
- ما هي العملات الرقمية؟
- متى سجلت تلك العملات أول ظهور لها على ساحة المعاملات الاقتصادية؟
- ما وجهة النظر الشرعية فيما يتعلق باستعمالها؟
___
العملات وسيلة اختارها البشر لتسوية المبادلات التجارية وخزان للثروة وأداة تقييم للمنتجات والخدمات. والعملات الموجودة حالياً يتم إدارتها من قبل البنوك المركزية التي تطبع هذه العملات، وتحدد سعر صرفها، وتراقب جميع عمليات الصرف والتحويل الوطنية والدولية بهذه العملة وحيث يحتل الدولار الأمريكي دور العملة العالمية بامتياز.
ومع بداية الألفية الجديدة والتطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، ظهرت العملات الرقمية لتسهيل التعامل وتسوية المبادلات التجارية على الشبكة العنكبوتية، واحتلت عملة البيتكوين مركز السبق بين هذه العملات المشفرة.
وبالرغم من الفوائد العديدة التي توفرها هذه العملات الرقمية من سرية التعاملات وإمكانية تسوية المبادلات في أي مكان حول العالم بدون رقابة من البنك المركزي لأي دولة، يبقى الخطر قائماً مع تعدد هذه العملات وعدم القدرة على التنبؤ بتطور سعر صرف أي منها وعدم تجاهل إمكانية اختفاء العملة الرقمية المشفرة بكل بساطة وضياع الاستثمار فيها بشكل كامل.
مع بداية العام 2021، ضجت مواقع الأخبار العالمية المرئية والمقروءة والمسموعة بأخبار الصعود الصاروخي لسعر صرف عملة اليبتكوين (Bitcoin) ليتجاوز 40.000 دولار أمريكي للوحدة الواحدة، الأمر الذي أثار اهتمام العديد من الأفراد حول العملات الرقمية عمومًا وهذه العملة خصوصًا، وأسال لعاب المستثمرين والمضاربين لأجل تحقيق أرباح خيالية في فترة وجيزة.
ويسعى هذا المقال لطرح شرح موجز ومبسط لظهور ووظيفة العملات والنقود أولاً، ومن ثم نشأة العملات الرقمية ثانيًا، ولينتهي بالقارئ إلى شرح مسهب بعض الشيء لعملة البتكوين ثالثًا.
ظهور العملات الرقمية
مع بداية الألفية الجديدة وتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وظهور شبكة الإنترنت، لاحظ الأفراد والشركات والحكومات الإمكانيات الهائلة التي تقدمها الشبكة العنكبوتية من ناحية تسوية المعاملات والمبادلات التجارية.
واستغلت البنوك هذه الميزة من خلال تقديم الخدمات البنكية إلكترونيًا حيث إن العملات الورقية تبقى آمنة في خزائن البنك بينما يستطيع عميل البنك دفع الفواتير والضرائب وثمن المشتريات إلكترونيًا، من خلال بطاقة الصرف ذات الأشكال الكثيرة والمنوعة، أو من خلال الموقع الإلكتروني للبنك الذي يقدم الدعم والأمان لهذه التعاملات. ومع الانتشار الواسع لماكنات الصرف الآلية ونقاط البيع وإمكانية الدفع عبر الهاتف المحمول، أصبح أمر الاحتفاظ بكميات كبيرة من الأوراق النقدية غير ضروري، مع توقع اختفاء العملات الورقية في المستقبل المنظور في بعض الدول المتطورة.
وهذا الأمر يناسب تمامًا المصارف المركزية، حيث يتم تفادي ضرورة طباعة المزيد من الأوراق النقدية، التي تبقى آمنة في خزائن البنوك، بينما تقوم الشركات والأفراد بتسوية المعاملات إلكترونيًا، أي يتم نقل مبلغ المعاملة من حساب المشتري إلى حساب البائع بمجرد ضغط زر قبول الدفع أو الإرسال على الموبايل. ولم تعد الشركات بحاجة إلى الاحتفاظ بكميات كبيرة من النقود السائلة لدفع رواتب الموظفين أو نفقات التشغيل أو تسوية حسابات الموردين أو القبض من الزبائن، فذلك يتم بصورة آلية في حسابات الشركة لدى البنك.
