهرت النتائج وجود علاقة تلازمية واضحة بين انخفاض مستويات فيتامين د والاكتئاب.

ووفقًا لدراسة أخرى أُجريت في هولندا وشملت 1702 شخصًا، وُجد أن انخفاض مستويات فيتامين د بشكل ملحوظ يُسبب ظهور أعراض الاكتئاب لدى الأفراد.

يبدو أن أحد أنواع الاكتئاب الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفيتامين د هو الاضطراب العاطفي الموسمي (SAD)، وهو اضطراب مزاجي يتميز بأعراض اكتئابية خلال فترات معينة من السنة، حيث يتفاوت منسوب أشعة الشمس بين فصلي الصيف والشتاء. فخلال فصل الشتاء يقل منسوب أشعة الشمس عنه في الصيف، بشكل ينخفض معه منسوب إنتاج فيتامين د في الجسم، الأمر الذي يفسر انتشار الأعراض الاكتئابية في البلدان الضبابية أو الغائمة، كبلدان أوروبا مثلا، بدرجة أكبر من انتشاره في البلدان المشمسة.

فيتامين «د».. أي نوع من الفيتامينات هذا؟!

فيتامين «د»، المعروف أيضًا باسم فيتامين أشعة الشمس، هو مُحفِّزٌ لهرمون ستيرويدي. كان يُعتقد في البداية أنه يلعب دورًا في تمعدن العظام للحفاظ على قوتها وصحتها، ولكن مع مرور الوقت، ربطت الأبحاث انخفاض مستويات فيتامين د بالسمنة، وأمراض القلب، والسكري، والسرطان، واضطراب القلق، والاكتئاب.

وثمة اتفاق بين المختصين في علم النفس والاجتماع على حقيقة أن الاكتئاب يُعد المشكلة الصحية العامة الأولى عالميًا. وتُصنّفه الجمعية الأمريكية لعلم النفس بأنه الاضطراب العقلي الأكثر شيوعًا. وفي بلد مكتظ بالسكان كالهند، تُظهر الإحصائيات ارتفاعًا مُذهلًا في معدلات الإصابة بالاكتئاب سنويًا، وهذا من شأنه أن يوضح مدى خطورة الأمر! لا سيما وأن الاضطراب الاكتئابي لا يستهدف فئة عمرية أو جنسية معينة، بل إن جميع الفئات العمرية تقريبًا معرضة للإصابة به، وحتى بغض النظر عن الجنس.

أعراض يجب الانتباه لها، ووصفة تشخيصة مجانية، ننصح باستغلالها

من أدق الوسائل لقياس مستوى فيتامين د في الجسم هي فحص الدم المُهدرج في هيدروكسيل 25 25(OH)D). لاحظ الأطباء الممارسون أن مستويات فيتامين د لدى الكثيرين تبدو متدنية، بينما المستويات المثالية يجب أن تتجاوز 35 نانوغرام لكل ملليلتر.

فإذا كنت تعاني من نقص فيتامين د، فقد تواجه بعض الأعراض الجسدية، كآلام العظام وآلام المفاصل، والصداع وآلام الظهر والرقبة، وفقدان الوزن بشكل ملحوظ دون اتباع حمية غذائية، وضعف القدرة على التحمل العضلي مع تقلصات العضلات وضعفها، والتعب والضعف العام، وصعوبة فقدان الوزن بالنسبة لأصحاب الوزن الزائد، وانخفاض المناعة، وانخفاض القدرة على التحمل والشعور بالإنهاك والضعف العام من بذل أدنى مجهود، بل حتى من دون بذل أي مجهود أحيانا.

كذلك قد تشعر أيضًا بأعراض اكتئابية، من قبيل الحزن الشديد، واليأس، والشعور بالفراغ، وفقدان الشغف أو المتعة في ممارسة الأنشطة، حتى المحببة منها، إضافة إلى فقدان الشهية، ولا يمكن أن نتجاهل الأرق أو فرط النوم المتكرر كل يوم تقريبًا. كذلك يُعد الخمول مؤشرا على أعراض الاكتئاب، ناهيك عن بعض مشاكل في التركيز، زد على ذلك ما نسميه بالتحريض، أو التخلف النفسي الحركي، والمتمثل في الأرق أو الخمول، علاوة على أفكار انتحارية متكررة.

العلاقة بين نقص فيتامين د والاكتئاب

تحمل الفيتامينات والمكمّلات الغذائية منافع عديدة لا تتوقّف عند الصحّة الجسدية فقط بل تطال أيضا الصحة النفسية والحالة المزاجية، وحين يُطرح على مائدة الحديث مناقشة موضوع الفيتامينات، لا يمكن غضّ الطرف عن فيتامين “د”، بما له من دور فعَّال في تحسين الحالة المزاجية والتخلّص من القلق والتوتّر بفضل فعاليته في إفراز هرمون مثل السيروتونين، وهو الهرمون المسؤول عن السعادة والمزاج الجيّد.

