- فكيف دلَّ كشف الغيب على صدق الوحي والإلهام؟
- وفيم يتميز كشف الغيب التاريخي في القرآن عنه في الكتاب المقدس؟
- وكيف أنبأنا القرآن بمستقبل الإسلام في عصر تغوُّل القوة المسيحية؟
____
ما الغيب؟! أهو مجرد خبر مكتنف في الماضي أم نبأٌ يُستشرف في المستقبل؟! وهل يشمل ذلك الحاضر؟ ثم ماذا عما يغيب عنا في الوقت الحاضر، ثم أيمكن لجميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وآلات التصوير المنتشرة في الهواتف وعلى الطرقات والمجسات والمُسيَّرات والأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي والاختراعات الحديثة وغيرها أن تنقل لنا كل ما يحدث حولنا بكل قدراتها الجبارة؟ ومن ناحية أخرى، هل نحن نعرف ما حولنا ومن حولنا على وجه الحقيقة أم أن ذلك ما يبدو لنا فحسب؟ ثم ما قولنا في أولئك البارعين في التظاهر والتمثيل؟ إن من يطَّلع على أعمال كارل يُونغ وسيغمند “فرويد” في التحليل النفسي مثلاً وآراء فلاسفة أمثال “آرثر شوبنهاور” و”فريدرك نيتشه “و “برتراند رَسِل”، وأوصاف أدباء ك “فيودور دستويفسكي” وما كتبوه عن طبيعة النفس الإنسانية واللاوعي والإرادة والعقلانية والشك والوجودية والصراع وغيرها يُدرك ضآلة وضحالة ما نعرفه حقاً عن أنفسنا، ناهيك عما حولنا.
كشف الغيب أبرز معايير الوحي الصادق
ما من عالم بتفاصيل عمل آلة من الآلات أكثر من مصممها وصانعها، هذا أمر بديهي، وانطلاقا منه نقول بأن ليس سوى الله سبحانه وتعالى يدرك أسرار جميع خلقه. كيف لا، وإنه ليستحيل تحقيق الهدف من الخلق دون العلم الكامل والتام لدى الخالق بأسرار خليقته؟! ولما كان الله سبحانه وتعالى هو الذي أنزل القرآن المجيد من لدنه فلا بد للوحي القرآني الذي يذكر الماضي والحاضر والمستقبل أن يكون مؤيَّدًا بالحقائق الثابتة حين يُلقى عليها ضوء البحث والتمحيص، فيما دعاه سيدنا المسيح الموعود بالشهادات الخارجية الدالة على صدق وحقية الكتاب الموحى من الله .(1) ونظرا إلى أهمية الاطلاع على الغيب بوصف ذلك الاطلاع أبرز معايير الوحي الصادق، أفرد حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله) الخليفة الرابع للمسيح الموعود فصلا له في الكتاب العلمي والروحاني المرجعي «الوحي، العقلانية، المعرفة، الحق.»(2)
علم الغيب وصدق الوحي
ثمة علاقة قائمة بين الوحي الإلهي وعلم الغيب، وتلك العلاقة تشير إليها آية قرآنية، حيث قول الله تعالى:
الأمر الذي يُفهَم منه أن الاطلاع على الغيب هو أحد، بل أبرز، صلاحيات النبوة الصادقة والوحي الإلهي، وإلا فكثير من الناس يتنبؤون ويدَّعون الاطلاع على المستقبل، ثم لا تصدق تنبؤاتهم حينا وتُخطئ أحيانا، فهؤلاء ليسوا ممن نعنيهم بكلامنا. لذا لزم أن نتطرَّق إلى الحديث عن طبيعة الوحي الإلهي.
كشف الغيب التاريخي بين القرآن والكتاب المقدس
يتفق أكثرنا الآن على أن الغيب كما تقدَّم ذِكره كل ما غاب عن إدراك حواسنا، ويقول صاحب المفردات: «الــغَيْبُ: مصدر، غَابَتِ الشّمسُ وغيرها: إذا استترت عن العين، يقال: غَابَ عنّي كذا. قال تعالى:
واستعمل في كلّ غَائِبٍ عن الحاسّة، وعمّا يَــغِيبُ عن علم الإنسان بمعنى الغَائِبِ، قال:
وكل مغاليق المعرفة للأمور الخاضعة للإدراك التي تنتمي إلى الماضي أو الحاضر أو المستقبل تقع في نطاق هذه المجموعة.(5) وباعتبار الغيب كل ما خفي عن الحواس، فيدخل تحته خبايا الماضي وخفايا المستقبل، بل وغوامض الحاضر كذلك. وسنفرد الحديث في هذه الفقرة عن كشف الغيب المتعلق بخبايا الماضي.