هنا تظهر جليًا الفائدة الكبيرة التي يجنيها البنك المركزي والبنوك التجارية من التعامل بالتقنيات الحديثة، ولكن تبقى المشكلة في النقود الحقيقية قائمة حيث يتم نقل النقود الورقية في لحظة ما، بنهاية العام مثلاً، لتسوية الحسابات المختلفة بين البنوك داخل الدولة وخارجها. ولكن تخضع كل هذه العمليات لرقابة شديدة وصارمة من البنك المركزي للدولة المعنية بالتحويلات المالية الداخلة والخارجة لتفادي عمليات غسيل الأموال والتهرب الضريبي وتمويل العمليات أو النشاطات غير المشروعة.
ومن الواضح أن القيود الكثيرة التي تضعها البنوك المركزية والبنوك الأخرى على عمليات تحويل الأموال والرقابة الصارمة على كل عملية تمويل أو تحويل خارجي تحد من قدرة الشركات والأفراد على تسوية المزيد من المعاملات على شبكة الإنترنت، ومن هنا ولدت فكرة العملات الرقمية: عملة وهمية ليس لها وجود فيزيائي، فقط نبضات كهربائية تمر عبر أجهزة الكمبيوتر والموبايل وتخزن بشكل شفرة للحماية من السرقة ولا تتبع أي بنك مركزي يقوم بمراقبتها وتتبع العمليات التي تستخدم فيها.
ويوجد الآن المئات من العملات الرقمية على الإنترنت، لعل أشهرها البتكوين، والتي سيتم شرحها لاحقا، وإلى جانب البيتكوين أيضًا هناك الإيثيريم، والريبيل، والكاردانو، وتشاين لينك، ودوغ كوين، ومونيرو، وتينروس، والنانو، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر.
وما يزال سوق العملات المشفرة في مهده، حيث تتسابق الشركات والدول لطرح عملات رقمية جديدة بميزات أفضل وأحدث وآخرها نية شركة فيسبوك طرح عملتها الرقمية ليبرا لعملائها.
والميزة الأساسية التي تتمتع بها العملات الرقمية هي غياب أية جهة رقابية أو بنك مركزي يراقب العمليات والتحويلات التي يقوم بها الزبائن. ولعل هذا أيضًا مكمن الضعف الأساسي الذي تعاني منه هذه العملات والغياب الكامل للشفافية والعوامل المؤدية لارتفاع سعر صرف هذه العملات أو انخفاضه.
يضاف إلى ذلك إمكانية استخدام هكذا عملات في عمليات مشبوهة من غسيل أموال قذرة أو تهرب ضريبي أو من قبل مافيات الجريمة المنظمة. والسلبيات الأخرى ترتبط بعدم إمكانية التعويض عن فقدان كلمة السر لمحفظة العملات الرقمية، وقد حدث هذا مع أحد رجال الأعمال الذي توفي فجأة بحادث ولم يستطع الورثة فتح الكمبيوتر الشخصي الخاص به أو كسر الشفرة للوصول للمحفظة الرقمية وبالتالي فقدان مبلغ يقارب 40 مليون دولار من هذه العملات، أو إمكانية المتسللين (Hackers) لكسر كلمات السر وسرقة العملات الرقمية، وقد حصل هذا فعليًا في اليابان وفقد ما مقداره 500 مليون دولار تقريبًا من العملات المشفرة من قبل اللصوص الإلكترونيين.
وتنقسم دول العالم إلى ثلاث فئات بخصوص السماح باستخدام العملات الرقمية:
المجموعة الأولى من الدول قررت السماح للأفراد والشركات التعامل بالعملات الرقمية، أو على الأقل عدد منها، مع حرية التحويل بين العملة الرقمية والعملة المحلية والسماح للشركات التي تدير هذه العملات بافتتاح فروع شبيهة بالفروع المصرفية وصرافات آلية لتقديم خدماتها للزبائن وشراء أو بيع العملة الخاصة بها لهم، ومثال ذلك ألمانيا واليابان.