وتفصيلاً للقول في مدى وكيفية تأثير السيروتونين في الجسم، لا نجد بدًا من قصد المختصين وسؤالهم عن هذا الأمر، وبهذا الصدد ننقل سطورًا من صفحة الشبكة الطبية المتخصصة جاء فيها عن “السيروتونين” ما نصه: “في الواقع لا يقتصر تأثير السيروتونين على جسمك فقط، بل يؤثر أيضًا على عواطفك وعلى مهاراتك الحركية، حيث يؤثر على: الاكتئاب، القلق، شفاء الجروح، تحفيز الغثيان، صحة العظام وغيرها… يعتقد أن السيروتونين كناقل عصبي ينظم القلق والسعادة والحالة المزاجية العامة، بينما يرتبط انخفاضه بالاكتئاب، وأما ارتفاعه فيبدو أنه يساهم في زيادة الشعور بالإثارة والحماس”(2).

مصادر غذائية لفيتامين د

من أفضل الطرق للحماية من أعراض نقص فيتامين د اتباع سلوك غذائي سليم، بحيث يكون الغذاء المصدر الرئيسي لإمداد الجسم بما يحتاج إليه من هذا الفيتامين الضروري. ويمكن الحصول على فيتامين د بتناول الأسماك الدهنية مثل التونة والبوري، والماكريل، والسلمون، والسردين، والأسماك المدخنة، كالرنجة.

ويحتوي زيت كبد سمك القد على 450 وحدة دولية من فيتامين د لكل ملعقة صغيرة (5 مل)، ومن بين الأطعمة البحرية يشكل المحار والروبيان مصدرا ثريا بفيتامين د. وإضافة إلى الأطعمة البحرية، يمكن أيضا الحصول على نسب وفيرة من فيتامين دال بتناول صفار البيض، واللبن، وعصير البرتقال، وحليب الصويا، والفطر، علما أن الفطر يقوم بتصنيع فيتامين د عند تعرضه للأشعة فوق البنفسجية. ناهيك عن التزود بفيتامين دال بصورة مركزة من خلال تناول المكملات الغذائية. علما أنه بالنسبة للمصابين بالاضطراب الاكتئابي لا تكون مكملات فيتامين د سوى جزءا من خطة علاجية شاملة. وسواءً اعتمدنا على الأدوية أو الطرق الطبيعية، يجب أن تشمل الخطة العلاج النفسي. مع ذلك، قد يُعيق انخفاض مستويات فيتامين د التعافي من الاكتئاب ويُطيله. لذا، يُفضل دائمًا علاج المشكلة بشكل شامل!

تعرَّض للشمس، واصنع فيتامينك!

يُعد التعرض لضوء الشمس المباشر في الأوقات المثالية من أفضل الخيارات على الإطلاق لحصول الجسم على ما يكفي فيتامين د. من الشمس (على الأقل لمدة 15 دقيقة يوميًا) في منتصف النهار، أي بين الساعة 11 صباحًا و1 ظهرًا. في هذا الوقت، تكون أشعة الشمس في أعلى مستوياتها، ويستطيع جسمك إنتاج فيتامين د بكفاءة أكبر في وقت أقل.

احصل أيضًا على مكملات فيتامين د إذا كانت مستويات فيتامين د لديك منخفضة للغاية، والكمية اليومية الموصى بها (RDA) هي 600 وحدة دولية يوميًا، بالإضافة إلى كيس 60000 وحدة دولية من فيتامين د في الحليب/الزبادي مرة واحدة كل شهر لمدة 4-6 أشهر (راجع طبيبك لمزيد من المعلومات)

 

حذارِ من الدهانات الواقية من أشعة الشمس!

إن الخصائص العلاجية لأشعة الشمس الطبيعية لا يمكنها اختراق الزجاج، من ثم لا يمكنك الجلوس داخل منزلك أو سيارتك وجني فوائدها وأنت قابع داخل منزلك أو سيارتك المكيفة ذات النوافذ الزجاجية العاكسة لضوئها.

كذلك يجب أن يُدرك أصحاب البشرة الداكنة أنهم يحتاجون أكثر من غيرهم بنحو 25 مرة إلى التعرض لأشعة الشمس من أجل إنتاج نفس الكمية من فيتامين د. الأمر الذي يكشف النقاب عن حكمة الخلاق العليم في العلاقة العكسية الظاهرة بين المناخ ودرجة لون البشرة! فذوو البشرة الداكنة يحتاجون إلى التعرض لضوء الشمس بمعدل أكبر بنحو 25 مرة من ذوي البشرة الفاتحة لإنتاج نفس الكمية من فيتامين د.

وهنا لا يمكننا إغفال الأثر السلبي الخطير للدهانات الواقية من أشعة الشمس Sun Block، من أقوى أنواعها إلى أضعفها، إذ تمنع الجسم من إنتاج فيتامين د بنسبة 95%.

 

وأخيرا

لطالما كان علاج أعتى الأمراض عبر التاريخ على بعد رمية حجر أو كبسة زر، ولم يكن الأمر برمته يحتاج إلا إلى شيء من التدبر في عمل الخلاق العليم، الذي لم يخلق داء إلا وخلق دواءه. وليس فيتامين دال ودوره الحيوي في تحسين المزاج النفسي، ناهيك عن الكفاءة الجسدية، ليس سوى قطرة ضئيلة في بحر مواج من نعم الله تعالى.. فكم هي عظيمة تلك النعمة! فما بالنا بعظمة المنعم!

الهوامش:

  1. دليل ميرك التشخيصي والعلاجي (The Merck Manual of Diagnosis and Therapy)
  2. مها بدر، السيروتونين: ما هو وماذا يفعل في أجسامنا؟
تابعونا على الفايس بوك
Share via
Share via