ويُنظر إلى كشف خبايا الماضي البعيد بوصفه معيارا لتحديد صدق الوحي، ولتوضيح هذا الأمر، نقتبس مثالاً قرآنياً عن الغيب في الماضي ذكره سيدنا الخليفة الرابع مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)، وهذا المثال يُهم اليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء، حيث يذكر (رحمه الله) ما جرى مع فرعون وجيشه من جانب وموسى وقومه من جانب آخر، وعبورَ الأخير دلتا النيل، وركز (رحمه الله) على تفرّد القرآن الكريم في وصفه للحادثة مقارنةً مع الكتاب المقدس إذ جاء في سفر الخروج ما تعريبه: «فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل ورائهم في البحر لم يبق منهم ولا واحد»(6)، وواضح أن هذه الرواية أقرب ما تكون إلى نظرة من يرى الوقائع من بعيد وهو على الشاطئ فقط، أما القرآن الكريم، فقد كان أول مصدر تاريخي يذكر نجاة جسد فرعون في عصر كانت المومياوات ترقد في باطن الأرض والعرب حينها كانوا أبعد ما يكونون عن دقائق علم التحنيط، بل وأنبأ كتاب الله بأن المستقبل سيشهد على صحة بيانه حين تُخرج الأرض أثقالَها وأسرارَها الدفينة، وهذا ما حدث عندما أكد العلم أن المومياء التي استخرجت من وادي الملوك هي لفرعون الذي كان في زمن موسى والذي نجاه الله ببدنه حسب منطوق الآية الكريمة:
لقد طلب فرعون أن ينجيه الله خشية أن يفقد حياته ولكنه تعالى رفض هذا الإيمان وأنقذ حياته الجسدية وظل في حالة موت سريري لثلاثين عاماً إلى وفاته وهو في التسعين(8)، وهي آية عظيمة للأجيال القادمة لم يكن من الممكن أن يطَّلع عليها رسول الله دون وحي من الله .
النبوءات المتعلقة بالمستقبل القريب والبعيد
وكما يشتمل الغيب على خبايا الماضي، هناك قسم منه يتعلق بحاضرنا ومستقبلنا وإن بيان الخليفة الرابع (رحمه الله) في كتاب «الوحي، العقلانية…» وتفسيرَه آيات القرآن الكريم تفسيرا منسجما مع روح العصر لمما يُشنف الآذان ويَخلب الألباب ويُثبت عظمة كتاب الله تعالى. فمثلا،يذكر حضرته اكتشاف أميركا، أو العالم الجديد، في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مستشهداً بنبوءة سورة الانشقاق، حيث قول الله تعالى:
والتي كانت بدايةَ النهايةِ لشعوب الأمريكيتين وبدايةً لعلو وتسلط أميركا على العالم، وكذلك بنبوءة سورة الزلزلة، حيث قول الله تعالى:
التي تبين خروج الكنوز كالفحم والبترول والمعادن الثقيلة كاليورانيوم والبلوتونيوم المُدهش والمثير للتساؤل والذي كان وراء كل التقدم العلمي الذي تحقق في عصرنا. أما الحفريات والكشوف الأثرية فقد أنبأنا بها القرآن الكريم في سورة الانفطار، في قوله تعالى:
فهذه الآية وغيرها تلفت أنظارنا إلى المدن الدفينة والحضارات الغابرة وتحثُّنا على التنقيب ودراسة العوامل التي أدت إلى تدمير وفناء الأقوام السالفة.(12)
وبما أن كتاب الله يخبرنا عن المستقبل المادي للعالم، بالذات بعد اكتشاف الأمريكيتين، فليس من الغريب أن يُنبئنا بمستقبل الإسلام، إذ يستشهد حضرة الخليفة الرابع (رحمه الله) بآيات من سورة التكوير تشير إلى الاضمحلال والضَّعف الذي يصيب الإسلام قبل انبلاج عصر جديد، فالشمس في الآيات الكريمة تشير إلى الرسول الكريم بوصفه السراجَ المنير، والنجومُ هم صحابته من العلماء الذين يتلقون النور منه. والذي حل على المسلمين فترة اكتشاف العالم الجديد يذكُره كتاب تاريخ العالم(13) وغيره من الكتب، إذ يشير إلى سقوط غرناطة في أيدي الجيش الكستيلاني بعد حملة استمرت عشر سنوات، والذي كان كارثة مهولة حاقت بالإسلام والمسلمين جاءت بعد مقاومة الغزو المسيحي لقرنين من الزمان ونهاية الحكم الإسلامي في إسبانيا الذي دام سبعمائة عام بغير انقطاع، وبعدها حُرمت أسبانيا من نور الإسلام وخرج منها التنوير العلمي الذي أتت به الحضارة الإسلامية.