المجموعة الثانية من الدول لم تصدر قرارًا باستخدام العملات الرقمية أو منعه، وبالتالي يمكن للأفراد والشركات التعامل بها على مسؤوليتهم الخاصة مع صعوبة أو عدم إمكانية تقديم شكوى للشرطة أو القضاء في حال الغش أو الخداع في هذه التعاملات، وهو أمر وارد الحدوث، ومثال ذلك الولايات المتحدة.
المجموعة الثالثة وهذه أصدرت فيها المصارف المركزية تعليمات وقرارات واضحة وصريحة بمنع التعامل بالعملات الرقمية بجميع أشكالها وأنواعها من قبل الأفراد والشركات والمصارف. وخرق هذه التعليمات يضعك تحت طائلة المسائلة القانونية، ومثال ذلك الصين ومعظم دول العالم.
وبالرغم من الفوائد العديدة التي توفرها هذه العملات الرقمية من سرية التعاملات وإمكانية تسوية المبادلات في أي مكان حول العالم بدون رقابة من البنك المركزي لأي دولة، يبقى الخطر قائماً مع تعدد هذه العملات وعدم القدرة على التنبؤ بتطور سعر صرف أي منها وعدم تجاهل إمكانية اختفاء العملة الرقمية المشفرة بكل بساطة وضياع الاستثمار فيها بشكل كامل.
البيتكوين، درة تاج التعاملات الرقمية
قد تكون البيتكون من أوائل وأشهر العملات الرقمية التي تم اختراعها منذ بدء العصر الرقمي والثورة التكنولوجية. ولكن يشوب نشأتها الكثير من الغموض والشك حيث يُعْزَى اختراعها إلى شخص اسمه (ساتوشي ناكاموتو)، وذلك في عام 2008، ولم يعرف حتى اللحظة من هو هذا الشخص، وهل هو رجل أو امرأة، شخص حقيقي أم وهمي أو اسم لمجموعة ما. المهم أن التبادل بهذه العملة قد بدأ في العام 2009 وكان سعر الوحدة الواحدة من البيتكوين في حينه هو 0.001 دولار أمريكي. أي أنك تستطيع شراء 1000 وحدة بيتكوين مقابل دولار واحد في تلك السنة.
وفي الحقيقة عملة البيتكوين الرقمية هي عبارة عن برنامج إلكتروني يستخدم لغة مشفرة عالية التعقيد (لذلك تدعى أحيانًا بالعملة المشفرة أيضًا)، وتستعمل مبدأ الند للند في التعاملات ولها شبكة خاصة بها لا يمكن لغير المشتركين الولوج إليها. وأول عملية استخدام للبيتكوين كانت في العام 2009 لشراء قطعتين من البيتزا مقابل 10.000 وحدة من البيتكوين.
وحدة البيتكوين يمكن تجزئتها إلى وحدات أقل، على غرار العملات الحقيقية مثل الدولار إلى 100 سنت أو الريال العماني إلى 1000 بيسة. ويمكن تقسيم وحدة البيتكوين لغاية 100.000.000 وحدة تدعى (ٍSat) تكريمًا لمخترعها «ساتوشي». ولكن هناك أيضًا ميللي بيتكوين (1000/1 وحدة) وميكرو بيتكوين (1.000.000/1 وحدة).
شراء البيتكوين والتعامل بها يتطلب إنشاء محفظة عملة رقمية لدى موقع معتمد على النت، ويبدو أن هناك أكثر من 5 مليون مستخدم للبيتكوين حول العالم حاليًّا، أي لديهم هذه العملة المشفرة في محفظته الرقمية.