ويتابع (رحمه الله) بيان معاني سورة التكوير، إذ يوضح أن الجبال الوارد ذكرها في سياق السورة، وفي سور أخرى، تشير إلى القوى المادية العظمى في العصر الحديث(14)، ويضيفُ أن بعد الاضمحلال المبدئي للإسلام سوف يُعسعس ليل انكدرت نجومُه ثم يتنفس صبحُ يوم لن يكون فجرُه فجرَ انبثاق الإسلام مرة أخرى إذ ستعلو قوى مادية عظمى وتنشر نفوذها على مدىً واسع وتطوي تحت سيادتِها بلداً بعد آخر، ومن سير الجبال إلى سير العِشار(15) أي أنثى الجمال التي تُعطَّل عن الاستعمال، فتحلُّ محلها وسائل مواصلات أفضل وأسرع وأقوى تساعد، بالمناسبة، في سير الجبال، أي في نشر القوى السياسية العظمى ونقل حمولات ضخمة بقوة وسرعة، ومن هذه الحمولات الضخمة الحيواناتُ المجموعة التي ذكرتها الآية التالية(16) قبل أن تشير السورة إلى البحار المسجورة(17) ويأتي المؤلف بوصف عجيبٍ أيما عجبٍ لكل معاني الفعل «سجر» من امتلاء البحار بالسفن والناقلات إلى التقاء البحار بعضها مع بعض كما في قناة السويس وقناة بنما وإلى تأجُّج البحار بالنيران عند اندلاع معارك بحرية أو اشتعال كميات هائلة من البترول المنسكب في البحار للحد من أخطارها على الحياة البحرية.
القرآن وإنباؤه بمستقبل الإسلام في عصر تغوُّل القوة المسيحية
ومن أبرز سمات العصر الحديث التي أنبأت بها سورة التكوير هي اجتماع النفوس البشرية(18) ففي عصرنا هذا ارتبطت جميع الأمم بمواثيق ومعاهدات دولية، ودُمجت دول العالم وتوحدت في هيئات كهيئة الأمم المتحدة، ووُجدت وسائل النقل والاتصال الحديثة التي أحالت العالم قريةً صغيرة.
وفي سياق الإنباء عن مستقبل العالم في عصر تغوُّل القوة المسيحية، يشير الخليفة الرابع (رحمه الله) إلى أن قول الله تعالى:
ينذِرُ بالجحيم الذي يشير إلى الحروب التي تشتعل في زمننا والتي سيؤججها الإنسان بيديه، وما هي إلا ساعةُ العقاب التي تخسِف بالإنسان بالرغم من كل ما بلغه من قوة مادية وعظمة ورفعة، إذ ستؤدي أنانيته إلى حدوث توتر شديد على نطاق عالمي، كما حدث أثناء الحربين العالميتين، وتوضح الآيات أن التسلطَ المادي لن يستمر على الدوام إذ سيؤدي العدَاء بين الدول إلى سقوط القوى المادية ووقوع كوارث فظيعة حرباً تلو أُخرى تاركةً في النهاية رمادَ القوى الكبرى تذروه الرياح.
ثم يشير حضرته إلى أن وصف «الدجال» الوارد في أحاديث رسول الله ، والذي أنبأ بخروجه، ينطبق على القوى المسيحية العظمى التي قُدر لها أن تحكم العالم اليوم وأن لفظ «حمار الدجال» الوارد في الأحاديث يشير إلى وسائل النقل كالطائرات والسفن والقطارات التي تغزو بها القوى المسيحية العالم.(20)
الهوامش:
- راجع: مرزا غلام أحمد القادياني، «البراهين الأحمدية على حقية كتاب الله القرآن والنبوة المحمدية»، ترجمة: عبد المجيد عامر، ط1، ص ص 177-191، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن، 2013م.
- راجع: مرزا طاهر أحمد، الوحي، العقلانية، المعرفة، الحق، ص ص587-628
- (آل عمران: 180)
- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحت «غ ي ب»
- مرزا طاهر أحمد، الوحي، العقلانية، ….، ص279
- (خروج: 14:28)
- (يونس: 93)
- مرزا طاهر أحمد، الوحي، العقلانية، ….، ص593
- (الِانْشقاق: 4)
- (الزلزلة: 2-3)
- (الِانْفطار: 5)
- مرزا طاهر أحمد، الوحي، العقلانية، ….، ص606
- Chronicle of the World (1989) Chronicle Communications Ltd and Longman Group UK Ltd., London, p.436
- مرزا طاهر أحمد، الوحي، العقلانية، ….، ص611
- المرجع السابق، ص612
- المرجع السابق، ص612
- المرجع السابق، ص613
- المرجع السابق، ص615
- (التكوير: 12)
- مرزا طاهر أحمد، الوحي، العقلانية، ….، ص627