ومع تطور السوق لقيت عملة البيتكوين قبولاً أوسع لدى المستثمرين والشركات والأفراد وبدأ الطلب عليها يزداد باطراد. ولما كان عدد وحدات البيتكوين محدودًا للغاية، حوالي 21 مليون وحدة، ولما كانت عملية التعدين التي تسمح بظهور وحدات جديدة من خلال حل معادلات رياضية معقدة ولا يتجاوز عدد الوحدات التي يمكن تعدينها 2 مليون وحدة في السنة الواحدة وستنتهي عملية التعدين تمامًا بحلول العام 2140، حيث يصبح عدد وحدات البيتكوين ثابتًا ونهائيًا وغير قابل للزيادة، اصبح واضحًا عنصر الندرة التي تتمتع به هذه العملة.
وبالتالي فإن ازدياد الطلب يعني فقط أن المستثمرين مستعدون لدفع مبلغ أكبر من أجل الحصول على هذه العملة، وهنا يكمن سر الارتفاع المطرد لسعر البيتكوين مقابل الدولار الأمريكي. وهكذا بدأ سعر صرف البيتكوين في الارتفاع مقابل الدولار الأمريكي (كما يظهر الشكل رقم 1. التالي) حيث كان هذا السعر تحت 4000 دولار قبل العام 2017، ليصل 12.000 عام 2018 ولينخفض بعدها إلى ما دون 4000 دولار. وبنهاية العام 2020 وبداية العام 2021 كان الصعود الصاعق ليتجاوز سعر صرف هذه العملة 40.000 دولار لفترة وجيزة، ليعاود الهبوط بعدئذ لحدود 35.000 دولار حاليًا.
إذن سعر صرف البيتكوين تحكمه عوامل العرض والطلب ويبدو أن وباء الكورونا وحالة الركود العالمي التي تسبب بها قد تكون مبدئيًّا عوامل جذب للمستثمرين والمضاربين نحو هذه العملة. ولكن ليس من السهل التنبؤ بالسلوك المستقبلي لسعر صرف هذه العملة وبالتالي الوصول إلى توصية بالبيع أو الشراء. وفي جميع الحالات، ربح أي عملية بيع أو شراء للبيتكوين من طرف، يقابله على الأرجح خسارة طرف آخر لنفس المبلغ. فهذه العملة لا تستند إلى أساس مادي أو منتج أو عملية اقتصادية مستمرة تدعم سعر صرف هذه العملة. لا يعدو الوضع فقاعة سعرية قد تنفجر في أية لحظة مما قد يكبد البعض خسائر فادحة.
عدا عن مخاطر تغير سعر صرف العملة المشفرة، هناك سلبيات أخرى مرتبطة بطريقة عمل هذه العملات. إن فقدان كلمة السر، أو تلف الحامل الإلكتروني للمحفظة الرقمية، مثل تلف القرص الصلب للكمبيوتر، أو تلوثه بفيروس ما، أو تلف وحدة التخزين المحمولة قد يتسبب ببساطة في خسارة فادحة وإلى الأبد للمحفظة وبالتالي فقدان كل الثروة المتراكمة من هذا الاستثمار بدون قدرة على استعادتها أو استبدالها.
وجهة نظر شرعية
وأما عن مشروعية الاستثمار في العملات المشفرة عمومًا، والبيتكوين خصوصًا، فما زال الاهتمام الشرعي بهذا الموضوع في بداياته نظرًا إلى حداثة عهدنا بظهور وانتشار هذه العملات. ولكن النظر في خصائص العملات الإلكترونية والمشفرة يجعل الاستثمار فيها أقرب إلى المضاربة منه إلى الاستثمار في أصول منتجة وحقيقية، الأمر الذي يدعو للحذر الشديد والتفكر مليًّا قبل الدخول في أية عملية فيها، ومعظم الفتاوى تتجه صوب حرمة التعامل بهذه العملات، على الأقل في الفترة الأولى من ظهورها بداعي الغرر والجهالة الواضحين.
أما استخدام العملات الرقمية لتسوية المبادلات التجارية والدفع الإلكتروني وتنمية المبيعات، فهو أمر منوط بنية المستثمر في استخدام هذه العملة لتطوير مشروعه أو تسهيل التعامل مع الزبائن والموردين، وهو امر منطقي ومعقول تمامًا، والله أعلم بالصواب.